بحث ودراسة قانونية حول نزاهة القاضي
إن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين، الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما
كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه، الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا، نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا…حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب. كان للخطاب الملكي السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يوم 20 غشت 2009 بتطوان لمناسبة ثورة الملك والشعب وعيد الشباب، عظيم الأثر على نفوس رجالات القانون ببلادنا من قضاة ومحامين وأساتذة باحثين ومنظمات حقوقية ممثلة للمجتمع المدني…، وذلك بالنظر لما تضمنه الخطاب من توجيهات سامية تعتبر بمثابة خطة طريق من أجل إصلاح شامل للقضاء، تكريسا لدولة القانون وثقافة حقوق الإنسان والحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام عموما والشأن القضائي على وجه الخصوص.
وقد ركزت خطة الإصلاح على ستة مجالات اعتبرها العاهل الكريم حفظه الله ذات أسبقية، أهمها دعم استقلالية القضاء وتخليقه لتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ حتى يساهم في تحقيق الأمن القضائي.
وانطلاقا من دورها في المساهمة في دعم الإصلاح القضائي ببلادنا قامت الودادية الحسنية للقضاة مشكورة بإصدار مدونة للقيم القضائية ساهم في إبداعها ثلة من خيرة قضاة المملكة استلهموا مبادئها من أحكام الشريعة الإسلامية ومن النظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974 -كما تم تعديله بمقتضى القانون 09.01- ومن النظام الأساسي العالمي للقاضي الذي تمت المصادقة عليه بـ»التايوان» بتاريخ 17 نونبر سنة1999،هذا فضلا عما تضمنته الاتفاقيات الدولية سواء ذات الطبيعة العالمية أو الإقليمية ذات الصلة بالموضوع.
وقد كان الهدف من هذا المجهود كما جاء على لسان رئيس الودادية الحسنية للقضاة – الأسبق والرئيس الأول الحالي لمحكمة النقض الأستاذ مصطفى فارس- العمل على تأمين مبدأ استقلال السلطة القضائية والدفاع عنها وحماية وحصانة القضاة والدفاع عن كرامتهم وتقوية علاقات المودة والتضامن في ما بينهم.
وبالرجوع إلى مدونة القيم القضائية نجدها قد تضمنت بالإضافة إلى ديباجة، 10 مبادئ تتضمن مجموعة من القيم والتقاليد والأعراف التي تحكم سلوك القاضي ويتعين عليه الانضباط لها من أجل أداء رسالته على الوجه الأكمل.
والحقيقة أن هناك مبدأ واحدا يجب الحرص على رعايته واحترامه وهو مبدأ استقلال القضاء، أما باقي المبادئ الأخرى من نزاهة وحياد وتجرد وشجاعة أدبية ووقار وكفاءة…. فهي لا تعدو أن تكون سوى آليات تحقيق هذا الاستقلال.
ومعلوم أن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه والذي يفترض فيه أن يكون مستقلا، نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا…حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب .
وحيث إن الاستقلال المؤسساتي للجهاز القضائي مضمون بمقتضى الدستور الجديد لاسيما الفصل 107 منه «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، فإن مقاربتنا للموضوع سنركز فيها على استقلال القاضي كفرد فاعل في العملية القضائية انطلاقا من عنصر النزاهة المفترض فيه، والذي يدور مع القاضي وجودا وعدما، شأنه شأن الحكم الشرعي الذي يدور مع علته وجودا وعدما تماما كما هو معروف عند الأصوليين.
وسنتناول موضوع النزاهة من خلال تحديد مفهومها ، وبيان دورها في دعم استقلال القضاء، وضمان المحاكمة العادلة كحق من حقوق الإنسان، وفي جلب واستقطاب الاستثمار خاصة الأجنبي منه مع بيان أهم الضمانات التي وفرها المشرع لدعم وترسيخ هذا المبدأ الأساسي في استقلال القضاء.
وبالنظر إلى طبيعة الموضوع، فإننا سنعتمد المدرسة الأنكلوسكسونية في المنهجية لانسجامها مع طبيعة الموضوع .
نزاهة القاضي من خلال مدونة الأخلاق القضائية :
عرفت مدونة الأخلاق القضائية التي أصدرتها الودادية الحسنية للقضاة النزاهة، بكونها سمة يتحلى بها القاضي فكريا وأخلاقيا وبكونها لا تخص القرار القضائي فحسب، بل تمتد لتشمل أيضا الإجراءات التي تؤدي إلى هذا القرار.
ولتقريب المفهوم من القارئ حاولت المدونة الاستعانة بسبع فقرات لبيان سبل تحقيق ما جاء في التعريف المذكور.
ويمكن القول إن النزاهة هي قيمة أخلاقية متأصلة في سلوك القاضي تدور معه وجودا وعدما، ويمكن تجسيدها بكل بساطة في ذلك الجو من الثقة والمصداقية والطمأنينة الذي يخلقه القاضي في محيط عمله سواء مع زملاءه القضاة أوالمرتفقين أي أطراف النزاع بالإضافة إلى المتدخلين في العملية القضائية من موظفي كتابة الضبط ومحامين وخبراء ومفوضين قضائيين وعدول …. والذي يجعله في منأى عن كل تجريح قد يمس شخصه أو يشكك في مصداقية أحكامه.
نزاهة القاضي من خلال أحكام الشريعة الإسلامية
وبالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية ومنابعها الصافية لم نجد تعريفا خاصا بالنزاهة شأنها في ذلك شأن باقي المصادر المعتمدة في الموضوع، وذلك لسبب بسيط هو أن مبدأ استقلال القاضي قد احتواها وأن العديد من الفقهاء يعتبرون النزاهة شرطا وآلية لتحقيق الاستقلال ليس إلا.
ومعلوم أن القضاء رسالة عظيمة، تولاها الرسل والأنبياء بأمر من الله تعالى مصداقا لقوله تعالى :{ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقال أيضا { إن لله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وعلاقة برسالة القضاء ودورها في تحقيق العدل بين الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا جلس القاضي للحكم بعث الله إليه ملكين يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه } رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
وروي عن الرسول ( ص) أن قال لأبي هريرة رضي الله عنه { يا أبا هريرة ، عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة بقيام ليلها وصيام نهارها، يا أبا هريرة جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة}.
وقد ثبت أن رسول الله (ص) قد قضى في الخلع والنفقة والحضانة والظهار وأرسل عددا من الصحابة إلى الأمصار وكان بعضهم يجمع بين الإمارة والقضاء، وبعضهم يختص بالقضاء وحده من ذلك معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
إن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين، الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه، الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا، نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا…حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب. كانت السلطة القضائية بيد السلطان، لأنه صاحب القوة والنفوذ، ويعتبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من فصل منصب القضاء عن الولاية العامة/ وكان كتابه لأبي موسى الأشعري من أهم الكتب وأشملها حتى سمي هذا الكتاب بدستور القضاء في الإسلام، الذي جاء فيه:”أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة…، آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع الشريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك …، لا يمنعك قضاء قضيته في اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل …، إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة أو الخصوم ، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر” .
ولم نجد فقيها مسلما واحدا من القدامى تناول موضوع النزاهة بشكل مستقل ومباشر، وإنما تناولوها ضمن مفهوم العدالة كشرط من شروط تولي القضاء، إلى جانب كمال النفس والإسلام والعلم بالأحكام الشرعية.
النزاهة من خلال المواثيق الدولية
هناك مجموعة من الصكوك التي تعنى بمبدأ استقلال القضاء، سواء ذات الطبيعية العالمية، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أو ذات الطبيعة الإقليمية كالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لسنة 1981 والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لسنة 1969 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لسنة 1950.
وتجمع هذه المواثيق على أن القضاء المستقل هو وحده القادر على إقامة العدل بشكل نزيه بالاستناد إلى القانون، ومن تم يحمي حقوق الإنسان والحريات الأساسية للفرد.
وهكذا جاء في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: “من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة وحيادية منشأة بحكم القانون “، وقد أكدت اللجنة الأوربية المعنية بحقوق الإنسان أن حق الفرد في أن يحاكم من طرف محكمة مستقلة ومحايدة حق مطلق ولا يخضع لأي استثناء.
أما المادة 7 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، فتنص على أن لكل فرد الحق في أن ينظر في دعواه وهو حق يشمل بوجه خاص، الحق في أن يفترض بريئا إلى أن تثبت التهمة الموجهة إليه من قبل محكمة مختصة، وأن يحاكم في غضون فترة معقولة من قبل محكمة محايدة.
وفي نفس الإطار، جاء في المادة 8 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، أن لكل إنسان الحق في أن ينظر في دعواه مع توفير الضمانات اللازمة له وفي غضون فترة معقولة من قبل محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة.
وأخيرا تنص المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، على أنه يحق لكل فرد أن ينظر في دعواه على نحو منصف وبشكل علني في غضون فترة معقولة من الزمن من قبل محكمة مستقلة ومحايدة منشأة بمقتضى القانون.
وبالرغم من أن بعض الدول لم تصادق على أي من اتفاقيات حقوق الإنسان، فإنها تظل ملتزمة بالقواعد العرفية من القانون الدولي وبالمبادئ العامة للقانون ومنها مبدأ استقلال الهيأة القضائية ونزاهتها.
والملاحظ من خلال دراستنا لأهم الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع، أن هناك ترابطا وثيقا بين مفهومي الاستقلال والنزاهة، وأن أجهزة الرصد الدولية عالجت هذين المفهومين معالجة مشتركة.
فإذا كان مفهوم الاستقلال، كما عبرت عنه المحكمة العليا بكندا هو تعبير عن القيمة الدستورية لاستقلال القضاء، فإن نفس المحكمة وصفت مفهوم نزاهة الهيأة القضائية بكونه حالة ذهنية أو عقلية أو موقف تقفه المحكمة بالنظر إلى القضايا والأطراف في دعوى بعينها.
وقد أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بكون مفهوم النزاهة الوارد في المادة 14، يعني أنه يجب على القضاة أن يكونوا مجردين من جميع الأفكار المسبقة بشأن المسألة التي تطرح عليهم، وأنه لا ينبغي لهم أن يتصرفوا على النحو الذي يخدم مصالح طرف من الأطراف.
أما في ما يتعلق بالمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، فهي ترى أن مفهوم النزاهة يتضمن عنصرين أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، ذلك أن المحكمة لا يجب أن تكون محايدة فقط من حيث أن أي عضو فيها ينبغي ألا يكون لديه أي فكرة مسبقة أو تحيز شخصي، وإنما يجب أيضا أن تكون نزيهة من وجهة نظر موضوعية من حيث وجوب تقديم ضمانات تدرأ أي شك مشروع يثور في هذا الصدد.
النزاهة من خلال النظام الأساسي العالمي للقاضي لسنة 1999.
النظام الأساسي العالمي للقاضي من أبرز النصوص ذات البعد الدولي التي تتصل بنظام القضاء واستقلالية السلطة القضائية، وقد تمت صياغته من قبل الاتحاد العالمي للقضاة بوصفه أكبر تجمع لمنظمات وجمعيات القضاة على المستوى العالمي.
والوثيقة المرجعية لهذا النظام تضمنت 15 فصلا، ترجمت لخمس لغات هي الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الألمانية، والإيطالية.
وأهمية هذه الوثيقة، تكمن في كونها نتاج وتصور أغلب قضاة العالم عبر جمعياتهم ومنظماتهم المنتخبة.
ومعلوم أن الودادية الحسنية للقضاة المغاربة كانت حاضرة ضمن الوفود العالمية التي كان لها شرف المصادقة والتصويت على الصياغة النهائية لهذا النص.
وقد حاول الدكتور المهدي شبو ترجمة هذه الوثيقة إلى اللغة العربية، ثم نشرها كملحق بمجلة محاكمة العدد 2، بحيث تحدثت الفصول الأولى على أهم المبادئ المدعمة لاستقلال القضاء ومن ذلك ما جاء في الفصل1: “يضمن القضاء للجميع الحق في محاكمة عادلة ، ويجب عليهم تسخير كافة الوسائل التي يتوفرون عليها من أجل ضمان البت في القضايا في جلسة عمومية داخل أجل معقول وأمام محكمة مستقلة ومحايدة منشأة بموجب القانون، ويعتبر استقلال القاضي ضروريا لممارسة عدالة محايدة في إطار احترام القانون، وهو مبدأ غير قابل للتجزئة ويجب على جميع المؤسسات و السلط سواء كانت وطنية أو دولية احترامه والذود عنه”.
ويضيف الفصل 2 من نفس النظام : “يجب أن يؤمن استقلال القاضي بواسطة قانون خاص يضمن له استقلالية حقيقية وفعلية في مواجهة سلطات الدولة، ويجب أن يتمكن القاضي باعتباره مجسدا للسلطة القضائية من ممارسة وظائفه باستقلالية تامة عن جميع القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعن القضاة الآخرين واتجاه إدارة العدل” .
إن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين، الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه، الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا، نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا…حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب. بمقتضى الفصل 4 من النظام نفسه يمنع إعطاء أوامر أو تعليمات كيفما كانت للقاضي، ولا يسري هذا المنع على المحاكم العليا، عندما تكون مدعوة إلى مراجعة مقررات القضاة الأدنى درجة.
وأخيرا وبمقتضى الفصل 5 من النظام نفسه، يجب أن يبدو القاضي محايدا في ممارسة وظيفته القضائية وعليه أداء وظيفته بالتحفظ والوقار اللازمين تجاه وظيفته وإزاء جميع الأطراف المعنية.
والملاحظ من خلال اطلاعنا على ما تضمنه النظام الأساسي العالمي للقاضي، أن مفهوم النزاهة المفترضة في القاضي حاضر بقوة وإن كان بطريقة ضمنية، ذلك أن الاستقلال والحياد لا يمكن تصورهما دون نزاهة حتى قيل أن النزاهة والحياد وجهان لعملة واحدة اسمها استقلال القاضي، هذه العملة قد تكون رديئة وليست لها قيمة سوقية، وقد تكون جيدة مقبولة وطنيا ودوليا ومن تم يكون لها انعكاس إيجابي سواء على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
النزاهة من خلال النظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974
جاء ذكر النزاهة كقيمة أخلاقية في سلوك القاضي من خلال الفصل 18 من هذا النظام.
ونظرا لأهميتها جعلها المشرع موضوع يمين قانونية قبل مباشرة القاضي مهامه، ونعتقد أن القصد من ذلك هو خلق ميثاق غليظ بين القاضي وربه على أن يقوم بمهامه بوفاء وإخلاص وأن يحافظ عل سر المداولات ويسلك في ذلك كله مسلك القاضي النزيه.
نخلص إلى القول، إن مفهوم النزاهة يجسد تلك القيمة الأخلاقية المتأصلة في سلوك القاضي، التي تروم استقلاله وحياده وتؤدي إلى خلق جو من الثقة والطمأنينة والمصداقية في محيط عمله سواء مع زملاءه أو أطراف النزاع أو المتدخلين في العملية القضائية من موظفي كتابة الضبط ومحامين ومفوضين قضائيين وخبراء وعدول والذين هم بدورهم معنيون بالنزاهة عند القيام بمهامهم.
أثار النزاهة كقيمة أخلاقية في سلوك القاضي سبق وأكدنا أن النزاهة عنصر أساسي في استقلال القاضي كفرد والذي في استقلاله استقلال القضاء كسلطة عن باقي السلط.
وللنزاهة آثار بليغة، فهي ضرورية لتوفير محاكمة عادلة باعتبارها حقا أساسيا من حقوق الإنسان كما هي متعارف علها دوليا، ولعل التقرير الختامي الذي وضعته هيأة الإنصاف والمصالحة بمناسبة انتهاء أشغالها كشف على أن القضاء كان ورقة مضمونة بيد السلطة التنفيذية، وبأن القضاة لم يكونوا نزهاء في اتخاذ قراراتهم في العديد من الملفات، ما كان له انعكاس على صورة المغرب الحقوقية خلال هذه الفترة من تاريخه والتي دخلت متحف التاريخ وبأسلوب حضاري من خلال طي صفحة الماضي والمصالحة مع الذات مع جبر الضرر تحت الرعاية السامية للقاضي الأول الملك محمد السادس.
ويشكل استقلال القضاء بما يكفله من نزاهة وحياد ضرورة ملحة لجلب الاستثمار، ذلك أن المستثمر يرغب في الاطمئنان على مشروعه الاستثماري، وقد شكل القضاء والإدارة عائقين كبيرين في استقطاب الاستثمار لاسيما الأجنبي منه، ما حدا بالمغرب إلى الاتجاه نحو التخصص من خلال إحداث المحاكم التجارية وسن قانون خاص بالتحكيم التجاري الدولي والوساطة الاتفاقية وإدماجه في صلب قانون المسطرة المدنية.
ضمانات كفالة النزاهة قيمة أخلاقية في سلوك القاضي
أولى هذه الضمانات وأهمها على الإطلاق، هو ضمير القاضي الذي عليه أن يؤمن بأن القضاء ليس وظيفة كباقي الوظائف، وإنما هو رسالة عظيمة عنوانها الحق والعدل بين الناس، وهو اختيار ومن اختار لا يرجع .
ثاني هذه الضمانات، هي اليمين القانونية المقررة في الفصل 18 من النظام الأساسي لرجال القضاء والذي يتضمن قسما عظيم الشأن عند الله تعالى.
بالإضافة إلى هذا وذاك فإن المشرع المغربي من خلال النظام الأساسي لرجال القضاء قد فرض مجموعة من الشروط لتولي القضاء واتخذ مجموعة من التدابير القبلية والبعدية الكفيلة بقياس نزاهة القاضي.
وهكذا جاء في الفصل 4 من النظام الأساسي لرجال القضاء وتحديدا في الفقرة 2 منه « لا يعين أي شخص ملحقا قضائيا إذا لم يكن متمتعا بحقوقه الوطنية وذا مروءة وسلوك حسن»، كما ألزم القضاة بالتصريح بممتلكاتهم وممتلكات أزواجهم، وأعطى لوزير العدل والحريات الحق في تتبع ثروة القضاة وأفراد أسرتهم وإجراء تفتيش بشأنها، هذا فضلا على أن أي إخلال من قبل القاضي بواجباته المهنية من وقار وكرامة ونزاهة قد يعرضه للمساْءلة من قبل المجلس الأعلى للقضاء (المجلس الأعلى للسلطة القضائية)، دون أن ننسى مسطرتي تجريح ومخاصمة القضاة المقررة في قانون المسطرة المدنية.
خــلاصـة :
إن للقضاء كسلطة حرمة، وحرمته من حرمة رجالاته، هو رسالة عظيمة تحتاج في أدائها توازنا نفسيا واستعدادا فكريا والتزاما بأعرافها وتقاليدها المتأصلة في قيمنا الدينية الإسلامية التي تجعل من القاضي خليفة الله في الأرض من خلال ما يحمله من قيم العدل والحق.
والأكيد أن موضوع نزاهة القاضي ستبقى له راهنيته الممتدة في الزمن المستقبل، ولا غرابة في ذلك، طالما أن النزاهة ستظل مقياسا أصيلا في بناء دولة القانون وفي توفير الأمن القضائي، وليس من الصعب الاستدلال على وجود هذه القيمة الأخلاقية من عدمه في سلوك كل قاض، لاسيما وأن الأمر يتعلق بواقعة مادية يمكن إثباتها بكافة وسائل الإثبات كالقرائن القوية أو باعتماد نظرية الظاهر.
بقيت الإشارة في الختام إلى أن الوضعية المادية غير المشجعة للقاضي سيما المبتدأ لئن كان لها دور مؤثر بالنظر للوضع الاعتباري الذي ينبغي أن يكون عليه القاضي داخل المجتمع ، فإنها لا يمكن اعتمادها وحدها لتبرير بعض الانحرافات، بدليل أن الوضعية المادية التي كان عليها بعض مدراء المؤسسات والمكاتب العمومية لم تحل دون وقوعهم في المحظور، واليوم هم يقبعون في السجون .
اترك تعليقاً