دراسة وبحث قانوني قيم عن التامين من المسؤولية
يعدّ التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء صورة من صور التأمين من المسؤولية، والذي بموجبه يتولى المؤمن على عاتقه تحمل الضمان وإصلاح النتائج المترتبة على تحقق الخطر المؤمن منه بتسديد مبلغ التأمين المشار إليه في وثيقة التأمين أو مبلغ التعويض للمستفيد، إذ يوفر هذا التأمين حماية مزدوجة لكل من المؤمن والمؤمن له والمستفيد على حد السواء ، على الرغم من أن الأخير لا يعد طرفاً في العلاقة .
ولما كان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء عقداً ، فانه يمتاز ما تمتاز به العقود عموماً ، بيد ان طبيعته الخاصة تجعله ينفرد بجملة من الخصائص تميزه عن غيره من العقود الأمر الذي يستلزم اتخاذ إجراءات معينة عند إبرامه حيث يمر العقد بسلسلة من المراحل .
إذ يلعب الجانب الفني فيه دوراً لا يقل بأي حال من الأحوال عن أهمية الجانب القانوني له ، وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان أن يشوب الإرادة أي عيب من عيوبها .
ويخضع تأمين المسؤولية في مقاولات البناء للقواعد العامة المتعلقة بعقد التأمين فضلاً عن القواعد المنظمة له ، وانطلاقاً من مبدأ الحرية التعاقدية تلعب الإرادة دوراً مهماً في إبرامه ، وان كانت قد قيدت بعض الشيء بنص القانون من خلال الإلزام بإبرام العقد في ظل القوانين المقارنة.
والجدير بالذكر إلى ان النطاق الشخصي لهذا التأمين يختلف مداه من تشريع لآخر على الرغم من أن أطراف التأمين تقتصر على أطرافه ، إلاّ أن أثره ينصرف إلى شخصٍ ثالث ، والحال نفسه بالنسبة للنطاق الموضوعي ، إذ تختلف من تشريع لآخر ، وعليه فانه يرتب جملة من الآثار الناتجة من الالتزامات المتعلقة بالمؤمن ، ومنها الالتزامات المتعلقة بالمؤمن له والتي تعتمد على تحقق الخطر منه ، لان فيها يكون سابقاً على وقوع الخطر ، ومنها لاحقاً على وقوعه ، كما يرتب العقد آلية أعمال الضمان متجسدة بحق الرجوع والحلول.
لقد لقي هذا التأمين رواجاً وانتشاراً واسعاً لما يحمله من مزايا وفوائد ، ولهذا يلاحظ أن المشرع في العديد من الدول نظم أحكامه بتشريع وجعله إلزامياً لكل من يزاول أعمال المقاولات في مجال البناء ، وبالرغم من ذلك فإن المشرع العراقي لم يعط هذا النوع من التأمين ما يستحقه من اهتمام ، نأمل أن نجده في وقت قريب .
N
الموضوع
الصفحة
المقدمة
1-3
الفصل الأول : ماهية التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
4-60
المبحث الأول : مفهوم تأمين المسؤولية في مقاولات البناء
8
المطلب الأول : المقصود بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
8
المقصد الأول : التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
9
المقصد الثاني : أسس التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ووظائفه
11
المطلب الثاني : خصائص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
14
المطلب الثالث : تمييز التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء مما يشتبه به
23
المبحث الثاني : آلية إبرام عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
28
المطلب الأول : التراضي في عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
28
المقصد الأول : صحة التراضي
30
المقصد الثاني : التعبير عن الرضا عملياً
35
المقصد الثالث : أطراف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
48
المطلب الثاني : المحل في عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
54
المقصد الأول : أن يكون الخطر احتمالياً
55
المقصد الثاني : أن يكون الخطر غير متعلق بمحض إرادة أحد الطرفين
58
المقصد الثالث : أن يكون الخطر مشروعاً
59
الفصل الثاني : نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
61-137
المبحث الأول : نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الأشخاص
62
المطلب الأول : الأشخاص المؤمنة مسؤوليتهم
62
المقصد الأول : الأشخاص المرتبطون بعقد مقاولة
62
المقصد الثاني : الأشخاص الغير مرتبطين بعقد مقاولة
75
المطلب الثاني : الأشخاص المؤمن لصالحهم
83
المقصد الأول : الغير المؤمن لصالحه
85
المقصد الثاني : مالك البناء المؤمن لصالحه
87
المبحث الثاني : نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الموضوع
91
المطلب الأول : أعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
91
المقصد الأول : تحديد أعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
92
المقصد الثاني : مجال أعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
98
المطلب الثاني : حدود المسؤولية المؤمنة
105
المقصد الأول : المسؤولية المؤمنة في فترة التنفيذ
107
المقصد الثاني : المسؤولية المؤمنة في فترة الضمان العشري
113
المقصد الثالث : المسؤولية المؤمنة من حيث المدة
118
المطلب الثالث : الأضرار المستبعدة من التأمين
123
المقصد الأول : الأضرار المستبعدة والمتفق عليها في القوانين المقارنة
125
المقصد الثاني : الأضرار المستبعدة والمختلف عليها في القوانين المقارنة
133
الفصل الثالث : آثار التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
138-185
المبحث الأول : الالتزامات الناشئة عن التأمين
139
المطلب الأول : التزامات المؤمن
139
المقصد الأول : الالتزام بتسديد مبلغ التأمين
140
المقصد الثاني : الالتزام بمتابعة التنفيذ
149
المطلب الثاني : التزامات المؤمن له
151
المقصد الأول : التزامات المؤمن له السابقة على وقوع الخطر
151
المقصد الثاني : التزامات المؤمن له اللاحقة على وقوع الخطر
161
المبحث الثاني : أعمال الضمان
169
المطلب الأول : تسوية الضمان
169
المقصد الأول : المطالبة بالضمان ودياً
169
المقصد الثاني : المطالبة بالضمان قضائياً
175
المطلب الثاني : حق الرجوع والحلول
177
المقصد الأول : حق المستفيد المتضرر بالرجوع على المؤمن
177
المقصد الثاني : حق المؤمن بالرجوع على المؤمن له
181
المقصد الثالث : حلول المؤمن محل المؤمن له بالرجوع على الغير
183
الخاتمة
186
المصادر
199
الملاحق
ملخص الرسالة باللغة الإنكليزية
A-B
خطة البحث
المقدمة
الفصل الاول
ماهية التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المبحث الاول
مفهوم تأمين المسؤولية في مقاولات البناء
المطلب الاول
المقصود بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المقصد الاول
التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المقصد الثاني
اسس التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ووظائفه
المطلب الثاني
خصائص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المطلب الثالث
تمييز التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المبحث الثاني
آلية ابرام عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المطلب الاول
التراضي في عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المقصد الاول
صحة التراضي
المقصد الثاني
التعبير عن الرضا عملياً
المقصد الثالث
اطراف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المطلب الثاني
المحل في عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المقصد الاول
ان يكون الخطر احتمالياً
المقصد الثاني
ان يكون الخطر غير متعلق بمحض ارادة احد الطرفين
المقصد الثالث
ان يكون الخطر مشروعاً
الفصل الثاني
نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
المبحث الاول
نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الاشخاص
المطلب الاول
الاشخاص المؤمنة مسؤوليتهم
المقصد الاول
الاشخاص المرتبطون بعقد مقاولة
المقصد الثاني
الاشخاص الغير مرتبطون بعقد مقاولة
المطلب الثاني
الاشخاص المؤمن لصالحهم
المقصد الاول
الغير المؤمن لصالحه
المقصد الثاني
مالك البناء المؤمن لصالحه
المبحث الثاني
نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الموضوع
المطلب الاول
اعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
المقصد الاول
تحديد اعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
المقصد الثاني
مجال اعمال مقاولات البناء الخاضعة للتأمين
المطلب الثاني
حدود المسؤولية المؤمنة
المقصد الاول
حدود المسؤولية المؤمن من حيث المدة
المقصد الثاني
المسؤولية المؤمنة في فترة التنفيذ
المطلب الثاني
المسؤولية المؤمنة في فترة الضمان العشري
المطلب الثالث
الأضرار المستبعدة من التأمين
المقصد الاول
الأضرار المستبعدة والمتفق عليها في القوانين المقارنة
المقصد الثاني
الأضرار المستبعدة والمختلف عليها في القوانين المقارنة
الفصل الثالث
اثار المسؤولية من التأمين في مقاولات البناء
المبحث الاول
الالتزامات الناشئة عن التأمين
المطلب الاول
التزامات المؤمن
المقصد الاول
الالتزام بتسديد مبلغ التأمين
المقصد الثاني
الالتزام بمتابعة التنفيذ
المطلب الثاني
التزامات المؤمن له
المقصد الاول
التزامات المؤمن له السابقة على وقوع الخطر
المقصد الثاني
التزامات المؤمن له اللاحقة على وقوع الخطر
المبحث الثاني
اعمال الضمان
المطلب الاول
تسوية الضمان
المقصد الاول
المطالبة بالضمان ودياً
المقصد الثاني
المطالبة بالضمان قضائياً
المطلب الثاني
حق الرجوع والحلول
المقصد الاول
حق المضرور بالرجوع على المؤمن
المقصد الثاني
حق المؤمن بالرجوع على المؤمن له
المقصد الثالث
حلول المؤمن محل المؤمن له بالرجوع على الغير
الخاتمة
المقدمة
منذ الأزل يسعى الإنسان جاهداً إلى تأمين حياته وأمواله من الأخطار التي قد يتعرض لها ، وهذا هاجس لازمه طيلة حياته ، ومن هنا ظهر التأمين وتطور حتى وصل إلى ما هو عليه الآن .
إذ يعد وجوده وسيلة من وسائل الحماية إذ اصبح الأسلوب الفعال في معالجة المخاطر التي قد تقع بعدما أصبح مع الحياة وجهين لعملة واحدة هي عملة الوجود ، إذ بتعقد أساليب الحياة بات الخطر قرين أنشطة الإنسان المختلفة مما دفع به إلى التعاون مع غيره من أبناء جنسه لضمان هذه الأخطار والتخلص من آثارها المالية الجسيمة عند وقوعها ، ولا سيما بعد التقدم العلمي وتطور الأساليب التقنية التي واكبت مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية من جهة وعدم معرفة الإنسان لما قد يحدث له مستقبلاً وعدم تمكنه من معرفة نتائج قراراته مسبقاً أمر يجعله في وضع صعب لا يحسد عليه من جهة أخرى .
وهذا يعد أمراً طبيعياً ، إذ أننا نعيش في عصر المسؤولية المدنية بمفهومها الواسع التي اتسعت دائرتها بشكل كبير ، وهذا يعدّ طبيعياً لحتمية للتطور ، لان كل تطور سيعقبه اتساع في نطاق المسؤولية المدنية ، فما شهدته أساليب البناء من تطور وتقدم في إنجاز مباني عملاقة في وقت قصير نسبياً ، خاصة بعد ظهور أسلوب المباني الجاهزة أو السابقة التصنيع لحل أزمة السكن التي تعاني منها العديد من أقطار المعمورة ، مما أضطر من يزاول أعمال مقاولات البناء على سرعة إنجازها على حساب عدم الدقة في بعض الأحيان في تنفيذ هذه الأعمال وذلك باستخدام مواد بناء ذات مواصفات غير مطابقة أو رديئة النوعية ، فضلاً عما تسببه الأخطاء في وضع الرسوم والتصاميم الهندسية أو الإهمال في المتابعة والإشراف عند تنفيذ أعمال البناء مما قد يؤدي إلى انهيارها ، عندئذ يترتب على ذلك من أضرار جسيمة لا يمكن حصرها فضلاً عن زهق الأرواح وإتلاف الأموال والممتلكات وفقدان الاطمئنان.
ولما كان التعويض عن هذه الأضرار يشكل عبئاً مالياً كبيراً ينوء به كاهل من نهضت مسؤوليته المدنية عن تهدم البناء ، كان لابد من وسيلة للاحتياط من المسؤولية المدنية تضمن حماية المضرور وتمكينه من الحصول على تعويض مناسب وسريع ، وحماية المسؤول عن التهدم من خلال تمكينه من القيام بعمله دون خوف الذي قد يتعرض له من خلال مطالبة المتضرر له ، ومن ثم تشجيعه على البحث والابتكار واستخدام الأساليب الحديثة في عمليات البناء ، وإزاء ذلك كان التأمين من المسؤولية بمثابة وسيلة احتياط من المسؤولية لتحقيق هذا الغرض . وعلى هذا الأساس تدخل المشرع في العديد من الدول لتوفير هذه الحماية وذلك بفرضه تأميناً إلزامياً يغطي المسؤولية المدنية لمن تنهض مسؤوليته في مجال أعمال مقاولات البناء .
أهمية اختيار الموضوع
تقدم هذه الدراسة حلاً لتوفير الحماية لمن يساهم في أعمال مقاولات البناء الذي قد تنهض مسؤوليته المدنية ومطالبة المتضرر بالتعويض في وقت قد تكون قدرته المالية مفتقرة على الأغلب ، وبالتالي تعذر حصول المتضرر على حقه بشكلٍ عادل .
وبالرغم من أهمية الموضوع إلاّ أنه لم يحظ باهتمام المشرع العراقي والذي يعدّ ثغرة تحسب عليه واجب تجاوزها ، ولهذا السبب لم يحظ هذا الموضوع حقه بمكانة متخصصة على صعيد الفقه العراقي ، بل وحتى على صعيد الفقه العربي المقارن فتكاد تكون الدراسة المتخصصة حوله ضئيلة جداً لا تتعدى أصابع اليد الواحدة .
وتتجلى أهمية هذه الدراسة أيضاً في أن التأمين أصبح يحتل مكانة بارزة في اقتصاديات الدول ، ومن ثمّ لا يمكن الاستغناء عنه لما يقدمه من مزايا جليلة لضمان الأخطار التي قد يتعرض لها الإنسان ، وخاصة الاخطار الناتجة عن التطور العلمي والتكنولوجي ، ولهذا تبغي الباحثة من خلال هذه الدراسة ترويج هذا النوع من التأمين في سوق التأمين المحلية بغية إعادة النشاط لهذا السوق ، ودعم الاقتصاد الوطني ، ولهذه الأسباب وقع اختياري على تأمين المسؤولية في مقاولات البناء ليكون موضوع البحث .
أهداف البحث
يهدف هذا البحث إلى إنارة السبيل أمام المشرع العراقي في أن يحذو حذو غيره من المشرعين في تنظيم هذا التأمين في ظل تشريع يتناول أحكامه وشروطه ونطاقه مع الأخذ بنظر الاعتبار أن يكون هذا التأمين إلزامياً لكل من يساهم في أعمال مقاولات البناء قدر الإمكان من خلال دراسة القوانين المقارنة ، فضلاً عن موقف الفقه والقضاء المقارن لبيان مواطن الضعف من اجل الخروج بنتائج وتوصيات تمكن المشرع العراقي من تجاوزها عند إقدامه على تشريع هذا التأمين .
منهجية البحث
لأجل تحقيق أهداف البحث ، تم اعتماد أسلوب الدراسة المقارنة مع القانون المصري والقانون الجزائري والقانون الفرنسي في هذا المجال ، فضلاً عن رأي الفقه والقضاء المصري والفرنسي ، إذ يلاحظ القارئ تغليبهم في الدراسة لعدم تنظيم المشرع العراقي لهذا النوع من التأمين مع الاستئناس بالمواقف المتميزة لقوانين أخرى ، إلاّ أن الباحثة حرصت على ان لا تغفل المقارنة مع القانون والفقه والقضاء العراقي بما له علاقة بالأحكام العامة لعقد التأمين عموماً التي تناوله البحث للإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بهذا التأمين .
هيكلية البحث
لكي يتم الإلمام والإحاطة بالموضوع ، يقع هذا البحث في فصول ثلاثة ، إذ تدور الأولى منها حول ماهية التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء الذي يتفرع إلى مبحثين ، أولها ، يتناول التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، ويتضمن المبحث الثاني آلية إبرام العقد .
أما الفصل الثاني فيسلط البحث حول نطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء فيتشعب إلى مبحثين أيضاً ، حيث يتعلق المبحث الأول بنطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الأشخاص ، ويختص الثاني بنطاق التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من حيث الموضوع .
في حين يتناول الفصل الثالث آثار التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، حيث يضم مبحثين أولها ، كرس للبحث في الالتزامات الناشئة عن التأمين ، بينما يتناول الثاني أعمال الضمان .
وتنتهي الدراسة العلمية بخاتمة تنصب على جوهر ما تم التوصل إليه من نتائج وهي خلاصة جهد الباحثة الذي بذلت كل ما بوسعها ليشمل البحث كل ما يخص وما يتعلق بالموضع قدر الإمكان وفقاً لمنهج البحث العلمي ، ولا تخفي الباحثة الصعوبة التي واجهتها في الإلمام بجوانب الموضوع ولا سيما ندرة المصادر العربية فضلاً عن معاناة الترجمة فيما يخص المصادر الفرنسية التي كانت ركيكة مما دفع الباحثة إلى إعادة صياغتها لأكثر من مرة وإهمال البعض الآخر ، وأخيراً لا تدعي الباحثة من وراء ذلك الكمال ، فإن الكمال لله تعالى وحده ، وان هذا البحث لا يعدو ثمرة جهدي المتواضع ، فإن أصبت ، فذلك فضل من الله (U).
الفصل الأول
ماهية التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
لمحة تاريخية
ليس من السهولة بمكان معرفة الحضارة أو الحقبة الزمنية التي تعود إليها فكرة التأمين ، إذ إن من الصعب الكشف عن أول وثيقة تأمين عرفها الإنسان على وجه اليقين( )، بيد أن الرأي الراجح يتجه إلى بوادر فكرة التأمين التي كانت معروفة لدى الشعوب القديمة كالبابليين والهنود والرومان بشكلهما البسيط ، حيث ورد في قانون حمورابي سنة 2250 قبل الميلاد إلى ما يشير إلى بديات التأمين البحري المعروف في يومنا هذا ( )، إذ إن فكرة التأمين كانت قائمة على شكل قرض على السفينة وعلى البضاعة لغرض نقل الأضرار من صاحب السفينة والبضاعة لمقرضي المال الذين ابدوا موافقتهم على شطب القرض إذا ما تعرضت السفينة لأضرار أثناء رحلتها وعند نجاتها سالمة إلى ميناء الوصول ، فإن السفينة لا تكون مسؤولة عن تسديد مبلغ القرض إذا تعرضت لأضرار أثناء رحلتها فقط بل أنها تسال عن فائدة محددة متفق عليها سلفاً( )، غير أن الحال لم يبق على وضعه ، إذ أخذ التأمين البحري يتطور بتطور النشاط التجاري والملاحة البحرية خصوصاً في حوض البحر المتوسط حتى العصور الوسطى ، حيث كان بحارة مدينة البندقية الإيطالية يتولون تنظيم عقود التأمين البحري مما ساعد على اللجوء إلى الاكتتاب بقيام مكتتبي التأمين بتدوين أسمائهم في عقود التأمين انطلاقاً من قبولهم بالأضرار البحرية ، وهذا ما وسع من انتشار التأمين( )، فدخل السوق الإنكليزية في القرن الرابع عشر الميلادي الذي لاقى نجاحاً ويعود السبب في ذلك إلى ما كانت تتمتع به إنكلترا من تفوق في التجارة البحرية نجم عن ذلك ظهور هيئة لويدر لندن –Liodys of London- الذي يعد افضل مركز للتأمين البحري حتى يومنا هذا( ).
أما بخصوص أنواع التأمين البري ، فقد تأخر ظهورها قياساً للتأمين البحري ، على الرغم من ان التأمين على الحياة ترجع جذوره التاريخية إلى حضارة وادي النيل ، حيث دلت الآثار على أن المصريين كانوا يشكلون هيئات لتحنيط الموتى ودفنهم وبناء مقابر لهم مقابل أقساط يتولون تسديدها لهذه الهيئات أثناء حياتهم( )، بيد أن هذا التأمين بمفهومه المعاصر عرف في إنكلترا في القرن الرابع عشر ملازماً مع التأمين البحري ، إذ كان يغطي الأخطار البحرية والناتجة عن اسر البحارة من جانب القراصنة ، حيث تتعهد شركات بتسديد الفدية للقراصنة لإطلاق سراح البحارة ، ثم ما لبث تدريجياً أن ابتعد التأمين على الحياة من حيث الأضرار التي يغطيها عن الأضرار البحرية ، وبالنظر لتعلقه بحياة الإنسان اتخذ صفة المراهنة على حياة الشخص الأمر الذي جعل تقدم وانتشار هذا التأمين من حيث فنونه وأساليبه بطيئاً( ) . والواقع ان أول نوع من أنواع التأمين البري الذي ظهر إلى حيز الوجود وأملته دوافع عملية كان التأمين من الحريق ، ففي عام 1666 شب حريق هائل في لندن مخلفاً أضراراً جسيمة دفعت الناس إلى ان يتدبرون طريقة تمكنهم من حماية أموالهم وممتلكاتهم مما ساعد على ظهور شركات تأمين تمارس أعمال التأمين من الحريق لغرض تغطية الأضرار التي تلحق بالمنقولات الناشئة عن الحريق ، ومن إنكلترا انطلقت فكرة التأمين ضد الحريق إلى العديد من البلدان ، إذ نشأت في فرنسا أول شركة تأمين من أخطار الحريق وان كانت بسبب العوامل الطبيعية كالصواعق ، ثم ما لبثت ان انتشرت هذه الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث تأسست أول شركة تأمين من أضرار الحريق عام 1752( ).
لقد عرف العرب القدماء نوعاً آخر من التأمين يدعى بالتأمين التبادلي أو التعاوني ، إذ كانوا يؤمنون على الممتلكات بقيود مختلفة ، حيث كان المساهمون في القافلة التجارية يتفقون على أن من ينفق بعيره من خلال الرحلة يعوض من حصيلة أرباح التجارة الناجمة عن الرحلة وتتحدد حصة كل عضو على ضوء ما يتحقق له من أرباح أو بحسب رأسمال المساهم في الرحلة( ).
لم يقف التأمين في حدود عند نشاط معين ، إذ ان ما لبثت الثورة الصناعية ان ساعدت على انتشاره وامتداده في كل أوجه الحياة ، فظهرت أنواع أخرى من التأمين جاءت استجابة للتغيرات الاقتصادية والتطورات التي جاء بها التقدم العلمي وما ينجم عنه زيادة في استخدام الآلات وتنوعها وتعقيدها بقدوم عصر المركبات والتوسع في خطوط السكك الحديدية واختراع الطائرات كل ذلك أدى إلى توسع عمليات التأمين وتنوعها وزيادة أهميته في مطلع القرن الماضي ، ويعد تأمين من المسؤولية الناشئة عن حوادث المركبات وتأمين المسؤولية لأرباب المهن الحرة كالأطباء والصيادلة والمحامون والمهندسون .. الخ الناشئة عن أخطائهم المهنية ، وتنبع أهمية التأمين من المسؤولية في غايته المتمثلة في حماية المتضرر عما يلحقه من أضرار من جراء نهوض المسؤولية المدنية للمهني ، لذا شرعت العديد من الدول بجعل هذا النوع من التأمين إلزامياً.
وتعدّ فرنسا في مقدمة الدول التي اضطلعت في إلزامية التأمين من المسؤولية ، اذ ألزمت المهنيين بالتأمين من مسؤوليتهم المدنية وإلاّ تعرض المخالف للجزاء العقابي ، وكذلك تعد الجزائر في مقدمة الدول العربية –على قدر علمي- الذي افرد المشرع باباً خاصاً ضمن الأمر المرقم 95-7 في 25 يناير 1995 للتأمين من المسؤولية إلزاميا ( ).
يرجع التأمين في العراق إلى عقد الخمسينات في القرن الماضي عندما ظهرت الحاجة إلى ضرورة وجود شركات تأمين عراقية قوية لمنافسة الشركات الأجنبية ووكالاتها وفروعها العاملة في العراق ، إذ قبل هذا التاريخ لم تكن في سوق التأمين أية شركة عراقية صرفة بهذا المجال ، بل كانت جميع شركات التأمين أجنبية ، إذ كانت أعمال التأمين في العراق محصورة بين فروع ووكالات الشركات الإنكليزية والفرنسية والأسترالية والهندية( )، ونتيجة لذلك تأسست شركة التأمين الوطنية بموجب القانون رقم 56 لسنة 1950 الذي عدل بالقانون رقم 92 لسنة 1960 ثم تلاه القانون رقم 21 لسنة 1960 الذي بموجبه تم تأسيس شركة إعادة التأمين العراقي ثم تلتها تأسيس شركة التأمين العراقية ، وكانت هذه الشركات تعمل جنباً إلى جنب مع فروع الشركات الأجنبية . إلاّ أن بصدور القانون رقم 99 لسنة 1964 تم تأميم شركات التأمين الأجنبية أو الفروع الأجنبية التي تمارس أعمال التأمين في العراق ، فأصبحت شركات التأمين مملوكة للدولة حتى بعد صدور قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 الذي أعطى الحق للشركات المساهمة الخاصة ان تمارس اعمال التأمين إلى جانب الشركات العامة.
قد يبدو للوهلة الاولى من السهل إدراك ماهية التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، بيد ان هذا الاعتقاد سرعان ما يتبدد امام اعطاء تعريفاً كاملاً له يشمل الجوانب القانونية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية ، فمن الناحية القانونية يعد التأمين عقداً يتعهد المؤمن بتحمل تبعه الأخطار لقاء مبالغ من المال يسددها لشخص آخر تعرض لخسارة معينة، فهو ضمان لمواجهة الأخطار ( ).
أما من الناحية الاقتصادية ، فيعّد التأمين نظاماً اقتصادياً لتقليل او لتخفيف الأضرار بالتمويل أو المشاركة في الاحتمال ، أي تقليل وتجميع الخسائر ، فاذا نظرنا إلى التأمين كهيئة أو مؤسسة تجارية فيعد جزءاً مهماً في عالم المال ، اذ انه وسيلة ائتمان وادخار واستثمار ، حيث يشتمل على هيئات تضم أعداد كبيرة من العاملين فيها ، ومن ثم يعد جزءاً مهماً من مشاريع الاقتصاد الحر( )، أما من الناحية الاجتماعية ، فيكون التأمين أداة من خلاله يشترك المجموع في تعويض المتضرر تطبيقاً لمبدأ المشاركة الجماعية في منع الضرر ( ).
ولما كان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد صورة من صور التأمين من المسؤولية ، وبالتالي يعدّ الأخير نوعاً من أنواع التأمين ، وهو يخضع إلى ذات القواعد والخصائص التي يتميز بها أي عقد ، فضلاً عن ما يتسم به العقد بالسمات نفسها التي ينفرد بها عقد التأمين في المجالات الأخرى من حيث آلية إبرامه ، وفي ضوء ما تقدم يتضمن الفصل محل الدراسة مبحثين يكرس الأول لمفهوم التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، ويكرس الثاني لبحث آلية إبرام العقد وعلى النحو الآتي :
المبحث الأول
مفهوم التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
لغرض تحديد المفهوم بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، يقتضي الأمر بيان المقصود به وبيان الخصائص الأساسية ، لنستخلص اوجه التمييز بينه وبين ما يشتبه به من أوضاع قانونية أخرى ، قسّم المبحث على ثلاث مطالب وعلى النحو الآتي:
المطلب الأول
المقصود بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
لم يعرف المشرع في العديد من البلدان التأمين من المسؤولية عموماً وحتى المشرع العراقي الذي اكتفى بتنظيم أحكامه ببعض نصوص التأمين من المسؤولية ، بيد أن هذا الأمر لا يعد نقصاً أو قصوراً يحسب للمشرع ، حيث أن وضع التعريف وتحديد المبدأ في الأساس يعد عملاً من أعمال الفقهاء ، لان وضع التعريفات تحتاج البحث والشرح الكافي ، إلاّ إنه قد عرف عقد التأمين ونظم أحكامه ، فقد نصت المادة 983 من القانون المدني العراقي على انه: (1. التأمين عقد يلتزم به المؤمن أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد مبلغاً من المال او إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر ، وفي حالة وقوع الحادث المؤمن ضده وذلك في مقابل أقساط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن)( ).
يتضح من النص ان المشرع العراقي لم يحدد أو يتعرض إلاّ للعلاقة التي تربط المؤمن والمؤمن له ، أي اخذ الجانب القانوني وإغفال الجانب الفني الذي لا يقل الأخير أهمية عن الأول نظراً لما للتأمين من طبيعة خاصة تميزه عن غيره ، في حين يلاحظ أن المشرع الفرنسي قد أحجم عن تعريف عقد التأمين تاركاً الأمر للفقهاء.
ولغرض الوصول إلى تحديد المقصود بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ن لابد من التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء وتحديد الأسس التي يقوم عليها ، ومن ثم بيان المزايا والفوائد التي يحققها التأمين ، ولتوخي القصد المنشود ، نتناول هذه الأمور في مقصدين وكما يأتي :
المقصد الأول
التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
لغرض التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، لابد من تعريفه من الناحية اللغوية والاصطلاحية لنستخلص من ذلك تعريفاً جامعاً له .
أولاً. التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء لغةً
لتعريف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء لغة لابد لنا من بيان معنى التأمين ثم بيان معنى المقاولة :
فالتأمين لغة هو: أمّنّ- تأميناً : جعله في أمن ، يقال تأميناً على الشيء أي اتخذه أميناً ، قال آمين ، تأميناً على حياته أو ممتلكاته ( )، أي أمّنة ، ويقال “أمن على ماله عن فلان تأميناً” ( ). أي جعله في ضمانه ، واتخذه أميناً ( ).
قال تعالى : “وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ” ( )، وقوله تعالى : “أَمَنَةً نُعَاسًا” ( ). والأمن ضد الخوف ، واستأمن إليه ، أي دخل في أمانه( ).
أما المقاولة ، تعدّ اتفاق بين طرفين على القيام بعمل مشترك كبناء أو تجارة أو نحوهما – التعهد ببناء فهي بناء أو بشق طريق وتقديم ما يقتضيه العمل من الآلات وعمال مواد لقاء قيمة من المال معينة( ). وتجدر الإشارة إلى أن القانون العراقي قد تضمن اصطلاح “التأمين ضد المسؤولية” وليس “التأمين من المسؤولية” ، حيث أن المشرّع العراقي لم يكن موفقاً عند استخدام “ضد” بدلاً من “من” ويعود السبب على ما يبدو إلى النقل الحرفي غير الدقيق من المشروع التمهيدي للقانون المدني المصري الذي استخدم اصطلاح “التأمين ضد المسؤولية” وليس “التأمين من المسؤولية” .
وعليه فان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء لغةً ، ضمان المسؤولية في الاتفاق الناشئ بين طرفين للقيام بعمل مشترك متعلق بالبناء لقاء مبلغ محدد في مدة معينة .
ثانياً. التعريف بالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء اصطلاحاً
لم يعرف الفقهاء التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء تعريفاً اصطلاحياً موحداً، بيد أن التأمين من المسؤولية بشكل عام عرف على انه عقد بمقتضاه يضمن المؤمن للمؤمن له الأضرار الناشئة عن رجوع الغير عليه بدعوى المسؤولية ، حيث يأخذ المؤمن على التعويض الذي يلزم به المؤمن له المسؤول عن الضرر بأدائه للمستفيد المتضرر( )، فالتأمين من المسؤولية لا يقصد من ورائه تأمين ما يصيب أموال المؤمن له من أضرار ، بل هو تأمين من الأضرار التي تلحق بالذمة المالية للمؤمن له من استحقاق دين في ذمته ناشئ عن نهوض مسؤوليته المدنية تجاه الغير( ) .
ولكي نستطيع ان نعطي تعريفاً للتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ، يستلزم الأمر تحديد المقصود بالمقاولة .
عرف المشرع العراقي المقاولة ، حيث نصت المادة 864 من القانون المدني العراقي على أنها : “عقد يتعهد أحد الطرفين أن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء اجر يتعهد به الطرف الآخر”( ).
يلاحظ من النص أن المشرّع العراقي قد أعطى تعريفاً عاماً لكل أنواع المقاولة ومنها مقاولة البناء ، ولما كانت دراستنا تتعلق بمسؤولية المساهم في عمليات مقاولات البناء ، عليه يمكن إعطاء تعريفاً للتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء على انه عقد يلتزم به المؤمن تجاه المؤمن له – المساهم في عمليات مقاولات البناء – بضمان الأضرار التي تنشأ خلال فترة تنفيذ أعمال المقاولات وفترة الضمان العشري الناشئة عن رجوع الغير عليه بدعوى المسؤولية في مقاولات البناء . يتضح إن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد عقداً يغطي ما سيترتب من آثار بسبب نهوض المسؤولية المدنية للمؤمن له بمناسبة مزاولته لأعمال المقاولات خلال فترة التنفيذ وما بعدها .
المقصد الثاني
أسس التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ووظائفه
لكي يقوم التأمين بتغطية الخطر المؤمن منه ، لابد من تحقق جملة من الأسس الفنية لعقد التأمين جنباً إلى جنب مع الأسس القانونية له ، لان الأسس الفنية التي يقوم عليها التأمين تجعله ابعد ما يكون بعيداً عن فكرتي المقامرة والرهان ، التي لا تقل أهمية عن الأسس القانونية ، ومن خلال هذه الأسس يكون التأمين قد أدى وظائفه المرجوة ، وعليه يمكن ان يجمل أسس التأمين ووظائفه بما يأتي :
أولاً. أسس التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
لاشك ان التأمين يقوم على جملة من الأسس الفنية ، ويمكن ايجازها بالنقاط التالية الآتية:
1. التعاون
يقوم التأمين أساساً على تجميع اكبر عدد ممكن من الاشخاص المعرضين للخطر نفسه رغبة في اتقاء نتائجه ودفع اثره بدلاً من المواجهة الفردية التي قد يعجز الفرد عن تلافي اثار الخطر لوحده ، فاذا ما اجتمع المساهمون في جمع المال عن طريق قيامهم بتسديد أقساط ثابتة أو متغيرة من سنة إلى أخرى في الغالب الأعم ، ولحق أحد المساهمين ضرراً نتيجة تحقق الخطر المؤمن منه قام الجميع بالمساهمة في الخسائر الناجمة عن ذلك ( ). فيعد التأمين وسيلة توزيع وتشتيت الخسائر التي تلحق البعض من المؤمن لهم عند وقوع الخطر ، حيث إن غاية التأمين تحقيق التضامن بين جماعة من الناس تتهددهم أخطار واحدة.
2. المقاصة بين المخاطر
تعدّ المقاصة بين المخاطر عملية فنية بحتة تسعى إلى توفير نوعاً من الحماية والأمان لمؤمن بالدرجة الأولى وليس المؤمن له من خلال تحويل مبالغ التأمين التي تستحق عند وقوع الخطر المؤمن منه من مجموع الأقساط المستحصلة( ). فكلما زاد عدد المؤمن لهم كلما حقق التعاون أهدافه بتوزيع عبء الأخطار التي تصيب بعض المؤمن لهم على المؤمن لهم جميعاً . ولكي تتحقق المقاصة لابد ان تكون الأخطار متحدة في النوع من خلال تصنيفها إلى مسؤولية ، وان تكون متحدة في الموضوع من خلال تصنيفها إلى مسؤولية مدنية عن تهدم البناء ، وكما تكون متحدة من حيث القيمة مثلاً قيمة أعمال البناء مطلقة أو لا يتجاوز مبلغ معين أو أقل من هذا المبلغ ، وأخيراً ان تكون متحدة من حيث مدة الضمان كأن يكون خلال فترتي التنفيذ لأعمال المقاولات والضمان العشري أو خلال مدة أحدهما .
3. عوامل الإحصاء
تعد عمليات حسابية من خلالها يمكن للمؤمن ان يتعرف على عدد الحوادث المحتملة الوقوع خلال فترة زمنية معينة ،وتدعى هذه العمليات بحساب الاحتمالات مع الاخذ بنظر الاعتبار درجة جسامة المخاطر ليتمكن المؤمن من تحديد القسط الذي يدفعه كل من المؤمن لهم( ).
ثانياً. وظائف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
من خلال الأسس التي يقوم عليها التأمين ، يلاحظ ان التأمين يقدم جملة من الوظائف أو المزايا لا تكون مقتصرة على حماية المتضرر وإصلاح نتائج الخطر ، بل هي ابعد من ذلك وهذه الوظائف هي :
1. وسيلة لتحقيق الأمان
يسهم التأمين كنظام قانوني في دعم الشعور بالأمان والاطمئنان في نفس المؤمن له ، حيث يضمن المؤمن له الحصول على التعويض بصورة مباشرة أو غير مباشرة عما لحقه من خسائر اثر وقوع الخطر المؤمن منه ، ولا سيما ان الحياة مليئة بالأخطار ( ). لذا يكون التأمين قد وفر للمؤمن له الأمانة فيما قد يتعرض له من مطالبات ودية أو قضائية عند نهوض مسؤوليته وهذا ما يجعله يتلمس في التأمين ملاذاً حقيقياً لتلافي ما يتعرض له من أخطار .
2. وسيلة توفير رأسمال للاستثمار
يعد التأمين أداة تكوين رأس المال لغرض الاستثمار لكلا طرفي العملية التأمينية ، وبالنسبة للمؤمن ، تعد المدخرات التي يحتفظ بها كذمم له او موجودات متحركة وغير ساكنة لأنها تشكل مبالغ ضخمة عن قيمة الأقساط المستوفاة ، وبالتالي تحقق رأسمال من شأنه أن يسهم بشكل فعال في خدمة الاقتصاد عند استغلاله في قطاعات أخرى كشراء سندات القروض واستثمارها ، وكذلك في قطاعات السياحة والصناعة والبنوك وغيرها بما يعود على الاقتصاد الوطني بالفائدة ( ).
أما بالنسبة للمؤمن له ، فالتأمين يوفر له حماية من أية خسائر قد تلحق به وتهدد نشاطه المهني والاقتصادي عند مطالبة الغير بالتعويض وبالتالي إلحاق الضرر بذمته المالية علاوة على ان الغير المتضرر من نهوض مسؤولية المؤمن له سيحصل على مبلغ تعويض إجمالي يكون عادة في صورة رأسمال يخفف من عبء الكارثة التي حلت به ( ).
3. وسيلة ائتمان
لما كان التأمين وسيلة لتكوين الرأسمال فهو يعد وسيلة ائتمان ، اذ يمكن المؤمن من خلال عقود إعادة التأمين ( )، والتي تبرم مع المؤمنين من خارج البلاد الذي يمارس فيها نشاطه بتوزيع عبء الكوارث المؤمن منها على اقتصاد عدة دول وليس على اقتصاد الدولة الواحدة فحسب ، وهذا ما يميز التأمين بعدم معرفته للحدود الجغرافية ، فيؤدي إلى تخفيف العبء عن الاقتصاد الوطني فيزدهر وينمو وبالتالي يرتفع رصيده من الثقة لدى الوطنيين والأجانب على حد السواء ( ).
المطلب الثاني
خصائص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
بعد أن وضحنا المقصود بالتأمين في مقاولات البناء ، وتحديد أسسه ووظائفه ، لابد من بيان خصائص هذا العقد الذي يتميز عن غيره من عقود التأمين الأخرى لكونه يتعلق بما قد يثار بصدد المسؤولية المدنية المهنية ، لان المجال المهني يؤثر في العقد من حيث بنوده وشروطه ، ومن حيث نطاقه ، فمن أهم خصائص هذا العقد :
1. عقد رضائي
الأصل أن عقد التأمين عقد رضائي يتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول بأية وسيلة يمكن أن تعبر عن إرادة طرفي العقد ، حيث لم يشترط القانون العراقي والقوانين المقارنة شكلية معينة لإبرامه ، فإذا ما تم التراضي بين الطرفين تم العقد دون الحاجة إلى إجراء آخر( )، ولكن قد يكون عقد التأمين شكلياً إذا علق الطرفان تمام العقد على إمضاء وثيقة التأمين ، ولا يتم العقد إلاّ بالإمضاء ، وكذلك قد يكون عقد التأمين عقداً عينياً إذا علق الطرفان تمام العقد على دفع القسط الأول من أقساط التأمين ، وقد يعلق نفاذ العقد على دفع القسط الأول من أقساط التأمين ، على إمضاء وثيقة التأمين ودفع القسط الأول ، فلا يتحمل المؤمن الخطر المؤمن منه إلاّ من وقت الإمضاء ودفع المؤمن له قسط التأمين الأول ، ويترتب على هذا ان تصبح وثيقة التأمين ضرورية لانعقاد العقد وليس لإثباته وكذلك الحال فيما يتعلق بوصل قسط التأمين المسدد وعلى هذا الأساس يكون عقد التأمين عقداَ شكلياً وعينياً في آن واحد( ).
ومع هذا فإن لعقد التأمين مظهراً خارجياً لإتمامه يأخذ صيغة شكلية معينة متمثلة ابتداءً من طلب التأمين ثم بمذكرة التغطية المؤقتة وانتهاء بوثيقة التأمين وملحقها ( ).
بيد أنّ هذه الصيغة الشكلية ليست ملزمة فيمكن تجاوزها باتفاق الطرفين استناداً لمبدأ الرضائية في العقود ، إلاّ أن الواقع العملي غالباً ما يشترط التوقيع على وثيقة التأمين وتسديد جزء من القسط ليبدأ سريان التأمين وبهذا يكون عقد التأمين شكلياً وعينياً .
ولما كانت الكتابة شرط لإثبات العقد إلاّ أن العادة جرت ان تكون الكتابة شرط لانعقاده ، لكونه يتعدى طرفيه للغير ، كما أن من الصعوبة بمكان ان يكون هناك عقد تأمين شفوي ، وان كان لا يوجد ما يمنع ذلك ما دامت وسيلة التعبير عن الإرادة سليمة لان الطبيعة الخاصة التي يتميز بها عقد التأمين أن يتضمن العديد من البنود والشروط الواجب إيرادها بالتفصيل( ) . ولهذا يتجه القضاء الفرنسي إلى إسباغ الصيغة الشكلية على عقود التأمين والذي يتعين بموجبها توقيعه من أحد طرفيه أو كلاهما حسب الاتفاق ( ).
وعلى الرغم من أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد تأميناً إلزامياً في القوانين المقارنة في كل من مصر( ) والجزائر( ) وفرنسا( ) ، فإن التأمين الإلزامي لا يتنافى بأي حال من الأحوال مع إضفاء الصفة الرضائية على هذا التأمين ، لأنه يعدّ أحد الشروط الواجب توفرها عند ممارسة المهني نشاطه بحيث لو تخلف عن هذا الشرط عرض الملتزم بإبرام العقد للعقوبات القانونية ، لان التأمين الإلزامي يتعلق بالنظام العام ولا يجوز الاتفاق على استبعاده أو الحد من أحكامه ، حيث ان الإلزام ينصب على اقتناء وثيقة التأمين( )، إذ حالها حال شروط الحصول على المؤهل العلمي او التمتع بالأهلية ، لأن الإلزام يتعلق بوجوب ثبوت العقد . أما الصفة الرضائية فتتعلق بالطريقة التي نشأ بها العقد ( )، وان كان قد قيد مبدأ سلطان الإرادة بنص القانون من خلال الإلزام بإبرام عقد التأمين .
2. عقد معاوضة
يعد عقد التأمين من عقود المعاوضة ، حيث يحصل كل طرف مقابل لما يعطى( ) ، إذ ينبغي على المؤمن ان يتحمل الخطر مقابل أقساط التأمين التي يسددها المؤمن له لينعم بالأمان مقابل الأقساط التي سددها( ). وعلى هذا الأساس لا يمكن لعقد التأمين ان يتحول إلى عقد تبرعي عند عدم تحقق الخطر المؤمن منه أثناء سريان مدة العقد حتى انقضائه ، حيث إن الهدف الأساس للعقد هو التعويض عن الخسارة التي تلحق المؤمن له نتيجة رجوع الغير عليه بدعوى المسؤولية الأمر الذي يترتب عليه نتيجتان():
النتيجة الأولى
إن مبلغ التعويض لا يمكن باي جال من الاحوال ان يتجاوز مقدار الضرر الواقع ، وان كان يقل عنه بالاتفاق مسبقاً ، فالعقد وسيلة لدرء الخسارة فقط .
النتيجة الثانية
عدم إمكان تحديد مبلغ التعويض مسبقاً ، لان التعويض المستحق لا يمكن تحديده عند إبرام العقد ، وهذه نتيجة طبيعية للنتيجة الأولى لأن التعويض لا يمكن تحديده إلاّ في اللحظة التي يقع فيها الضرر .
3. عقد ملزم للجانبين
يلتزم به كل من المؤمن والمؤمن له قبل الآخر ، حيث يلتزم الأول بتغطية الأخطار حسب الاتفاق أو نص القانون بدفع التعويض أو مبلغ التأمين عند وقوعها ( )، في حين لا يلتزم الثاني بتسديد قسط التأمين فحسب ، بل يمتد ليشمل جملة من الالتزامات لضمان حسن تنفيذ العقد( ). وهكذا فهو التزام غير محقق أي احتمالي وليس معلق على شرط واقف بتحقق الخطر الذي يعد ركن في الالتزام وليس مجرد شرط ( )لان العبرة في تقابل الالتزامات التعاقدية تكون بلحظة إبرام العقد وليس بلحظة تنفيذه( ).
4. عقد تأمين مهني
يتجه رأي بعض من الفقهاء إلى اعتبار التأمين من المسؤولية المدنية المهنية عموماً عقد تأمين مهني لأنه يتعلق بالنشاط المهني لمن يزاوله كالمهندس والمحامي والطبيب ( )، وعليه فان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يعد عقد تأمين مهني يغطي الأضرار التي تنتج عن الأخطار المهنية أثناء ممارسة الشخص لنشاطه المهني لان محل العقد الأخطار المتعلقة بممارسة المهنة ، وبالتالي فان العقد الذي يبرمه المهني يختلف عن غيره من عقود التأمين التي يبرمها لصالحه أو لصالح أسرته بما قد يلحقه أو أسرته من أخطار باعتباره شخصاً عادياً لا صلة للأخطار المؤمن ضدها في نطاق مهنته التي تتطلب دليلاً على وجود خطأ ثابت حتى يمكن الحصول على التعويض بخلاف التأمين مثلاً للمباني أو الأدوات التي يكون أساس التعويض على خطأ مفترض عند نهوض مسؤولية المهني على الأشياء أو الأدوات التي يستخدمها في إنجاز عمله .
5. عقد احتمالي
أورد المشرع العراقي عقد التأمين ضمن طائفة عقود الضرر ، لأنه عقد احتمالي ، إذ لا يستطيع بموجبه كل من المتعاقدين تحديد بالضبط ما يحصل عليه من منفعة وقت إتمام العقد، حيث أن هذا متوقف على تحقق وقوع خطر المؤمن منه او عدم وقوعه ( )، ولكونه عقداً احتمالياً فلا يستطيع فيه الطرفان المتعاقدان تحديد المركز المالي لكل منهما عند إبرام عقد التأمين ، إذ إن أمر نشوء الالتزام وتحديد مداه معلقاً على حادثة مستقبلية قد تقع وقد لا تقع( )، فهو ليس عقد معلق على شرط ، فالخطر المؤمن منه ركن قانوني في الالتزام . بيد إن صفة الاحتمالية قد تنحسر إذا تم النظر إلى عقد التأمين من الناحية الفنية ، لان المؤمن حرص كل الحرص على التخلص من الطبيعة الاحتمالية لالتزامه قدر الإمكان من خلال دراسة عملية التأمين بالاستعانة بقوانين الإحصاء وما يضعه الخبراء من تقارير ليظل التزام المؤمن التعاقدي معرض للمخاطر العادية التي قد يلاقيها أي مشروع( ) . فإذا كان الطابع الاحتمالي قد ينتفي بالنسبة للتأمين كعملية فنية تقوم على حسابات دقيقة غير أنه يبقى عقداً من العقود الاحتمالية يقوم على حادث قد يقع مستقبلاً( ).
6. عقد من عقود حسن النية
يعدّ مبدأ حسن النية صفة لازمة لكل عقد من العقود ، إلاّ أن هذه الصفة اكثر لزوماً في عقد التأمين بالنظر لطبيعته المميزة ، إذ لا بد أن يكون قائماً على مبدأ منتهى حسن النية، وعليه أن يتحلى به كل متعاقد( ) ، إذ لا يجوز لطرف من أطرافه أن يحرف في المسائل الجوهرية التي تهم الطرف الثاني ، ولو كانت بحسن نية ، كأن تكون ناشئة عن خطأ أو سهو أو نسيان ، لأن هذا من شأنه أن يعطي للطرف الآخر الحق بفسخ العقد( )، أن كان مصدره اتفاق الطرفين لان مبدأ منتهى حسن النية له محل اعتبار في مرحلتي إبرام العقد وتنفيذه .
فبالنسبة لمرحلة إبرام العقد يكون اعتماد المؤمن إلى حد كبير على ما يدلي به طالب التأمين من معلومات تتعلق بالخطر المراد ضمانه كالبيانات الموضوعية والشخصية التي تكون ذات صلة بالظروف المحيطة بالخطر ، أما بالنسبة لمرحلة تنفيذ العقد التي لا تقل أهمية عن مرحلة إبرام العقد ، إذ على المؤمن له أن يحظر المؤمن بكل ما يطرأ من مستجدات من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الخطر المؤمن منه ، لان عدم الالتزام قد يؤدي بالنتيجة إلى بطلان العقد( ) وقد استقر القضاء العراقي ( )والقضاء المصري ( )على إبطال عقد التأمين عند انتفاء مبدأ منتهى حسن النية لدى كلا الطرفين بدافع الغش فيها أو إخفاء حقيقة الأمر . ومما تقدم يلاحظ ان نطاق هذا المبدأ يبدأ من قبل التعاقد ثم سريان العقد وبعده تحقق الخطر أو انتهاء مدة التأمين، بمعنى آخر من لحظة تقديم طالب التأمين طلبه إلى المؤمن يطلب فيه التأمين إلى انقضاء التزامات كلا الطرفين .
7. عقد إذعان
العقود أما أن تكون عقود مساومة أو مفاوضة أو عقود إذعان ، إذ إن الأولى تجتمع فيها إرادة المتعاقدين عن حرية واختيار( )، إذ يمكن لطرفي العقد أن يتناقشا في تفاصيل العقد وشروطه قبل إبرام العقد ، وان يتفقا حول ما يترتب على كل منهما من التزامات وحقوق .
أما عقود الإذعان فإن المفاوضة معدومة مع الموجب بل يجب قبول العقد أو تركه جملة( )، وعلى هذا الأساس يملي الجانب القوي فيه شروط العقد وما على الطرف الضعيف إلاّ أن يقبلها مذعنا أو أن يرفضها حيث لا دور لإرادة الطرف المذعن في تحديد الالتزامات والحقوق . وعليه يعدّ عقد التأمين من عقود الإذعان الذي يكون المؤمن الجانب القوي في إعداد وثيقة التأمين ولا يملك المؤمن له حرية المناقشة فما عليه إلاّ بالقبول بالوثيقة المعدة كما هي أو رفضها برمتها( ). إذن صفة الإذعان التي يتمتع بها عقد التأمين ناشئة في إعداد الوثيقة وإدراج شروطها مسبقاً بكل تفاصيلها في غياب دور المؤمن له ، إلاّ أن الواقع العملي قد قلل من صفة الإذعان لعقد التأمين ، حيث أن في ظل المنافسة بين المؤمنين الذين يسعون جاهدين لاجتذاب عملائهم من خلال حرصهم قدر الإمكان على عدم فرض شروط تعسفية على المؤمن له ، إذ إن عنصر المنافسة يدفع بهم إلى وضع شروطاً وبنوداً أكثر رعاية لمصلحة المؤمن له بغية الإقبال واكتتاب التأمين لديه دون سواه ، أما إذا تضمنت وثيقة التأمين شروطاً تعسفية تجاه المؤمن له ، فان المشرع قد تدخل في العديد من الدول( )ومنها العراق( ) ، بغية إعادة التوازن إلى طرفي العقد وحماية مصلحة الطرف المذعن في الشروط التعسفية التي يمليها المؤمن باعتباره الطرف القوي بالعقد الذي يتمتع بمركز اقتصادي قوي تدعمه رؤوس الأموال الضخمة التي يمتلكها تمكنه من فرض ما يراه من التزامات على عاتق طالب التأمين.
كما برزت محاولات من الفقهاء والقضاء للتخفيف من صفة الإذعان في عقد التأمين( ) ، إلاّ أن هذه المحاولات يكاد تأثيرها لا يذكر أمام ما أحدثته المنافسة الحرة بين المؤَمنين( ).
وحيث أن عقد التأمين هذا من عقود الإذعان ، فان المؤمن يلجأ إلى طباعة نماذج للعقد يضع فيها شروطه التي لا تقبل المساومة والنقاش( )، وما على طالب التأمين إلاّ القبول والتسليم بشروط العقد أو رفضه كلياً( )، فهل يعد عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء في هذه الحالة من العقود النموذجية أيضاً ، وما إذا لو كانت أعمال التأمين يحتكره مؤمن واحد؟
إن عقد التأمين يعد من العقود النموذجية ، والتي تكون عقود مطبوعة تتضمن شروطاً معينة تحررها هيئات مهنية خاصة تعمل لدى المؤمن والتعامل بهذه الصيغة لنماذج عقود التأمين يوفر جملة من المزايا منها سرعة إبرام العقد وتوحيد القواعد التي تحكمه أياً كان أطرافه ، ولا سيما أن شروطه مدروسة بعناية بغية توفيق المصالح المتعارضة نظراً إلى ما تمليه هيئات المؤمن من الشروط التي من شانها تقلل من فرص النزاع حول تفسيره أو تنفيذه بيد أن هذا الأمر يجعله في النهاية أداة احتكار ، لأن من الصعوبة بمكان أن يفلح الطرف المتعاقد مع المؤمن بتعديل شروط العقد ، ولهذا فان عقد التأمين يعد من العقود النموذجية وبالتالي فهو من عقود الإذعان لاستبداد أحد طرفي العقد بالطرف الآخر( ) خاصة إذا كان مؤمن واحد يحتكر أعمال التأمين على صعيد إقليم الدولة الواحدة باعتباره شركة عامة تعود ملكيتها للدولة أو أن المشرّع قد خص مؤمناً معيناً بالذات يتولى اكتتاب هذا النوع من التأمين( ).
8. عقد مدة
إن العقود إما أن تكون فورية التي لا يكون الزمن فيها عنصراً جوهرياً ، أي لا يكون الزمن مقياساً لتقدير الالتزامات والحقوق الناشئة عنهم ، وإما أن تكون زمنية التي يكون الزمن فيها عنصراً جوهرياً ، ويكون الزمن مقياساً لتحديد التزامات وحقوق أطرافهم( ). ويعدّ التأمين من عقود المدة ، حيث أن الغاية التي يراد الوصول إليها بواسطة العقد لا يمكن أن تحقق أهدافها إلاّ مع الزمن ( ). ولهذا فان للمدة أهمية قصوى في عقد التأمين ، لان فسخ العقد لا يكون بأثر رجعي ، وإنما يتعلق بالمستقبل فقط ، إذ يحتفظ المؤمن بالأقساط التي أخذها وذلك مقابل للخطر الذي ضمنه خلال تلك الفترة الماضية من العقد ، ويترتب على اعتبار عقد التأمين من عقود المدة انه في حالة استحالة تنفيذ التزامات الطرفين بقوة قاهرة أو حادث فجائي . كما لو تهدم البناء نتيجة زلزال ، فإن عقد التأمين ينتهي بقوة القانون وتسقط التزامات طرفيه من وقت استحالة محل التأمين وما ذلك إلاّ تطبيقاً للقواعد العامة ( )، كما يترتب على اعتباره عقد التأمين من عقود المدة ( ) عدم جواز تجديده ضمناً ، وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض المصرية بعدم جواز تجديد عقد التأمين بعد انتهاء المدة بصورة ضمنية ، حيث جاء في أحد قراراتها (… أن عقد التأمين وان كان محدد المدة وان كان الزمن عنصراً جوهرياً فيه لأنه يلزم المؤمن مدة معينة… أما إذا استوفى مدته فانه يعتبر منتهياً ويشترط لتجديده أن ينص على ذلك صراحة بما يعني انه لا يجوز تجديده ضمناً)( ).
9. عقد تجاري
يعدّ عقد التأمين عقداً تجارياً باعتباره عملاً من الأعمال التجارية ، حيث نصت المادة 5/14 من قانون التجارة العراقي النافذ المرقم 30 لسنة 1984 على أنه : (تعتبر الأعمال التالية تجارية إذا كانت بقصد الربح ويفترض هذا القصد ما لم يثبت العكس أولاً ….14 التأمين)( ). يلاحظ من النص أن المشرع العراقي قد أضفى الصفة التجارية على أعمال التأمين إذا ما اتخذ بصفة مشروع تجاري قائم على فكرة الربح والخسارة وليس بالنظر إلى مركز المؤمن كشركة تأمين ، وبالتالي يخضع لأحكام العمل التجاري لا العمل المدني . إلاّ أن الواقع العملي ، وأن كان قد أفرز نوعين من التأمين هما التأمين بأقساط محددة والتأمين التبادلي أو الاقتراني( ) ، إلاّ أنهما يقومان على أساس واحد يتمثل بضمان الأخطار ، وعلى الرغم من ذلك فلابد من التمييز بين العمل التجاري والعمل المدني الذي يكاد لا يذكر في القانون العراقي الذي حد من التميز بين الآثار التي يترتب على كل من هذين النوعين من الأعمال ، بيد أن التمييز يحظى بأهمية كبيرة في القوانين المقارنة ، ولاسيما إن تمييز العقد التجاري عن العقد المدني من خلال تمييز العمل التجاري عن العمل المدني ، إذ يخضع الأول إلى أحكام القانون التجاري ، في حين يخضع الثاني لأحكام القانون المدني( ). ويؤدي اعتبار عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء عقد تجاري إلى أن ينطبق عليه الأحكام الخاصة بالالتزام التجاري دون تلك التي تترتب على صفة التاجر ، أي أن الذي ينطبق هو النظام الذي وصفه القانون خاصاً بالعمل التجاري وليس النظام الخاص بشخص التاجر ، وهذا يرجع إلى الظروف التي فيها يبرم العقد التجاري وتنفذ الالتزامات الناشئة عنه ، ولاسيما أن بعضها يرجع إلى العرف التجاري وما يقرره ، وهذه الظروف تقوم على اعتبارين مراعاة السرعة اقتصاداً للوقت وتقوية الثقة في المعاملات التجارية ( ).
المطلب الثالث
تمييز التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء مما يشتبه به
إن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء لا يختلف من حيث طبيعته عن سائر أنواع التأمين الأخرى ، إلاّ أن هناك بعض الأوضاع القانونية تشتبه به وتختلط معه ، لذا ارتأينا في هذا المطلب أن نميز هذا التأمين عن غيره وكما يأتي:
1. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء وتأمين الأشياء
إن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء وتأمين الأشياء كليهما تأميناً من الإضرار، إلاّ أنهما يختلفان ، حيث أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء غايته جبر الضرر الذي لحق بذمة المؤمن له من جراء رجوع الغير عليه عما لحقه من ضرر ( )، فهو ضمان لعدم افتقار ذمته المالية من جراء التزاماته تجاه الغير ، اذن فهو تأمين ضد الديون او
الخسارة .
أما تأمين الأشياء يقوم على ضمان لشيء مملوك للمؤمن له ومحله ما للمؤمن له من أموال ، فالمؤمن له هو المستفيد على خلاف التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء يكون الغير المستفيد من العقد ، كما أن التأمين على الأشياء محله منصب على شيء معين بالذات أو قابل للتعين عند تحقق الخطر كالتأمين على بضاعة توجد في مخزن معين( ).
2. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء والتأمين من الإصابات
التأمين من الإصابة( ) عقد بمقتضاه يتعهد المؤمن في مقابل دفع أقساط التأمين بان يدفع للمؤمن له أو المستفيد في حالة ثبوت موت المؤمن له أو في حالة إصابته بدنياً يترتب عنها موته أو عجزه سواء أكان العجز كلياً أو جزئياً دائمياً أو مؤقتاً مع تسديد مصروفات العلاج كلها أو بعضها ( ). إلاّ أن التزام المؤمن بتسديد مبلغ التأمين يختلف باختلاف الإصابة من حيث جسامتها وما يترتب عليها من نسبة عجز وفق جدول معين يعتمده المؤمن عند تقدير التعويض . فالتأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو تأمين من الأضرار في حين أن التأمين من الإصابة هو تأمين على الأشخاص( ). كما أن التأمين الذي يضمنه التأمين من الإصابات التي تقع على المؤمن له من الغير في حين أن التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو تأمين المؤمن له مما يلحقه من ضرر يصيب ذمته المالية( ).
3. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء واتفاقات الإعفاء من المسؤولية
تعد الاتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية بمثابة عقد صلح( ) يتم بين المتضرر والمسؤول بعد وقوع الضرر ، وهذه الاتفاقات تكون صحيحة بغض النظر إذ كانت في نطاق المسؤولية التقصيرية أو العقدية ، وبموجب هذه الاتفاقات يتفادى الطرفان أي خصومه قد تقع مستقبلاً تتعلق بالضرر الواقع ويمكن أن تنهض لولا هذا الاتفاق( ).
وعليه فان هذه الاتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية تتولى تنظيم آثار المسؤولية على غير وجهها الذي نظمت عليها في القانون( ). فبالرغم من التشابه بينهما في ان المسؤول في رفع الضرر بخصوص التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء هو المؤمن أي لا يتحمل المسبب الضرر ، وكذلك الحال في اتفاقات أو شروط الإعفاء من المسؤولية التي بموجبها أيضاً ولا يتحمل المتسبب الضرر ، لأنه قد أعفي ، فضلاً عن ذلك فان التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء ينفرد باعتباره تأميناً من المسؤولية بطبيعته خاصة التي تميزه عن اتفاقات الإعفاء من المسؤولية ، وذلك في الدور الذي يقوم به المؤمن ، حيث يفترض اجتماع عدد من الأشخاص يعدون لمواجهة الخطر الذي قد يتعرضون إليه جميعاً بالمساهمة في تعويض الخسارة التي قد تحدث ، فالمؤمن يعد وسيطاً في إدارة الأموال التي يجمعها من الأقساط التي يسددها المؤمن له( ) ، ولكن الاختلاف بين التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء واتفاقات الإعفاء من المسؤولية جلياً من حيث الطبيعة القانونية والأثر القانوني .
فمن حيث الطبيعة القانونية ، أن التأمين يتسم بصفة الاحتمالية فيتوقف تنفيذ العقد بالنسبة للمؤمن على حادث غير مؤكد الوقوع ، لان التزام المؤمن بأداء مبلغ التأمين يتوقف على وقوع الخطر ، في حين لا مجال لهذه الخاصية في الإعفاء من المسؤولية ، فضلاً عن أن الأول يعدّ من عقود الإذعان ، أما الثاني فإن صفة الإذعان ليست من طبيعته ولا من مستلزماته ، ولان المتعاقدين لهما كامل الحرية في تحديد شروط الاتفاق باعتباره عقد مفاوضة أو مساومة( ). أما من حيث الأثر يحصل المضرور على التعويض في التأمين ، بينما في الثاني يحرم منه( ).
4. التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء والاشتراط لمصلحة الغير
يعدّ الاشتراط لمصلحة الغير عقد بموجبه يشترط أحد الطرفين على الآخر أن يؤدي إلى شخص ثالث حقاً معيناً ( )، وعليه فإن الاشتراط لمصلحة الغير نظام قانوني لأنه عقد في تكوينه لا يهم سوى أطرافه ، أما آثاره أو نتائجه يتعداها إلى طرف ثالث ، الذي يستفيد من عقد لم يكن طرفاً فيه ويحصل على مزاياه ( ).
يستلزم الاشتراط لمصلحة الغير ثلاثة شروط ( ).
أولها ، أن يكون المشترط قد تعاقد باسمه هو لا باسم المنتفع ، ثانيها ، أن يشترط على المتعهد حقاً مباشراً للمنتفع ، وثالثها ، للمشترط مصلحة شخصية في إشتراطه .
وبالرغم من اوجه الشبه بين التأمين والاشتراط لمصلحة الغير ، إلاّ أن إبرام عقد التأمين لا يقصد مصلحة المتضرر ، وإنما غايته الحصول على المزايا المتمثلة في جبر الضرر الذي سيلحقه وليس إزالة الضرر باعتباره مؤمن له ، وتعد مصلحة الغير بعيدة كل البعد عن ذهنه عند الإقدام على إبرام العقد( ) ، لأن عقد التأمين من عقود المعاوضة وليس من عقود التبرع ، كما هو حال الاشتراط لمصلحة الغير( ).
بعد الانتهاء من بيان المقصود من عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء من خلال توضيح مزاياه وخصائصه ، فضلاً عما يميزه عن غيره من أوضاع قانونية تشتبه به ، فيستلزم الأمر بنا بيان آلية إبرام العقد وهذا ما سيكون محل البحث في المبحث القادم .
المبحث الثاني
آلية إبرام عقد التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
أن عقد التأمين كغيره من العقود يتطلب عند إبرامه توافر أركانه من رضا ومحل وسبب ، ولما كان لهذا العقد خصوصية معينة لذا فان الأمر الذي يتطلب اتخاذ سلسلة من الإجراءات عند إبرامه ، فعلى الرغم من ان أركانه تخضع للقواعد العامة ، إلاّ أن العمل قد جرى ، على تبلور الرضا في عقد التأمين بأنواعه كافة بصورة معينة وعلى مراحل متعددة . ولهذا سيتم تناول هذه المراحل بالبحث وبالتعاقب من الناحية القانونية مع الأخذ ينظر الاعتبار والنواحي الفنية التي تعد من خصوصية هذا العقد من خلال تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين يخصص أولهما التراضي وكيفية التعبير عن الإرادة وثانيهما يمثل محل العقد المتمثل بالخطر المراد ضمانه ، أما بخصوص السبب ، فإن الأمر يترك للقواعد العامة ، إذ لا يوجد ما يقال فيه من جديد .
المطلب الأول
التراضي في التأمين من المسؤولية في مقاولات البناء
عند الرجوع إلى الأحكام العامة في القانون المدني المتعلقة بعقد التأمين عموماً ، يتبين بأن عقد التأمين عقد رضائي كغيره من العقود ، إذ ينعقد بمجرد توافق الإيجاب مع القبول ، أي تطابق إرادتين صادرتين عن طريق التعاقد دون حاجة لإفراغ التراضي بشكل معين ، وإذا كان العمل قد جرى على تفريغ هذا التراضي في صيغة مكتوبة غير أن هذا لا يمنع من انعقاد العقد بطريقة أخرى ، طالما لا توجد أية صعوبة بإثباته( ) . إذ إن اشتراط الكتابة إنما يكون لمجرد إثبات العقد ، بيد أنه ليس ثمة ما يمنع المتعاقدين من اشتراط تعليق انعقاد العقد على التوقيع على المحرر المثبت له ، ما دام لا يخالف النظام العام ، فضلاً عن استخلاص قصد المتعاقدين من هذا الشرط أمر متروك لقاضي الموضوع( ).
إن وجود الرضا يقتضي وجود الإرادة ، فإذا انعدمت الإرادة لأي سبب كان لا يمكن أن يتوفر الرضا ، وبالتالي لا ينعقد العقد الذي يعد في حكم العدم ، وهذا لا يخرج عن نطاق القواعد العامة .
اترك تعليقاً