دراسة وبحث قانوني هام عن تجريم الغش الضريبي
مقدمة:
عرف المغرب أولى محاولات تجريم الغش الضريبي مع مشروع قانون الإطارلسنة 1984 في فصله 27،حيث اقترحت لأول مرة عقوبة الحبس غير أن لجنة المالية المكلفة بدراسة هذا المشروع قررت بالإجماع حذف هذا الفصل، و صدر قانون الإطار بدون عقوبة الحبس،ثم جاء مشروع قانون المالية للسنة المالية 6199-1997لتعتبر أول مرة الغش الضريبي مخالفة معاقب عليها بغرامات مالية وعقوبات حبسية،غير أن المناقشات بمجلس النواب اعتبرت أن معاقبة مرتكب الغش الضريبي يجب أن تكون منسجمة مع محيط المقاولة المغربية[1]وأن تخضع للمبادئ التالية:
-تحديد نوعية المخالفات موضوع المعاقبة.
-إرجاع المسؤولية للمرتكب الفعلي.
-مراجعة المساطر المتبعة.
وهو ما تمت المصادقة عليه،ثم جاءت المدونة العامة للضرائب برسم قانون المالية لسنة 2007،وكذا قانون الجبايات المحلية رقم47-06.
الملاحظ بالنسبة للقانون الأخير أنه رتب عقوبة الغرامة على بعض المخالفات التي يرتكبها الملزم الجبائي خاصة لما يرفض الإدلاء بالوثائق المحاسبية أو حينما يرفض الاستجابة لطلب الإدارة بشأن الإطلاع[2] ، حيث تتولى الإدارة الضريبية تطبيق هذه الجزاءات ،علما أن تطبيق العقوبات الجنائية هو من اختصاص القضاء، الأمر الذي يطرح التساؤل عن طبيعة الغرامة المذكورة ؟وما إذا كانت المخالفات المشار إليها تكتسي صفة الجريمة الضريبية؟
إن البين من مقتضيات قانون06-47 أن تلك الغرامة تكتسي طابع الجزاء المدني-أو الجزاء الجبائي- و لا تشكل جزاء جنائيا، ولا يمكن وصف المخالفات المتعلقة بها بالجريمة الضريبية وذلك للاعتبارات التالية:
-إن المشرع الجبائي لم يدرج المخالفات المذكورة أعلاه ضمن مقتضيات المادة 138 المتعلقة بالجزاءات الجنائية المرتبطة بالجريمة الضريبية و التي يعهد بتطبيقها للقضاء.
-لا يمكن إسناد تطبيق العقوبات الجنائية لمؤسسة أخرى غير القضاء،بالنظر إلى أن المؤسسة المذكورة مقيدة حين إعمالها للعقوبة الجنائية بمقتضيات قانونية تكفل حقوق المتهم من قبيل حقه في الدفاع وسلوك طرق الطعن القانونية.
-لا تعد الغرامة دائما عقوبة جنائية، و دليل ذلك أن بعض أنواع الغرامات اعتبرها المشرع تكتسي طابع التعويض المدني، و ذلك من قبيل الغرامات المنصوص عليها في مدونة الجمارك.
-حدد المشرع الجبائي بالنسبة لتطبيق الجزاءات الجنائية المتعلقة بالجريمة الضريبية مسطرة خاصة و هي المنصوص عليها في المادة 166 من قانون 06-47، و لا تطبق المسطرة المذكورة بالنسبة للغرامات المشار إليها أعلاه.
ترتيبا على العلل المومأ إليها أعلاه فإن الجريمة الضريبية هي التي حدد لها المشرع الجبائي جزاءات جنائية سواء كانت تتمثل في عقوبة الغرامة أو الحبس وأسند إعمالها إلى القضاء،أما سائر المخالفات الجبائية التي رتب عليها القانون الضريبي عقوبة الغرامة وأوكل للإدارة الضريبية صلاحية تطبيقها فإنها لا توصف بالجريمة الضريبية للإعتبارات المبينة أعلاه.
على هذا النحو يمكن أن نعرف الجريمة الضريبية بأنها الغش الضريبي الذي يستهدفالإفلات من الخضوع للضريبة أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرجاع مبالغ بغير حق،عن طريق استعمال إحدى الوسائل المنصوص عليها في المادة 182 من المدونة العامة للضرائب التي تقابلها المادة 132من القانون رقم:47-06[3].فما هو الإطار القانوني للجريمة المذكورة؟وماهي أركانها؟وبماذا تتميز عن باقي الجرائم؟.
للجواب عن هذه الأسئلة ارتأينا اعتماد التصميم الآتي:
المبحث الأول: الإطار القانوني للجريمة الضريبية.
المطلب الأول:مضمون النصوص القانونية المتعلقة بالجريمة الضريبية
المطلب الثاني: أركان الجريمة الضريبية
المبحث الثاني:خصوصية الجريمة الضريبية
المطلب الأول:مسطرة المتابعة
المطلب الثاني:إلزامية التحقيق الإعدادي
المطلب الثالث:المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
المبحث الأول: الإطار القانوني للجريمة الضريبية.
إن تناول الترسانة القانونية المؤطرة للجريمة الضريبية يتطلب منا بيان مضمون النصوص القانونية التي تضمنت الإشارة إلى تلك الجريمة _المطلب الأول-ثم تحديد أركانها_المطلب الثاني_
المطلب الأول:مضمون النصوص القانونية المتعلقة بالجريمة الضريبية
تبنى المشرع المغربي أول مرة مبدأ تجريم ممارسة التهرب الضريبي من خلال القانون المالي لسنة 1996-1997 والذي صدر بتنفيذ الظهير الشريف رقم 77-96-1 بتاريخ 29 يونيو 1996_أولا_كما رتبت المدونة العامة للضرائب،جزاءات مالية وجنائية على المتهربين من الضرائب_ثانيا_، فضلا على أن القانون رقم 47-06 تضمن بعض الجزاءات الجنائية _ثالثا_.
أولا: القانون المالي لسنة 1996-1997
حدد قانون تجريم الغش الضريبي مجموعة من الجزاءات الجنائية تضمنتها المواد التالية:
-المادة 12: تتعلق بالغش المخل بالقانون رقم86-24 المتعلق بالضريبة على الشركات.
– المادة 13: تتعلق بالغش في مجال القانون رقم 89-17 المتعلق بالضريبة العامة على الدخل.
-المادة 14: تتعلق بالغش في مجال القانون رقم 85-30 المنظم لضريبة على القيمة المضافة.
ونشير إلى أن القانون المذكور حصرنطاق الغش الضريبي في الضرائب الثلاث المذكورة دون باقي الضرائب، مما يعني ذلك أن المشرع استثنى الضرائب الأخرى من نطاق الغش الضريبي.
ثانيا: المدونة العامة للضرائب
ورد في المادة 182 من المدونة العامة للضرائب برسم قانون المالية لسنة 2007ما يلي:” بصرف النظر عن الجزاءات الضريبية المنصوص عليها في هذه المدونة يتعرض لغرامة من خمسة آلاف درهم إلى خمسين ألف درهم كل شخص ثبت في حقه قصد الإفلات من إخضاعه للضريبة او التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرجاع مبالغ بغير حق، استعمال إحدى الوسائل التالية:
– تسليم أو تقديم فاتورات صورية.
– تقديم تقييدات محاسبية مزيفةأو صورية
– بيع بدون فاتورات بصفة متكررة.
– إخفاء أو إتلاف الوثائق المحاسبية المطلوبة قانونيا
– اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال إعسارها.
وفي حالة العود إلى المخالفة قبل مضي خمس سنوات على الحكم بالغرامة المذكورة الذي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يعاقب مرتكب المخالفة، زيادة على الغرامة المقررة أعلاه، بالحبس من شهر واحد إلى 3 أشهر.
تطبق الأحكام أعلاه وفق الإجراءات والشروط المنصوص عليها في المادة 231 أدناه”[4].
ثالثا : القانون رقم 06-47
ورد في المادة 138 من القانون المذكور: ” بصرف النظر عن الجزاءاتالجبائيةالمنصوص عليها في هذا القانون يتعرض لغرامة من خمسة آلاف درهم إلى خمسين ألف درهم كل شخص ثبت في حقه قصد الإفلات من إخضاعه للرسمأو التملص من دفعه أو الحصول على خصم منه أو استرجاع مبالغ بغير حق، استعمال إحدى الوسائل التالية:
– تسليم أو تقديم فاتورات صورية.
– تقديم تقييدات محاسبية مزيفة أو صورية
– بيع بدون فاتورات بصفة متكررة.
– إخفاء أو إتلاف الوثائق المحاسبية المطلوبة قانونيا
– اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال إعسارها.
وفي حالة العود إلى المخالفة قبل مضي خمس سنوات على الحكم بالغرامة المذكورة الذي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يعاقب مرتكب المخالفة، زيادة على الغرامة المقررة أعلاه، بالحبس من شهر واحد إلى 3 أشهر.
تثبت المخالفات المنصوص عليها في هذه المادة بمحضر يحرره مأموران بالإدارة ينتميان على الأقل إلى درجة متصرف مساعد أو درجة مماثلةلهامنتدبان خصيصا لهذا الغرض ومحلفان وفقاللتشريع الجاري به العمل.
مهما يكن النظام القانوني للخاضع للرسم، فإن عقوبة الحبس لا يمكن أن تطبق إلا على الشخص الذاتي الذي ارتكب المخالفة أو على كل مسؤول ثبت أن المخالفة ارتكبت بتعليمات منه و بموافقته.
ويتعرض لنفس العقوبة كل شخص ثبت أنه ساهم في ارتكاب الأفعال المذكورة أو ساعد أو أرشد الأطراف في تنفيذها.
لا يمكن إثبات المخالفات المنصوص عليها في هذه المادة إلا في إطار مراقبة ضريبية”
المطلب الثاني: أركان الجريمة الضريبية
تتمثل أركان الجريمة الضريبية في الركن القانوني_أولا_ والركن المادي_ثانيا_ثم الركن المعنوي_ثالثا_.
أولا:الركن القانوني
يقصد بالركن القانوني النصوص القانونية التي تناولت الجريمة الضريبية، والتي أشرنا إليها سابقا وهذه النصوص تمثل مبدأ الشرعية في التجريم الذي يعتبر من المبادئ الأساسية للقانون الجنائي والذي يعني أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق، وفي هذا الصدد ينص الفصل الثالث من القانون الجنائي المغربي على أنه “لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا بعقوبات لم يقررها القانون”.
ثانيا: الركن المادي
يتمثل الركن المادي للجريمة الضريبية في الأفعال الآتية:
أولا: تسليم أو تقديم فاتورات صورية تتضمن بيانات غير صحيحة تتعلق بالمداخيل أو بالعمليات الخاضعة للضريبة.
ثانيا: تقديم تقييدات محاسبية مزورة أو مزيفة أو صورية، كإخفاء بعض الدخول أوتضخيم بعض المبالغ المتعلقة بالمصروفات العامة بواسطة دمج المصروفات الخاصة في أبواب المصروفات العامة.
ثالثا:البيع بدون فاتورات بصفة متكررة.
رابعا: إخفاء أو إتلاف الوثائق المحاسبية المطلوبة قانونا
خامسا: اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال إعسارها.
ولقيام الجريمة الضريبية المذكورة يشترط أن تكون الغاية من الأفعال المشار إليها أعلاه الإفلات من الخضوع للرسم أو التملص من دفعه أو الحصول على خصم منه أو استرداد مبالغ بغير حق.
ثالثا: الركن المعنوي:
إن الجريمة الضريبية تتطلب وجود ركن معنوي، يتمثل في نية التضليل لتحقيق هدف غير مشروع، هذا الهدف يتمثل في اتجاه نية المتهرب إلى التخلص الكلي أو الجزئي من الخضوع للرسمأو التملص من دفعه أو الحصول على خصم منه أو استرداد مبالغ بغير حق.
علما أن سوء نية الخاضع للرسم يكون ملاحظا حينما يكون الفارق بين المعطيات والبيانات التي صرح بها وبين المعطيات الحقيقية التي يرتكز عليها نشاطه وإثبات سوء النية يمكن أن يتم بعدة وسائل حسب المعطيات التي تتوفر أو بإمكان الإدارة أن تتوفر عليها بالتنسيق مع مختلف الإدارات والجهات المعنية ومع كل المتعاملين مع الملزم[5].
لكن نجد في بعض الأحيان أن سوء النية تكون غير موجودة لدى الفاعل حينما يتم تكرار بعض الأفعال كالغلط في المحاسبة، أو البيع بدون فاتورات بصفة متكررة، بحيث نجد أن المكلف بالضريبة في بعض الأحيان يهمل هذه الإجراءات نتيجة عدة عوامل كالسرعة في إبرام الصفقات، فضلا عن وجود أعراف بين التجار تقوم على أساس الثقة في المعاملات الأمر الذي لا ينتبه إليه هؤلاء في بعض الأحيان، حيث لا تقوم الجريمة الضريبية في هذه الحالة إذا ثبت أنه لم يكن للمعني بالأمر القصد في الإفلات من الخضوع للرسم أو التملص من دفعه أو الحصول على خصم منه أو استرداد مبالغ بغير حق.
وأخيرا يجب التمييز بين التهرب الضريبي المشروع والتهرب الضريبي غير المشروع، فالأول يقوم على أساس استغلال ثغرات قانونية وبالتالي لا يهدف إلى خرق النصوص الجبائية الشيء الذي لا ينتج عنه عقوبات نظرا لمبدأ الشرعية التي تحدثنا عنها، أما الثاني فهو يقوم على أساس القيام بعمليات تدليسية ينتج عنها خرق القوانين الضريبية المعمول بها، وبالتالي فإن هذا النوع من التهرب الضريبي هو الذي يشكل في آخر المطاف جريمة الغش الضريبي المعاقب عليها جنائيا.
المبحث الثاني:خصوصية الجريمة الضريبية
تتبلور الخصوصية في الجريمة الضريبية على مستوى إجراءات المتابعة_المطلبالأول_وإلزامية التحقيق الإعدادي _المطلب الثاني_ وكذا مسؤولية الشخص المعنوي عن الفعل المذكور_المطلب الثالث_
المطلب الأول:مسطرة المتابعة
تنص المادة 231 من المدونة العامة للضرائب التي تقابلها المادتان 138و166 من القانون رقم:47-06 على أنه:” تثبت المخالفات المنصوص عليها في المادة192 أعلاه بمحضر يحرره مأموران بإدارة الضرائب من درجة مفتش على الأقل ينتدبان خصيصا لهذا الغرض ومحلفين وفق التشريع الجاري به العمل.
………………….
لا يمكن إثبات المخالفات المنصوص عليها في المادة 192 أعلاه إلا في إطار مراقبة ضريبية.
إن الشكاية الرامية إلى تطبيق الجزاءات المنصوص عليها في المادة 192 المذكورة، يجب أن يعرضها سلفا وزير المالية أو الشخص المفوض من لدنه لهذا الغرض على سبيل الاستشارة على لجنة للنظر في المخالفات الضريبية، يرأسها قاض وتضم ممثلين اثنين لإدارة الضرائب وممثلين اثنين لخاضعين للضريبة يختاران من القوائم التي تقدمها المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا، ويعين أعضاء هذه اللجنة بقرار للوزير الأول.
يجوز لوزير المالية أو الشخص المفوض من لدنه لهذا الغرض أن يحيل استشارة للجنة المذكورة الشكاية الرامية الى تطبيق الجزاءات الجنائية المنصوص عليها في المادة 192 أعلاه إلى وكيل الملك المختص التابع له مكان ارتكاب المخالفة.
يجب على وكيل الملك أن يحيل الشكاية إلى قاضي التحقيق”
وفقا للمادة المذكورة فإن المخالفة الضريبية تضبط بناء على مراقبة ضريبية يتولاها مأموران محلفان بإدارة الضرائب من درجة مفتش على الأقل ينتدبان خصيصا لهذا الغرض حيث يحرران محضرا بشأن ذلك.
تبعا لذلك فإن الجرائم الضريبية التي يتم اكتشافها من قبل عناصر الشرطة القضائية حين قيامهم بأبحاث تمهيدية لا يمكن أن تكون محل متابعة،طالما أن تلك الجرائم لم تثبت خلال مراقبة ضريبية فضلا على أن البحث التمهيدي بخصوص الجريمة الضريبية من صميم اختصاص موظفي إدارة الضرائب اللذين تتوافر فيهم الشروط المومأ إليها أعلاه.
بعد إنجاز المحضر يعرضه وزير المالية أو من ينوب عنه لهذا الغرض على لجنة المخالفات الضريبية التي يرأسها قاض وتضم ممثلين عن إدارة الضرائب وممثلين عن الملزمين يختاران من لوائح تقدمها المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا ويعين أعضاؤها بقرار من الوزير الأول وتصدر رأيا استشاريا،وهنا يطرح التساؤل عن جدوى استشارة اللجنة المذكورة؟
بعد استشارة تلك اللجنة يمكن لوزير المالية أو الشخص المفوض إليه أن يعمد إلى تحريك المتابعة وذلك بإحالة الشكاية إلى وكيل الملك الذي يتعين عليه إحالة المحضر والشكاية على قاضي التحقيق قصد إجراء تحقيق تفصيلي بشأن المخالفة الضريبية.
ولعل ما يثير الانتباه هنا هو المكنة المخولة لوزير المالية أو الشخص المفوض إليه من حيث تحريك المتابعة أو حفظ المحضر،ويبدو أن غاية المشرع من ذلك تروم إقرار مبدأ العدالة التصالحية،حيث يمكن للإدارة الضريبية تسوية المنازعة مع الملزم عن طرق الصلح وبالتالي الحفاظ على العلاقة الجيدة بين الإدارة الضريبية والملزم بدل إحالته على المحاكمة الجنائية.
في مقابل ذلك فإن وكيل الملك ملزم بإحالة الشكاية الضريبية على قاضي التحقيق،بحيث لا يملك سلطة حفظها كما هو الشأن بالنسبة لباقي الشكايات،وعلة ذلك من وجهة نظر المشرع-حسب تقديرنا- أن الشكاية المتعلقة بجريمة الغش الضريبي تتضمن كافة عناصر الإثبات التي حصل عليها مفتشا إدارة الضرائب حين إجرائهم للمراقبة الضريبية وبالتالي لم يبق للنيابة العامة مجال لملائمة المتابعة.
ما يلاحظ على هذه المسطرة أنها تتضمن بعض القواعد التي يمكن أن تحول دون تفعيل آليات تجريم الغش الضريبي من قبيل أن تجريم الغش الضريبي مرتبط بمسطرة المراقبة التي تجريها الإدارة الضريبية،ومعنى ذلك أنه لا يمكن ضبط المخالفة الضريبية خارج هذه المسطرة،وترتيبا على ذلك فإن الملزمين اللذين يمسكون محاسبة منتظمة هم وحدهم من يخضعون للمراقبة الضريبية دون غيرهم من الملزمين اللذين لا يمسكون محاسبة.
فضلا على ذلك فإن المشرع لم يمكن الإدارة من آليات كافية لضبط المخالفات الضريبية مثل زيارة وتفتيش كافة المحلات التي يباشر فيها نشاط خاضع للضريبة،كما لم يلزم المؤسسات القضائية بإحالة الوثائق أو المعلومات التي من شأنها أن تحمل الظن على ارتكاب جريمة ضريبية.
ونشير هنا إلى الدعوى العمومية المثارة بخصوص الجريمة الضريبية موضوع المادة192 من المدونة العامة للضرائب و المادة 138 من القانون رقم:47-06تسقط بتنازل وزير المالية أو الشخص المفوض إليه عن الشكاية المقدمة من قبله عملا بمقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية التي ورد فيها:”وتسقط أيضا-أي الدعوى العمومية- بتنازل المشتكي عن شكايته،إذا كانت الشكاية شرطا ضروريا للمتابعة”،علما أن المتابعة بالجريمة الضريبية تتوقف على شكاية وزير المالية أو الشخص المفوض إليه بشأن ذلك.
المطلب الثاني:إلزامية التحقيق الإعدادي
إن الثابت من المادة الثامنة من قانون المسطرة الجنائية أن التحقيق الإعدادي يعد إلزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة،والجنايات المرتكبة من طرف الأحداث ،والجنح بنص خاص،ويكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر.
تبعا لذلك فإن التحقيق الإعدادي في الجرائم الضريبية المنصوص عليها في المادة192 من المدونة العامة للضرائب و المادة 138 من القانون رقم:47-06 إلزامي بمقتضى نص خاص يتمثل في المادة 231من القانون الأول والمادة 166 من القانون الثاني.
وإذا كان مشرع المسطرة الجنائية قد سن إلزامية التحقيق الإعدادي بالنسبة للجنح التي يوجب نص خاص التحقيق فيها،كما أتى بمسطرة التحقيق الإختياري بالنسبة للجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر،فإنه توخى من خلال الإجراء المذكور إسهام مؤسسة التحقيق في الكشف عن الحقيقة،سيما أن تقليص مدة الحراسة النظرية لدى الشرطة القضائية لدى الشرطة القضائية قد أثر على نتائج الأبحاث في الحالات التي لم يكن ممكنا فيها الإفراج عن المشتبه فيهم.[6]
غير أن الواقع العملي أثبت أن التحقيق الإعدادي في أغلب الجنح التي يشملها لا يسهم في الكشف عن أي جديد،إذ أن ملتمس الإحالة وكذا المحاضر التي ينجزها قاضي التحقيق تعد مجرد تكرار لما هو وارد بمحاضر الشرطة القضائية،لذلك فإن الإجراء المذكور يؤدي فقط في أغلب الحالات إلى إطالة أمد البت في القضايا .
تأسيسا على المعطى المذكور يمكن القول بأن إجراءات التحقيق الإعدادي في القضايا المتعلقة بالجريمة الضريبية لا يمكن أن تكشف عن أي واقعة كما لا توفر أي إثبات،بحكم أن قاضي التحقيق سيكتفي بالاستماع إلى المتهم بتلك الجريمة بالنظر إلى أن ملف القضية جاهز للبت فيه فهو يتضمن عناصر تقنية أثبثها مأمورا الضرائب خلال إجرائهما للمراقبة الضريبية،فضلا على أن وزير المالية أو الشخص المفوض من لدنه لهذا الغرض لا يحيل الشكاية إلا بعد ثبوت الفعل في حق المعني بالأمر وإبداء اللجنة رأيها في الموضوع.
المطلب الثالث:المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
قد يمنح المشرع الشخصية القانونية لمجموعة من الأموال أو الأشخاص كالشركات و الجمعيات، حتى يمكن ان تكتسب الحقوق أو تلتزم بالواجبات، و بالتالي تتمكن من أداء وظيفتها، و قد اتجه المشرع المغربي إلى إقرار المسؤولية الجنائية للشخص الاعتباري غير أنه لا يحكم عليه إلا بالعقوبات المالية و العقوبات الإضافية الواردة في الفقرات 5 و 6 و 7 من الفصل 36 من قانون 17-95 ، كما يجوز أن يحكم عليه بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل 62، و هذا يبين بأن المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي تقوم عند ارتكاب فعل ما يعد من باب الجرائم، آنذاك تتم محاسبته وفق العقوبات التي تتناسب مع طبيعة الشخص المعنوي كالغرامة أو المصادرة، و ليس في تطبيق هذه العقوبات خروجا عن مبدأ “شخصية العقوبة”[7].
و نجد أن المشرع المغربي اشترط في الجرائم العمدية المتعلقة بالشركات توفر القصد الجنائي العام و القصد الجنائي الخاص، ذلك أن الأول يقوم على العلم و الإرادة دون الإعتداد بالغاية من ارتكاب الجريمة، كتوزيع أرباح وهمية حسب المادة 384 من قانون شركات المساهمة، أما القصد الجنائي الخاص فهو يتضمن جريمة سوء استعمال أموال و اعتمادات الشركة و ذلك حسب المادة 38 من قانون 17-95[8].
تتمحور المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في الجريمة الضريبية حسب مقتضيات قانون 06-47 في قيام المسؤول عن الشركة بالتملص من أداء الضريبة بإحدى الوسائل التي أوردتها المادة 138منه ، وهنا تتم محاسبة الشركة قانونيا.
وهنا يثار التساؤل بخصوص من يتحمل المسؤولية الجنائية هل المدير أم رئيس مجلس الإدارة أم الأجير الذي ارتكب الفعل؟
المدخل للإجابة على هذا التساؤل يبقى هو منطوق المادة 138 السابق ذكرها من قانون 06-47 حيث أوردت الفقرة الثالثة منها بأن المسؤولية الجنائية الضريبية يتحملها الشخص الذاتي الذي ارتكب المخالفة أو المسؤول الذي تبث أن المخالفة ارتكبت بتعليمات منه أو بموافقته.
أما في حالة الشركات التي يتخذ فيها القرار بشكل جماعي أو تدار و تسير من قبل مجلس إدارة جماعي أو بشكل ثنائي مع مجلس الرقابة كنظام حديث، ففي حالة صدور القرار بالإجماع تقع المسؤولية على أعضاء جهاز التسيير بحيث يعتبر كل واحد منهم بمثابة فاعل أصلي تتم متابعته كمساهم طبقا للمادة 128 من القانون الجنائي و وفقا للفقرة الرابعة من المادة 138 من قانون 06-47. أما في حالة صدور القرار بالأغلبية فإن تبعاته يتحملها الأعضاء المصوتون عليه.
كقاعدة أساسية إذن يبقى المسير المتواجد على رأس الشركة سواء تعلق الأمر بالمسير القانوني أو الفعلي هو المسؤول جنائيا عن الجريمة الضريبية ، كما يسأل الأجير مسؤولية جنائية عن أعمال الإدارة و التسيير إذا كان يشغل منصب متصرف، غير أن هذا لا يمكن أن يؤثر على وضعيته كأجير.
خاتمة
وحاصل القول فإن تفعيل آليات تجريم الغش الضريبي الذي يندرج ضمن الجرائم المالية يتطلب قضاء فعالا ومتخصصا علما أن القضاء الزجري لازال غير ملم بمفاهيم القانون الاقتصادي والمالي مما يدفعه في حالات كثيرة إلى الاعتماد على الخبرة ،وهذا ما دفع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إلى مطالبة المغرب في أكثر من مناسبة إلى إعادة النظر في جهاز القضاء وتكون أطر متخصصة في جرائم المال والأعمال،ولعل هذا ما جعل المشرع المغربي يسن تعديلا قانونيا بشأن إحداث أقسام مالية متخصصة بأربعة محاكم استئناف.
[1]- كانت هناك جهات تعرقل مبدأ تجريم الغش الضريبي، وعملت على إجهاض مشاريع القوانين التي كانت تهدف إلى جعل الغش والتهرب الضريبي جريمة معاقب عليها، بل إن هناك من استغرب لسن عقوبات السالبة للحرية في مجال التهرب الضريبي، حيث اعتبرأن هذا الإجراء من مخلفات العصور القديمة، للمزيد من التفاصيل راجع الصديق جعوان: إشكالية التهرب الضريبي في المغرب، أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق شعبة القانون الخاص، جامعة محمد الخامس أكدال كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الرباط، السنة الجامعية 2001-2002. ص:302
[2]- يعاقب على المخالفتين المذكورتين بغرامة قدرها خمسمائة (500) درهم و بغرامة تهديدية قدرها مائة (100) درهم عن كل يوم تأخير في حدود ألف (1000) درهم. – المادة 136 من ق 06-47- .
[3]-تتمثل هذه الوسائل فيما يلي:
– تسليم أو تقديم فاتورات صورية.
– تقديم تقييدات محاسبية مزيفةأو صورية
– بيع بدون فاتورات بصفة متكررة.
– إخفاء أو إتلاف الوثائق المحاسبية المطلوبة قانونيا
– اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال إعسارها.
[4]- تنص المادة 231 من نفس القانون على مايلي :” تثبت المخالفات المنصوص عليها في المادة192 أعلاه بمحضر يحرره مأموران بإدارة الضرائب من درجة مفتش على الأقل ينتدبان خصيصا لهذا الغرض ومحلفين وفق التشريع الجاري به العمل.
مهما يكن النظام القانوني للخاضع للضريبة، فإن عقوبة الحبس المقررة في المادة المشار إليها في الفقرة أعلاه، لا يمكن أن تطبق إلا على الشخص الطبيعي الذي ارتكب المخالفة أو على كل مسؤول ثبت أن المخالفة ارتكبت بتعليمات منه و بموافقته.
ويتعرض لنفس العقوبة كل شخص ثبت أنه ساهم في ارتكاب الأفعال المذكورة أو ساعد أو أرشد الأطراف في تنفيذها.
لا يمكن إثبات المخالفات المنصوص عليها في المادة 192 أعلاه إلا في إطار مراقبة ضريبية.
إن الشكاية الرامية إلى تطبيق الجزاءات المنصوص عليها في المادة 192 المذكورة، يجب أن يعرضها سلفا وزير المالية أو الشخص المفوض من لدنه لهذا الغرض على سبيل الاستشارة على لجنة للنظر في المخالفات الضريبية، يرأسها قاض وتضم ممثلين اثنين لإدارة الضرائب وممثلين اثنين لخاضعين للضريبة يختاران من القوائم التي تقدمها المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا، ويعين أعضاء هذه اللجنة بقرار للوزير الأول.
يجوز لوزير المالية أو الشخص المفوض من لدنه لهذا الغرض أن يحيل استشارة للجنة المذكورة الشكاية الرامية الى تطبيق الجزاءات الجنائية المنصوص عليها في المادة 192 أعلاه إلى وكيل الملك المختص التابع له مكان ارتكاب المخالفة.
يجب على وكيل الملك أن يحيل الشكاية إلى قاضي التحقيق”
[5]-أنظر جواب الحكومة المغربية خلال مناقشة القانون رقم:47-06أمام مجلس المستشارين، المنشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية،سلسلة نصوص ووثائق،عدد184، 2008 ص 194.
[6]-أنظر ديباجة القانون رقم:01-22 المتعلق بقانون المسطرة الجنائية.
[7]- د.أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح، شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام، الطبعة الثانية، 1984، ص 232- 233.
[8]- ذ.سعيدالروبيو، المسؤولية لمسيري شركات المساهمة، جامعة محمد الأول وجدة، ص 416.
اترك تعليقاً