بحث قانوني هام عن القضاء الليبي بين الماضي والحاضر والمستقبل… تقدُّم أم تراجع
محاولة لقراءة أداء القضاء الليبي من خلال التعامل اليومي عن الفترة
من منتصف التسعينيات حتى العام 2010 مقارنة بذلك الماضي المجيد
المحامي/ عبدالباري عبدالله التربل
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحـدا
تساؤل:
يقولون أن الحاضر غرس الماضي والمستقبل غرس الحاضر والمثل المصري يقول “من فات قديمه تاه “فهل نحن نغرس الحاضر لنبني مستقبلا يليق بالماضي؟ وهل تمسكنا حقا بماضينا وبنينا عليه أم فتنا ذلك الماضي المجيد وصرنا نخبط “خبط عشواء”([1]) مجرد تساؤل؟.
مـدخـل: أولا وقبل أن نبدأ قراءتنا هذه لما نودُّ الحديث عنه لا بد لنا كتوطئة للموضوع من ذكر ملاحظتين اثنتين:
أولاهما: أنه كان من المفترض أن يكون موضوع الحديث في هذه القراءة على صرحٍ كبيرٍ شامخٍ وعظيم صرحٍ من صروح ماضي مجدنا وحاضره صرح لـه مكانة خاصة مميزة ومتميزة في عقولنا وقلوبنا ووجداننا ألا وهو “محكمتنا العليا “وذلك في قراءة لأدائها بدءا من تاريخ إنشائها حتى العام 2006 أيضا تحت عنوان “المحكمة العليا خمسون عاما من العطاء “ذلك ليكون لي شرف التحدث عن هذا الصرح المجيد غير أنه لما نشرت تلك الدراسة بحمد الله وفضله في العددين 69، 70من مجلة المحامي الغراء فقد نلت بذلك بحمد الله وتوفيقه شرف البداية في الحديث عن هذا الصرح والتي آمل أن تكون اللبنة الأولى في طريق الاهتمام به والالتفات إليه والتي نقول مع كل أسف أن ما تمنيناه من التفات إلى ذلكم الصرح والنهوض به لا زال في باب التمني وكأن من بأيديهم الأمر لا يعنيهم هذا الصرح وما يعنيه لبلادنا من مكانة وشأن وإن كنت اليوم أدعو المهتمين ورجال القانون لقراءة ذلك الجهد المتواضع ومن ثم تكملة المشوار فإنني أضيف اليوم موضوعا لا يقل أهمية عن ذلك الصرح الشامخ وهو درجة في سلم درجاته ومقدمة من مقدماته لذات الأسباب والتطلعات التي ذَكَرْت إِذْ ما لم تكن المقدمات سليمة فإن النتائج بالطبع لن تكون مُرضية.
وأخراهما: هي أنني حقيقة لست أدري سبب اهتمامي وربما همِّيَ الشديد أيضا بأهم همٍّ من هموم هذا الوطن الحبيب ألا وهو القضاء وما يجب أن يكون عليه من حال – حيث لا أرى القضاء إلا في تلك الصورة المثلى من النصاعة والنظافة والنزاهة والإشراق والعظمة والسّمو والمكانة العالية الرفيعة التي لا تدانيها مكانة – ذلك أنني كلما مسكت قلمي وأردت الكتابة في موضوع وجدتَّني مدفوعا إلى الكتابة عن القضاء دفعا فمن “البعد القضائي لحقوق الإنسان “إلى “البعد الأمني “، إلى “المحكمة العليا خمسون عاما “إلى “مقترحات لتطوير القضاء والنيابة “إلى سلسلة بإذن الله من “التعليقات على أحكام المحكمة العليا “إلى قراءتنا هذه وهي محاولة متواضعة لقراءة هذا المرفق الكريم والعظيم والمهم أيضا في أطول من مقال وأقل من كتاب أحاول فيها أن أتبين مواطن الخطأ فأنبه عنها ومواقع الصواب فأشيد بها في مسيرة هذا المرفق الكبير العظيم المحترم وما دعاني لهذا في الحقيقة هو هذا التراجع في مسيرة قضائنا الكريم بل هذا التكسر والتكسير في هذا المرفق رغم أنه أساس الحياة وعماد الدولة فعندما يصل الحال كما سنرى إلى أكثر بكثير مما قد نتصور أو نعتقد فلابد من أن يحاول كل منا التنبيه وتقديم النصيحة للنهوض بهذا المرفق الكريم الحيوي فعندما يصل الأمر وفي ظل تاريخ قضائنا المجيد إلى أن تصدر دائرة شرعية حكما باعتماد صلح قضى بترجيع مطلقة طلاقا بائنا بينونة صغرى بعد خمسة أشهر وسبعة عشر يوما على إيقاع القاضي الشرعي لتلك الطلقة البائنة وخروج المطلقة حتى بافتراض عدم البينونة بحكم القاضي من الأجل الشرعي المحدد للترجيع وهو العدة( [2] ) وعندما يقبل رئيس محكمة ابتدائية النظر في تظلم من أمر مصاريف كان قد أصدره من كان يجلس على ذات كرسيه مع التنبيه على عدم جواز التظلم أساسا وفقا لنصوص القانون ([3]) ويحكم بإلغائه ([4]) وعندما ترد دائرة جنايات في جريمة قتل عمد متهم في والد وابنيه على استناد الدفاع على محاكم النقض الفرنسية والبلجيكية والمصرية وعلى الفقهاء رءوف عبيد ومأمون سلامة وغيرهم بالقول “بأن ذلك مجرد جدل فقهي لا ترى المحكمة داع للرد عليه “([5]) وعندما يقوم رؤساء المحاكم بدفع المحكوم لهم في قضايا التعويض إلى ارتكاب جريمة صك بدون رصيد أو يلزمونهم بتقديم “كمبيالة “لتأجيل رسوم التسوية والتنفيذ رغم أن الإجراء برمته مخالف للقانون وعندما يقلب القضاء الليبي المفاهيم ويدافع عن نعت المواطنين “باللقطاء “ولا يرى في ذلك خطأ ([6]) وعندما ترفض النيابة العامة اعتراض الدفاع على سؤال النيابة العامة للمتهم بوقوع مواقعة من الدبر في جريمة اعترف فيها المتهمان بالمواقعة من القبل وطلبا الزوج وتكرر ذلك مع المتهمة فترد النيابة بالقول “الدفاع يعترض والنيابة تصر “([7]) وعندما يجيز مدير نيابة للطبيب الشرعي بأن يجرى الكشف على المتهمة وهي طالبة في السنة الرابعة من التعليم الجامعي وهي تحت التخدير الكلي في شكواها بهتك عرضها من القبل ويطلب منه الكشف عليها حتى من الدبر ويعرض الأمر على رئيس النيابة فيوافقه على ذلك ( [8] ) ثم تدينها المحكمة بناء على ذلك التقرير ([9]) ثم وهو الأكثر أهمية تؤيد المحكمة العليا ذلك الحكم رغم انبنائه على ذلك التقرير ولا ترى في طريقة العرض والكشف الذي تم تحت التخدير التام مساسا بحرية الإرادة ومشروعية الدليل وشرعيته ([10]) وهي التي استقر قضاؤها على عدم قبول الدليل الناتج عن الإكراه “كائنا ما كان قدره وماديا كان أم معنويا “ولا ترى في ذلك بطلانا وعندما تقبل المحكمة العليا استطالة النيابة إلى الكشف من الدبر والحال عدم الادعاء به ولا ترى العليا في ذلك مساسا بموطن العفة لدى المتهمة واختلاقا لجريمة ما كانت لتصل إليها النيابة لو التزمت صحيح القانون ([11]) وعندما يجلس بقمة الهرم القضائي الكريم مستشارا لنظر حكم سبق وأن أصدره عندما كان رئيس محكمة ابتدائية فتغفل كل الهيئة عن الانتباه لذلك وعندما “ترفض “دائرة الطعن رغم الدفع بعدم الاختصاص النوعي لصدور الحكم من محكمة غير مختصة نوعيا بإصداره ([12]) وتحكم ذات الدائرة في الطعن الآخر المرفوع من ذات الجهة المطعون عليها في الطعن الأول على ذات الحكم بنقض ذات الحكم لعدم الاختصاص النوعي ([13]) وعندما تقرر الدوائر المجتمعة بأنه تجوز الإدانة على الصورة الضوئية للمستند المزور ([14]) وعندما تمد المحكمة العليا أجل النطق بالحكم لأكثر من خمس مرات ولمدة سنوات ([15]) وهي التي ترى في مد الأجل بطلان الحكم ([16]) وعندما ترفض المحكمة العليا وقف نفاذ حكم أودع بعد ثمانية وخمسين يوما من النطق به أي خارج الإطار الزمني المحدد قانونا لإيداع الأحكام فقد أودعت أسبابه بتاريخ الأربعاء الموافق 17 / 3 / 2010 رغم صدور الحكم المطعون فيه 18 / 1 / 2010 أي بعد ثمانية وخمسين يوما من صدوره مخالفة بذلك قانون الإجراءات الجنائية ([17]) وعندما يصبح المجني عليه متهما لمجرد شكواه إلى التفتيش القضائي ظُلم رئيس محكمة ابتدائية له وعندما تصبح حتى مجرد الشكوى إلى التفتيش القضائي جرما يعاقب صاحبها ([18]) وعندما يصدر التفتيش القضائي تعليمات بعدم تنفيذ الأحكام ([19]) وعندما يصبح “الحبس الاحتياطي “هو القاعدة والإفراج هو الاستثناء وعندما يبرر رئيس دائرة بمحكمة استئناف لها مكانتها مخالفته للقانون بالقول _ وأنا هنا أنقل حرفيا من مذكرته بالدفاع في دعوى مخاصمته – “محكوم بتوجيهات المجلس الأعلى للهيئات القضائية بمراعاة إدارة القضايا “([20]) ولكم أن تضعوا خطا طويلا تحت هذه الكلمات ودلالاتها.
وعندما تعامل مهنة المحاماة ورجالها بهذا التجاهل وتلك الموجة من الكره والمعاداة وعدم الاعتراف بها كطرف وشريك في صناعة العدالة. فلا بد أن نقف وأن نستوقف ونسأل ونتساءل ما الذي جري وما الذي يجري ولماذا يجري ولماذا وصلنا إلى هكذا حال ولدينا كل ذلك الإرث العظيم والتاريخ المشرف لصرح اسمه المحكمة العليا ([21]) ولا بد من التوقف والبحث ومراجعة الذات والمسيرة دون التوقف كثيرا عند هذا العنوان أو ذاك فالقاعدة أنه “إذا عرف المعنى فلا محاجة في الألفاظ “ولأن العدالة تعني جهاز شرطة نظيف ونزيه ونيابة واعية مثقفة محايدة وقضاء عالم واع متطور عادل ونزيه وتعني جهاز تفتيش كفء وحيادي ولأن وظيفة القضاء يجب أن تؤدى بما يحفظ لها كرامتها وهيبتها من خلال قضاء قوي مطلع مثقف محترم ومكرم وموفر لأفراده الحياة الكريمة اللائقة فإننا يجب أن نتوقف من حين لآخر لنراجع المسير ونحاسب الذات ونقدر الجهود ونقدر ونكرِّم المخلصين.
لذلك كنت أفضل في الحقيقة عنوانا آخر للقراءة عنوان هو الأفضل لدي والأقرب تماشيا وتدليلا على المقصود من هذا العنوان وهو عنوان على شكل تساؤل أطرحه وأحاول من ثم الإجابة عليه يقول ذلك التساؤل أو السؤال “القضاء الليبي إلى أين؟ “بحيث أبحث فيه في محاولة متواضعة وقراءة وجيزة لتاريخ قضائنا منذ إنشائه في بداية الخمسينية الثانية من القرن الماضي إلى واقعه اليوم في السنة 2010 لنرى إلى أين اتجهت البوصلة بهذا المرفق الجليل هل بقيت في اتجاه الصعود دوما أم جرى عليها شيء أعاق حركتها؟ وما سبب ذلك إن وجد؟ وما هي طرق الإصلاح والعودة للماضي المجيد؟ ذلك الماضي الذي أشاد به الفقه في مصر ([22]) ورغم أني قد وجدت في إحدى المجلات القانونية التونسية عنوانا أشد صراحة ووضوحا يعالج فيه الزميل حال قضائهم بعد كتابتي لهذا المحاولة وهو عنوان “قضاؤنا إلى أين؟ “يقصد القضاء التونسي إلا أنني عرضت هذا العنوان على عدد غير قليل من الزملاء والأصدقاء من المستشارين وأساتذة القانون فكان رأيهم أن لا أغامر بالعنوان الذي أريد ([23]) وأن أغيره إلى العنوان الذي ذكرته بداية أي “القضاء الليبي بين الماضي والحاضر والمستقبل “إن بقي في ظل ما هو موجود أمل في مستقبل نفتخر به ونطمئن في إليه ويفاخر به أحفادنا وينعموا بالأمن والأمان في ضله.
مقدمــــــة
أقـول… بعد الاستعاذة بالله السميع العليم من اللئيم الرجيم وبعد الاتكال على العلي العظيم والصلاة والسلام على نور الأبصار وضيائها وطب القلوب وشفائها سيدنا وحبيبنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه الكرام الغُرِّ الميامين من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي لـه يقول الحق جلّ وعلا موجها خطابه لمن يتصدى للحكم بين الناس “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظم به إن الله كان سميعا بصيرا “([24]) ويقول أيضا في خطاب واضح على الالتزام بالعدل تحت أي ظرف وفي أي مكان أو زمن مبينا أن العدل هو الأقرب للتقوى “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى “([25]) ويقول الحبيب المصطفي e “يأتي القاضي يوم القيامة مغلول اليدين إما أن يَفُكَ عنه عدلُه أو يهوي به جُورُه في النار “([26])، ويقول eأيضا “إن الله مع القاضـي ما لم يحِفْ عمدا “([27]) ويقول خامس الخلفاء الراشدين سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وأرضاه “لا يصلح للقضاء إلا القويُّ على أمر الناس المستخِفُّ بسخطهم وملامتهم في حق الله، العالمُ بأنه، مهما اقترب من سَخَطِ الناس وملامتهم في الحق والعدل والقصد، استفاد بذلك ربيحا من رضوان الله “([28]). ويقول الإمام علي كرم الله وجهه “إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة فهو فتنة لمن افتتن به ضالُُّ عن هديِ من كان قَبلهُ مضلُّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته رَهْنُُ بخطيئتِهِ. ورجل قَمَشَ جَهلا مُوضِعٌ في جهَّالِ الأمة عادٍ في أغباشِ الفِتنة عَمٍ بما في عِقدِ الهدنَةِ وقد سماه أشباه الناس عالما وليس بِهِ، بَكَّرَ فاستكثر من جمعِ ما قلَّ منهُ خيرٌ ممّا كَثُرَ حتى إذا ارتوى من آجنٍ واكتنَزَ من غير طائلٍ جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليصِ ما التبَسَ على غيره فإن نزلت به إحدى المُبْهَمات هيَّأ لها حشواً رثاًّ من رأيه ثم قَطَعَ بهِ فهو من لَّبْسِ الشُّبهاتِ في مثلِ نسجِ العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأَ:فإن أصاب خافَ أن يكون قد أخطأ وإن أخطأ رجَا أن يكون قد أصاب جاهلُُُ خبَّاطُ جَهَالاتٍ عاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لم يعُضَّ على العلْمِ بضِرْسٍ قاطعٍ يُذْرِي الروايات إذراء الريح الهشيم لا مليئُ والله بإصدار ما وَرَدَ عليه ولا هو أهلٌ لما فُوِّضَ إليه لا يَحْسَبُ العِلمَ في شيءٍ مما أنْكَرهُ ولا يرى أنَّ مِن وراء ما بَلَغَ مَذهبًا لغيره وإن أظلم عليه أمرٌ اكتَتَمَ بهِ لما يَعلمُ من جهلِ نفسِهِ تصرُخُ من جَوْرِ قَضائه الدِّماء وتَعِجُّ منه المواريثُ إلى الله أشكو من مَعشَرٍ يعيشون جُهّالاًّ ويموتون ضُلاّلاًّ “([29]) وتقول المحكمة العليا بأن القضاء هو “الركنُ الركينُ والحصن الحصين الذي يحمي كل مواطنٍ حاكما كان أم محكوما من حيفٍ في يومه وغده وفي مستقبله، والقضاة هم بعدَ الرسل ظلُّ الله في أرضه وحكامُه، بين خلقه، وبالعدل قامت السماوات والأرض “([30]) ونقول عنه بأن القضـاء هـو “آخر حصون الأمان للمواطن تجاه ظلم السلطة وجبروت أجهزتها فإذا انهار هذا الحصن أو تصدع فالويل كل الويل للمواطن الضعيف”.
توضيـح: حتى لا تذهَبَ الظنونُ بعيداً ببعضنا وحتى لا يُفهم قولنا على غير حقيقته، من المهم جدا أن أقرر في البداية أمرين:
الأمر الأول هو: أنني منذ كنت طالبا كنت أحلم بالعمل بالنيابة أو بضبّاط الشرطة إلا أن كل ذلك لم يكن لأسباب لا دخل لي فيها وقد شاء القدر أن يكون أول تعرف لي على الحياة العملية في مهنة المحاماة هذه المهنة العظيمة الراقية المتحضرة والمتطورةُ ورُغم كلِّ ما نالنا بسببها من متاعب ومظالم شتّى – ومن أهل البيت تحديدا – كما يقولون إلا أنّني لم أمْلِك إلا أن عشِقتها حتى النخاع، فسَرت في شرايين قلبي وتسربت مع أنفاسي وإذا كانت مهنة الصحافة تسمى مهنةُ البحث عن المتاعب فإن مهنة المحاماة في مثل بلادنا هي المتاعب ذاتُها إذ لا أصعب من صراع الحق مع الباطل في ظل ثقافة لا تعترف كثيرا بحق الدفاع ولا ترى في المحامي دليل عدالتها فتلك حقا هي المتاعب الحقيقية….
الأمر الآخر: أنني أُدرك جيدا خطورة الكتابة على القضاء، وتحديدا في ظل انعدام ثقافة الزمالة والشراكة والثقة المتبادلة والتعامل بروح الزمالة ووجود موجة مقيتة من العداء لمهنة الدفاع خاصة إذا كانت هذه الكتابة في مجال النقد ولو كان ذلك النقد بنّّاءً ومن أجل الإصلاح وكانت من محام تحديدا بل وأدرك خطورة حتى هذا العنوان الذي اخترته لهذه الورقة رغم الواقعية التي تبرز من خلال كلماته.
ولكن إذا كان ما سيقال أو يكتب حقيقة وبغرض الإصلاح والوصول إلى الأفضل ولخدمة هذا القضاءُ ذاتُه وحبا فيه وخوفا عليه وتقديرا لأهله أفلا يكون الحديث عن تلك الحقائق خير من إغفالها؟ وإظهارها بغرض العلاج أفضل من إخفائها؟ أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس كما يقال؟. ثم إنني على ثقة تامة من أن أغلب السادة القضاة تحديدا والخيِّرين من المعنيين بالأمر على وجه العموم على علم بل وعلى ثقة من حقيقة وصحة ما سأقول أو أذكر بل وإن قلوبهم لتدمي لذلك وتتقطع مثل قلبي وربما أكثر ورغم خوفهم وحرصهم على هذا المرفق مثلي أو أكثر غير أن الجرأة والاستعداد لحديثٍ قد تَراه بعض مراكز القوى في هذا المرفق أو ذاك في غير صالحها قد يقف حاجزا بين تلك الأغلبية وبين بوْحها بما ترى وتحسُّ وتشعر ولنقل بأن ذلك بسبب من الخوف من النقل والنفي ونحوه وحتى تنتصر الشجاعة لدى أولئك ويؤمنوا بأن الحق واجب يجب أن يعلو ولا يُعلى عليه وأن هناك بعض المعاني في الحياة تستحق أن ندافع عنها ويجب أن نظهرها وأن نبرزها وأن نضحي من أجلها ولو كان في ذلك بعض الألم لنا. فإننا سنتولى الحديث والكتابة في هذا الشأن ونسأل الله العلي القدير أن لا يساء فهمنا وأن تُحمد غاياتنا وأن لا يفسر قولنا على غير حُسن النية وصفاء السريرة والرغبة في الإصلاح والسعي للرقيِّ والتقدم وأن لا تكون عاقبة حرصنا على هذا المرفق وحبنا لأهله قاسية علينا وأن لا يكزن مصيرنا كمصير قاضي اليمن.
معلومة من الماضي
قديما قالوا”إن “القضاءَ مِحنة وبليَّة، ومن دخل فيه، فقد عرَّض نفسه للهلاك، لأن التخلّص منه عسير، فالهروبُ منه واجب لا سيَّما في الوقت الحاضر – كان ذلك في القرن الثامن للهجرة المباركة – وطلبُه حُمق وإن كان حِسبَة “([31]) ونقول إذا كان الهروب من تولي القضاء في القرن الثامن للهجرة النبوية الكريمة واجبا وكان طلبه في تلك الحقبة من الزمن رغم قربها من عهد النبوة المشرفة وفي عصر دولة الإسلام حُمقا فكيف هو بنا الحال اليوم وقد صادر تولي القضاء مَطلبا يُتكالب عليه ويسعى له ويُتوسَّط لأجله بالغالي والنفيس ونحن بعد ذلك التاريخ بأكثر من أربعة قرون.
أقول… حقيقة لقد تهيبت كثيرا الخوض في هذا المعترك وصارعت نفسي كثيرا وترددت أكثر وأكثر غير أنيَ وحبا في القضاء وأملا في الإصلاح ورغبة في أن يكون القضاء الليبي في تلك المكانة التى أتمناها له شخصيا ونتمناها لـه جميعا من السموِّ والرِّفعة وعلو القدر وبسببٍ من تشجيع بعض الأساتذة الأفاضل في المحكمة العليا وغيرها أيضا والذين عرضت عليهم الأمر فرحبوا به ودعوني إلى عرضه ونشره رأيت دخول هذا الخِضم طلبا للأفضل وتعميما للفائدة. وعلى بركة الله نبدأ بالقول:
من يرصد حركة القضاء الليبي منذ منتصف التسعينيات تقريبا حتى الوقت الحاضر يلحظ وبوضوحٍ تامٍ تراجعَ هذا القضاء عن مكانته السابقة وموقِعِه المعهود تلكُم المكانة التى لا يملك حتى المكابِرُ اليوم إلا أن يعترف بها وأن يُقر بأنها المكانة القوية والعظيمة الناصعة البياض، والرائدة، العالية، المتفتحة على العلم والفقه والمعرفة، مكانةٌ كان فيها القضاء الليبي مثالا للقضاء المتابع، المتطوِّر، المثقف، والباحث، والمتطلع بوضوح وثقة إلى الأمام، والجلاّ مكانةٌ لقضاءٍ كنا ولا نزال نَفخر ونُفاخر بها، مكانةٌ وَصَفت فيها محكمتنا العليا السادة القضاة بأنهم ” بعد الرسل ظلُّ الله في أرضه وحكامهُ بين خلقه “([32]) مكانةٌ كان للقضاء الليبي فيها صولاتٍ وجولاتٍ، حُقَّ للقضاء العالمي وليس العربي فقط أن يفخر ويفاخر بها ([33]) رغم أن هذا القضاء لمّا يكد يُكمل العقد الرابع من عمره المديد بعدُ بل إن هذا القضاء وخصوصا المحكمة العليا كانت بدايتها قوية شامخة حيث لم يمضي على بداية مشوارها سنة كاملة حتى أعلنت عن المكانة التي يجب أن تكون عليها والنهج الذي تبنت السير على منواله وهو الاستقلال التام عن كل وكافة السلطات وأن الخضوع عندها لله والضمير والقانون فقضت في حكم من أكثر أحكامها أهمية بل هو الأكثر أهمية على مستوى القضاء العالي في مختلف الأصقاع والبقاع حيث قضت خلال مدة لا تجاوز الثلاثة أشهر من إنشائها في 10 نوفمبر 1953 وتحديدا بتاريخ 5 إبريل 1954 ببطلان الأمر الملكي الصادر بحل المجلس التشريعي لولاية طرابلس الغرب أو ما عرف فيما بعد بقضية تسقط العدالة فبنت مجدا وأسست لعدالة.
أما منذهذا التاريخ قبله قليلا أو بعده بأقل، ليست مسألة مهمة المهم هو أن هذا القضاء في نظر الكثيرين منا اليوم صار ومنذ نهايات عقده الرابع تقريبا يتقدم إلى الخلف ويرتفع إلى الأدنى، ولم يعد ذلك القضاء الذي نعرف من حيث المواقف أو قوة الأحكام أو جمال العبارة وصياغتها، حتى سلاسة الجملة وسلامتها وعذوبتها، حيث اختفى جمالُ الصياغة، وسمو المعنى وحلوُ التعبير ويرجع ذلك بالطبع لوجود أسباب عدَّة وعديدة، ونحن وإن كنا غير معنيين بإيراد أو ذكر كل تلك الأسباب في هذه الورقة إلا أنه من الأفضل، والأكثر تحقيقا للفائدة، وتدليلا أيضا على مشروعية التساؤل الذي نطرح أن نورد ولو بإيجاز شديد بعضا من تلكم الأسباب ثم ولذات الهدف نُثنِّي بذكر أمثلة على ما نراه يُعد دليلا على تراجعٍ في آداء القضاء الليبي اليوم وهو ما يجعلنا نسأل ونتساءل بصدق، وبقوة أيضا، ونضع ألف علامة استفهام واستفهام، ونسـأل.”القضاء الليبي إلى أين؟.؟.؟ “أو بتعبير آخر هل القضاء الليبي اليوم فعلا بخير وفي الاتجاه الصحيح، هل الصورة الظاهرة الناصعة البياض التي نراها اليوم لقضائنا الليبي هي الصورة الحقيقية له أم أن هناك صورة أخرى نخشاها ولا نريد أن نَعْرفها، أو ربما نعرفُها لكننا نتجاهلها لأننا لا نريد أو قل لا نرغب في تصديقها، ولا نملك الشجاعة للاعتراف بها صورة تمثل الحقيقة التي نخشاها والصورة التي لا نريدها؟ هل القضاء الليبي اليوم بهذه الصورة فعلا من العدالة، والنزاهة والصدق، والحرص على إقامة العدل، وفرض العدالة؟ هل يؤدى القضاء الليبي اليوم على أساس أنه هوايةٌ هي “حبِّ تحقيق العدالة بين المتقاضين “أم مجرد وظيفة إدارية؟ مقيتة هل القضاء الليبي اليوم فعلا يسير في الاتجاه الصحيح وبالاستناد على ذلك الإرث الكبير من التراكم الخبراتي لماضيه المجيد ينهل منه ويضيف إليه؟ أم بدأ يتراجع عنه ويبتعد عن مجده؟ هل نحن راضون حقا عن القضاء وعن أدائه الحالي؟ أم أننا لا نريد التكلم فقط لهذا السبب أو ذاك باختصار شديد هل لا زال القضاة الليبيون يعملون وفق تلك القاعدة الذهبية التى حددتها محكمتنا العليا في عصرها الذهبي “أن القضاة هم بعد الرسل ظل الله في أرضه وحكامه بين خلقه “؟ هل لا زالوا يعتقدون أنه “بالعدل قامت السماوات والأرض “كما بينت ذلك المحكمة في محطة من أهم محطات مشوارها الذي نُجلّ ونحترمُ ونقدر ونفخر ونعتز به؟ هل ذلك كذلك فعلا؟ أم أن الصورة خادعة والواقع مُرٌّ وما نراه ليس الحقيقة؟ وأن الثوب القضائي ليس أبيضا ناصعا كما نعتقد بل به بقع يجب إزالتها قبل أن تعم الثوب.
من خلال ما سيأتي سنرى ذلك صدق ذلك من عدمه:
خلال الثلاثين عاما الأخيرة لم نسمع بقاض واحد أو وكيل نيابة أو حتى معاونا لها أحيل على الخدمة المدنية لسوء سلوك أو لخطإ جسيم ارتكبه في أدائه لعمله ([34]) أو حتى لُفتَ نظره لذلك رغم كثرة التقديرات “دون المستوى “بل والضعيف أيضا والتي تظهر بشكل لافت في تقارير التفتيش ونحو ذلك أليس غريبا أن لا يصدر شيئا من ذلك رغم إقرار الدولة الليبية الرسمي بوجود فساد في القضاء الليبي وبقرار من جهة مسئولة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ – والذي لم نسمع حتى مجرد الاعتراض عليه ممن يفترض بهم الحرص على هذا الحصن – وهنا نحب أن نسجِّل لكن ليس من قبيل الادعاء أو التفاخر ولكن قبيل تقرير الواقع والتنبيه إليه بأننا لم نرتض ذلك القرار واعترضنا عليه وعلى ما جاء فيه في حينه ([35]) لأننا رأينا أن الدفاع عن القضاء من واجبنا بل ومن أولويات ذلك وهو ما كان فعلا – فهل ذلك السكوت ممن يفترض منهم الدفاع يعني نزاهة هذا القضاء وسلامته فعلا؟ وأنه على طول تلك العقود كان كذلك حقا؟ أم أننا واهمون مخدوعون بواقعنا، ومخادعون لأنفسنا نرى الحقيقة فننكرها، ونرى الباطل ونسكت عنه، ونرى الفساد وندعمه.
هذه الورقة
تبحث في كل تلك التساؤلات، وتداعياتها محاولة لفت النظر، ودق جرس الانتباه والخطر، إلى واقع يشمل الماضي والحاضر والمستقبل بطرح هذا التساؤل الذي قد يبدو جريئا أو ربما حتى غريبا وصعبا أيضا، غير أنه بكل تأكيد سؤال أو تساؤل مشروع. حقيقي وواجب أيضا يهدف إلى الإصلاح وأخذ الحذر قبل استفحال المشكلة وهذا هو المهم في الموضوع أما مسألة الجرأة أو الغرابة أو الصعوبة أو غير ذلك من العناوين، فتلك مسألة لا نعتقد أنها ذات بال من وجهة نظرنا المتواضعة على الأقل… وحتى لا يتشتت الموضوع، وحرصا أيضا على الوقت والفائدة، وقبلهما المصداقية فإننا سوف نقسم هذه الورقة إلى أربعة أقسام أو فصول الأول سنتحدث فيه عن أسباب هذا التراجع في القضاء والنيابة، في درجتيهما النقض والعادي والثاني سنعطى فيه أمثلة في كليهما وذلك من واقع الأداء القضائي في بلادنا اليوم، ذلك للتدليل على ما نقول به ونتساءل عنه، كي نؤكد مشروعية طرح هذا التساؤل، ومصداقيته أيضا، وما سندلل به من أمثلة إنما هو من الواقع المعاش إما وقائع عايشناها مباشرة أو شاهدناها فكنا الشاهد عليها وهذا هو الأغلب، وإما وقائع وردت لنا عن طريق ثقاةٍ زملاء لنا عايشوها أو شاهدوها، المهم أنها على كلا الوجهين أمثلة وصور حقيقية، وصحيحة، صادقة، ومن الواقع العملي المعاش، والذي لا يكاد أن يمر يوم دون أن نراه أو أن نسمع بحدوثه أما غير ذلك مما كثر ويقوله المواطن أما حديث العامة فقد كفتنا الحديث عنه شبكة المعلومات في مواقع مختلفة التي تولت نشر وقائع يخجل الإنسان الواعي من الحديث عنها ([36]). أما الفصل أو القسم الثالث فسنذكر فيه بعضا من دلائل ذلك التراجع أو ما يمكن تسميته بالأسباب المشتركة بين القضاء العادي والعالي أما القسم الرابع فلمصداقية الكلم وأهمية الموضوع أيضا فإنناسنتعرض فيه بذات الكيفية بإذن الله لذلك الصرح الكبير والجبل الأشم ذي المجد التليد والماضي المجيد ألا وهو محكمتنا العليا التي شملها بلا أدنى شك أو تردد ذلك التراجع فالمرفق القضائي في ليبيا اليوم حتى في هرمه الذي نجل ونحترم ونقدر يرتقى إلى الأدنى ويتقدم إلى الخلف إن صح التعبير وربما هذا هو في الحقيقة ما دفعنا لطرح هذا التساؤل الصعب. كل ذلك من منطلق حبنا وتقديرنا واحترامنا لهذا المرفق وأهله الكرام ورغبة في الوصول به ومعه إلى الأفضل وحتى لا نضيع الوقت نبدأ بذكر بعض من تلكم الأسباب، والتي كان لها كبير الأثر في رأينا على الأقل في تراجع الأداء القضائي إبان الفترة المحددة للقراءة.
القسم الأول:
أسباب ضعف الأداء القضائي فيما دون النقض
إذا أردنا أن نتحدث عن أسباب ضعف مؤسسة، أو مرفق ما فإننا لن نستطيع بالقطع أن نورد كل الأسباب المسببة لهذا الضعف أو ذلك التراجع، ناهيك بذلك في مرفق هو من أكثر المرافق أهمية إن لم يكن هو أكثرها أهمية على الإطلاق في حياة الإنسان، والشعوب بل وفي حياة وبقاء الدول وفنائها ([37]) لتعلقه بكافة حريات وحقوق المواطنين وغيرهم ما يعني أن الأسباب في موضوعنا كثيرة، ومتعددة، ومتنوعة أيضا، ولن نستطيع لها نحن ولا غيرنا حصرا، ولكن وكما يقال “مالا يدرك كله لا يترك جلًّه “([38])، وهذه قاعدة معروفة شائعة. ولمّا كانت الأسباب كثيرة متنوعة، ومتعددة أيضا، ورغم بروز سبب هام وملحوظ في الفترة الأخيرة وهو الاتجاه إلى تأنيث القضاء والنيابة إلا أننا لن نتحدث عن هذا الاتجاه لسببين أولهما حتى لا نُتَّهم على غير حق بمعارضتنا لدخول المرأة التى نحب ونقدر ونحترم هذا المجال والثاني هو أن هذا الاتجاه حقيقة يحتاج إلى معالجة خاصة متعددة الجوانب والمعطيات تضيق عن مساحة هذه الورقة لذلك فإننا سنكتفي باختيار بعضا مما نراه على الأقل ذا تأثيرٍ كبير فيما نقول به من ضعفٍ وتراجع في آداء القضاء الليبي اليوم، ومن ثم يكون سندا لنا لتبرير التساؤل الذي طرحنا. من هذه الأسباب، والتي كان لها أثرا ملحوظا في اعتقادنا على الأقل:
1 / تفريغ النيابة العامة من كفاءاتها:
لما كانت النيابة العامة في بلادنا على وجه الخصوص هي الرافد الأول والأخير تقريبا للتعيين في القضاء ([39])، وذلك إذا استثنينا بعض الوساطات في بعض قرارات التعيين طبعا من هذه الجهة أو تلك فإن التعيين في القضاء في بلادنا يتم من خلال الاختيار من النيابة العامة، بالدرجة الأولى وهذا الأمر نتج عنه – في اعتقادنا طبعا – أنّ أغلب بل ربما كلُّ الكفاءات تقريبا قد سُحبت من النيابة العامة إلى القضاء وذلك بالتعيينات المتتابعة والمتلاحقة سنويا، والتي تخضع لأسباب هي ربما شخصية في أغلبها أكثر منها مهنية، وكفائية، حرفية إن صح التعبير حيث يتم التعيين في القضاء من النيابة بوتيرة متسارعة، ومتتابعة، ومتلاحقة ما أثر في الأداء المهني ومن ثم الكفاءة المتطلبة لأعضاء النيابة ([40]).
صحيح أن معيار النقل فيما مضى كان يَعتمد الكفاءة أولاً في النقل إلى القضاء وهذا أمر مطلوب ومعتبر إلا أن التعيين في القضاء نقلا من النيابة بالاستناد على عدم التناغم بين الرئيس والمرؤوس أي بمعنى الإبعاد أو التخلص من عضو النيابة الغير مرغوب فيه من رؤسائه لسبب أو لآخر كان موجودا أيضا، وإن كان وهذه حقيقة واضحة أيضا شبة محدود إلا أن لـه بالطبع أثر ليس بالهين، أما في السنوات الأخيرة فبسبب عزوف الدولة عن التعيين من الخرجين الجدد وبسبب عدم تناسب التعيين بالقضاء من النيابة العامة مع مداخيلها من الأعضاء العاملين، والذين يُعدون في الغالب على أصابع اليد الواحدة حيث العراقيل الموضوعة في هذا الشأن ليست بخافية على أحد إذ يكاد التعيين في سلك النيابة اليوم يقتصر على المحاسيب، والمعارف وأولاد وأقارب فئات معينة، وربما حتى محددة، ودون الالتفات أو اشتراط أية مسوغات أخرى أكثر أهمية وقدرة على تحقيق الغاية، وهذا أمر لا ينكره اليوم إلا مكابر أو مراء، وبسبب من عدم الرغبة في الاستفادة في التعيين في القضاء والنيابة أيضا من الكفاءات الراغبة في ذلك من “المحامين الخواص تحديدا “– وهو ما تؤكده قرارات التعيين والنقل للسنة 2006، 2010حيث لم يرد بها اسم محام خاص واحد رغم كثرة طلبات كفاءات كثيرة منهم تقدمت للعمل في القضاء أو النيابة وهو ما نرى فيه تَفويت فرصة حقيقية لتطعيم القضاء والنيابة بكفاءات عالية كان يمكن الاستفادة منها لتطوير القضاء والنيابة وتفعيلهما من الأساتذة المحامين الخواص ضف إلى ذلك عدم الالتفات إلى القدرات الموجودة في إدارتي القضايا والمحاماة الشعبية أيضا إلا بنسب محدودة وذلك للاستفادة منها ([41]) – كان الحِمل كلُّه يقع على كاهل النيابة العامة والتي لم يعد بإمكانها توفير ذلكم الكم من الأساتذة القادرين والأكفاء والمطلوب منها سنويا لتطوير أدائها وتقدمه ولا حتى أن تستطيع أن تلبي كل المطلوب، وخاصة من الكفاءات المتطلبة للقضاء، وهذا نتج عنه بالطبع وفي اعتقادنا أيضا أمرين:
الأول هو: تفريغ النيابة العامة من كفاءاتها، ومن ثم ترتب عليه انعدام القدرة على بناء كفاءات أخرى بديلة لا حقا، لانقطاع التواصل بين الأجيال وهو أمر صار معروفا وملحوظا اليوم ولولا ذلك التفريغ ولولا انقطاع ذلك التواصل لما وصل الأمر إلى حد أن قام مدير نيابة جزئية بالتحقيق مع موظف بإدارة القضايا لمجرد امتناعه عن استلام إعلان لجهة الإدارة فذا وغيره بسبب من انقطاع التواصل الخبراتي وانعدام فرصة نقل الخبرة وتوريثها إن جاز التعبير. والأمر الآخرهو: ذلك الضعف الملحوظ في القضاء، وخاصة المدنيَّ مِنهُ والشرعيَ ذلك أن التعيين بالصورة الحالية وهي النقل من النيابة مباشرة إلى القضاء، ودون المرور بفترة تأهيل وإعداد قضائي إن صح التعبير سواء بعقد ندوات أو إلقاء محاضرات حقيقية ([42]) أو “تدريب عملي “وذلك بحضور الجلسات، واكتساب الخبرات العملية في إدارة الجلسات وكتابة الأسباب ونحوها من المتطلب للعمل القضائي – وهو الطريق الأفضل في اعتقادنا – نتج عنه وجود هذا القضاء المدني، والشرعي الذي نراه اليوم والذي أقل ما يمكن أن يوصف به أنه قضاء ضعيف.
2 / عدم تطوير القضاء بإقامة الدورات والندوات والمحاضرات وانقطاع التواصل بين الأجيال في القضاء الليبي وكذلك انعدام التواصل مع القضاء في بعده العربي على الأقل:
فالملاحظفي هذا الشأن عدم الاهتمام بالقضاء والنيابة فلا إقامة دورات حقيقية ولا مشاركات في ندوات أو محاضرات أو دورات دولية أو عربية إضافة إلى عدم وجود الميكنة في إرشيفه وعدم تدريب القضاة وأعضاء النيابة على الأجهزة الحديثة والمتطورة من الحاسوب ونحوه وعدم منح القضاة ووكلاء النيابة أو حتى المحاكم كحد أدنى على الأقل اشتراكات مجانية في شبكة المعلومات الدولية “الإنترنت “، لتتمكن من التواصل مع المحاكم العربية في بعدها الأدنى والتي تعمل بهذا النظام كمحاكم دول الخليج العربي أو التي ميكنت إرشيفها القضائي كمصر وكذلك عدم القيام بإيفاد القضاة وأعضاء النيابة للمشاركة في الدورات والندوات والمؤتمرات الدولية والعربية وتبادل القضاة وهو ما كان يمكن أن ينتج عنه تطورا فعليا وحقيقيا هاما ومهما للقضاء والنيابة ومسايرة للركب لهذا المرفق والذي ينبغي الاهتمام به والعناية به والرفع من شأنه ليس بشكل خاص فقط ولكن بشكل لائق به وبمكانته التى يجب أن نجلها وأن نحترمها وأن نقدم لها الغالي والنفيس لتنهض وتصل إلى ما نصبوا إليه من مكانة عالية ومستوى رفيع وأن يكون ذلك بشكل دائم ومستمر أيضا.
3 / عدم وجود حوافز تدفع للبحث والإبداع والتطور:
لا يوجد تشجيع ولا حوافز تعطى للقضاة وأعضاء النيابة الذين يبذلون جهدا معينا للرفع من مستوى هذا المرفق الهام والحساس ولا حتى اهتمام بالبارزين منهم في مجال الكتابة والبحث وذلك على الأقل بإيفادهم مثلا لحضور المؤتمرات والندوات ليتمكنوا من تطوير أنفسهم وأدائهم وذلك يعنى بالنتيجة تطورا تطويرا للقضاء وواقعه بل الواقع يقول أن القضاة المبدعون على الأقل في مجال إصدار الأحكام في المتراكم من القضايا يكافئون بالنقل لمدن غير التي يقيمون بها.
ملاحظة:
تم إيفاد عدد مفتشين اثنين لمؤتمر التفتيش القضائي العربي ببيروت 2006 ولكن ذلك بالطبع لا يكفى خاصة مع هذا العدد المحتشم من الموفدين للمشاركة اثنين فقط أحدهما من طرابلس والثاني من المنطقة الوسطى وهذا هو كل الحكاية فهل سيحقق ذلك الانعكاس الإيجابي المطلوب لتطوير القضاء والنيابة طبعا لا نعتقد ذلك ولا بد من الإشارة هنا أن بعض المحضوضين في القضاء والنيابة على احتشام عددهم يبعثون لحضور مؤتمر أو ندوة هنا أو هناك لكن ما يعنينا وما نقصده هو إيفاد جمهور القضاء والنيابة للإطلاع والاستفادة والإفادة أيضا في دورات تدريبية تثقيفية تطويرية وندوات ومشاركات على مستوى عال لصناعة مستقبل زاهر وعظيم يتماشى ويتماهى مع ماضي قضائنا المجيد.
4 / انعدام روح الخلق والإبداع لدى الجهاز عموما وخاصة مع نهايات القرن الماضي وبدايات الألفية الثالثة:
وذلك واضح وجلي حيث انعدام الكتابات والمشاركات القضائية لا نريد أن نقول في مجلة المحامي والتي ربما يرجع عدم الكتابة فيها إلى عوامل نفسية أو حتى مهنية صرفة ولكن في مجلات أخرى كالمجلات الجامعية ومجلة إدارة القضايا بل حتى في أهم منبع لذلك رغم أنه منبع لصيق بالقضاء والنيابة ومن المفترض أن يكون لدى كل قاض وكل وكيل نيابة وهو “مجلة المحكمة العليا “فهذه المجلة بعد أن كانت تزخر بتلك الجهود الطيبة المباركة وخاصة من الأساتذة القضاة ولا يكاد يخلو عددا منها من تعليق أو بحث أو على الأقل مقدمة تليق بالعدد من هذا الأستاذ أو ذاك ([43]) نراها اليوم قد جُفيت تماما تقريبا ومن مختلف مراحل القضاء ودرجاته ولا نعتقد بأننا نبالغ إن قلنا أنها جُفيت ربما حتى من القراءة.أو حتى من مجرد الاقتناء وهو أضعف الإيمان.
5 / ابتعاد القضاء الليبي عن الاجتهاد وتقديم مفاهيم جديدة صحيحة ومتطورة للنصوص باعتماد ظاهر النصوص:
الملاحظ على القضاء الليبي في هذه الفترة أمرين:
الأول هو عدم رغبته أو حتى محاولته سبر أغوار النصوص بتقديم فهم جديد وصحيح للنصوص تلائم الزمان والمكان وذلك باتكائه في أغلبه على قضاء المحكمة العليا وانتظار ما تصدره من تفسيرات للنصوص في المسألة المطروحة أمامه بمعنى أنك كلما قَدَّمت لهذا القضاء رأيا أو فكرة جديدة سواء بالاجتهاد والإبداع أو بالاستعانة بالفقه العربي أو بالاستعانة بذلك التطور الرهيب في المعلوماتية منطلقا من الرغبة في الإفادة والاستفادة من ذلك التطور والتقدم كان السؤال الذي يطرح عليك مباشرة ما ذا قالت المحكمة العليا في هذا الشأن؟ رغم أن هذه الدرجات من القضاء من المفترض أنها هي بوابة العبور إلى المحكمة العليا وهي الرافد الحقيقي للمحكمة العليا لإيجاد تلك المفاهيم وذلك حتى دون القيام ولو بمحاولة من هذا القضاء للاجتهاد والبحث بحيث صار القضاء الليبي اليوم – والذي كان بالأمس رائدا وذا مكانة معروفة ومرموقة في التعامل مع النصوص ومحاولة سبر أغوارها وفهم أبعادها وإدراك مراميها – يفضِّل اليوم أن تعرض المسألة المطروحة عليه على المحكمة العليا لتقول رأيها فيها ليعمل به لاحقا ودون حتى أن يحاول أن يبذل جهدا ولو بسيطا أو أن يجتهد الرأي لتراقب المحكمة العليا اجتهاده بدلا من مراقبتها لانتظاره لاجتهادها وتفسيرها للنصوص وإيضاح مراميها وأوضح مثل على هذه الصورة هو الاستجابة لطلبات الإحالة على المجلس الطبي حتى مع قضاء المحكمة العليا بأن ذلك لا يكون إلا في الدعوى التأديبية ([44]) فلا زال بعض القضاء يرى أنهما لم تقل المحكمة العليا كلمتها في شأن الدعوى المدنية تحديدا بالنص على عدم جواز الإحالة فيها فإن الإحالة لا زالت واجبة وهذا الاتجاه من القضاء يلحظ أكثر ما يلحظ في قضاء التعويض فلا تزال قيمة المواطن الليبي عند قضاء التعويض منخفضة رغم التقدم الهائل والواضح في هذا النوع من القضاء. والآخر هو اعتماده ظاهر النصوص وذلك بمقولة أن لا اجتهاد مع صراحة النص: “لا اجتهاد مع صراحة النص “عبارة سمعناها ونسمعها كثيرا تردد من قضاة ووكلاء نيابة وحتى أساتذة قانون كما قرأناها كثيرا في تسبيب أحكام أو قرارات لذلك سنحاول في هذه العجالة أن نقف قليلا عندها لنتبين وجه الصواب فيها من خلال قراءتنا المتواضعة فمن بين أبرز العبارات التي تؤرقنا شخصيا في المشهد القضائي برمته تلك العبارة “لا اجتهاد مع صراحة النص “ولذلك سنحاول بعجالة قراءتها بنظرة مغايرة نحاول من خلالها أن نتبين جانب الصدق أو الخطأ في هذا الاتجاه برمته وذلك بطرح التساؤلات الآتية:
من قال أن هذه المقولة هي في حد ذاتها صحيحة؟ وما هو معيار تحديد الصراحة في النص؟ ومن هو الذي يملك أن يقول بأن هذا النص صريح وذاك مبهم أو مجمل أو غامض؟ وما هي الأسس والضوابط التي يمكن من خلالها أن نقول بأن نصا ما واضحا لا يجوز الاجتهاد فيه؟ وآخر مبهم أو مجمل أو غامض يجوز أو يجب توضيحه بالاجتهاد فيه؟ وما هي الأسس والمعايير التي نقيس بها هذه العبارة ثم من يملك حق إصدار مثل هذا القرار؟. إذا قلنا القضاء فذاك يعني حرمان الكفاءات من أساتذة القانون من المحامين وأساتذة القانون وغيرهم من حق طبيعي كفلته لهم كافة الدساتير والتشريعات المحترمة وهو حق الاجتهاد وتقديم معان جديدة وهو ما لم يقل به عاقل على الأقل ثم إنه قبل ذلك وبعده حجر على العقول لا يقبله العقل ولا المنطق السليمين ثم من قال أن هذا القاضي أو ذاك – مع كامل احترامنا وتقديرنا للأساتذة القضاة على وجه العموم – يملك هذه القدرة أو الكفاءة على تحديد الصراحة في النص المانعة من الاجتهاد فيه من عدم ذلك؟ ومن هو الذي يملك حق إصدار مثل هذا القرار؟ ثم من هو الذي يملك حق القرار الحقيقي في أن يقول بأن هذه الأسس أو تلك الضوابط هي التي على أساسها نقرر بأن نصا ما صريحا لا يحتاج إلى الاجتهاد وأن ذاك النص مبهم غامض يحتاج إلى الاجتهاد فيه؟ خاصة في ظل هذا التراجع الواضح في مستوى آداء المحكمة العليا الموقرة وما هي حدود هذا الوضوح أو تلك الصراحة؟ إن المسألة باختصار عندنا أيتها السادة الأفاضل لا تعدو أن تكون هروبا إلى الأمام عن الخوض في اجتهادات قد تَقْصر عقول البعض عن فهمها وإدراك كنهها ومن ثم يُغطّون عجزهم بالاستناد على تلك المقولة السيئة واعتمادها قاعدة لا تقبل المساس والغريب في الأمر أنك ترى هذا وذاك يجادلون في أحكام فقهية بل وفي آيات قرآنية صريحة وواضحة. ورغم أنها منزلة من عنده سبحانه وتعالى ومع ذلك لا يقبلون المساس بنص قد عجزت عقولهم عن إدراك بعض كنهه فهل هذه المقولة “رأيا “فإن كانت كذلك ونحن نراها فعلا كذلك فالرأي يقبل الأخذ والرد والقبول والرفض حيث “الكل يؤخذ منه ويرد عليه “([45]) ويحتمل الصدق وضده أم أنها ليست رأيا بل “قاعدة “لا تقبل غير الانصياع لأحكامها؟ فإن كانوا يرونها كذلك فلا بد من إقامة الحجة والبرهان على أنها قاعدة.
أسئلة كثير حائرة ومحيرة تحتاج الوقوف والتأمل والإجابة الواضحة والقاطعة في ذات الوقت حتى نعتمد تلك المقولة قاعدة لا يمكن المساس بها والتي كثيرا ما وقفت في نظرنا حائلا دون الإبداع والتطور والرقي بالمعنى فما أسهل أن نقول أن هذا النص صريح لا يحتاج لتفسير أو تأويل حتى نهرب إلى الأمام من أهم واجباتنا في استخراج المعاني الصحيحة والحقيقية لمراد الشارع والبناء على تاريخ لنا عظيم من القضاء والفقه القضائي… ونختم تساؤلاتنا هذه بتساؤل نراه فيصلا بين ما نقول به وبين ما يقولون به وهو أليس النص المبهم أو المجمل يحمل في حد ذاته دعوة للبحث فيه واستخراج معانيه أم لا؟.
إذا كان الأمر كذلك فإن مفهوم الموافقة قبل غيره يدعو إلى البحث في النص الواضح ويجعل من تلك المقولة مجرد شماعة يعلق عليها المتواكلون قصورهم وتواكلهم أما إذا كان الأمر غير كذلك فليقولوا لنا ألا يحمل النص المبهم في حد ذاته دعوة للبحث وبيان المقصود فيه. إن النص الواضح أيها السادة بل حتى شديد الوضوح هو الذي يجب أن نُعمل فيه الفكر وأن نحاول ما استطعنا أن نستنبط منه المعاني الدفينة في طياته وأن نستخرج كنهها وأن نعمل العقل فيها للوصول منها لغاياتها أما النص الغامض أو المجمل أو الملهم أو ما شئتم من هذه التسميات فهو يحمل في طياته دعوة لنا للبحث والتفحص والاستنباط والنظر والتفكر وإيجاد المعاني المختفية بين أحرفه وكلماته أما قصر النظر على ظاهر النصوص فهو أمر لا يرتب سوى “تصلب شرايين الفكر “([46]) ولندلل على وجهة نظرنا هذه ولنؤكد صدقها نضرب المثل الآتي:
ماذا لو اعتبرنا مشهد السقوط للأشياء من الأعلى إلى الأسفل يمثل نصا صريحا لا نجيز فيه البحث والتفحص واعتبرنا عكسه تماما نصا غامضا يجوز البحث فيه والتفحص فلا شك عندنا هنا أن المشهد الثاني يمثل دعوة صريحة للبحث والتأمل ولكن لنرى ذلك في المشهد الأول:
إذا قبلنا هذا التوصيف فإنه ليس هناك بالتالي ما هو أوضح من عملية سقوط الأشياء من أعلى إلى الأسفل وقد كان ملايين البشر يرون ذلك ويعتقدونه بدهية مسلم بها ولا نعتقد أن صيغة أفضل للتدليل على ما نقول من هذه الصيغة الثمرات تسقط من أعلى إلى أسفل وكذلك كل الأشياء فلماذا البحث في المسألة وإجهاد الفكر والعقل وما ذا سيجدي التعمق والتفكير وإرهاق النفس والعقل بالبحث ومحاولة استقراء نص واضح لإخراج معان جديدة منه فهذا نص واضح الأشياء تسقط من أعلى إلى أسفل وهذه بدهية لا تحتاج كثير عناء ويكون القول بالتالي “لا اجتهاد مع صراحة النص “قولا صحيحا ومقبولا بل وحقيقة مسلم بها وقد كان الحال كذلك فعلا إلى أن جاء “اسحق نيوتن “([47]) الذي راقب تلك الظاهرة أو ذلك النص الواضح – إن شئنا – وأعمل العقل والفكر فاكتشف لنا قانون الجاذبية الذي قلب الدنيا رأسا على عقب والذي لولاه لما استطاع الإنسان أن يصنع طيارة أو صاروخا أو حتى أبسط وسيلة مواصلات ولما كان لكل هذه الثروة المعلوماتية أي معنى وصار ذلك الاجتهاد الناتج عن المراقبة والبحث وإعمال الفكر والعقل في نص صريح وواضح حقيقة تسير الدنيا برمتها على هداها رغم أنها نتيجة بحث في نص واضح وصريح بل ونص هو الأكثر وضوحا على الإطلاق.
إذن النص الواضح طبقا لهذا القول يمكن أن يكون محلا للاجتهاد بل هو كذلك فعلا فالاجتهاد عندنا هو “أن تقدم إلى نص صريح واضح فتستخرج منه معنى أو معاني صحيحة وحقيقية لم يسبقك إليها أحد “أما الهروب إلى الأمام بالقول بأن النص الواضح لا يحتاج إلى أي اجتهاد فهوة ليس إلا حجْرا على العقول بقصر النظر في ظاهر النصوص دون توجيهها للتعمق والبحث والمراقبة وهو أمر يرتب تصلب شرايين الفكر وهي قولة نعتقد أننا أثبتنا زيفها علاوة على أن هذه المقولة الخاطئة كانت سببا مهما ورئيسيا في تأخر الكثير من المفاهيم بل وتأخر المشهد القضائي برمته حيث كانت حائلا وسدا منيعا للتجديد والإبداع لدى كثير ممن يملكون تلك الملكة والمكنة للفهم والإبداع واستخراج المعاني ولكن محاصرتهم بهذه المقولة منعتهم من تطوير حتى أنفسهم ويمكننا هنا أن نشير إلى ما سيأتي من رأي لمحكمة النقض السورية من دعوتها القاضي المبتدئ بأن يضمِّن رأيه أسباب حكمه مع رضوخه لتفسير المحكمة العليا بحيث قد ترجع إليه تلك المحكمة فهي في اعتقادنا بشكل أو بأخر في ذات السياق.
6 / غياب دور فاعل وحقيقي للتفتيش القضائي أو الدور السلبي للتفتيش القضائي:
رغم أن التفتيش القضائي في ما قبل سنة 2000 تحديدا كان يحتوي على كفاءات جيدة إلا أنه لم يحسن استخدام تلك الكفاءات بل عمل في تلك الفترة وعلى مدى العقدين من الزمن تقريبا وهي الفترة الممتدة من 1980 حتى سنة 2000 على تفعيل النصوص المتعلقة بالندب خاصة ندب مستشار من محكمة الاستئناف لرئاسة محكمة ابتدائية فأسرف في استعمال واستغلال هذه النصوص فأبقي مستشارين بعينهم على رأس محاكم ابتدائية بعينها فترة جاوزت في كثير من المحاكم العقد من الزمن فنشأ عن ذلك ما يمكن تسميته بمراكز القوى في القضاء من ناحية وتكون عدد كبير من المستشارين الذي لا علاقة لهم بالعمل القضائي الفعلي فكان أن ساهموا بشكل أو بآخر في تراجع المستوى الفني للعمل القضائي وكان أن انعكس ذلك سلبا على القضاء الذي عانى من ذلك وسيعاني الكثير ولفترة ممتدة من الزمن.
وقد قلت في أكثر من مناسبة سابقة بأنه يتعين تطعيم التفتيش القضائي بعدد من أساتذة القانون العاملين بالجامعات وما أكثرهم بحمد الله وفضله وقلت أيضا بأنه يتعين نقل تبعية التفتيش القضائي والقضاء برمته إلى المجلس الأعلى للهيئات القضائية وأراني اليوم مضطرا لتكرير هذا القول وهذا الطلب أيضا ذلك أنه من المفترض أن التفتيش القضائي قد جُعل للرفع من مستوى الأداء القضائي وذلك بالحرص على مراقبة الأداء القضائي صعودا وهبوطا وتقييم أداء القضاة كفرادى وكهيئات ومتابعة حتى سلوكياتهم لتثبيت وتشجيع من كان كفؤا منهم ومحاولة إصلاح من ضعف آداؤه إن أمكن أو إبعاده عن هذا المرفق المهم والخطير ذلك أن “التبصير على الدوام بمواطن القصور ومواضع الزلل في أجهزة العدالة تشريعية كانت أم قضائية أم تنفيذية، ضرورة لا بد منها كما في كل جهاز، لتحسين مستوى الأداء الذي يشبع للمواطنين حاجة حيوية “([48]) وذلك لضمانة عمل القضاة على تحقيق العدل بين المتقاضين والخصوم وهذا هو الهدف في حده الأدنى في اعتقادنا ذلك أنه من المفترض أن لا مجاملات على حساب العدالة غير أن ذلك لم يعد قائما اليوم على ما يبدو ويظهر في الصورة المشاهدة للعيان ولكل متتبع أو مراقب دون الحاجة إلى بذل جهد أو عناء للتدليل عليه.
ذلك أن الطريقة التي يتم بها التفتيش على هذا الأداء اليوم لتقييمه وبيان مدى مسايرته للقانون تعتمد في أغلبها على لا على كفاءة الأداء والإخلاص فيه واحترام المكانة بل على ما يمكن تسميته “ثقافة الزمالة “كما سنفسر لا حقا وهذه طريقة عقيمة وغير مجدية لم تؤدي إلى تحقيق المطلوب من وجود جهاز التفتيش القضائي من رفع مستوى الكفاءة في الأداء القضائي والنياباتي إن صح التعبير ولا حتى إلى تطور في القضاء والنيابة بل ربما على العكس من ذلك تماما أدت إلى تراجعه وتخلفهما وذلك بسبب من عدم التقييم الصحيح والحقيقي للأداء المهني بسبب من اعتماد تلك الثقافة والغريب والطريف أيضا أن الليبيون يؤمنون بثقافة الزمالة هذه في كل شيء تقريبا ويقدرونها وهي محترمة ومتواجدة بينهم في كل المهن والوظائف وحتى على الطرقات لكن اللافت أنك تجد الكثير من الأساتذة القضاة وأعضاء النيابة لا يزالون لا يعترفون بثقافة الزمالة هذه بينهم وبين المحامين وتلك مسألة يجب علاجها والعمل على محوها من الذاكرة.
كما أن هناك سببا آخر أيضا يتعلق بآليات العمل بالتفتيش القضائي ذاتها والتي صارت اليوم إلى عدم تطبيق فتلك الآليات القديمة والتي كان يعمل بها في وقت مضى ورُغم أنها آليات قديمة وبدائية أيضا إلا أنه كان لها كبير الأثر فيما كان عليه القضاء الليبي من مكانة في تلك العهود وذلك مرجعه في اعتقادنا لقيامه أي التفتيش القضائي بدوره الحقيقي وبعده عن التخفي بالزمالة وهو ما صرنا نفتقده اليوم حيث لم نعد نرى المفتشين يمارسون مَهمتَهم من خلال الحضور بقاعات المحاكم حيث كانوا يحضرون الجلسات ويراقبون سيرها ولم نعد نسمع أو نشهد جلسات الحوار تلك التي كانوا يقيمونها مع القضاة وأعضاء النيابة بمقر أعمالهم وداخل مكاتبهم بل ولم نعد نلحظ حتى تلك الرهبة التي كانت للمفتش كما لم نعد نرى أو نسمع لـه سلطانا أو خِشية وصار التفتيش مجرد جزء من الجسم القضائي لا عمل له في واقع الأمر سوى تلقي تلك الشكاوى التي يقدمها بعض من أعضاء الأسرة القضائية في بعضهم أو من المحظوظين من المواطنين وقد أضحى العمل القضائي في تراجع شبه يومي والتفتيش رغم علمه بأغلب أسباب ذلك لا يحرك ساكنا وحتى لو تقدم بعض الأساتذة من المحامين بملاحظات فإنها لا تؤخذ بعين الاعتبار والرد الغالب في هذا الشأن هو القول “اكتب لنا شكوى “وكأن الحلول لا تأتي إلا من الشكاوى المكتوبة والتي يجب أن يقدمها المحامون تحديدا وكأن تحقيق العدالة ورعاية مصلحة الفرد والأمة صار معلقا على هذه الشكاوى “التحريرية “وكأن تقديم الشكوى هو طريق العلاج وبلسم الجراح إننا نعتقد بأن مهمة التفتيش القضائي تحديدا أكبر من ذلك وأعظم خاصة في ظل وجود الإمكانيات الحالية من إمكانية التنقل والاتصال بيسر وسهولة وهو أمر لم يكن له في وقت مضى ذات السهولة واليسر بسبب التطور العلمي والتكنولوجي. ومعنى ذلك أن التهاون في القيام بهذه المهمة اليوم هو في اعتقادنا جريمة يجرمها الدين وترفضها الأخلاق والضمائر الحية قبل القانون وليت الحال يقف عند الأداء المهني بل حتى الأداء الأصلي والأصيل للتفتيش وهو تقييم أداء القاضي أو عضو النيابة الخاضع للتفتيش كمتطلب من متطلبات الترقية صار اليوم يتم بناء على قضايا يختارها المفتَّشُ عليه بنفسه وليس للمفتِّش فيها أي دور وهنا بالطبع لن يختار المفتَّش عليه إلا ما كان فيه جهدا ملحوظا ومقبولا لدى التفتيش أما تلك القضايا والتي حصلت أو ربما حتى ارتكبت فيها أخطاء قانونية قد تكون بل وربما كانت حتى قاتلة في بعض الأحيان بالنسبة لطرف من الخصوم فلن يراها المفتِّش بل ولن يسمع بها فلا بد إذا من إيجاد دور حقيقي قوي وفاعل للتفتيش القضائي ولا بد أيضا من إيجاد طرق ووسائل وآليات للتفتيش صحيحة وحديثة فاعلة وفعالة إن أردنا للقضاء تطورا وللعدالة رسوخا وللبلاد تقدما أما ما عليه الحال اليوم والذي وصل فيه الحال إلى درجة أن تم التحقيق مع محام وإيقافه والإفراج عنه بملغ من المال هو الأعلى منذ عرفت ليبيا المحاكم ([49]) لا لشيء إلا لأنه دافع عن حقوق موكليه فاشتكى إلى التفتيش القضائي ظُلمُ رئيس المحكمة الابتدائية لتصرفاته التي لا تليق به كرئيس محكمة ولا تليق من باب أولى بمعاملة الدفاع حضر إليه لمناقشته في امتناعه عن منح الصيغة التنفيذية لأمر بتمكين حاضنة لثلاثة أطفال بينهم معاق من بيت الزوجية بحجة أن الصيغة التنفيذية لا تمنح إلا بعد إعلان الأمر وفوات ميعاد التظلم وهو أمر مخالف لأبجديات القانون فكان جزاءه أن أحال التفتيش القضائي شكواه هذه – في سابقة لم يعرفها المشهد القضائي الليبي من قبل بل ولم يعرفها غيره من القضاء العربي أو الدولي – أحاله إلى النائب العام الذي أحاله بدوره للتحقيق فأُلقي القبض على المحامي وداخل المهلة المعطاة لـه من سيادة النائب العام لتلك الفترة لتسوية الأمر وديا ليس هذا فحسب بل ووصل الأمر إلى أن تم التحقيق الشفهي مع اثنين من الأساتذة أعضاء النيابة لاستلامهما لإعلانٍ إداريٍ ينص القانون على أن يسلم للنيابة العامة كما لا ننسى هنا أن تعليمات التفتيش القضائي الآمرة والحاسمة إلى رؤساء المحاكم الابتدائية والصادر بتاريخ 9 / 5 / 2002 والذي أوجدت في سابقة غريبة وخطيرة أنواعا جديدة من الرقابة على الأحكام النهائية والباتة وهو ما لم يعرفه تاريخ القضاء أيضا فإن التقدم في ضوء هذا لن يكون إلا إلى الخلف والتطور لن يكون إلا إلى الوراء ومن أراد دليلا على ضعف القضاء الليبي ومن قبله النيابة العامة بسببٍ مما نقول فليراجع سجلات محاكم الجنايات وذلكم الكم الرهيب من الجنايات المختلفة بل وهذا العدد في كل محكمة استئناف من دوائر الجنايات والتي وصلت إلى أكثر من دائرة في أكثر من محكمة وفي اليوم الواحد ناهيك عن التأخير في الفصل في القضايا والذي بلغ الألوف في بعض المحاكم ([50]) ومرجع ذلك في اعتقادنا هو عدم وجود قرارات “بالحفظ، وبألاّ وجه “من النيابة العامة واختفاء “قرارات التجنيح “، “وبألاّ وجه “من غرف الاتهام وتحوُّل هذا القضاء تحديدا أي قضاء غرف الاتهام إلى “قضـاء إحالة “للجنايات تحديدا دون غيرها وهو ما أدى في الواقع العملي إلى إلغاء دور غرف الاتهام ومن قبلها النيابة العامة وهو ما يتم تحت شعار بات معروفا وملحوظا لكل متابع أو مطَّلع سواء في عمل النيابة أو غرف الاتهام وهو مقولة “حَوِّل للمحكمة والمحكمة تصفِّي “وهذا الذي يحصل في الواقع وهو ما يعني بالضرورة ضعف في النيابة العامة وتراجع في أدائها وكذا القضاء يسأل عنه التفتيش القضائي بالدرجة الأولى.فلو كان التفتيش القضائي مضطلعا بدوره كما يجب وكما ينبغي مكان متابعا للواقع منبها على التقصير والتأجيل الغير مبرر لكان الحال غير الحال ولما كانت النيابة الآن ولا القضاء بالطبع هو القضاء ولا كانت هذه التأجيلات مع انعدام الإفراج وذلك التكرار لمد أجل النطق بالأحكام لأعداد متكررة.
وختاما لهذا السبب نكرر سؤالا سبق وأن سألناه في مناسبات عدة وفي صدر هذه الورقة أيضا هل القضاء الليبي بهذه النزاهة والنظافة وتلك الشفافية فعلا بحيث لم نسمع طيلة أكثر من ربع قرن عن قاض واحد ممن كان ذي عهد طويل بالقضاء أم حديث عهد أو حتى معاون نيابة هنا أو هناك تمت إحالته على الخدمة المدنية لخطأ جسيم أو تصرف مشين مثلا؟ بل لم نسمع حتى بلفت نظر أو توجيه لوم هنا أو هناك وليت الأمر يقف عند ذلك بل حتى في حالات تقدير الكفاءة وفي الحالات النادرة التي تم فيها بيان الواقع الحقيقي للمفتَّش عليه نجد النتيجة قد انقلبت إلى عكسها تماما بالطعن في التقرير وهو ما يطرح ألف علامة استفهام واستفهام على الطريقتين معا بل وحتى الحالات التي اتخذ فيها إجراء لم تزد على نقل المعني إلى المحاماة الشعبية وكأن المحاماة الشعبية صارت عندنا منفى للمغضوب عليهم أو المخالفين للقسم القانوني مخالفة جسيمة والأغرب من ذلك أن ذلك المعاقب في هذا المنفى القانوني يعود بعد فترة وجيزة لسابق عمله رغم أن المحكمة العليا لا تعترف بعضوية المحاماة الشعبية للهيئات القضائية على الرغم من نص القانون رقم 4 لسنة 1980 بشأن إنشاء إدارة المحاماة الشعبية ([51])ورغم أن هذه المسألة تخرج عن موضوع البحث إلا أن الواجب يقتضي التوقف أمامها ولو قليلا إذ ما معنى أن يحال القاضي أو وكيل النيابة الذي ارتكب خطأ قانونيا جسيما كان أو دون ذلك أو كان دون الكفاءة المطلوبة في رجل القضاء أو النيابة إلى المحاماة الشعبية؟ فما هذا الاستخفاف بهذه المهنة وما هذه النظرة الدونية لمهنة جليلة محترمة وراقية وإنسانية حتى ولو نص على تبعيتها للدولة؟ ثم ما بالها المحاماة الشعبية فأغلب فقهاء ليبيا اليوم عمل بها أو تدرب في مدرستها؟ أم هو عدم الاعتراف بالزمالة حتى للمحامي الشعبي حتى وإن نص القانون على تلك الزمالة للقضاء والنيابة بإجازته النقل والانتقال بينهما البعض ([52]) وهذه مسألة حقيقة يجب أن يتم التوقف عندها والتعرف على أسبابها ومحاولة علاجها إذ يبدو أن كلمة “محام “في حد ذاتها لا تروق للبعض إلا أنه لما كان ذلك يخرج عن موضوع هذه الورقة فإنا لن نطيل الحديث فيه ونعود لنسأل هل القضاء الليبي فعلا بهذه الشفافية وهذه النزاهة وتلك النصاعة وحسن السيرة والسلوك وقبل ذلك من التحصن بالثقافة القانونية؟ وهل القضاء الليبي يتمتع فعلا بهذا القدر من الرغبة في إقامة العدل وتحقيق العدالة ومن الحرص على تطبيق القانون وصيانة حقوق المتداعين؟ وهل هو بهذه الدرجة فعلا من نقاء السريرة ومن نظافة ذات اليد كما يقال؟ أسئلة ينبغي بل ويجب أن نطرحها على أنفسنا بين كل حين وحين لنتلمَّس بها ومن خلالها سلامة مسارنا ومن ثم نصحح بها أخطاءنا ونصون بها قضاءنا أما خداع النفس بالتظاهر بالرضى والسكوت على الباطل وتزييف الصورة والانخداع بالتوهم فلا يبنى مجدا ولا يحقق أمانا ولا يصون حقوقا ولا يصنع ثقافة والمثل يقول “درهم وقاية خير من قنطار علاج “وسينتهي الحال بنا ما لم نستدرك الأمر إلى ما انتهى إليه غيرنا في أعلى الهرم القضائي من التصريح علانية بعدم استقلال القضاء وفساده ([53]).
معلومتين بسيطتين عن الدور الحقيقي للتفتيش القضائي وكيفية تطبيقه على أرض الواقع العملي: الأولى هي: أن التفتيش القضائي في مصر العزيزة وفي سنة 2004 وحدها قام بفصل “56” مستشارا استجابة لمجلس الصلاحية لتولي القضاء والنيابة في مصر – وبالمناسبة نحن نادينا وننادي بضرورة توفر أمور عدة في هذا الشأن من بينها ([54]):
أ / إنشاء “مجلس الصلاحية “بهذا الاسم أو تحت أي اسم آخر طبعا ليس لإلقاء القضاة لا سمح الله في الشوارع ولكن على الأقل لبناء قضاء نزيه وشفاف وقوي ومستقل ذلك لأن هناك أناس بالقضاء والنيابة لهم من شراسة الطبع ومن الاندفاع وسرعة الغضب والرغبة في إذلال الناس ما لا يؤمَنون معه حتى على أنفسهم ولو كان لدينا مجلس الصلاحية هذا لما عرف الكثير منهم لهذا الجهاز المحترم طريقا.
ب / اعتماد عقلية الفقيه عند الترفيع للمحكمة العليا تحديدا والمقصود أن تكون لدى من يشرّف بالعمل في المحكمة العليا أن تكون لديه عقلية الفقيه المتمثلة في حب البحث واستخراج المعاني لا عقلية المستشار الذي يتولى سرعة الفصل في القضايا دون محاولة للبحث عما وراء النصوص وإيجاد المعاني الخفية فيها فمن يمتلك عقلية الفقيه تكون لديه ملكة الاجتهاد والقدرة على الاستنباط والبحث.
ج / نقل تبعية القضاء والنيابة إلى المجلس الأعلى للهيئات القضائية الذي يجب أن يترأسه أحد أقدم المستشارين العاملين بالمحكمة العليا بطريق الانتخاب.
د / التأهيل الدوري والمستمر بإقامة الدورات والندوات المشتركة داخليا وخارجيا والاحتكاك الخارجي وخاصة العربي منه في حده الأدنى.
هـ / وضع سقف للترفيع للمحكمة العليا بحيث لا يصار إلى الترفيع إليها إلا في حالات التقاعد والوفيات وبأعداد لا تجاوز الخمسة مستشارين في المرة الواحدة على الأكثر لا بهذه الطريقة التي تدل على الاستهتار بهذا الصرح وبموقعه وتاريخه ([55]).
نعود لمجلس الصلاحية لتولي القضاء والنيابة في مصر لنقول بأن هذا المجلس قام في السنة المذكورة أي 2004 بفصل (56)، ستة وخمسين مستشارا من العمل في القضاء وإحالتهم على الخدمة المدنية بعضهم منتدب للعمل في الخليج العربي وهذه مسألة وحدها تستحق الوقوف والقراءة لأنها تدلل على مدى التزام ذلك الجهاز بهيبة القضاء وحرصه على نظافته ونزاهته ومتابعة رجاله داخل البلاد وخارجها وهذا دليل أيضا على قيام هذا الجهاز بواجباته وحرصه على متابعتها وتطبيقها صونا للقضاء وحرصا على هذا الحصن أما الأسباب فكانت تتمثل في ثلاثة أسباب:
أ / الاشتهار بالتعامل بالرشوة مع المحامين.
ب / الجلوس في المقاهي العادية مع العامة.
ج / والسبب الأخير والذي لا يخلوا من الطرافة وقد أصاب مستشارا واحدا فهو أن زوجة هذا المستشار قد سئمت الحياة معه لسبب أو لآخر فلم يستجب لطلبها بإنهاء علاقة الزوجية “الطلاق “فرفعت عليه دعوى تطليق فكان أن رأي مجلس الصلاحية أن القاضي الذي لا يستطيع حل مشاكل بيته لا يستطيع من باب أولى حل مشاكل الناس فقام بفصله.
المعلومة الأخرى هي: أن محكمة النقض السورية تقبل دعوى “المخاصمة “والتي تصل عقوبتها إلى عزل القاضي من القضاء إذا خالف القاضي ما استقر عليه قضاؤها لأنها ترى فيه خطأ مهنيا جسيما وفي حكم طريف في هذا الشأن تقول محكمة النقض السورية “كما أنه من غير المقبول أن يتصدى مثلا قاضي صلح “حديث العهد بالقضاء “للخروج عن الاجتهادات الصادرة عن الهيئة العامة لمحكمة النقض بأي تعليل ولكن هذا لا يمنعه من عرض رأيه المخالف ضمن أسباب الحكم ثم ينتهي بالحكم مع قرار الهيئة العامة باعتباره ملزم لـه وفي هذا ما يكفي لإفساح المجال لإعادة النظر في الاجتهاد الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة النقض دونما خروج عنه “([56]) وهنا نلحظ بوضوح تام حرص محكمة النقض السورية على إلزامية أحكامها من ناحية واحترامها للرأي الآخر وإن كان مخالفا لرأيها من ناحية أخرى وتشجيعها ودعمها لمحاولة الاجتهاد في تفسير القانون وإن كان من قاض حديث العهد بالقضاء واتخاذها لرأيه المخالف لرأيها سببا ومخرجا للعدول عن حكمها وذلك بإعادة تقييمها لقضـاء “الهيئة العامة لمحكمتها “أي ما يسمى بقضاء الدوائر المجتمعة عندنا وذلك بنصها على جواز ذكر رأي القاضي المبتدئ المخالف لرأيها في أسباب حكمه الملتزم والمنصاع لحكمها وتقول في حكم في دعوى مخاصمة تأسيسا على ما تعتبره خطأ جسيما بمخالفة رأيها “ولما كان ذلك فإن التفات أكثرية المحكمة ( المخاصَمَة ) عما استقر عليه قضاء النقض رغم طرحه في الدعوى وقضاء هذه الأكثرية بما يخالف ما سار عليه هذا القضاء يعتبر خطأ مهنيا جسيما “([57]).
وهنا… لا بد من التوقف عند هذه الدرر لاستخراج بعض المعاني من هذا الحكم:
فأولا: رأى هذا الحكم أن القاضي الحديث العهد بالقضاء قد ارتقى مرتقى صعبا وحام حول الحمى بغية الاعتداء عليه وفي ذلك مافية من اعتداء على محكمة النقض وهيبتها ومكانتها وموقعها وسمعتها واعتداء على سيرتها ومحاولة للتمرد بل والخروج عليها فحزمت الأمر وحسمته وإن كان في ذلك عزل القاضي الذي خالف حكمها – مع ملاحظة مهمة هنا هي أن المخاصَم هنا هو”هيئة حكم “وليس قاض فرد إلا أن محكمة النقض السورية رأت بأن قبول دعوى بمخاصمة هيئة ولو أدى حكمها في الدعوى إلى الجزاء القاسي وهو عزل تلك الهيئة عن القضاء هو أهون لديها من الاعتداء على ما استقر عليه قضاؤها فرأت في عدم الالتزام من الهيئة المخاصمة بقضائها كمحكمة عليا في المسألة موضوع الدعوى الموضوعية إهمال لما استقر عليه قضاؤها وإهمال لها ولمسيرتها ولمكانتها ولموقعها كهرم للسلطة القضائية في سوريا ومحاولة للخروج على مكانتها وموقعها ورأته “خطأً جسيما “يقبل المخاصمة لأن في ذلك اعتداء لا عليها كمحكمة نقض فقط بل اعتداء على العدالة واستقرارها ومساس بهيبة القضاء ومكانته فرفضته بشدة وبحزم.
وثانيا: أعلنت وبوضوح تام عن منهجها في هذا الشأن بأنها تقبل الرأي الآخر المعارض لما استقر عليه قضاؤها ولو كان صادرا من قاض حديث عهد بالقضاء ولكن لا على حساب الالتفات عما استقر عليه قضاؤها وإهماله وعدم احترامه والاعتداد به ففي ذلك ما فيه من الضرر بالمشهد القضائي السوري برمته وإنما ذلك يكون بتضمين هذا الرأي المخالف أسباب الحكم الذي احترم قضاء النقض وانصاع إليه وهذا تواضع من محكمة نقض ما بعده تواضع وتقدير منها لقاض مبتدئ أيما تقدير وتشجيع لحديثي العهد بالقضاء ما بعده تشجيع ودلالة على عدم الرغبة في الحجر على الرأي المخالف وسماعه ودعمه وتشجيعه وهذه دلالات طيبة نفتقدها وندعوا إليها.
وثالثا: التأكيد على أن ما استقر عليه قضاؤها خط أحمر لا ينبغي للقضاء تجاوزه مهما كانت الأسباب وسواء أكان ذلك من قاض فرد أم من هيئة ففي ذلك دعم لمكانتها وحفاظ على هيبتها وإعلاء لشأنها وترسيخا لموقعها وإرساء للعدالة واستقرارا وثباتا للمفاهيم وحفاظا على الحقوق ومدعاة لعدم إيذاء العدالة بتعدد الآراء وتضارب الأفهام وفي ذلك ما فيه من إضاعة الحقوق والنيل من الحريات.
ورابعا: هذا المنهج المُعلَن من التواضع والرقي والتفهم لمحاولات الإبداع والتطور والتطوير الذي أظهرته المحكمة أيضا بتشجيع من لديهم الرغبة والتطلع والطموح للارتقاء بالقضاء والنهوض به وتطويره حتى لمن كانوا حديثي عهد بالقضاء ليس بتشجيعهم على تضمين رأيهم المخالف لما استقر عليه قضاؤها أسباب الحكم في الدعوى فحسب ولكن أيضا بإقرارها الصريح والمهم والمتواضع والراقي والمتفهم والشفاف والدال على نهجها القابل للتطور بأن ذلك الرأي الذي يورده ذلك القاضي – ولو كان حديث عهد بالقضاء _ بأسباب حكمه الذي التزم فيه احترام مبادئها قد يكون الطريق لها وهي محكمة نقض لتعديلها لما استقر عليه قضاؤها ولرجوعها عما كانت تعتمده رأيا لها فقد ترى فيه ما يقنعها بتعديل رأيها.
وهذا فوق دلالته على الفهم والتواضع والشفافية والقبول بالآخر هو أخذ باليد للقضاء الحديث وتشجيع ودفع لـه إلى الأمام ورغبة في إثراء الملكة الفقهية والقانونية لديه بما يفيد العدالة ويوصل إليها بغضِّ النظر عن درجة من صدر منه وطول عهده بالقضاء من عدمه وهذا مثل ينبغي أن يحتذي به وأن يُعمَلَ على نشره وأن يدعى إلى تطبيقه والسير على نهجه وموقف يجب أن يحفظ لمحكمة النقض السورية ونهج ينبغي أن يشاد بها لأجله وذلك مرجعه في اعتقادنا لِفهمِ هذه المحكمة لرسالة الفاروق عمر رضي الله عنه لقاضيه عبدالله بن قيس “لا يمنعنك قضاء قضيته ( بالأمس ) راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم ( وإن الحق لا يبطله شيء ) ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك “([58]) وأيضا لعدم الانصياع لثقافة الزمالة ومحاولة لروم العدالة ورغبة في ترسيخها.
ملاحظة بسيطة في هذا الشأن… هي أن محكمتنا العليا قد رفضت الاعتداد بحجة حكم طرح أمامها رغم أنه يتحصن بحجية الأحكام التى تقر بها وتراها تعلو حتى على النظام العام ([59]) وهو قضاء استقر لديها ولم تعدل بل ولن تعدل عنه في رأينا بكل تأكيد مستقبلا ([60]). إذن… مجلس الصلوحية أو الصلاحية لتولي القضاء والنيابة في مصر أبعد مستشارين عن العمل بالقضاء لمجرد أن اشتُهر عن هذا أو ذاك العمل بالرشوة أو الجلوس على المقاهي العادية أو حتى من عجز عن منع وصول مشاكله الشخصية لساحات القضاء ومحكمة النقض السورية تقبل دعوى المخاصمة حتى في هيئة حكم رغم أن التشريع السوري ينزل عقوبة الاعتزال بمن يحكم عليه في دعوى المخاصمة وذلك لمخالفة تلك الهيئة ما استقر عليه قضاء محكمة النقض والقضاء الليبي في أغلبه لا يقبل حتى مجرد القبول دعوى المخاصمة بل ويعاقب رافعيها بإلزامهم بمبالغ عالية من التعويض للمخاصَمين. هذه الدعوى التي لا يجب أن تقبل فقط إنما يجب أن تدعم وأن يُحرص على رفعها وسماعها والتريث في رفضها قبل قبولها فهي السبيل القوي إن لم يكن الوحيد لقضاء قوي نزيه فعال وشفاف عادل ومستقل ولو قام التفتيش القضائي بدوره المنوط به فعلا وكما يجب أن يكون لما سادت التصرفات التي توحي بأن بعض القضاة ورؤساء المحكم المنتدبين تحديدا يتصرفون في المحاكم وكأنها ملكا لهم أو إرثا توارثوه عن آبائهم وأجدادهم كما سنفصل لا حقا.
كلمة أخيرة في هذا الشأن
تتمثل هذه الكلمة في معلومتين بسيطتين تعطيان الصورة الحقيقية للدور الحالي للتفتيش القضائي: الأولى: هي أن بعض فروع التفتيش عندنا تتألف من رئيس الفرع “فقط “وإن كان بالطبع يعاونه عدد من الموظفين الإداريين؟. الأخرى هي: أن قرارات الحركة القضائية تتم دون علم رؤساء فروع التفتيش بدليل أن القرار الصادر للسنة القضائية 2006، 2007 تم التعديل فيه ولم يكد يجاوز صدوره الأسبوع حيث تبين أن أحد المحاكم تم نقل أغلب قضاتها.
7 / عدم مراعاة القدرة والكفاءة في توزيع الدوائر:
نعني بهذه المسألة إعطاء الدوائر الشرعية تحديدا لقضاة من الشباب والقادمين من النيابة وهؤلاء الأساتذة مع كامل احترامنا وتقديرنا لهم ولحقهم في اكتساب الخبرة اللازمة لأدائهم لمهام عملهم إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب حقوق وأسر وعائلات ومستقبل بلد فهؤلاء الأساتذة فوق صغر سنهم تنقصهم الخبرة المعلوماتية الاجتماعية بل والفقهية أيضا في هذا المجال والملفت للنظر أن كثيرا من هؤلاء الأساتذة لا زالوا عزابا لم يتزوجوا بعد ومن صغار السن لا يمتلكون حتى الخبرة القضائية ناهيك بالخبرة الحياتية والاجتماعية والشرعية فوق الخبرة الأسرية على وجه الخصوص إن القضاء الشرعي تحديدا يحتاج لا إلى خبرات خاصة فقط بل إلى قدرات خاصة أيضا وإلى علم ودراية وخبرة بالثقافة الأسرية والاجتماعية والشرعية وبنفسية المتخاصمين ولا بد للقاضي الشرعي تحديدا من أن تكون لديه فوق المعلومة الشرعية أن تكون لديه دراية بعلمي النفس والاجتماع ولذلك يجب أن يُختار بعناية فائقة وتامة ذلك الذي سنكلفه بالقضاء الشرعي لخصوصية هذا الفرع من القضاء تحديدا ولما لـه من دور مهم وبنّاء في صياغة المجتمع وبنائه وتولية غير القادرين هذا الفرع تحديدا من القضاء قد يهدُّ كل ذلك ويصير إلى مِعْول هدم للمجتمع بدلا من كونه دعامة بناء فيجب أن يتوفر فيمن يولَّى هذا الفرع من القضاء مع كل تلك الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي: شرطي السنُّ المتقدمة بعض الشيء والخبرة الأسرية أي شرط الزواج فهو بحكم عمله سيفصل في أمور أغلبها تتعلق بالمسائل الاجتماعية والأسرية والمشاكل الشرعية بحاجة إلى من يعرف داخلياتها بسبر أغوارها ومعرفة مسالكها وتشعباتها وهنا قد تلعب الخبرة الشخصية للقاضي المتزوج رب الأسرة دورها في معرفة أغلب التفاصيل وأدقها في المشكلة المطروحة عليه لأنها مسألة تتعلق في أغلبها بالمشاعر والأحاسيس أكثر منها بالنصوص القانونية التى لم تزد بحسب تعبير محكمنا العليا في بعض أحكامها على “أن تخرِّب البيوت “([61]) في أحيان كثيرة فوق أنه يجب أن تكون لدى القاضي الشرعي ثقافة أسرية وخبرة اجتماعية وفيرة وتراكم معلوماتي وعملي في هذا المجال السهل الصعب ذلك أن الأسرة بناؤها وتصدعها لـه علاقة مباشرة بالمجتمع نضوجا وتخلفا رقيا وانحدارا تماسكا وتصدعا فالقضاء في واقعه هو عملية بناء للمجتمع قبل أن يكون محاكم وقضايا وموظفين أو أي شيء آخر وأغلب هذا الذي نرى ونشهد اليوم من ضياع وتشرد واستهتار بالمُثُل والمبادئ وخاصة من الشباب وامتلاءٍ للسجون وتكدس للملفات أمام محاكم الجنايات إنما هو في جانبه الأكبر ناتج عن التفكك الأسرى فالحرص على القضاء الشرعي يجب أن يراعى فيه هذا البعد على وجه الخصوص ولو استطاع أي مجتمع إصلاح ذات البين داخل أسره لنجا من كثير من المشاكل والمآسي التى تعصف بمجتمعاتنا الإسلامية اليوم.
ختام هذه الفقرة
لا نريد أن نقول أن القضاء الشرعي ينظر إليه تلك النظرة التى لا تليق به أو حتى على أنه قضاء ثانوي ونأمل ألا نضطر يوما إلى قول ذلك لكن الواقع يقول بأننا لم ندرك بعد أو أننا على الأقل لا نريد أن ندرك خطورة هذا النوع من القضاء وأهميته للفرد والمجتمع والدولة. كما أننا لا ندرك حتى اللحظة خطورة وأهمية قضاء التمديد أيضا حيث نتعامل مع هاذين النوعين من القضاء بعدم اهتمام وبنوع من النظرة لا نقول الدونية ولكن على أنهما من البساطة بمكان بحيث يمكن أن يديرهما حتى “حديث عهد “بالقضاء ولو لم تكن لديه الخبرة والدراية الكافية وانعدام التراكم الخبراتي العملي وذاك في اعتقادنا تسطيح للأمور وتبسيط للأدوار المهمة والخطيرة في حياة وحرية الفرد والأسرة والمجتمع والأمة بعمومها… فهل يا ترى سندركيوما المكانة الحقيقية التربوية والثقافية ولاجتماعية والنفسية والبنائية والإصلاحية والاجتماعية للقضاء الشرعي وقضاء التمديد ونقوم بالتالي بتأهيل قضاتنا الأفاضل لذلك المستوى الذي ندعو وتلك المكانة العالية المميزة التي نريدها لهم؟ أم سنظل فقط نرى ونتفرج على هذا الانهيار ونساعد من ثم على تفشيه وترسيخه إن كلا هذين النوعين من القضاء لهما عندنا تلك الدرجة العالية من الخطورة والأهمية للمجتمع بأسره وللعدالة من أساسها ولا بد لمن تسند إليه مهمة العمل بهما من أن تكون لديه الخلفية الثقافية الملائمة من دراية بعلمي النفس والاجتماع القضائيين للزومهما في معالجة القضايا الشرعية والاجتماعية لتسهيل معرفة أسباب الشقاق أو معرفة أسباب الجريمة فهل يعقل أن يسند إلى قاض لم يتجاوز عمر الثلاثون عاما حتى ولو كان متزوجا مهمة علاج خلاقات بين زوجين زادت مدة زواجهما عن الأربعين عاما؟ ألا يترتب على هذا الاتجاه ضياع حقوق وخراب بيوت؟ وهل هذا في القياس مقبول ومفهوم؟ ثم تلك النظرة لقضاء التمديد والحبس الاحتياطي على وجه العموم من الاستهتار بحريات المواطن وحقوقه وسوف نفصل هذا الأمر في بحث خاص إنشاء الله.
8 / ضعف أداء الدفاع وعدم تفعيله لدعوى المخاصمة:
إن ضعف مستوى الدفاع والتحرج من تقديم طلبات “رد القضاة “وعدم تفعليه لدعوى “المخاصمة “تحديدا وذلك بسبب من خوفه من تداعيات ثقافة الزمالة التي تسيطر اليوم على الجهاز القضائي برمته إذ لم يعد الشأن في الأغلب ولدى الكثيرين هو البحث عن الحقيقة ومجازاة المخطئ أو حتى لومه أو على الأقل تبصيره بخطئه وذلك أضعف الإيمان موجودا بل صار “الدَيدنُ “اليوم هو حماية الزميل بالدرجة الأولى لا لأنه على حق أو لأنه مصيب في قوله أو فعله أو تصرفه ولكن لأنه زميل وزميل فقط وهذا أمر نعتقد جازمين بأنه لا يمكن أن ينكره إلا مكابر فثقافة “الزمالة في الوظيفة “اليوم هي السائدة وهي المسيطرة وهي الحاجز الأكثر مناعة وصعوبة لدى المحامين والمتضررين من سلوك دعوى المخاصمة فكأن الحفاظ على الزميل مع خطئه وتقصيره صار اليوم أهم عندنا من الوصول إلى العدالة وحبُّ تطبيقها كل ذلك أدى بشكل كبير وملحوظ إلى ضعف مستوى الأداء بالقضاء وكذلك النيابة أيضا فضعف الثقافة القانونية لدى أغلب محاميي اليوم بسبب من تشريعاتهم بالدرجة الأولى وبسبب من التشريعات ذات العلاقة بالدرجة الثانية ([62]) وبسبب من قلة البحث والاطلاع لدى أغلبهم بالدرجة الثالثة وبسبب من تسهيل متطلبات القيد أمام المحكمة العليا تحديدا بالدرجة الرابعة وبسبب أيضا من عدم رغبتهم في الدفاع عن حقوقهم وحقوق موكليهم بالالتجاء لدعوى المخاصمة أو لنقل صراحة بسبب خوفهم من الالتجاء لهذه الدعوى وذلك لما يرونه ظاهرا وواضحا للعيان من عدم جدواها حيث الملحوظ أن هذه الدعوى لا زالت لا تجد المكانة الحقيقية والمطلوبة لها في القضاء التأديبي الليبي فنظرة الزمالة الوظيفية وما يترتب عليها من مجاملات وتداعيات هي المسيطرة اليوم وهي التي لها في الغالب الدور الكبير والملحوظ في عدم نجاح هذه الدعوى خاصة أمام المحكمة العليا وحتى الذين ن قُبلت بحقهم هذه الدعاوى من القضاة أو وكلاء النائب العام لا يكاد عددهم يصل إلى أصابع اليد الواحدة وهذا بالطبع ليس معناه جهل من المحامين بأصول هذه الخصومة أو عدم إتقانهم لإجراءاتها أو عدم وجود من يستحق أن تطبق عليه أحكامها أو أن هذا الجهاز بذلك القدر من الكفاءة والنزاهة بقدر ما يعنى سيطرت العمل بروح الزمالة الوظيفية وتقديمها في الغالب الأغلب على مسألة الحق والقانون ([63]). حيث يبدو أن الحرص على بقاء الزميل في برجه العاجي دون أدنى مساءلة أهم لدينا من العدالة والقيام بها والسعي لتحقيقها فإذا كانت وكما نرى ونشاهد ستضع العراقيل أمام نجاح هذه الدعوى وسيبقى المحامي الذي تشجع أو لنعبر بتعبير أكثر ملاءمة تجرأ ورفع دعوى مخاصمة تحت رحمة زملاء الأستاذ المخاصَم وأصدقائه في الوظيفة فوق عدم قبول دعواه وتغريمه المبلغ المحدد لسبب يرجع أغلبه لعامل الزمالة وربما الحكم عليه بتعويض من أراد خصامه كما رأينا فلماذا يرفع هذه الدعوى أساسا ولماذا يتعب نفسه وهو الذي لن يكسب بسببها إلا العداوات التي تطول وتطول فالعمل تحت مقولة المثل الشعبي “البير إللي تشرب منه ما تحطَّش فيه رشادة “أفضل وأسلم ([64]).
هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع قبلنا بقوله أم رفضناه والمشاهدة كما يقال خير دليل وذلك بالطبع أدى وبشكل ملحوظ إلى تراجع في مستوى أداء الدفاع وهو ما انعكس سلبا على القضاء والنيابة أيضا وأثر ذلك بالطبع في المشهد الثقافي القانوني.في ليبيا برمته وهنا نجدها مناسبة طيبة في دعوة القضاء الليبي إلى التخلص من هذه النظرة أي نظرة الزمالة الخادعة والتي لم تؤدي في الواقع إلا إلى إضعاف الأداء القضائي وتراجع أدائه وتوفير الحماية الغير حقيقية لأناس كان يجب عدالة وخلقا والتزاما بل ودينا إبعادهم عن هذا المرفق الهام والمهم لحياة البشر وتنزيهه منهم لا الدفاع عنهم والتستر عليم بالاستناد إلى الزمالة أو نحوها. وما دمنا في الحديث عن الدفاع فلا بأس إذن من التوسع في تناول هذا البعد لأهميته الواضحة ودوره المتعاظم وراء ما نتساءل عنه فالدفاع “عماد القضاء وسنده “([65]) وعندنا أن الدفاع هو “ركن العدالة التى لا يمكن لها أن تقوم بدونه “وعمل المحامي هو “غذاء القضاء الذي يحييه فالمحامون يستطيعون بما يتوفر لديهم من ثقافة وخبرة معاونة القاضي في أداء رسالته في تطبيق القانون “([66]) وستكون هذه الإضافة في نقطتين: الأولى: عدم وجود حصانة للدفاع ودورها في تراخيه وتداعيات ذلك على المهنة والقضاء والأخرى ضعف الدفاع الناتج عن ضعف القضاء.
النقطة الأولى:
حق المحامي في الحصانة القضائية هو أمر تقتضيه العدالة ويتطلبه حق الدفاع عن المتهم ذلك أن حق الاستعانة بمحام هو أهم فرع من فروع حق الدفاع بل هو الحق الذي يحتوي أصله إذ “يعتبر هذا الحق متفرعا عن حق الاستعانة بمدافع وإن كان ذلك الحق لا يتصل اتصالا مباشرا إلا أنه في غاية الأهمية والضرورة للمتهم فإن لم يكن المحامي مؤَمَّناً ومحصّنًا فيما يؤديه من رسالة الدفاع فإن ذلك سوف ينعكس وبشكل مباشر على حق المتهم في الدفاع ([67]) ولقد دل الحاضر وأثبت أن المحامي ما لم يكن محصنا الحصانة القضائية التامة الكاملة فإنه يضل يعمل تحت هاجس الخوف والرعب مما سيقول أو يفعل فجبروت سلطات الدولة وسلطانها يظلان دائما وأبدا أمام ناظريه وهو في كل دفع أو قول يخشى أن يَلحَقَ بموكله هذا إن لم يفرج عن الموكل ويودع محاميه الحبس ومشاهد العمل اليومي تثبت ذلك وهو ما يقتضي فعلا مراجعة هذا الأمر وإعطاء المحامي الحصانة القضائية الكاملة والتامة لنصير إلى عدالة أقوى وأفضل.فبغير الحصانة القضائية الكاملة فلن يستطيع الدفاع أن يبدع ولن تتمكن العدالة من الوضوح والسيادة.
النقطة الأخرى: عن ضعف الدفاع الناتج عن ضعف القضاء:
هناك قاعدة في العمل المشهد القانوني تقول “إن المحامي الجيد يصنع القاضي الجيد “لكننا بكل ثقة نقول إن هذه القاعدة هي قاعدة مغلوطة لأن الواقع يقول أن القاضي الجيد هو من يصنع المحامي الجيد فالمحامي الذي يحترم نفسه سيكون محرجا من الحضور أمام القاضي المطلع المثقف قانونيا لذلك فإن المحامي سيحرص على الاهتمام بقضاياه والإطلاع على ما يسند ما يذهب إليه في الدعوى من فقه ومحاكم نقض خوفا من الإحراج والظهور بمظهر القاصر إن لم نقل الفاشل وهذا سيدفعه لمزيد من الإطلاع والبحث والتنقيب وذاك يصنع منه محاميا على القدر والمستوى المطلوبين أما وفقا للقاعدة فإن المحامي الجيد إذا بحث وتعب ونقب وقدم ذلك لقاض قليل الكفاءة فإن ذلك بدلا من أن يدفع المحامي لمزيد من البحث والإطلاع سيصيبه بالإحباط وهو أمر سيدفعه لترك البحث وهو ما سيؤثر على المشهد الثقافي القانوني برمته في اتجاه السلب لذلك إننا بكل ثقة نقول:
إن ضعف القضاءعندنا أدى إلى ضعف أداء المحامين فهذا الذي نشاهده بل ونكاد أن نُحاسَبَ كمحاميين جميعا على أساسه من ضعف مستوى الأداء لدى المحامين والذي وصل الأمر ببعضهم إلى أن أرسل برقية إلى المحكمة العليا للتقرير بالطعن ولام آخر على المحكمة أن تؤجل الدعوى رغم أنه ترك حقيبته بالقاعة وذلك على حد قوله دليل على رغبته في الحضور ([68]) إنما هو في نظرنا بالطبع راجع إلى ضعف في القضاء أيضا إذ نحن نعتقد أن القاضي ذي الملكة القانونية القوية الواسع الإطلاع والقاضي الناجح المتمكن من وظيفته القوي في ثقافته القانونية تحديدا المسيطر على الجلسة الحافظ لحقوق المتخاصمين المحتَرِمِ للدفاع والمقدر لدوره في مساعدة العدالة ومساندتها هو الذي يصنع المحامي الكفء ذي الملكة القوية والناجح أيضا وليس العكس لأنك عندما تجد أمامك قاضيا قويا في معلوماته متمكنا من أدوات عمله فإنك لا شك ستعمل لـه ألف حساب وحساب وأن ذلك سوف يدفعك لتطوير نفسك كمحام وزيادة الخبرة والثقافة القانونية والفقهية لديك أما إذا لم يكن كذلك فإن سوف لن تبحث عن التطوير والتطور بل ستكتفي بما عندك قلَّ أو كثر فمن ذا الذي سيهتم بما ستقول أو تكتب أو تدفع بل ربما دفعك – وهذا حاصل فعلا في الحياة العملية – عدم رد القضاء على دفوعك رغم تأسيسها وإسنادها بالقضاء والفقه إلى الإحباط والتهاون في البحث والتنقيب. فمثلا قولٌ مثلَ قولِ أحد الأساتذة وكلاء النيابة في رده على مذكرة للدفاع بطلب عرض موكله المُسَلَّم سليما معافى للأستاذ رئيس النيابة وبمكتبه والذي أحاله بدوره إلى مكتب البحث الجنائي بحجة أن النيابة العامة تتولى التحقيق فيه فكان أن تعرض المسكين للإكراه النفسي والجسدي الذي وصل حد الصعق بالكهرباء في ذلك التحقيق الذي تجريه النيابة العامة حيث كان رد الأستاذ بالقول “وقد تقدم محامي المتهم بطلب عرض موكله على الطبيب الشرعي بحجة تعرض المتهم المذكور للإكراه البدني وعزز طلبه بمذكرة شكوى عاجلة بطلب عرض على الطبيب الشرعي وقد تبين لي من خلال الاطلاع على الأوراق أن طلب المحامي في غير محله وأري عدم الاستجابة أو بالأحرى عدم “تلبته “– هكذا كتبت والمقصود تلبيته – للأسباب الآتية:
1 / اعتراف المتهم الثالث – محل الطلب – بالاتهام المسند إليه بشكل مفصل أمام النيابة العامة – ملاحظة سيادته يقصد المتهم الثاني وليس الثالث -.
2 / اعتراف المتهم الأول بما أسند إليه وبشكل مفصل أمام النيابة العامة.
3 / تطابق الاعترافين مع بعضهما بشكل دقيق.
4 / شهادة الشهود.
5 / تطابق الشهادة مع اعتراف المتهمين.
6 / ضبط أداة الجريمة – المقرون – ورود تقرير الخبير بصلاحيتها بل وباستعمالها أيضا.
7 / مباشرة النيابة العامة لكافة التحقيقات لوحدها.
8 / مباشرة النيابة العامة التحقيق مع المتهم الثالث – محل الشكوى – بفترة وجيزة من تسليمه لرئيس النيابة بالأحرى فور وصوله إلى مكتب البحث الجنائي وهو المكان الذي يتواجد فيه وكيل النيابة المحقق والذي كان يباشر التحقيق في الواقعة موضوع الأوراق.
9 / جاء في الشكوى “بأن المتهم قد طلب من وكيل النيابة المحقق عرضه علي الطبيب الشرعي في “قبض”- هكذا كتبت – ولم يثبته بمحضر التحقيق، ونرد علي ذلك إن المتهم قد اعترف أمام وكيل النيابة المحقق اعترافا تفصيليا بكيفية ارتكابه للجريمة مع المتهم الأول ومن ثم يضحي هذا غير ذي جدوى.
10 / دفاع المتهم نسج قصة بعيدة عن الواقع وذلك عندما قام بإحضار موكله إلى مكتب رئيس النيابة لتسليمه وقد أوردها في مذكرته والتي تحت عنوان “تقرير بتسليم موكله لنفسه بتاريخ 29 / 4 / 2003 ف “زعم فيهما بأن المتهم المذكور قد التقي بطريق الصدفة مع ثلاثة أشخاص أحدهم كان قد فعل الفاحشة بأخيه الصغير ونتج عن ذلك مشاجرة بين الطرفين حاول منهما التخلص من الاعتداد عليه من قبل الأشخاص المشار إليهم وآل الأمر في نهاية إلى استعمال سلاح ناري يقول أنه كان في سيارته حيث قام بمحاولة الدفاع عن نفسه مع علمه المسبق أن ذلك السلاح لا يحتوي علي أية ذخيرة إلا أنه فوجئ بانطلاق النار منه وأحدهم فارق الحياة ا ا ا؟ وعندما قال المتهم “مؤكله “– هكذا كتبت – بالحقيقة امام وكيل النيابة العامة لم “يروق “هكذا كتبت – له ذلك ورمي ذلك الاعتراف الصريح والواضح بأنه وليد اكراه لذلك نري أن الطلب الذي تقدم به محامي المتهم الثالث في غير محله متعين رفضه للأسباب التي أوردناها بالمذكرة “([69]).
ملاحظة أولى: لقد نقلنا المذكرة كما هي وبأخطائها الإملائية حتى لا نمس بها وحتى لا يضيع المقصود من مغزى إيرادنا لهاوأول ما نلاحظه هو أن سيادته أخطأ في وصف المتهم فقد تكرر وصفه لـه بالمتهم الثالث أكثر من مرة رغم أنه الثاني…. ملاحظة أخرى: لسنا هنا بصدد التعليق على ما جاء بالمذكرة ولكن نسأل إذا كان لا يوجد إكراه فعلا على جسم المتهم المطلوب عرضه كما رأت النيابة فإن في ذلك دليل لها لا عليها فلماذا الخوف من الإحالة إذن؟.
ونعود لموضوعنا لنتساءل ما ذا سيُحدِث هذا القول ومثله أو حتى دونه في نفسية المحامي وخاصة إذا كان حديث عهد بالمهنة وما ذا ستكون نظرته للقضاء والنيابة والمحطات الفضائية تشنف أسماع العالم كل يوم وحين بحقوق الإنسان ووجوب احترامها قضاءً؟ وما ذا سيقول المحامي وهو يقرأ حكم المحكمة العليا بأن الاتفاقيات الدولية تصير جزءا من التشريع الليبي بمجرد مصادقة الدولة الليبية عليها؟ والحال أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أول العهود الدولية التى وقعت عليها ليبيا ولعله في هذا المقام يجدر بنا الإشارة إلى حكم هام “لمحكمة النقض الكندية “حيث قضت “بأن مجرد حضور الضابط – الذي اعترف أمامه المتهم إثر القبض عليه – أثناء التحقيق دون أن يصدر منه أي تصرف يعتبر تهديدا للمتهم مفسدا لاعترافه الصادر في هذا التحقيق “([70]) ولعل هذا الحكم تحديدا يوضح البون الشاسع والفرق الكبير بيننا وبين الأوربيين في مدى نظرتهم لمواطنيهم واحترامهم لحقوقهم فالقضاء الليبي والقضاء المصري قبله لا يعترف بهذه الميزة حيث يريان أن وجود الضابط أثناء تحقيق تجريه النيابة لا يعد إكراها للمتهم مع أن العقل والمنطق وقبلهما الواقع يشهدان بصحة هذا الاتجاه خاصة في عالمنا الثالث تحديدا”.
9 / التعيين من غير البوابة الصحيحة لتولي شرف القضاء “المهن النظيرة”:
دأبت السلطة التنفيذية منذ آخر الثمانيات بالقرن الماضي على تعيين قضاة ومستشارين وبأعداد لا فتة للنظر على تعين قضاة ووكلاء للنائب العام وبأقدميات وظائفهم وكذلك مستشارين بمحاكم الاستئناف وقد كان قد تم قبل ذلك تعيين عدد من الكتاب مباشرة إلى القضاء بمحكمة استثنائية ثم منها إلى القضاء العادي وتعيين ضباط من الشرطة مباشرة بالقضاء بل وبالمحكمة العليا ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تم تعيين نائب عام وهو ضابط الشرطة ومباشرة وحتى دون المرور بفترة تأهيل زد على ذلك ما يمكن تسميته “بتعيينات المجاملة “وهى تعيين بعضٍِ ممن تم اختيروا لتولي؟؟؟؟؟؟ عدل معينة ثم تم تعيينهم بالتحايل والواسطة والمحسوبية وبدرجة مستشار أيضا رغم أن بعض هؤلاء لا يعرف حتى معنى هذا الدرجة ولا معنى لفظ مستشار وكل ما يملكه هو أنه قد تخرج من كلية الحقوق أو القانون لكنه يملك من الطرق الملتوية ما يجعله يتشرف بالعمل في هذا المرفق المحترم ضف إلى ذلك عملية الندب الحالي في القضاء ومساوئها وخاصة من القضاء والنيابة إلى خارجهما والذي جاوز في بعض حالاته ( 27 ) السبع وعشرون سنة من الندب لجهة الإدارة – مع رفضنا طبعا للندب حتى داخل القضاء وفقا لما فصلناه في مكانه ([71]) – ثم وفجأة وجدناهم مستشارين وأعضاء في دوائر للجنايات وغيرها ونظروا قضايا بل وأصدروا أحكاما بالإعدام في بعضها والأنكى من ذلك وأفدح أنه قد تم مستشارين بالعليا من لا علاقة لهم بالقضاء إلا من حيث حملهم للمؤهل القانوني وأقدمية الدرجة سواء أكانونا ضباطا بالشرطة أو مستشارين قانونيين في شركات أو حتى المحاكم الاستثنائية وقد رأيناهم بالمحكمة العليا يصولون ويجولون رؤساء ومستشارين كأن المحكمة العليا لا يكفيها هذا التخلف عن دورها الحقيقي الذي تأثر بإساة استخدام الندب وبعدم اعتماد عقلية الفقيه. لكن اللافت للنظر والمؤلم حقيقة أن القضاء الليبي قد عيّن فيه في تلك الفترة حتى من لا يستحقون شرف الانتماء لهذه الأسرة الكريمة إلا من تقدم لنيل هذا الشرف من الأساتذة المحامون الخواص حتى ولو كان تشرفهم بالانتماء لهذه المهنة الراقية كان بعد تشرفهم بالعمل في السلك القضائي ترى ما هو السر في ذلك وما هي الأسباب أحجية لا نريد فك طلاسمها ولا معرفة سر اعتمادها احتراما للقضاء الكريم؟ فقط نتمنى أن تختفي تلك النظرة التي لا تليق بقضائنا المحترم على الأقل بعد ثورة السابع عشر من فبراير المباركة.
10 / الفصل في القضايا بطريق المقابل المالي:
من بين أكثر الأسباب في إضعاف القضاء الليبي الكريم وإظهاره بمظهر الطامع اللاهث وراء المال الراكض ركضا لجمعه ولو كان على حساب الشرف والمبادئ والقيم والتاريخ المجيد بل لا نبالغ إن قلنا أنها هذا السبب هو “وصمة عار “ألحقها البعض من ضعاف النفوس بقضائنا الكريم محاولين مسح ومسخ تاريخه المجيد ووصل هذا الأمر بكل أسف إلى ذلك الصرح المجيد والطود الأشم وهو محكمتنا العليا الموقرة ([72]) ولذلك فهذا السبب له أولوية خاصة في التعامل معه والإسراع الفوري بإلغائه تنزيها لقضائنا الكريم وإعادة اعتبار لمن حملوا شرف الانتساب إليه على مر السنين ونحن لم نورده في مقدمة الأسباب لأننا نرى فيه معول هدم ونكوص على الأعقاب ووصمة عار ينبغي التخلص منها بأسرع وقت. وهو عيب بل وعار حتى ولو كان وجوده في هذا الصرح الكريم قد جاء بطريق التعليمات الإدارية فكفى بوجوده في هذا الصرح وهذا البيات الكريم عيبا ووصمة ينبغي التخلص منها ودون انتظار.
11 / الرغبة في إرضاء النيابة العامة:
قد لا يكون التوصيف دقيقا ولكن ما نعنيه هو ذلك الاحتراس الزائد من ردة فعل النيابة العامة أو بتعبير أكثر وضوحا ودقة هو ذلك الخوف أو لنقل الرهبة لدى بعض من الأساتذة القضاة من قيام النيابة العامة باستئناف قراراتهم بالإفراج في جلسات التمديد أو حتى أحكامهم بالبراءة أو بوقف العقوبة فالكثير من الأساتذة القضاة يبررون عدم إفراجهم في جلسات التمديد المتكررة والغير مبررة أيضا أو حتى الحكم بعقوبات قاسية في جرائم لا تستأهل ذلك باتقاء استئناف النيابة العامة لأحكامهم أو قراراتهم بالإفراج وهذه مسألة غاية في الخطورة والأهمية أيضا إذ معنى ذلك بكل بساطة أن هذا البعض – والحمد لله أنه بعض – يعمل تحت سيطرة “وهم “إرضاء النيابة العامة وعدم إغضابها لا تحت سيطرة من قسم الوظيفة وإرضاء الضمير وهذه مسألة أيضا ينبغي الوقوف عندها ودراستها وإيجاد الحلول الناجعة لها ذلك أنها مسألة تتعلق بالبعدين الديني والأخلاقي.
12 / الندب وفقا لأحكام قانون نظام القضاء:
وأخيرا وليس بآخر هذا الندب وبالطريقة الحالية تحديدا حيث سيطر بموجب التطبيق السيئ لأحكام الندب مجموعة معينة على القضاء والنيابة ترتب على وجودهم في أغلبه طبعا قتل روح التطلع إلى الأمام لدى الأجيال الجديدة من الأساتذة القضاة وأعضاء النيابة وانعدام الرغبة في التفوق لديهم فإذا كانوا لا يستطيعون الحصول على حقهم في تولي رئاسة هذه المحكمة أو تلك النيابة فلماذا يتعبون أنفسهم في البحث والتفوق إذا كان التفوق في ظل وجود هذا الندب إن داخل الجهاز أو خارجه لا يعني لدى المسئولين شيئا وهذه المسألة أشبعناها بحثا وتفصيلا في مقالنا الندب في قانون نظام القضاء ماله وما عليه المشار إليه أعلاه فمن رغب في زيادة التفصيل فليرجع إلى ذلك فلا داعي إذن هنا للإطالة في هذا الشأن وإن كان لنا من إضافة هنا فهي أنه قد أثبتت بدايات سنة 2007 ما قلناه من مساوئ لهذا الندب الداخلي منه والخارجي فقد وصل الدفاع عن مكتسبات الندب لبعضهم إلى الطعن في قرار إنهاء ندبه رغم أن القرار على ما قيل لنا كان بإجماع زملائه ولذلك فنحن نعتقد بأن هذه الحادثة وحدها كافية للتدليل على ما قلناه وكفيلة وحدها أيضا بالتعجيل بإلغاء الندب في هذا الجهاز المحترم والموقر.
13 / سيطرة السلطة التنفيذية على الجهاز:
دلائل محاولة السلطة التنفيذية السيطرة على الجهاز مسألة مفروغ من أمرها وإنكارها مجرد مراء لا طائل من ورائه إلا مزيدا من التدخل والسيطرة على جهاز لا ينفع معه شيء سوى الاستقلال والاستقلال التام ولا خضوع فيه إلا لله والضمير ومسألة محاولات السلطة التنفيذية السيطرة أو على الأقل التدخل في شأن السلطة القضائية هو أمر معروف في أغلب بلاد العالم حيث دائما ما تقف السلطة القضائية حجرة عثرة بين السلطة التنفيذية ومآربها ولذلك تتجه السلطة التنفيذية إلى التدخل حينا بالكلمة والهاتف ونحو ذلك وأخرى بالمكاتبات والمنشورات وثالثة وهي الأخطر بالتشريع وملامح محاولات التدخل من السلطة التنفيذية في أعمال ووظيفة السلطة القضائية في بلادنا بدأت تبدوا واضحة في الآونة الأخيرة وذلك من خلال اللقاءات المباشرة تارة ومن خلال المكاتبات والمنشورات الإدارية وغيرها تارة أخرى بل وبالتشريعات أيضا غير أن المسألة في بلادنا بدأت عكسية حيث بدأ التدخل بالتشريع قبل التدخل بالكتب والمنشورات فمن قوانين تمنع المحاكم من رد الحقوق لأصحابها ([73]) إلى منشورات أو كتب بدرجة تشريع تمنع المحاكم من تنفيذ الأحكام إلا بعد إذن؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ للعدل إلى غير ذلك من العقبات المخالفة لأبجديات التشريع التي تمارس بها السلطة التنفيذية في بلادنا محاولة تدجين القضاء وإخضاعه لسلطتها وهو أمر إذا لم يعالج جد خطير قد يترتب عليه ما لا تحمد عقباه نورد لذلك ندعو إلى سرعة علاج هذا الأمر قبل أن يستفحل.
14 / وأخيرا وليس آخرا سببين يتعلقان بالمحاكم والنيابات الابتدائية:
كان بعض ما ذكرناه في السابق يتعلق بالقضاء وكان البعض الآخر منه يتعلق بالنيابة أما ما سنذكره الآن فهو أمر يتعلق بكليهما ونعني بذلك:
أ / ظاهرة التوسع في إنشاء المحاكم والنيابات الابتدائية وكذلك محاكم الاستئناف وهذه ظاهرة بدأت ودون وجود أسباب حقيقة في اعتقادنا تنتشر بشكل لافت للنظر وغير مجدٍ أيضا في بلادنا والتوسع في كل ما يقدم خدمة عامة في بلادنا أثبت فشله بعد ضعفه وخير مثال على ذلك التوسع في المستشفيات وفي الجامعات وأثر ذلك الضعف فيهما ليس بخاف على أحد وآثاره شملت كافة نواحي البلد فكان بذلك صعودا إلى الهاوية وتقويا إلى الضعف والتراجع لا إلى المجد والجلّا فهذا التوسع في إنشاء النيابات والمحاكم الابتدائية وكذا محاكم الاستئناف في اعتقادنا كان لـه ذات الأثر بل وربما كان الأثر الكبير فيما تعاني منه النيابة والقضاء اليوم بحيث كان هذا التوسع للتوسع فقط دون حاجة حقيقية إليه فكثير من هذه المحاكم والنيابات ليس لها في الواقع ذلك الوارد القضائي لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف بحيث ينتج عنها تلك الخبرة اللازمة والمتطلبة لقادم الأيام بحيث تستحق معه أن تكون محكمة ابتدائية فوارد مجموع جزئياتها لا يكاد يصل إلى ( 200 ) مأتي ملف في السنة هذا إن تجاوز المائة أصلا وحتى لو وصل إلى هذا العدد أو حتى أكثر منه بقليل فإن أغلبه من نوع واحد أو يكاد أن يكون كذلك بحيث ليس فيه ذلك التنوع الموجود في ابتدائيات مثل الزاوية وطرابلس والذي يكاد أن يشمل كافة نواحي الحياة فلم تجن العدالة من ذلك إلا تراجعا والقضاء إرهاقا وتعسا ثم ما هي الفائدة التى ستعود على الأساتذة القضاة ووكلاء النائب العام من حيث اكتساب الخبرة اللازمة لهم؟. هؤلاء للنقل إلى القضاء وأولئك للترفيع إلى محاكم الاستئناف والمحكمة العليا فأي خبرة سيكتسبون وماذا سيكون رصيد هؤلاء من الخبرة اللازمة والمتنوعة لطبيعة عملهم وتمشى ذلك مع الدرجات التي سيرقون إليها – أحد هؤلاء وهو صديق شخصي لنا بالمناسبة منذ أن عين في النيابة وإلى أن رُقّي مستشارا بالقضاء لم يحقق سوى في جريمة قتل واحدة وكان قراره فيها اعتبارها عوارض في حين عندما أحيل ذات الملف إلى نيابة الزاوية الابتدائية تبين من خلال إعادة التحقيق أنها جناية قتل عمد – هنا يبرز جانب الخبرة ومدى أهميته للعمل ولا ذنب لسيادته في ذلك إلا أنه كان يعمل مذ عين معاونا بالنيابة في نيابة جزئية لا يتعدى واردها العشرة ملفات في السنة هذا إن تجاوز الثمانية أصلا إذن وفوق ذلك لم يراع هذا التوسع خاصة في النيابات والمحاكم الابتدائية أمورا مهمة عدة من بينها عدم مراعاة ظروف المواطنين من حيث القرب والبعد عن المحاكم وما يؤثر ذلك على مسألة الإعلانات ومواعيدها وقلة عدد محضري الدولة وانعدام المحضرين الخواص في أماكن كثيرة وما يترتب على ذلك من تأخر الفصل في الدعاوى للتأخر في إجراء الإعلانات ومن ثم ضياع الحقوق بالإضافة إلى غياب عنصر مهم لا زم للعدالة وهو توفر الخبرة العملاتية للقضاة وأعضاء النيابة لقلة الوارد وانعدام تنوعه.
ومن أسباب ذلك في اعتقادنا:
أ / أن مصدري تلك القرارات لم يأخذوا في اعتبارهم مسألة الكثافة السكانية وما يترتب على قلتها من انعدام الخبرة وانحصار ما يتوفر منها في أنواع وأنماط محددة معينة لا تأهل قاضيا ولا وكيل بالمعني الحقيقي والصحيح لهذه الكلمة يفترض أنهم بناة العدالة بما تلقوه من خبرات وأن مصرهم إلى بحسب العقل والمنطق إلى المحكمة العليا ونيابة النقض وكلا المكانين من الخطورة والأهمية بمكان في حياة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
ب / أن مصدري تلك القرارات لم يأخذوا في اعتبارهم أن الواقع يقول بأن الكثير من الدرجات العليا من الأساتذة في القضاء أو النيابة إنما وصلوا لتلك الدرجات بطريق العامل الزمني والأقدمية وأنهم يفتقرون فعلا إلى الخبرة الحقيقية التي تبنى على التراكم الخبراتي الحقيقي والصحيح الناتج عن تنوع القضايا والمجرمين ولنؤكد ذلك نقول: (كان وارد محكمة الزاوية الابتدائية سنة 2008 من مختلف القضايا هو 12214 قضية متنوعة وكان عدد القضاة هو 28 برئيس المحكمة وكان وارد ذات المحكمة سنة 2009 من مختلف القضايا هو 15852 بعدد قضاة هو 32 برئيس المحكمة في حين بلغ عدد أعضاء نيابة الزاوية الابتدائية 32 عضوا سنة 2008 وبلغوا سنة 2009 (36) وفي المقابل بلغ مجموع وارد محكمة العجيلات الابتدائية عن سنة 2008 (3034 وكان عدد قضاتها في ذات السنة 18) وكان مجموع واردها من القضايا عن السنة 2009 هو 3430 وعدد وكلاء النائب العام 23 ([74]) في حين نجد المجموع الكلي لمحكمة جنوب بنغازي خلال شهر (9 / 2009) فقط هو (3147) من مختلف القضايا ووارد نيابتها عن ذات الشهر (666) قضية مختلفة وبمقارنة بسيطة نستطيع أن ندرك أين يمكن أن تتوفر الخبرة لكن السؤال المطروح والخطير هل سيكتسب السادة القضاة أو أعضاء النيابة الكافية بذاك الوارد المحتشم خاصة في التنوع وهل سيكون الذين ترقوا لمجرد العامل الزمني على كفاءة حقيقية تؤهلهم وتمكنهم من الفصل في الحقوق والحريات عندما يصلون إلى محاكم الاستئناف ولن نقول المحكمة العليا فذاك أمر مجرد تخيله مرعب لمن عرف أبجديات القانون وسمع بحقوق الإنسان؟) ولعل خير شاهد على ذلك هو هذا التراجع الكبير والخطير لأداء القضاء الليبي على مختلف مراحله ودرجاته ومحاكمه بعد أن كان مضربا للأمثال والإشادة.
وهنا يمكننا القول باختصار شديدأن واقع القضاء الليبي اليوم يعطيك ثلاثة انطباعات:
أ / أن النيابة العامة تعطيك انطباعا بأن هدفها الأول من التصرف في الأوراق هو تقديمها للمحكمة أو لغرفة الاتهام أي ما يعرف بتلك المقولة الشائعة “بحول للمحكمة والمحكمة تصفي.
ب / أن القضاء يعطيك انطباعا بأن همه الأول الفصل في الدعاوى لإرضاء التفتيش طلبا للترقية.
ج / أما مأمور الضبط فهمه الأول هو تقديم متهم للنيابة لتتولى التحقيق في الأوراق وليس في الموضوع أي بصرف النظر عن الحقيقة الحقيقية؟ المهم هناك مشخص أو أشخاص أحيلوا للنيابة وكفى بذلك دورا.
إذن القضاء الليبي ليس في حاجة لتطويره وتقدمه والنهوض به إلى التوسع في المحاكم والنيابات ولا حتى التعدد في القضاة أو الدوائر بل إلى تهيئة الظروف المساعدة على التطور والتقدم تأسيسا على الماضي العتيد وعلى كافة الصعد ونقول بكل ثقة إن علاج ما عليه المشهد القضائي اليوم في قاعدته وقمته من نتراجع ونكوص على الأعقاب لا يكون بالتوسع في إنشاء المحاكم الابتدائية أو الإستئنافية ولا حتى بإغراق المحكمة العليا بهذا السيل المنهمر من مستشاري الاستئناف بل يكون ببحث المسألة من جذورها ومعرفة الأسباب وعلاجها ومن ثم إعادة بناء المنظومة القضائية كاملة بناء سليما وصحيحا يستلهم بالماضي المجيد وينهض بالحاضر المتراجع إلى مستقبل موعود ومأمول.
د / هو أمر كسابقه جدَّ حديثا على التعليق وعلى الموضوع وهو مسألة القضاء الثلاثي في المحاكم الابتدائية:
قبل انتهائنا من تبيض الموضوع وتجهيزه جد موضوع القضاء بتعدد القضاة أو “القضاء الثلاثي أو الجماعي “وهو مسألة فوق ما أحدثته فور الإعلان عنها من اضطرابات وتضاربات في العمل والواقع اليومي من تأخر الفصل في القضايا المنظورة وإعادة المحجوزة للحكم منها للمرافعة ومن تنفيذ ووقف ومن عدم فصل وغير ذلك من تلك الربكة والإرباك الذي تم فإنها مسألة تستحق بل وتستوجب الوقوف والتوقف عندها لأن الظاهر فيها هو رعاية حقوق المتقاضين والرغبة بالإسراع في إنجازها بالقول بأننا نكتفي بالتعليق على ذلك بنقل انتقادات الدكتور رمسيس بهنام على هذا النوع من القضاء وإن كنا قبل ذلك نسأل هل المقصود من هذا التوجه هو تيسير وصول العدالة إلى المتقاضين أم هو الرغبة في الفصل في القضايا وخاصة بعد ذلك التراكم الذي وصل في بعض المحاكم إلى الألوف إذا كان الغرض والغاية هو تسهيل وصول العدالة للمتقاضين فليس هذا هو الطريق إلى ذلك أما إذا كان الغرض والغاية غير ذلك فتلك مسألة أخري ولا يكفي فيها التعدد في القضاة ولا حتى في الدوائر فوارد بعض الجزئيات يفوق بكثير جدا وارد أغلب الإبتدائيات المستحدثة أخيرا إذن المسألة ليست لها علاقة بالوارد بل بأسباب أخرى ينبغي البحث عنها ومعرفتها ومن ثم تذليلها وتوفير العلاج الملائم والمناسب لها هكذا يكون العلاج بمعرفة الأسباب فإيجاد الحلول أما الهروب إلى الأمام بتجارب سابقة وفاشلة فهو أمر في اعتقادنا لا يجدي شيئا ونعود للدكتور بهنام الذي يقول “كانت هذه الآمال مقعودة على القضاء الجماعي أو القاضي المتعدد غير أن العمل كشف عن عيب يعترض مسيرة هذا النظام ويخيب ما كان عليه من آمال وهو أن القضاة المتعددين لا يشارك كمل منهم بكامل ثقله في كل قضية وإنما يوزعون الأقضية فيما بنهم فيكون لكل قضية قاض ينقطع لدراستها من بينهم يسمى بالقاضي أو المستشار المقرر وعلى هذا القاضي يتوقف مصير القضية إذ لا يفعل زميلاه سوى الانصياع غالبا إلى ما يبديه من رأي دون رقابة حقيقية تذكر على مدى ما في هذا الرأي من رجحان ودون إدراك عميق لجوهر الواقعة وما يسبق الرأي ذاته من تمحيص لها فيه شمول وإحاطة أو فيه نقص وقصور وهكذا لا يضيف نظام القاضي المتعدد شيئا يذكر يمكن اعتباره علاجا لنظام القاضي الفرد بل قد يصل إلى نتيجة كان أفضل منها تلك التي كان ليحققها في القضية ذاتها قاض فرد أي قاض لا يشرك أحدا معه في مسئولية الحكم جاعلا إياها مشاعا بينه وبين غيره وإنما يتحمل بمفرده هذه المسئولية فيكون أكثر حذرا وحيطة ودنوا من الصواب خشية أن ينسب إليه شخصيا وعلى وجه التعيين أنه تنكب عن طريق السداد “([75]) وإن كان لنا من إضافة على ذلك فهو القول بأن الواقع يؤيد ما ذكره الفقيه المذكور فوق أن التعدد في القضاة يجعل كل واحد منهم أو أغلب الهيئات سيتخذ من هذا التعدد متكئا يستند عليه في عدم الاجتهاد ومتابعة قضاء النقض وآراء الفقه وسوف يركن كثيرا وفي الغالب الأغلب على ثقته أو حتى اعتماده على زملائه وذلك فيه ما فيه من ضياع حقوق العباد وتأذي العدالة فوق أنه وهذا هو المهم أن من شروط القضاء في الإسلام أن يكون القاضي واحدا لا أكثر “فلا يصح تقديم اثنين على أن يقضيا معا في قضية واحدة لاختلاف الأغراض، وتعذر الاتفاق وبطلان الأحكام “([76]) فوق التأخير في الفصل وهو الهدف الأول المنشود في اعتقادنا في اللجوء إلى هذا النوع من القضاء سوف لن يتحقق لأن التعدد ليس هو الوسيلة الصحيحة للعلاج إذن القضاء بهذه الطريقة مسألة مجرّبة وسبق فشلها – طبعا هناك بعض الدول تعمل بهذا الطريقة ومن بينها “تونس “الخضراء ولكن القضاة في تونس يعملون فترتين يوميا بداء من التاسعة صباحا وحتى الساسة إلا الربع مساءا – فوق أن الهيئة الثلاثية ليست بالضرورة من الأساتذة القضاة بل وكما هو في “القضاء الإستعجالي “أي القضاء المستعجل يترأس الدائرة قاض ويعاونه مندوبين آخرين ليسا من القضاء وبالتالي وهكذا في عدة أنواع من القضاء من بينها أيضا قضاء الأسرة الذي لا زال يفتقده التشريع الليبي إذن فالعلاج لا يكون بتكرار التجربة إنما بالاهتمام بالقضاء والقضاة برفع مرتباتهم إلى المستوى الذي يليق بقاض ليبي وحل مشاكلهم وتوفير الإمكانيات اللازمة والمساعدة لهم لحسن أدائهم لوظيفتهم من كتب ومراجع وأجهزة حاسوب وتطوير بالدورات والندوات والمحاضرات والمشاركات الدولية والعربية والمحلية ونحو ذلك وبتعيين عدد أكثر من القضاة بدليل أن ما عليه العمل بعد هذا التثليث لم يغير من الأمر شيئا فلا زال التأجيل بالثلاثة أشهر وأكثر ولازال موعد فتح الجلسات متذبذبا بين العاشرة والحادية والنصف ولعل نظرة على الدوائر عموما وعلى المستعجلة بوجه الخصوص وفي أغلب المحاكم بعد العمل بهذا الاتجاه يرينا أن لا شيء قد تغير ولا زال السادة القضاة يحتجون بكثرة العمل وحتى لو أردنا العمل بهذه الطريقة فالعقل والمنطق يقولان بدراسة التجربة وتفادي سلبياتها والأخذ بإيجابياتها أما هكذا فلن يزيد المر إلا سوءا ولن تزيد حقوق المواطنين إلا ضياعا وتأخرا في الوصول ويمكننا هنا للتأكيد على ما نقول بع أن نضرب المثل الآتي:
لو قلبنا بأن الهيئة الثلاثية تدخل الجلسة لتنظر ( 60 ) ستون ملف دعوى وأن ذلك يستغرق منها ثلاث ساعات فمعنى هذا أن بقسمة الزمن مع عدد الملفات على السادة أعضاء الهيئة فسيكون نصيب كل قاض ( 2 ) عشرون ملفا فإذا كانت الجلسات تبدأ الساعة التاسعة كما هو بقرار الجمعية العمومية فإن معنى ذلك انتهاء الهيئة من نظر الدعاوى الستون عند الساعة ( 12 ) الثانية عشر ظهرا غير أننا لو قسمنا تلك الدعاوى الستون على الأعضاء الثلاثة وبدأ كل واحد منهم نظر العشرون دعوى المخصصة له عند الساعة التاسعة فإن معنى ذلك أن كل تلك الدعاوى ستكون قد نظرت عند العاشرة صباحا وهذا يعنى بلا أدنى شك توفيرا في الوقت والجهد للسادة القضاة وللأساتذة المحامون ولمن حضر من المتخاصمين على وجه العموم ومن نافلة القول أن الحرص على الوقت وتوفير الجهد من مقتضيات العدالة ولعله حسن الختام لهذه الفقرة هو القول “لا يمكن أن تكون هناك عدالة بغير أمانة متشددة متزمتة، ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن تقوم عدالة حيث لا توجد مواظبة، وهي نوع خاص من الأمانة ينبغي ممارسته والتمسك به فأمانة القاضي ليست في أن يكون ممتنعا عن أن ترقى إليه أية محاولة للتأثير والإفساد فحسب بل يتعين أن تكون في ذمته مراعاة للمواعيد والمحافظة على وقت المحامين والجمهور فلا يتركهم في ساحات المحكمة يضيعون الوقت في انتظاره ليفتح الجلسة “([77]).
القسم الثاني:
الأمثلة
في هذه المساحة سوف نقدم بعضا مما نراه أمثلة على ذلك الضعف في الأداء سواء في القضاء أو في النيابة وهذه الأمثلة كما أسلفنا هي عبارة عن مشاهدات شخصية أو عن طريق زملاء أفاضل نقلوها لنا وبدورنا ننقلها لكم.
أولا/ في سلك النيابة:
وهنا بالطبع لن نستطيع أن نذكر كل ما شاهدنا أو سمعنا فذلك قد يحتاج لأسفار وأسفار ولكننا سنذكر بعضا من ذلك حرصا على الوقت واختصارا للجهد وحتى لا نتهم بالتجني أيضا فإننا سنقدم بعضا من تلك الأمثلة ومن هذه الأمثلة:
أ / استعمال العنف في التحقيق:
كنا جالسين مجموعة محامين حتى حضر مواطن يريد أن يوكل محاميا ليقدم لـه شكوى في وكيل نيابة ولما سئل عن السبب قال إن وكيل النيابة ضربه كفا على وجهه فقوبل من أغلب الحضور ومن بينهم نحن بعدم قبول ذلك القول وباستغراب حصوله وأن فيه افتراء على النيابة غير إنني لسبب من ملامح الفتى قررت أن أسأله عن اسم وكيل النيابة الذي يتهمه ومن ثم ذهبت إلى وكيل النيابة وكانت تربطني به علاقة طيبة وسألته عن الواقعة بعد أد وعدته بأنني إنما أريد فقط أن أعرف الحقيقة ولن أتخذ فيها أي إجراء ففاجأني ولنقل صراحة بأنه أذهلني بالقول “نعم “لقد ضربته لأنه ابن “إل؟ “اعترف أمام الشرطة وأنكر أمامي فضربته إذن السيد وكيل النائب العام بدلا من أن يحقق في المسألة ويتوصل إلى حل لغز اعتراف المواطن أمام مأمور الضبط وإنكاره أمامه والذي سينتج عنه بالقطع جريمة اعتداء على متهم وإكراهه للحصول على اعتراف ويتخذ من ثم الإجراء القانوني اللازم نجده يعترف بأنه اعتدى بالضرب على المتهم لمجرد أنه أنكر أمامه ما كان بالطبع قد أجبر عليه أمام مأمور الضبط.- للمعلومية فقط – وكيل النيابة هذا هو الآن بمكتب النائب العام ملحوظة كان يمكننا أن نقدم صورا وأمثلة من القضايا كما هو الشأن في عدم تحقيق جرائم الإكراه التي تتم تحت سمع وأحيانا بصر النيابة والتي وصل الأمر فيها إلى أن أذن مدير نيابة ابتدائية ومعه رئيسها للطبيب الشرع إلى إجراء الكشف على شاكية تحت التخدير التام ([78]) غير أننا رأينا أن نورد هذه الصور سواء من مشاهداتنا أو من مشاهدات بعض زملائنا لغيابها عن الكثيرين.
ب / اعتماد ثقافة لا تليق بهذا الجهاز المحترم:
القصة أو الحادثة أو الرواية الثانية هي بينما كنت واقفا داخل ردهات إحدى النيابة الجزئية أنتظر دخول موكلي لحضور التحقيق معه _ كان ذلك عندما كنت أحضر التحقيق أما اليوم فلم يعد ذلك ممكنا لما تعرفون من ثقافة سائدة لدى سلطات التحقيق بحبس المتهم إن ستصحب معه محاميا – وإذا بي أسمع والزميل الذي معي وهو بالمناسبة كان عضو نيابة ثم قاض سابق وهو الآن محاميا سيادة عضو النيابة المحقق وكان من الذين يمتلكون صوتا “جهوريا “يسبُّ بالأب والأم والشرف أيضا المتهم الذي يحقق معه في جريمة قد لا يكون ارتكبها فعلا.
ج / الانحياز شبه المطلق لتصديق مأمور الضبط:
أ / عن هذه الطريقة أقول بينما كنت جالسا بمكتبي وكنت حينها على رأس فرع النقابة العامة للمحامين بالزاوية وإذا بالهاتف يرن وعلى الطرف الآخر صوت فتاة تسألني هل أنت المحامي فلان قلت نعم فقالت أريد أن أسألك سؤالا وأريد لـه جوابا صادقا وصريحا قلت تفضلي قالت أنا طالبة في الجامعة سنة ثالثة تربية وبينما أنا ذاهبة في الطريق قابلني جار لي فسألته عن أمر يعنيني وإذا بأعضاء البحث الجنائي يأتون إلي ويمسك أحدهم بيدي بقوة يريد أن يدخلني سيارتهم بحجة أن وقوفي معه يشكل مساسا بالآداب العامة ولما رفضت ودفعته بقوة تقدم إلى رئيسه بشكوى ضدي وقبض علي وأخذت أقوالي وأحلت إلى النيابة وهذه كلها أمور هينة فسألتها مباشرة فما هو غير الهين قالت ما حدث في النيابة في النيابة يا أستاذ شُتمت وأُهنت وقيلت لي ألفاظ لم أسمعها حتى من متسكعي الشوارع فهل هذا يجوز من الناحية القانونية هل يجوز لوكيل النيابة أن يشتمني أو يسبني أو نحو ذلك قالت ذلك والله وحده يعلم حالتها وما كانت تمر به من ألم وغصة في الصوت والنبرات ويشهد الله أنني اعتذرت لها عما حصل ولكن دموعها كانت أسرع من أن تُكمل المكالمة.
د / التغاضي عن جرائم مأمور الضبط في الإكراه:
وذلك بعدم التحقيق فيما يتم وبصورة عمدية من بعض مأموري الضبط على المتهمين ويمكنني أن أعطي عدة أمثلة على ذلك ولكنني سأختار فقط مثلين محددين لقربي من أحداثهما:
أ / في إحدى جرائم القتل في مدينة طرابلس اتُّهم مواطن هو بالمناسبة جار لي في السكن وتربطني به صلة مصاهرة أيضا مع آخرين بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وتشويه الجثة وتقطيعها وذلك بأن استدرَجّ هو وآخرين المجني عليه رحمه الله في مركبة نوع رينو خمسة من مقهى العجيلات بطرابلس بعد أن التقوا في مقهى الريحانة بالزاوية ثم أخذوا المغدور إلى إحدى الغابات وهناك أتموا جريمتهم الشنعاء فدفع هذا المسكين بأن أقواله التفصيلة والمفصلة لكيفية استدراج المجني عليه والغدر به إلى غير ذلك مما هو ثابت بالأوراق كانت بسبب الإكراه الذي لم يستطع لـه تحملا وأنه لم يكن موجودا ليس بمسرح الجريمة فقط بل لم يكن موجودا على كامل التراب الوطني حيث كان في شبه إقامة تامة مع عمه الطبيب الذي كان يقيم مع أسرته بمدينة روما تحديدا في إيطاليا وذلك قبل شهور من وقوع الحادثة وبعد أشهر على تنفيذا وفقا للتواريخ التي ذكرت لـه بالمحاضر وقدم جواز سفره ليدلل على صدق قوله وما ذكره بشأن الإقامة بروما إلا أن سيادة الأستاذ المحقق والذي كانت تربطني به – بالمناسبة أيضا – صداقة من أيام الدراسة في مصر العزيزة رفض تصديق تلك الأختام بالقول بأن تلك الأختام يمكن الحصول عليها بسهولة ورغم أن هذا الأمر في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كان مستحيلا لظروف البلد والإدارة والتي كان حالها أفضل بكثير من اليوم وهو ما يعنى بالضرورة أن ما توهمه سيادته لم يكن سليما ولا بالصورة التى ذكرها من السهولة وحتى لو سلمنا بذلك في إمكانية الحصول على أختام الإدارة الليبية فمن المستحيل أن نسلم بذلك في شأن الأختام الإيطالية ولكن الثقة المفرطة في مأمور الضبط وفي تصرفاته وإجراءاته والتي تكاد أن تصل إلى حد القداسة أبقت على هذا المسكين أياما وليالي أخرى من الحزن والظلم والقهر والذل ولم يحل بين المسكين وتقديمه لمحكمة الجنايات للحكم بإعدامه لبشاعة الجريمة وطريقة تنفيذها إلا تنفيذ أهله لنصيحتي بأن يتوجوا إلى أمن الدولة في تلك الفترة ليحضروا منها ما يفيد مغادرته الوطن في تلك التواريخ المسجلة بجواز سفره فعلا وهو ما كان فتم التقرير من الغرفة بألاّ وجه في الدعوى بناء على تلك الإفادة لصالحه الغريب في الأمر أن النيابة بما فيها صديقي العزيز نسي أمر كل ذلك الإكراه وما تعرض لـه المسكين من تعذيب وإذلال للنفس والجسم ([79]).
ب / أما ثالثة الأثافي فهي أنه في تحقيق تجريه النيابة العامة بمكتب البحث الجنائي الزاوية قام أحد الزملاء المحامين بتسليم موكله شقيق المتهم وذلك لسيادة رئيس النيابة شخصيا ([80]) وكان هذا المسكين سليم الجسم فكان أن أثبت الطبيب الشرعي بعد طلبٍ وخصامٍ من دفاعه بإحالته على الطبيب الشرعي تعرضه أي المتهم المسلَّم سليما معافى إلى سيادة الأستاذ رئيس النيابة أثبت الطبيب الشرعي تعرضه للصعق بالكهرباء ويكون عليكم أن تتصوروا ما تم دون ذلك الملفت للنظر والمضحك المبكي أيضا أن هذا الإذلال الذي لحق بالمتهم وذلك الصعق بالكهرباء لم يكن لغرض أن يعترف بجرمه كما جرت العادة في الإكراه الذي يمارسه مأمور الضبط بل كان ليعدل المتهم على اعترافه بالجريمة رغم أنها جريمة قتل عمد وذلك حتى تتمكن النيابة العامة من قيد الاتهام في حق أخيه وحده ولتكفي نفسها هناء البحث عمن الشريك ومن الفاعل وليت الأمر يقف هنا في هذه القضية بل وهو أمر ملفت للنظر أنه حتى بالرغم من الشكوى لسيادة النائب العام إلا أنه لم يتخذ أي إجراء في شأن الإكراه الذي مورس على المتهم حتى هذه اللحظة بل ونظرت الدعوى وصدر فيها حكم وأعيدت من العليا ولم ينظر بعد في طلب الدفاع رفع الحبس الانفرادي أما ثالثة الأثافي حقا في هذه القضية فهي مذكرة وكيل النيابة الخاصة بالرد على طلب أحد الزملاء عرض موكله الذي سلمه شخصيا لرئيس النيابة العامة وتعرض رغم ذلك للإكراه الذي وصل إلى حد الصعق بالكهرباء والمعنونة “مذكرة بالرأي في القضية المشار لرقمها سلفا ردا على طلب محام بشأن عرض موكله المتهم على الطبيب الشرعي “وكيف برر فيها سيادته جواز حصول الإكراه ومن بين ما جاء في هذه المذكرة قول سيادته “وقد تبين لي من خلال الأوراق أن طلب المحامي في غير محله وأرى عدم الاستجابة له أو بالأحرى عدم تلبيته للأسباب الآتية 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8 مباشرة النيابة العامة التحقيق مع المتهم الثالث – محل الشكوى – بفترة وجيزة من تسلينه لرئيس النيابة، بالأحرى فور وصوله إلى مكتب البحث الجنائي وهو المكان الذي يتواجد فيه وكيل النيابة المحقق والذي كان يباشر التحقيق في الواقعة موضوع الاعتراف “ولو جارينا هنا سيادته بحصول الاعتراف المطلوب أمام النيابة كما جاء على لسان سيادته فالسؤال الذي لا نعتقد أن له إجابة هو ما الداعي إذن لهذا الإكراه لقد تحصلتم على الاعتراف وهو كما تقولون أمام النيابة العامة فلماذا إذن هذا الإكراه والذي وصل إلى حد الصعق بالكهرباء ومن ثم يبرز سؤال أهم لماذا امتنع وكيل النيابة عن العرض رغم أن ما بين يديه جريمة يعاقب عليها القانون لماذا ولن نزيد؟ عن هذه اللّماذا؟.
ج / النزعة إلى الحبس الاحتياطي: الحبس الاحتياطي كأصل وكقاعدة هو مجرد إجراء وقائي للحيلولة دون تأثير المتهم في مجريات التحقيق أو هكذا عُلِّمنا على الأقل وبمعنى آخر هو استثناء على الأصل ولذلك فإن الإسراف في الحبس الاحتياطي هو مساس بهذه القاعدة ومسألة تحول الحبس الاحتياطي في الواقع الليبي اليوم إلى عقوبة أو على الأقل شبه عقوبة كاملة مسألة لا تحتاج إلى أن ندلل عليها أو حتى أن نعرف بها فلا يمكن أن ينكرها حتى المكابر فمدد الحبس الاحتياطي في تعديلات قانون الإجراءات الجنائية خير سند ودليل لنا على ما نقول وندعي ولكن ما سنقوله يتعلق برغم هذه المدد والطويلة للحبس الاحتياطي والتي جاءت على عكس ما يتمناه الفقه في بلادنا ببعض ما يقوم بعضا من أعضاء النيابة وكأنهم لا تكفيهم هذه المدد فيقومون بالتحايل عليها لإبقاء المشتبه به أكثر فترة ممكنة على ذمة الحبس الاحتياطي. من هذه الطرق مثلا: ما يقوم به بعض أعضاء النيابة من إخفاء نتائج العينات وبعض التقارير الطبية توصلا لإبقاء المتهم في الحبس الاحتياطي بإطالة مدد التمديد بل ووصل الأمر في بعض النيابات وتحديدا لدى مدرائها إلى حد التعامل مع الأعضاء الجدد وفقا لطريقة صارت عرفا وقاعدة مشهورة لا ينكرها إلا مكابر أيضا وهي العمل بطريقة أو قاعدة “هذا “إحبسه وهذه أفرج عنّه “هذه القاعدة الخفية التي وللأسف تربى عليها أجيال متتالية ومتوالية حتى صارت عرفا لا غنى عنه ولا بديل من استخدامه وهو أمر قد ترتب عليه عدم ترك المجال للمحقق في أن يعمل عقله فيما هو موجود بالأوراق بحيث صار الانطباع الأول لعملية الحبس الاحتياطي اليوم من مجرد رخصة مقيدة بظروف وشروط وقرائن لا يتم الالتجاء إليها إلا بتوفر مسوغاتها القانونية إلى فرصة يتحفز العدد الأغلب لاصطيادها وكأنما الأصل هو الحبس وقيد الحرية والفرع أو الاستثناء هو الإفراج.
د / خداع المتهمين: هذه الطريقة تتم بقيام بعض أعضاء النيابة العامة بالتحقيق داخل مكاتب المكافحة أو أقسام البحث الجنائي دون إعلام المتهمين بأنه يتم التحقيق معهم من النيابة وذلك بغرض إبقاء المتهم تحت طائلة الرعب والخوف من هذه الأجهزة والاستفادة من بقاء المتهم تحت تأثير ذلك الذل والخوف من الإكراه الذي مورس عليه من قبل تلك الأجهزة وهو الأمر الذي من المفترض قانونا وعدالة أنه يشكل جريمة يتعين قانونا قبل عدالة أن تقوم النيابة العامة بالتحقيق فيها لا أن تبقي المتهم تحت سلطان ذلك الرعب الذي تعرض لـه في تلك الأماكن وعلى يد من يعمل فيها. وكذلك قيام بعض الأساتذة وكلاء النائب العام وفي جرائم قتل عمد تحديدا بتقديم المشروبات مثل الشاي والقهوة للمتهمين والدخول معهم في أحاديث شخصية أو جانبية مطولة بغرض استدراجهم عند أخذ أقوالهم وذلك بعد دفع دفاعهم لترك حضور التحقيق معهم والذي يزيد الأمر صعوبة وحتى عدم قدرة على الفهم والاستيعاب هو عدم الإفراج من القضاء عند الدفع بذلك بجلسات التمديد وحتى المحاكمة في أحيان كثيرة أيضا رغم أن ذلك يمس مشروعية الدليل وينال من مصداقيته.
هـ / المعاملة السيئة للدفاع أو “اختفاء ثقافة الدفاع “وانتشار ثقافة كُرهِهِ وعدم اعتباره شريكا أساسيا في مسألة العدالة:
مع أن المحكمة العليا تقرر بأن حق الدفاع حق جوهري بل “ومن أركان عدالة الاتهام والإدانة يوفره المتهم لنفسه إن استطاع ويتولاه عنه المجتمع إن قصر “([81]) إلا أن اختفاء ثقافة الدفاع والمعاملة السيئة للمحامين والرغبة في معاداتهم حدّث فيها ولا حرج وقل فيها ما تشاء من تركِهِ إلى آخر أوقات الدوام في انتظار التحقيق أو حتى التمديد مع موكله ثم العدول عن القيام بذلك الإجراء إلى عدم تسهيل الاطلاع على الملفات الموكل فيها إلى اشتراط تقديمه طلبات للاطلاع وإلزامه بدفع رسوم على ذلك ما أنزل الله بها من سلطان وأحيانا في كل اطلاع إلى منعه الحق في تصوير المستندات والأحكام تحديدا والتي وصل عدد صفحات بعضها إلى مأتين وأربعين صفحة ( [82] ) إلى عدم الاستجابة لطلباته وخاصة في العرض على الطبيب الشرعي لإثبات الإكراه أو طلبات الإفراج “المبررة “ودون حتى بحث دفوعاته بهذا الشأن ونحو ذلك ([83]) والتي وصلت وبكل أسف ومرارة إلى حد استغلال بعضٍ ممن ليست لديهم ثقافة الدفاع واحترام الآخر إلى تمرير ثقافة كرهِ الدفاع ومعاداته وإساءة معاملته في مكان من أكثر الأماكن أهمية والتي يفترض بها إرساء ثقافة الدفاع وتقدير رجاله وذلك أثناء المحاضرات التى يلقيها ذلك البعض على طلبة تلك المؤسسة القضائية فتصوروا معي كيف سيكون الحال وهؤلاء هم قضاة ووكلاء النائب العام في المستقبل كيف سيتعاملون مع الدفاع وكيف سيحترمونه وقد شُرِّبوا ثقافة كُرهِهِ وعدم الاعتراف به شريكا أساسيا في معادلة العدالة وغرست تلك الثقافة الغير لائقة في عقولهم ومن أساتذة عاملين بالقضاء بل وصل الأمر في أحد محاكم غرب ليبيا إلى أن قال أحد القضاة لزميل محام كان قد استدعاه زميل دراسة يعمل قاضيا بهذه المحكمة للسلام عليه وسؤاله عن حاله حيث قال أحد القضاة الحضور وقد رأى وسمع زميله القاضي أيضا يستدعي المحامي إلى المكتب لعلاقة الزمالة السابقة على الأقل – أننا لدينا تعليمات بعدم إلقاء التحية على المحامين الخواص أو حتى رد السلام عليهم – ما هذا الذي يجري وفي بيت العدالة والعدل حقيقة لست أدري؟ ([84] ) وإذا سألت عن سر هذه المعاملة السيئة قيل لك أن بعض المحامين “سيِّئين “لا يستحقون معاملة جيدة أو حتى أن يستجاب لهم – ونحن ورغم تحفظنا الشديد على هذا القول وذلك التعبير إلا أننا لا نراه مبرِرا حتى لبعض ما يحدث – ذلك أن الوازرة لا تزر وزر أخرى هذا من ناحية ومن ناحية ثانية وبحسب التعبير القانوني “العقوبة شخصية “ولذلك فإن معاملة الأغلبية بسوء سلوك الأقلية أمر غير مقبول ويخالف العقل والمنطق فوق أن حسن معاملة الدفاع أمر يوجبه القانون وتقتضيه حسن المعاملة وعليه فإن اختفاء “ثقافة الدفاع “وانتشار ثقافة كُرهِهِ مسألة تستوجب التوقف والدراسة قبل أن تستفحل وتستعصي على الحل وحتى “لا يتسع الخرق على الراقع”. فقد وصل الأمر إلى ما يشبه التلذذ بحبس الأساتذة المحامين وإلقائهم في السجون بسبب وبدون سبب بل وصل الأمر في واقع الحال إلى مشهد لا يخلوا من الطرافة المحزنة والغرابة المبكية المؤلمة فقد صار التكسب من مهنة المحاماة عندا كسبا غير مشروع في حين أن التكسب من المخدرات والرشوة في كل جرائمها ليست كذلك فتجد المحامين لدى أدنى هفوة لهم وقد لا يكون الجانب الجنائي فيها متوفرا أساسا يُتهمون بالتكسب غير المشروع في حين يقدم أباطرةٌ في المخدرات والمرتشين لا يقيد ضدهم هذا الاتهام أليس هذا في القياس غريب؟ أتكون مهنة المحاماة وسيلة للكسب غير المشروع ولا تكون المخدرات والرشوة وغيرها مما يدمر المجتمع وسيلة لذلك؟ أيتهم المحامي بالكسب غير المشروع في مال جمعه بكده وعرقه وتعبه ولا يقدم مخرب عقول ومفسد أجيال جمع ماله من تجارة السموم لذلك ننبه وبشدة أنه ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة قبل أن تزداد الهوة اتساعا والمضحك المبكي والمخجل المحيِّر أن المحامين الليبيين يترافعون أمام المحاكم التونسية دون قيد أو شرط عدا ارتداء رداء المهنة في حين أنهم لا يستطيعون دخول المحكمة العليا الليبية في عهد حملة الشهادات العليا إلا بعد أن تسجل بياناتهم من واقع بطاقاتهم المهنية لدى سيادة الشرطي الذي هو أول من يقابلك عند دخولك وأنت المحامي إلى مقر المحكمة العليا؟؟؟ ([85]).
ثانيا/ في القضاء:
حقيقة يحتار المرء من أين يبدأ هذه الأمثلة في المشهد القضائي ليس بسبب من كثرة تلكم الأمثلة فقط ولكن لعمومها في أغلب القضاء وسواء أكان ذلك في القضاء كقضاة أو في القضاء كسلطة وإدارة أو حتى في القضاء كدرجات محاكم من جزئية إلى ابتدائية إلى غير ذلك ولعل في التفصيل الآتي بعض الإيضاح لما نقول:
1 / استغلال المنصب لمخالفة القانون:
كنت في كتابة سابقة قد تحدثت على الندب في قانون نظام القضاء وأثره على تراجع المشهد القضائي كما أشرت إلى ذلك سلفا وأراني الآن مضطرا للإشارة إلى ذلك ثانية ولو من قريب فبسبب من هذا الندب يتصرف بعض المستشارين المندوبين لرئاسة محاكم ابتدائية وكأن المحاكم صارت إرثا لهم يتصرفون فيها كيفما يشاءون دونما مراعاة للقانون وأحكامه ففي إحدى هذه المحاكم الابتدائية يتصرف المستشار المنتدب لرئاستها بطريقة لا تكاد تمت للقضاء بصلة ففوق قيامه بعملية تحديد مواعيد الجلسات – وهذه قد نقبلها لـه وإن على مضض لسريانها في عدة محاكم – يقوم بالآتي: تقدم لـه صحيفة الدعوى لتحديد موعد جلسة ويشاء القدر أن تكون الدعوى مرفوعة على شركة من الشركات هنا يقوم بالقبض على صحيفة الدعوى ويطلب إلى “المحاميات “تحديدا أن يرفقن سند وكالتهن وبعد رضوخ المحاميات لذلك وإرفاقهن لتوكيلاتهن لا مانع من أن يدخل سيادته معهن في نقاش عن صحة هذه التوقيعات واختلاف أرقام البطاقات الشخصية لبعض الموكلين عن الآخر والطلب بإحضار “البادجات “أي تعاريف العمل ونحو ذلك مما لم يأمر به عرف ولا دين وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل إنه عندما قامت إحدى هذه الزميلات بشكواه إلى إدارة التفتيش قام بحفظ توكيلاتها في خزنته بالمحكمة عندما خرج إجازة وعندما عاد من الإجازة وطالبته الأستاذة بتسليمها الصحيفة والتوكيلات لم يجد غضاضة في أن يصرح لها بما تضيق به نفسه من قيامها بما يفرضه عليها سلوكيات مهنتها وآدابها وقبل كل ذلك وبعده احترامها للقسم الذي أدته لممارسة هذه المهنة – التي يبدوا أن ثقافتها اليوم صارت بحاجة إلى توضيح وإلى دفاع عنها أيضا إذ من سخرية القدر حتما أن يحتاج الدفاع إلى من يدافع عنه خاصة ضد أهل البيت وأفراد الأسرة الواحدة – وذلك بسبب شكواها ضده إلى التفتيش القضائي مهددا إياها بأنه سيحقق معها بل وقام فعلا بتكليف أحد الأساتذة القضاة بالتحقيق معها فهل هذا التصرفات تستند فعلا إلى القانون؟ ألا يعد ذلك اختلاقا لجريمة -؟ هذا بفرض أنه سينتج عن التحقيق جريمة طبعا – ألا يمنع القانون ذلك؟ ألا يأبى القضاء الأخذ بدليل أتـى عن هذا الطريق؟ إنني بهذه المناسبة أدعو هذا الرئيس ومن على شاكلته بل وكل رجالات القضاء ومأموري الضبط وقبلهم المحامين للاطلاع على تلك الدرر المتعلقة بواجبات مأمور الضبط ومشروعية الدليل والتي أرستها محكمتنا العليا وأشاد بها الفقه المصري ([86]) وهو ما لم يخرج عنه الفقه والقضاء الحديث المصري منه والليبي في اعتبار مشاهدة مأمور الضبط للجريمة من خلال ثقب باب المنزل تبطل الدليل المستمد من تلك المشاهدة ([87]) وهو عين ما قضى به “الفاروق رضي الله عنه وأرضاه”.
هذه التصرفات… ومثلها مما لا صلة لـه بالقضاء ولا بالعمل القضائي هو ما دفع بعض الزميلات تحديدا واللائى كانت تمتلكن الجرأة لتقول لهذا الرئيس هذه ليست من طبيعة عملك أو من مسئوليتك وأن تصرفك هذا يعد “جهلا بالقانون “وفوق ذلك نجد هذا الرئيس المنتدب حتى عندما دخل سيادته في إجازته السنوية منع المحضرين من تسليم الصكوك للمحامين إلا بعد عودته من إجازته وبإذنه فوق أنه لا يمكن أن يسلم صك خاصة في المصاريف إلا بعد إحضار توكيل من محرر عقود وفي تاريخ لا يجاوز الستين يوما على تقديمه – طبعا في هذا الشأن صدرت أوامر مكتوبة – ([88]) هذا الرئيس أحال أحد كتاب محكمته على النيابة العامة للتحقيق معه عاملا على حبسه لا لشيء إلا لأن الكاتب المسكين قد غاب يوما واحدا عن العمل فهل صار الغياب عن العمل بحجة أو بدون حجة جريمة يعاقب عليها القانون؟ ([89]) أما الأمر الأكثر غرابة والمستعصي على التصديق فعلا فهو أنه في إحدى الدعاوى العمالية قام بتوجيه استدعاءات للمستشكل ضدهم من العمال ليسألهم بل وليحقق معهم كتابة هل قاموا بتوكيل المحامي فلان عنهم في هذه القضية أم لا ([90]) ليس هكذا فحسب بل عندما أجابوا بنعم جادلهم في إجابتهم وطلب إليهم أن يقوموا بالتوقيع أمامه ليطابق توقيعاتهم علما بأنـها دعوى “فرعية “والدعوى الفرعية كما يعلم الجميع يملك المحامى الحق في رفعها باسم موكليه ولصالحهم بمقتضى توكيله في الدعوى الأصلية وأحكام المحكمة العليا في هذا الخصوص معلومة لكل مطلع ومتابع لأحكام هذه المحكمة.
2 / التضييق على الدفاع واختفاء ثقافة الدفاع هنا أيضا:
بدلا من احترام الدفاع وتقديره ومعاونته والاستعانة به للوصول للحقيقة طلبا للحق وروما للعدالة تقوم بعض هيئات محاكم الاستئناف بالتضييق على الدفاع بإلزامه بتقديم توكيل جديد بالدفاع عن موكليه حتى لو كان الاستئناف معلنا إلى مكتبه وترفض توكيله رغم النص في هذا التوكيل على متابعة الدعوى بداية واستئنافا ([91]) وربما حتى عُليا في بعض التوكيلات وليس هذا فحسب بل تذهب بعض الهيئات إلى الكشف عن التوكيل المودع أمام محكمة البداية والبحث فيه عن وجود الدمغة من عدمها فإذا كان ليس فيه دمغة سلمت التوكيل للدفاع طالبة إليه أن يحضره في جلسة أخرى متوفرا على الدمغة وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل حتى لو أراد الدفاع ورضوخا لرغبة المحكمة تلك أن يلصق الدمغة بالجلسة فإنها ترفض ذلك وتصر على التأجيل “للتدميغ “إن صح التعبير. أما ثالثة الأثافي في هذا الشأن فقد وصل الأمر إلى أن قام أحد القضاء برمي حافظة المستندات على الدفاع عند تقديمه لها بالجلسة أمام الحضور من المواطنين وجمع من زملائه وزميلاته ([92]) وختام هذا القول وصل الأمر إلى حد إعادة دعاوى عمالية للمرافعة لغرض أن يقوم الدفاع بوضع الدمغة عليها ([93]).
3 / استخدام التقنية في غير موضعها:
التقنية بحسب الأساس والغاية قد جعلت للتسيهل على الإنسان ولتطوره والاستفادة منها في كل ما يعود عليه بالنفع والتقدم والرقي والتطور ولاختصار الوقت والجهد أيضا سواء في القضاء أو في غيره ودخول الحاسوب إلى القضاء كان من وجهة نظرنا على الأقل على هذا الأساس غير أنه بدلا من الاستفادة من التقنية في الرقي بمستوى الأحكام وتقوية أسبابها نجد بعضا من الأساتذة القضاة يقومون بكتابة أسباب الحكم بطرق غير الطرق المتبعة أو المعروفة وذلك باستغلال الحاسوب بنقل رسوم شعار العدالة وكتابة بعض الآيات القرآنية داخل الصفحات وبين الأسباب وذلك بطريقة إظهار هذه الرسوم وتلك الآيات الكريمة كخلفية لأسباب الحكم وفي ذلك تشويه للأسباب علاوة على ما فيه من إساءة إلى “الآي الكريم”.
4 / الجهل المفرط بالقانون:
هناك بعض الأمور يحار الإنسان تحت أي وصف أو عنوان يضعها وقد يكون العنوان هو أقرب التسميات الممكنة لها من هذه الأمور والتي يصعب حتى تخيل حدوثها ناهيك عن تصنيفها تحت أي بند أو عنوان ومع ذلك وقعت في القضاء الليبي الحالي من ذلك:
أ / اعتماد الإكراه وسيلة تربوية مشروعة لمأمور الضبط فقد اعتبرت إحدى دوائر محكمة استئناف طرابلس أن الإكراه الذي يمارسه بعضا من مأموري الضبط العاجزين عن القيام الحقيقي بمهام وظيفتهم والفاشلين في القيام بمهامهم – ورغم أن ذلك يعني من بين أهم ما يعنيه أن القبول به هو بشكل أو بآخر عبارة عن دعم من القضاء والنيابة لشرطي فاشل وإضفاء للمشروعية على جريمة تعذيب انبنت على حقيقة فشل – جزءا لا يتجزأ من مهام عملهم حيث وصف تلك الجريمة بأنها “نوع من التربية التي يملكونها “([94]). إذن قصور وتقصير وإهمال وفشل في استخدام القدرات والإمكانيات القانونية من الشرطة يقابله تشجيع من القضاء والنيابة والنتيجة هي ضياع حقوق المتهمين وتدجين تصرفاتهم وكسر إراداتهم.
ب / بلغ من الرغبة في التنصل من العمل والهروب إلى الشكلية المقيتة لسهولة الفصل بالاستناد إليها بحق وبدون حق من ذلك “حين دفعت إدارة القضايا الدعوى بعدم الاختصاص النوعي في دعوى نتولى الدفاع عن المدعي فيها كان ردنا على هذا الدفع أنه طالما كان أساس الدعوى مبني على خطأ جنائي من جنحة أو مخالفة فإن الاختصاص ينعقد للمحكمة الجزئية رفعت الدعوى الجنائية أم لم ترفع وسندنا ط / م رقم 367 / 48 ق والطعن المدني رقم 13 / 48 ق فكان رد الحكم علينا بالقول “حيث أن اختصاص المحكمة طبقا لنص المادة 43 / 4 مرافعات ينعقد في حالة الضرر الناشئ عن ارتكاب جنحة أو مخالفة مما يدخل في الاختصاص الجنائي للمحكمة نفسها في حين أن الضرر في الدعوى المنظورة لم يكن ناشئا عن ارتكاب جنحة أو مخالفة وإن ما استند عليه دفاع المدعين بوجود طعن مدني رقم 13 / 48 ق فإن هذا الطعن لا يخرج على ما جاءت به المادة 43 / 4 مرافعات مما يتعين معه الحكم بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى وعلى النحو الوارد بالمنطوق “([95]) في حين كان هذا الطعن بين ذات الخصوم وعلى ذات الوقائع وقد قضى بالاختصاص الجزئي في هذه الوقائع حين رفعت ابتدائيا وهو ما غاب عن الهيئة الموقرة مصدرة الحكم ورغم أننا لم نقدم صورة من الطعن الأخير بالأوراق إلا أن الرد كان كما لو أن الحكم قد اطلع على المبدأ وهو ما لم يتحقق حيث لم ينشر الطعن بعد كما لم يقدم بالجلسة كما أشرنا.
ج / إصدار أمر بضبط وإحضار متهم بعد إعادة القضية من المحكمة العليا وحبسه على ذمة القضية وبعد أكثر من سنتين على تنفيذه لمدة تزيد عن المكوم بها وذلك لعدم حضوره بعد إعلانه بموعد الجلسة لا لشيء إلا ليصدر الحكم في مواجهته حضوريا.([96]).
د / عدم قبول الدعوى في مواجهة المحضر في دعاوى إشكالات التنفيذ فقد جاء في أحد الأحكام “بأن الإشكال غير مقبول بالنسبة للمستشكل ضدهما الأول والثاني – أ / محضر أول محكمة جنزور الجزئية بصفته، 2 / كبير محضري محكمة السواني الابتدائية بصفته – لأنه ليس لهما الشخصية الاعتبارية المستقلة بل هما أداة تنفيذ تابعين لشخص معنوي آخر وبالتالي فلا يصح اختصامهما إستقلالا “([97]) والنص على تقسيط البالغ المحكوم بها في قضايا التأمين على دفعات شهرية وكأنها مرتب شهري وبدون وجود طلب بذلك أيضا.
هـ / وهي ثوالث الأثافي مجتمعة: وليس ثالثته فقط كما يقولون فقد كانت هذا الحكم وفي دعوى مستعجلة وبالنص الحرفي “حكمت المحكمة برفض الدعوى مع إلزام رافعها بالمصاريف والأتعاب بحكم مشمول بالنفاذ المعجل وبلا كفالة “([98]) وإن كان لنا تعليق على ذلك فإننا نقول بأنه لا لزوم لهذا التفضل ممن المحكمة بعدم الكفالة حيث إلزامه بها كان أفضل.
5 / الرغبة الصارخة للتأجيل:
لئن كان اللجوء إلى التأجيل ولأكثر من مرة في السابق يلقى صعوبة في القبول من القضاء فهو اليوم فرصة منتظرة وطلب مطلوب ومستجاب لـه لأبسط الأسباب بل ولأتفهها أحيانا كالتأجيل لتمكين غير الحاضر من الخصوم من الحضور أو لإعداد دفاعه أو لحضور عضو الإدارة أو بعض المحامين رغم صحة إعلانهم وسبق حضورهم ولأكثر من مرة بالجلسات بل وحتى بعد إبدائهم لدفاعهم ودفوعهم بجلسات سابقة ورغم عدم وجد سند لذلك من الأوراق أما حكاية مد أجل النطق بالحكم وكذلك ما اصطلح على تسميته بالتأجيل الإداري فحدث ولا حرج رغم أن هذا التأجيل بالذات لا ينتج عنه إلا إلحاق الضرر بالمتهمين والمتقاضين وعدم الفصل في موضوع الدعوى ومع ذلك ترى هذا الإصرار على التأجيل الإداري وكأن فيه الخلاص للعدالة.
6 / ضعف الأسباب:
لن نتحدث عن عدم إيداع الأسباب أو التأخير في إيداعها فهو أمر صار من الشيوع والانتشار بحيث يكون الحديث عنه نوعا من الترف النقدي حتى وإن كانت نتيجة ذلك قد تصل إلى حد انعدام الحكم ولكننا سنتحدث عن ضعف الأسباب دون الاهتمام بمسألة التأخير تلك أو حتى عدم الإيداع أصلا لأن مسألة ضعف الأسباب في نظرنا تستحق اهتماما أكبر وذات بُعد أدق وأهم، لأنك تستطيع أن تعالج التأخير أو عدم الإيداع بهذا الإجراء أو ذاك غير أنك لا تستطيع معالجة مسألة الضعف في التسبيب إلا بقدر كبير من الجرأة والرغبة في التصحيح وتلك مسألة تستغرق وقتا أطول وجهدا أكبرا. تقول محكمتنا العليا في حكم من مهم أحكامها زمن المجد القضائي الليبي والذي نكاد أن نفتقده اليوم “إن الشارع إذ أوجب على المحاكم أن تكون أحكامها مشتملة على الأسباب التي بنيت عليها وإلا كانت ملغاة – إنه إذ أوجب ذلك لم يكن قصده منه استتمام الأحكام من حيث الشكل بل حمل القضاة على بذل الجهود في تمحيص القضايا لتجيء أحكامهم ناطقة بعدالتها وموافقتها للقانون “([99]) ) فتمعنوا بالله عليكم في هذه الدرر وفي معانيها؟ واسألوا أنفسكم من ثم هل هذه الدرر من المعاني والألفاظ متحققة اليوم في التسبيب القضائي في أغلبه؟. إن ضعف الأسباب اليوم صار ملحوظا جدا بل وأكثر من ملحوظ ورغم أن وجود أحكام المحاكم العليا وآراء الفقهاء في أسباب الأحكام هي زنة لها ومدعاة للثقة فيها إلا أن عدم الاستناد على الفقه ومحاكم النقض بل وحتى على أحكام المحكمة العليا الليبية والتشبث بالرأي دون مبرر وعدم الرد على الدفوع الجوهرية والمستندة على آراء كبار الفقهاء ومحاكم النقض والالتفات على آراء الفقه المبداة في مذكرات الدفاع وعدم مناقشتها أو الرد عليها أو حتى الالتفات إليها دون الاستناد على أية مرجعية صار هو السمة الغالبة لأغلب أحكام القضاء الليبي اليوم وحتى العالي منه رغم سهولة إمكانية الحصول على تلكم الآراء والأحكام فوق أن التعامل مع آراء الفقه ومحاكم النقض تحديدا من المفترض أن يُثري الملكة الفقهية والقضائية لدى القضاة ويزيِّن أحكامهم ويرفع من شأنها.
7 / عدم الالتزام بارتداء الرداء القضائي:
الهيبة القضائية عموما مسألة مهمة ولازمة لاستقرار العدل وانتشار ثقافة العدالة وهيبة الهيئة تحديدا جزء مهم لا ينفصل عن تلك الهيبة العامة لإرساء ذلك المفهوم ولذلك فللرداء القضائي في اعتقادنا دور مهم لإبراز تلكم المكانة وذلكم الهيبة ونحن لسنا ضد اللباس الوطني ([100]) ولكننا نعتقد بأن منصة القضاء ليست مكانا خاصة بالصورة الشعبية التى نراها لدى البض بل هي أرقى من ذلك وأعلى لذلك فإن مما يضعف من مكانة القضاة لدى المتقاضين على وجه الخصوص ويقلل من هيبة القضاء ومكانته في نفوسهم هو عدم ارتداء تلك الهيئات للرداء القضائي خاصة في ظل ارتداء البعض لملابس لا تليق بهيبة القضاء ووقاره ومكانته في نفوس المواطنين سواء أكان زيا وطنيا أم غير ذلك وهو ما يدعونا للمطالبة بإلزام كافة السادة القضاة وأعضاء النيابة بالطبع بارتداء هذا الرداء سواء بقي الرداء بشكله الحالي أم استبدل برداء آخر يضفي هيبة أكثر واحتراما أوفر ووقارا أكبر.
8 / بعض التصرفات الى لا تتفق وكرامة القضاء وهيبته:
مما لاحظناه شخصيا وجود تصرفات وسلوكيات لبعض الأساتذة القضاة لا تليق ولا تتفق وكرامة وهيبة القضاء والقضاة ولا تتفق والمكانة العالية التي نضعهم فيها ولا تليق بذلك التاج الذي نضعه فوق رؤوسهم. من أمثلة ذلك شرب الشاي والقهوة والرد على الهاتف المحمول أو تركه يرن إلى أن يفقد طالب الرقم الأمل في الرد بل وتدخين للسجاير كل ذلك أثناء انعقاد الجلسات.
9 / عدم السيطرة على الكتّاب:
لا نعقد أن أمرا يستحق العناية والاهتمام أثناء انعقاد الجلسات ويضفي عليها هيبة واحتراما أكثر من سيطرة السادة القضاة على الجلسات وحسن إدارتها وأول طريق إلى ذلك هو السيطرة على الكتاب فتصرفات الكاتب مرهونة بشكل أو بآخر بهيبة القضاء والقضاة ومكانتهم واحترامهم وتوقيرهم لدى جمهور المتقاضين بل وبالعدالة من أساسها وصدور تصرفات لا تليق بالجلسة وكرامتها وتتعارض مع تلك المكانة للقضاء في نفوس المتقاضين سواء أكانت ضد الدفاع أو الخصوم أو حتى التصرفات الشخصية ومن الكتاب هي إهانة للقضاء والقضاة بالدرجة الأولى حتى وإن وجهت إلى غيرهم ولذلك فمن المهم جدا أن يسيطر القاضي على الكاتب وعلى الجلسة بحيث يلاحظ ذلك الأمر من المتقاضين قبل الدفاع أما أن يكون القاضي في واد والكاتب في واد آخر فذلك فيه ضرر أيما ضرر ومساس أيما مساس بالعدل والعدالة وبقدر القاضي ومكانته أساسا بل وبكفاءته لهذا المنبر العالي والمحترم المكانة المهيب الجانب. ما جعلنا نقول ذلك هو أن الأمر قد بلغ من السوء مبلغه فقد وصل الأمر في إحدى المحاكم إلى أن تركت إحدى الكاتبات الجلسة منعقدة وذهبت لترد على الهاتف والتصرف الوحيد الذي صدر من القاضي هو أنه وضع يده على خده وأخذ ينتظر “السيدة الكاتبة “لتعود حتى يستمر بالجلسة ([101]) بل وصل الأمر إلى أن قام كاتب آخر بالرد على الهاتف النقال وأمامنا أثناء انعقاد الجلسة أيضا وكل ذلك مساس بالقضاء وبهيبته لا نقبله ولا نرتضيه.
10 / قلة الاطلاع على الفقه وعدم متابعة أحكام المحكمة العليا:
رغم أن وجود آراء للفقه أو أحكام للنقض في أسباب الأحكام هو زينة لتلك الأحكام ومدعاة للفخر والإشادة ورغم سهولة الوصول إلى ذلك كما أسلفنا إلا أن الملاحظ على أغلب السادة القضاء الليبي اليوم هو قلة الاطلاع على الفقه قديمه وحتى حديثه بل وعدم متابعة أيضا حتى لأحكام المحكمة العليا الليبية فالأحكام في أغلبها اليوم تخلوا من هذا أو ذاك فلا وجود لرأي الفقه ولو كان ليبيا في حده الأدنى ولا حتى أحكام المحكمة العليا ناهيك بها باقي محاكم النقض بل وحتى عدم متابعة التشريعات من حيث التعديل والإلغاء ونحو ذلك فقد استغرب أمامنا أحد الأساتذة سائلا هل عدل القانون رقم 10 لسنة 84 بشأن الزواج والطلاق فأجبنا حرفيا “ثلاثة مرات والرابعة في الطريق يا أستاذ “فهل يعقل أن يصل الأمر إلى هذا الحد.
11 / التعالي على الدفاع:
التعالي على الأساتذة المحامين مسألة صارت لافتة للنظر وبتصرفات لا تخطؤها العين من ذلك مثلا: أن هيئات عدة حتى في الجنايات رغم أن الدفاع يؤدي دوره في الاحترام بالوقوف احترما وإجلالا للقضاء إلا أن هيئات عدة إما تجلس وتعلن عن افتتاح الجلسة دون الإذن للسادة المحامين بالجلوس الأمر الذي يربك من تشرب تلك الثقافة تحديدا أو الإذن لهم بطريقة غير وقورة وكأنما هو أمر لغير مرغوب فيه بالجلوس ولا تخفى الطريقة التي نقصدها على القارئ الكريم وغير ذلك كثير كذلك تقليب الأوراق والانشغال عن سماع المرافعة الشفوية بالتشاور مع عضو الهيئة الذي هو عضو اليمين ونحو ذلك ([102]) في الأغلب أثناء مرافعة الدفاع.
12 / إصدار أحد رؤساء المحاكم الابتدائية أمرا برفع حجز تحفظي على سفينة… ورد الحكم في دعوى التعويض بشأنه بالقول “بأن عدم تظلم الحاجز من الأمر يعنى رضاه به” أي بالأمر ([103]).
13 / أما ثوالث الأثافي مجتمعة فهي: قضاء دائرة شرعية مستأنفة باعتماد محضر الصلح الذي اتفق فيه على رجوع الزوجة المطلقة طلاقا بائنا بينونة صغري من المحكمة الجزئية الدائرة الشرعية دون عقد جديد وموضوع الدعوى أن ( ف ) رفعت دعوى تطليق للضرر على زوجها ( خ ) شارحة لها بأنها خدعت وغشت من قبل زوجها وأسرته حيث حضر الزوج ليلة الزفاف بلباس قديم ممزق وتبين لها أنه مصاب بانفصام الشخصية ورغم محاولتها قبول الأمر والصبر على ما ابتليت به إلا أنه أخذ يعتدي عليها بالضرب والسب والشتم والإهانة الأمر الذي دعاها لرفع الدعوى ورغم أن المفترض والقانوني والشرعي والصحيح هو تكيف الدعوى إلى طلب فسخ للعقد للغش إلا أن المحكمة لم تنتبه إلى ذلك وقضت بتطليق المدعية طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى للضرر وأمرتها بالدخول في عدتها بدءا من تاريخ 1 / 7 / 2007 وهذا أمر قد نفهمه إلا أن الغير مفهوم وغير مقبول هو قضاء الدائرة الشرعية المستأنفة بمحكمة الزاوية الابتدائية باعتماد محضر الصلح الذي قبلت فيه الزوجة المطلقة بحكم من المحكمة المختصة وهو طلاق بائن بنصوص القانون ([104]) وأمرتها بالرجوع إلى بيت الزوجية دون أن تنبه المحكمة المستأنف بوجوب أن يقوم بالعقد على المستأنف عليها بعقد ومهر جديدين والملفت للنظر.([105]).
القسم الثالث دلائل التراجع عن الاجتهاد في النصوص
قبل الحديث عن تلك الدلائل لا بد من القول أن هناك ملاحظة مهمة في قضائنا وفقهنا كذلك وهو مسألة الدفع إلى الإحباط بما نسميه “احتكار الفهم”: هذه المسألة ملحوظة في القضاء بل والفقه الليبي أيضا على عمومه بحيث يعطيك المتكلم منهم أنه وحده الفاهم للموضوع الفلاني أو المسألة الفلانية بحيث لا يقبل منك رأيا ولا اجتهادا أو حتى محاولة لإنارة الطريق أمامه اللهم إلا إذا أردفت قولك بمبدأ للمحكمة العليا وهنا سينصت لك لأنك قد أعفيته من مهمة البحث والتدليل ومن ثم سهل لديه بهذا الذي تنسبه للمحكمة العليا الحكم في الدعوى أما غير ذلك من محاولات البحث والاستنباط للتعرف على قصد المشرع وغايته فلا يقبل منك خاصة إذا كنت محاميا حتى لو كنت تنقل عن ذات الإنجيل الذي كثيرا ما ينقلون هم منه ( [106]) ففي قضية اتهمت فيها أسرة كاملة الوالد وولديه الاثنين بقتل المجني عليه دعمت رأيي المتواضع في الوقائع بالآتي:
أ / محاكم النقض الفرنسية والبلجيكية والتونسية والمصرية وكل من الفقهاء رءوف عبيد ومأمون سلامة وغيرهم فكان رد المحكمة على استشهادي بكل تلك القمم حرفيا “أما باقي ما ذكره الدفاع فليس إلا جدلا فقهيا لا ترى المحكمة داع للرد عليه “فهل بالله عليكم يقبل هذا القول؟ لقد قلت في بعض الرد على هذا القضاء أن ترفض المحكمة اجتهاد الفقيهين رءوف عبيد ومأمون سلامة وهما من هما في القانون الجنائي فهذا أمر نتفهمه أو أن لا يعجبها اجتهاد المحامي عبد البارئ فهذا رغم صعوبته على النفس قد نقبله أو حتى أن تلتفت عن النقض الفرنسي والبلجيكي فذاك أمر قد نجد له عذرا بل وحتى المحكمة العليا الليبية وكذا التعقيب التونسية وأن لا تأخذ برأي هذه أو تلك فتلك مسألة يمكن أن نتفهمها ونستوعبها لكن أن تلتفت المحكمة عن محكمة النقض المصرية وهي جزء تاريخنا وحاضرنا بل ومستقبلنا فهذا أمر لا نستطيع له فهما ولا نقبل فيه عذرا.
ب / التكاتف الوظيفي الخاطئ: نظرية أو ظاهرة التكاتف الوظيفي هي نظرية أو ظاهرة معروفة بين مختلف الفئات والطوائف من البشر في مختلف الشعوب أي ليست حكرا على فرد أو طائفة أو حتى جيل ففي أوربا مثلا أجري في ثمانينات القرن الماضي دراسة على وجود هذه النظرية أو الظاهرة بين سائقي المركبات فتبين أن سائق المركبة من نوع معين يفضل إعطاء الطريق لمن يقود مركبة من نفس نوع أو طراز مركبته عن الآخر الذي يقود مركبة من نوع آخر حتى لو كانت الأخرى من نوع أو طراز أغلى وأرفع من مركبته:
هذه الظاهر النظرية يمكن ملاحظتها من خلال الدور السلبي للتفتيش القضائي الذي لم يتخذ إجراء واحدا ضد من تمت الشكوى فيهم من الأساتذة أعضاء الهيئة القضائية بعمومها مهما بلغت أخطاؤهم من الجسامة أو الخطورة بل في الواقع رأيناه يجرم حتى مجرد الشكوى إليه في التصرفات التي لا تليق بالقضاء وبهيبته فعندما اشتكيت إلى التفتيش القضائي في التسعينات سوء تصرفات رئيس محكمة الزاوية الابتدائية التي لا تليق بالقضاء وبهيبته وتتعارض مع تاريخ قضائنا المشرف كان جزائي أن صرت في سابقة لم يعرفها تاريخ القضاء العالمي حيث وجه إلى الاتهام بإهانة الهيئة القضائية لمجرد شكواي في رئيس المحكمة وإلى الجهة المختصة بذلك وهي التفتيش القضائي صحيح أنه تم صدور قرار بألا وجه للاتهام ولكن بعد أن دفعت ألف دينار كفالة بعد أن خفضت بتدخل عدد من الأساتذة الزملاء من المحامين حيث كانت خمسة آلاف دينار وهي كفالة إفراج لم تقرر على أي من كبار تجار المخدرات وفوق ذلك نجد الميل لتكذيب المحامين في الوقائع التي يذكرونها في شكاواهم في حين نجد الدنيا تقوم ولا تقعد وتطبق حتى النصوص المدفونة تحت التراب ضد هذا المحامي أو تلك المحامية لمجرد اتهامه بخطأ بسيط يمكن لو صفت النوايا وحسنت المعاملة أن يعالج دون أن يسمع به أحد – طبعا لا بد من القول هنا أنه في السنة 2010 سمعنا ببعض الإجراءات هنا أو هناك لكنها لا تكفي ولا ترقى إلى المطلوب – فالمخطئ يجب أن ينال جزاءه مهما كان موقعه ومهما علت مكانته فالكل سواسية كأسنان المشط والقضاء هو الحصن الحصين للمواطن والمسئول في الحاضر والمستقبل والقضاة هم ضامنوا الحرية وخليفة الله في أرضه بعد رسله وبأيديهم يبنى المستقبل أو يدمر مضافا إليه عدم قبول دعاوى المخاصمة كان له الأثر الأكبر على المحامين بحيث كان سدا منيعا للتطور والتقدم صعب الاختراق وعاملا قويا للأساتذة المحامين للتقوقع أما للسادة أعضاء الهيئات القضائية فقد كان دافعا قويا لبناء مراكز القوى والسيطرة وهذا في اعتقادنا قد ولَّد لدى الكثير من الأساتذة القضاة وأعضاء النيابة سواء داخل المحاكم والنيابات أو حتى داخل الهيئات القضائية على وجه العموم شعورا بالتحصن عن المساءلة والتنزيه عن الخطأ وذاك بدوره ولّد لدى أولئك أو أغلبهم على الأقل غرورا وشعورا بالترفع والزهو بالنفس وذاك بالطبع يبني حائلا بين الاستفادة مما يقدمه المحامون من خلال دفاعاتهم ومذكراتهم وغير ذلك ويرتب تدهور القضاء إلى الخلف.
دلائل التراجع المذكور:
أولا / في شأن القضاء العادي:
1 / عدم الاجتهاد في مسألة عرض النزاع وانتظار ما يسفر عنه قضاء العليا.
2 / عدم الاجتهاد في المجلس الطبي وانتظار ما يسفر عنه قضاء العليا.
ثانيا / بالنسبة للعليا
أ / مسألة بيت الزوجية وتفسير النص بالمخالفة للقانون وللعقل والمنطق فما ذهبت إليه المحكمة العليا من أن المقصود من النص هو “البيت الذي على ملك الزوج “لا يجد له سندا من الفقه أو القانون وقبلهما الواقع حيث جاء النص بالقول “للمرأة الحاضنة حق البقاء في بيت الزوجية مدة الحضانة وللرجل حق الاحتفاظ بممتلكاته الشخصية. ولا يجوز أن يتخذ البيت أو محتوياته أو جزء منه مقابل للطلاق أو الخلع أو داخلا في تقديرات مؤخر الصداق “( [107] ) فواضح جلي أن المقصود هو البيت الذي نشأت فيه العلاقة واستمرت إلى حين انتهائها بأي وجه أو هو الذي استمرت فيه العلاقة الزوجية ردحا من الزمن بقصد الاستقرار ويعرفه علماء الشريعة الأفاضل بأنه “المسكن اللائق بحال الزوجين المستقل الخالي من سكن الغير المستوف للمرافق بين جيران صالحين تأمن فيه الزوجة على النفس والمال “([108]) والنص واضح في عدم وجود أي قيد على هذا المعنى أو ما يقرب منه حيث المقصود هنا مطلق بيت للزوجية سواء أكان ملكا أم إيجارا أم هبة أو غير ذلك والشرط الوحيد من وجهة نظرنا هو توفر الإقامة فيه بقصد الاستقرار وبالتالي فإن القول بأن المقصود هو البيت الذي على ملك الزوج هو تجن على النص وعلى الغاية منه دون سند خاصة والتشريع الليبي على الأقل في تلك الفترة يمنع تملك الليبي لأكثر من عقار للسكن ويعتبر البيت المؤجر زائدا على الحاجة ولا يمكن الخروج عن الواقع وإذا ما أبحنا هذا الخروج فليكن على كل التشريعات التي تمس بحقوق المواطنين أو حرياتهم ولسنا في حاجة بعد للقول بأن عجز النص يؤيد ما نقول به وأن هذا القضاء قد خالف أحكام القانون المشار إليه بدءا من المادة الأولى وحتى الخامسة والثلاثون.
ب / العدول عن مفهوم الصك المجرم جنائيا: هذا الحكم من الأحكام التي كثر صدورها عن المحكمة العليا خاصة الفترة منذ سنة ( 2000 ) وما بعدها واللافت في هذا القضاء أنه عدل عن حكم صحيح وقراءة سليمة ومفهوم موافق للقانون الخاص والعقل والمنطق إلى مخالفة كل ذلك فبعد أن استبشرنا خيرا بما وافق ما كنا ننادي به وغيرنا من الكثير من الزملاء المحامين بأن الصك الذي يخضع للحماية الجنائية هو ما كان منها مستوفيا لشروط القانون الذي ينظم التعامل بالصكوك وهو القانون التجاري حيث قضت بذلك ([109]) عادت لتقضي بقضاء الدوائر مجتمعة على خلاف ما يراه الكثير من المحامين والفقه عموما قضاء مخالفا للقانون ولروح التشريع.
ج / العدول عن الضرر الموروث ([110]) حيث أسباب الحكم تعطيك انطباعا بأن الحكم المطعون فيه قضى برفض الطلب بهذا الضرر وأن المحكمة متجهة إلى الحكم بأحقية الورثة فيه كما قضت بذلك سابقا ([111]) وعندما تصل إلى المنطوق تفاجأ بأن الحكم المطعون فيه قد قضى برفض الطلب وأن المحكمة العليا تعدل عن قضائها السابق بتأييد هذا الاتجاه بأسباب لا يمكن منطقا وعقلا وقبلهما عدالة أن تؤدي إلى هذا المنطوق بحيث يسطر عليك إحساس بأن الأسباب تستفزك بالانتقاص من قدراتك على الفهم والتخريج واللافت في هذا القضاء تحديدا أن المحكمة كثيرا ما تقتبس عن محكمة النقض المصرية بل كثيرا ما تنقل بالفواصل ودون إشارة عن تلك المحكمة وهذا العدول فيه رائحة القضاء المصري بدليل تأسيس العدول على الرجوع إلى الحكم في طعنين قديمين صدرا في بداية عهد المحكمة العليا ([112]) ومعروف أن للفقه المصري وتحديدا محكمة النقض المصرية دور كبير في ذلك غير أنه لسبب غير مفهوم التفتت المحكمة العليا في هذا القضاء عن عدول النقض المصرية عن ذلك الاتجاه منذ يوم 17 / فبراير 1966 ([113]) وإجازتها الحق في انتقال التعويض عن الضرر الجسدي؟ بقيت مسألة لا بد من ذكرها وهي أن كل تلك الأحكام التي سقناها للتدليل على هذا التراجع العملي صادرة عن المحكمة العليا بدوائرها المجتمعة وهو ما يطرح أسئلة كبيرة وخطيرة؟.
أخيرا… لا يجد الإنسان مبررا واحد للعدول وبقضاء الدوائر مجتمعة والذهاب إلى هذا التضييق في تفسير النصوص والانغلاق والتقوقع على الذات.
القسم الرابع عن المحكمة العليا
الحديث بإذن الله وتوفيقه في شأن هذا الصرح الأشم والقلعة الراسخة سيكون في شقين:الأول عن أسباب التراجع وأمثلة لذلك والثاني هو عبارة عن زيارة سنقوم بها سويا لهذيا الذي كان صرحا شامخا… إن الحديث عن المحكمة العليا ذو طابع مميز ومتميز ورغم أنه ذو نُكهة خاصة إلا أنه ذو شجون أيضا فهذه المحكمة هي بلا أدنى شك صرح ذي تاريخ وذي أمجاد ولذلك فالمحكمة العليا لها في كل قلب وبلد مكانة خاصة عالية مميزة ومتميزة ولتلك الأسباب والمكانة وهذا التاريخ العظيم ليس من السهل الحديث أو الكتابة عنها ناهيك بانتقادها فهي سنام هرم القضاء وذروة الفتوى القانونية إلا أنه ومع كل ذلك ومع كل حبنا واحترامنا وتقديرنا للمحكمة العليا وتاريخها وأمجادها ومكانتها في قلوبنا ولأساتذتها الأفاضل إلا أننا نرى أن لنا الحق في قراءة مسيرتها من حين لآخر وربما حتى تنبيهها إذا ما حادت ولو قليلا عن الغاية من وجودها وذلك طبعا ليس بدافع النقد للنقد بل النقد للبناء وبدافع من حبنا لها وغيرتنا عليها وعلى مسيرتها العطرة وحرصنا على ذلك الموقع الكبير الذي بنته منذ بداية نشأتها وذلك الإرث النير المنير من قضائها والمحكمة العليا صرح يجب أن نفخر به بل وأن نفاخر به أيضا ولعله من المهم هنا ذكر عبارة لأحد رؤساء هذا الصرح وهي من أجمل ما جاء في هذا الشأن والعبارة للأستاذ منصور المحجوب رحمه الله حيث يقول “إن إنشاء المحكمة العليا…. كان حدثا عظيما يجدر بنا أن نفاخر به وأن نعمل جهدنا للمحافظة عليه محافظتنا على استقلالنا السياسي إذ أن إنشاءها يعتبر بمثابة اللبنة الأولى والأساس المتين لمستقبل نهضتنا القضائية والقانونية “([114]) لذلك ومن هذا المنطلق ومن موقع الحرص على ذاك التاريخ وهذا الأمل ومع كل تلك المكانة التى نكنها للمحكمة العليا وذلك التقدير لها ولمسيرتها الخالدة لذلك ولكي نكون منصفي فإنه يتعين علينا سواء إذا ما أردنا أن نتحدث عن القضاء في ماضيه وحاضره ومستقبله أو إذا أردنا أن نتساءل قضاؤنا إلى أين فإنه لا بد من الحديث عن هذا الصرح العظيم أي المحكمة العليا وذلك يعنى ويوجب الموضوعية والواقعية أيضا في التناول خاصة ونحن أمام هذا الصرح ورغم أنه يمكننا بلا أدنى شك أن نتحدث وأن نقدم أسبابا وأمثلة إلى ما شاء الله سواء من حيث التضارب في الأحكام إلى الشدة فيها إلى تراجع ملحوظ حتى في مستوى تفسير النص القانوني إلى تدنى مستوى جمال الصياغة وروعة العبارة ([115]) إلى سرعة العدول على المبادئ إلى غير ذلك إلا أننا هنا سنكتفي بذكر ثلاثة أسباب فقط مما نرى أنه كان لها تأثيرا مباشرا بالحالة التي عليها المحكمة العليا اليوم وبعض الأمثلة الدالة والمؤيدة للتساؤل المطروح “القضاء الليبي إلى أين؟ “لنرى هل يسري التساؤل على المحكمة العليا في حاضرها اليوم أم لا مع التنبيه بأنه إذا ما خصصنا القضاء بغالب الحديث فإن ذلك بالطبع ينصرف إلى النيابة العامة بل وحتى نيابة النقض أيضا.
أولا الأسباب:
سنكتفي هنا بذكر ثلاثة منها كما أشرنا منعا للإطالة واكتفاء بقوة التأثير:
السبب الأول/ استبعاد نظام تداول الرئاسة فيها:
كان نظام المحكمة العليا ينص على أن رئاسة هذا الصرح تكون لمدة سنة واحدة فقط واشترطت للسماح بتولي هذا الشرف مرة ثانية أن لا يكون ذلك على التوالي ([116]) فأي نظام أبدع في هذا الصرح تحديدا من هذا النظام فقط ولهذا رأينا كمّا هائلا من الأساتذة الذين شرفوا بتولي شرف هذا المنصب ([117]) وتلك المكانة كما لا حظنا قوة أحكام ومبادئ تلك الفترة من التمسك بدستورية التشريعات وباستقلالية القضاء ودفاع عنه ومن جمال للعبارة وسلاسة في الصياغة مما أوضحناه في مقالنا المحكمة العليا خمسون عاما المشار إليه سلفا فلن نطيل فيه هنا إذن. غير إنه لما اختفى هذا النظام وصارت رئاسة المحكمة العليا تسند خلافا لما كانت عليه وللمتعارف عليه أيضا فكان الحال غير الحال مما نراه ونشاهده في تضارب أحكامها وسرعة العدول عن مبادئها وتدنى في مستوى العبارة وجمالها وغير ذلك الكثير ويكفي هنا للدلالة أن نشير إلى أن المحكمة العليا وعلى مدى أكثر من عقدين منذ إنشائها وعندما كانت دار بتلك الطريقة الراقية والمتقدمة والبديعة والتي أبدعت تحت لوائها أجمل وأفخر مآثرها لم يصدر عنها حكما واحدا بقضاء الدوائر مجتمعة ناهيك عن العدول عن مبدء من مبادئها في حين أنها وفي فترة قصيرة جدا وهي الفترة من سنة 2000 إلى 2006 فقط قضت في أكثر من عشرة أحكام من قضاء الدوائر المجتمعة من عدول وتحديد اختصاص. ولذلك… فإنني شخصيا لست أجد حقيقة سببا واحدا مقنعا لإلغاء ذلك النظام البديع في هذا الصرح تحديدا والذي كان لـه واضح الأثر في مسيرة محكمتنا العليا وعطائها لما يتميز به هذا النظام من دفع روح التنافس والإبداع بين المستشارين وهو ما نفتقده اليوم.
السبب الثاني/ عدم اعتماد عقلية الفقيه:
إن مما نراه سببا أيضا في تراجع هذا الصرح عن مكانته هو عدم اعتماد عقلية الفقيه عند الاختيار للتشريف بالعمل في هذا الصرح فمن يتتبع قضاء المحكمة العليا في العقدين الأولين من عمرها المديد وربما حتى فيما يجاوزهما بقليل يلحظ وبوضوح تام دور هذه العقلية في تلك الأمجاد التي صنعتها المحكمة العليا في تاريخنا الأمر الذي نعتقد معه جازمين أن نظام تداول الرئاسة بالمحكمة العليا واعتماد عقلية الفقيه لدى المعينين بها كان لـه بالغ الأثر فيما سطرت من ملاحم وما قدمت من جواهر أشاد بها الفقها شرقا وغربا ([118])بل وجدنا أن هناك من الفقهاء من أخذ عنها وإن لم يصرح بذلك في مؤلفه ([119]) تلك هي محكمتنا العليا وهي ليست عندنا مجرد محكمة يمكن أن نعين بها صديق أو زميل لمجرد امتلاكه لهذه الصفة أو تلك فهذه قمة الهرم القضائي ومرءاة تاريخنا القضائي في ماضيه وحاضره ومستقبله كما أنها ليست قريبة حتى القرب من محاكم الاستئناف فهذه محكمة عليا ومن المفترض أن تكون عليا في كل شيء ونحن نجزم بأن محكمتنا العليا كانت في ماضيها العتيد كذلك ونحن بالطبع نرجع ذلك المجد كنتيجة لوجود أساتذة كبار بها هم عمالقة في القانون وفي الفهم يتمتعون بالدرجة الأولى في التعامل مع الأحكام والنصوص بعقلية الفقيه الباحث والمجتهد لذلك فقد تركوا لنا ذلك الإرث المجيد وعليه فإن اعتماد عقلية الفقيه عندنا عند الترفيع للمحكمة العليا تحديدا هو شرط جوهري ولازم والمقصود بمصطلح “عقلية الفقيه “هو أن تكون لدى من يُشرَّف بالعمل في المحكمة العليا عقلية حب الغوص في النصوص والبحث فيها واستخراج ما خفي من معانيها لأن من لا يمتلك عقلية الفقيه لا يمتلك ملكة الاجتهاد ولا القدرة على الاستنباط لأن الفقيه فوق تعامله مع النصوص يتعامل مع الأحكام ولا شك أن استخراج المعاني يحتاج لقدرات خاصة وليس لمجرد عقلية مستشار بمحاكم الاستئناف الذي جرى العمل على اقتصار دوره على سرعة الفصل في القضايا دون محاولة للبحث عما وراء تلك النصوص وإيجاد المعاني الخفية فيها فوق أن الفرق كبير والبون شاسع بين وزن الوقائع وإنزال حكم القانون عليها وبين محاكمة أحكام صادرة عن مستشارين يعدون للمحكمة العليا وبيان أوجه التقصير فيها باستخراج معان من النصوص وحتى الوقائع قد تكون موجودة لكنها قد غابات عن الأساتذة المستشارين في مرحلة الاستئناف ويكفينا قبل هذا وبعده القول بأن هذا يصدر أحكاما وذلك يرسي مبادئ والفرق بين الأمرين كبير وخطير وإذا لم تتوفر لدينا الأعداد المطلوبة من هذه العقلية فيمكن صنعها بتأهيل وتدريب من يلحظ أن لديه الملكة المطلوبة ولديه الاستعداد اللازم من السادة مستشاري محاكم الاستئناف فيعطون دورات مكثفة في كيفية التعامل مع الأحكام والنصوص بالمحكمة العليا ممن تميز بها من السادة المحترمين الذين شرفوا بالانتساب لها قد يكون في كلامنا هذا بعض القسوة لكنه هبنا وتقديرنا واحترامنا لهذا المرفق الكريم هو ما يدفعنا بكل الطرق للمحاولة المساهم على الأقل في إرجاعه إلى المستوى الراقي الذي كان عليه قبل أن يتم إفساده.
لذلك فنحن نعتقد بأن العمل بالمحكمة العليا ليس كمجرد العمل في القضاءولو كان محكمة استئناف كما نعتقد بأن النجاح في إدارة محكمة أو محاكم استئناف أو النجاح كمستشار بها أو بهم ليس هو المقياس الصحيح للترفيع للمحكمة العليا فالعمل بالمحكمة العليا غير العمل بمحاكم الاستئناف وما يجوز في محاكم الاستئناف لا يجوز بالمحكمة العليا بدءا من التعامل مع النصوص إلى كل التفاصيل فالتعامل مع الأدلة أو التعقيب على حكم قاض بمحكمة ابتدائية لا يتساوى بل ولا حتى يقترب من التعامل مع حكم صار عن محكمة استئناف فالأول يحتاج لعقلية مستشار لأنه يتعامل مع حكم قاض سبقه ليصدر حكما جديدا تعديلا أم تأييدا أم إلغاء أم غير ذلك في عملية مراقبة لتطبيق لنصوص معينة محددة على وقائع محددة وعلى هذا في الغالب يقتصر دوره أما الثاني فيحتاج لعقلية فقيه يتعامل مع النصوص روحا ومعنى لأنه في الغالب سيجتهد ويبدع ليرسي مبدءا يجب على القضاء وغيره من الإدارات وغيرها الالتزام به وإتباعه وذلك الفرق هو إلى حد كبير كالفرق بين الإجبار والتخيير وفرقا بين هذا وذاك فحكم الاستئناف نتيجته يمكن غالبا معالجتها أمام المحكمة العليا مهما كانت مخالفة للقانون حيث الطعن يأتي كأمل أخير للطاعن أما نتيجة المحكمة العليا إن لم تكن نقضا فذلك قد يعني الدمار والخراب للطاعن وقد يكون حتى فقدا لحياته فهي باختصار القشة التي قد تقصم ظهر البعير.
السبب الثالث/ الفصل بنظام المقابل المالي:
السبب الثالث يتعلق بمسألة مهمة وإن كانت تمس القضاء بنوعيه العادي والعالي ([120]) إلا أنها بالطبع في المحكمة العليا تكون أخطر وأبلغ أثرا هذه المسألة السبب هي مسألة الفصل في الطعون بنظام المقابل المالي هذه البدعة الكارثة بل ووصمة العار يجب التصدي لها وإلغائها في أقرب وقت لما ألحقته بالمشهد القضائي برمته وبهذا الصرح على وجه التحديد من مآس وأضرار حتى لا تصبح العدالة مدفوعة الثمن وحتى لا تتأذى العدالة أكثر فأكثر ولكي لا نطيل الحديث هنا نحيل من يرغب في الاستزادة إلى مقالتنا المحكمة العليا خمسون عاما المشار إليه سلفا فقد تحدثنا عنها بتفصيل أكبر.
ثانيا الأمثلة
1 / المخالفة الصارخة للقانون… ويتمثل ذلك في:
أ / عدم أخذ المحكمة العليا بقاعد شرعية إسلامية معروفة ومهمة هي قاعدة أن “الأصل يحجب الفرع”. قاعدة أن الأصل يحجب الفرع هي من القواعد الأكثر وضوحا في أحكام الشريعة الإسلامية الغراء بل هي من القواعد التى يمكن أن يقال عنها بأنها معلومة من الدين بالضرورة كما يقال لذلك فإن القضاء برفض الطعن رغم استناد الدفاع في أسباب طعنه على هذه القاعدة دون بحث هذا الادعاء والتأكد من وجوده من عدمه مسألة تستدعي الوقوف والتأمل والبحث أيضا فإذا ما نَعى الدفاع في أسباب طعنه بمخالفة محكمتي البداية والاستئناف لهذه القاعدة فإن الأمر يتطلب الرد ويكون رفض الطعن دون بحثه أمر غير مقبول وغير معقول أيضا بل إن الأمر كان يقتضي بالضرورة واللزوم العقلي بحث هذه المسألة لأنها تتعلق بمخالفة أحكام الشريعة الإسلامية الغراء أولا ولمخالفتها للقانون ثانيا ثم لأنها ادعاء بعدم الرد على دفع جوهري ثالثا وكل تلك الأسباب توجب قانونا وعدالة بل وبما استقر عليه قضاء المحكمة العليا نفسها من وجوب الرد على الدفع الجوهري وإلا كان الحكم باطلا بحث هذا المنعى من الطعن ومع ذلك فإن المحكمة العليا قضت برفض الطعن دون بحث هذا المنعى وهو ما يعد مخالفة صريحة وواضحة ليس للقانون فحسب وقبله بالطبع أحكام الشريعة الإسلامية بل ولقضائها المستقر بشأن بطلان الحكم لعدم الرد على الدفع الجوهري ([121]) ويعد دليلا قاطعا على صحة التساؤل المطروح.
ب / استقر قضاء المحكمة العليا منذ إنشائها على قاعدة مهمة هي “وجوب عرض الورقة المزورة على بساط البحث والمناقشة بالجلسة أمام محكمة الموضوع باعتباره من أدلة الجريمة وإلا توجب الحكم بالبطلان “([122]) وهذه قاعدة مهمة تتفق والسير العادي لطبيعة الأمور ولكن ما يلفت النظر ويقلق النفس هو عدولها بقضاء الدوائر المجتمعة ([123]) عن هذا المبدأ الهام بل المبدأ القاعدة حيث قضت بالتاريخ المذكور بالعدول عما استقر عليه قضاؤها في الطعون المشار إليها وقررت الإدانة على جريمة التزوير حتى في عدم وجود أصل المستند المقول بتزويره ومن ثم حتى بدون بحثه على بساط البحث باعتباره من أدلة الجريمة وهذا العدول حقيقة ورغم تبرير المحكمة لـه بالقول “يضيف قيدا عند إثبات جرائم التزوير لم يدرج به نص في القانون ويخالف المبدأ العام في الإثبات الجنائي……فضلا عن أنه يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب إلخ “يفتح الباب على مصراعيه كما يقولون على الإضرار بعباد الله والدّس لهم والنّيل منهم بل وابتزازهم وهذا العدول يحتاج حقيقة إلى دراسة وافية شاملة ليس هذا موضعها غير أننا نحب أن نشير وبعجالة إلى أن هذا العدول يتعارض مع أبسط وأشهر القواعد في الفقه والقضاء وقضاء النقض على وجه الخصوص وينسفها من أساسها ومن بينها مبدأ وقاعدة “أن الشك يفسر لصالح المتهم “، وقبله تلك القاعدة الذهبية وهي التى تجعلها المحكمة العليا تحديدا شرطا لتَعيُّن القضاء بالبراءة وهي إعمالا للقاعدة السابقة أنه “إذا تشككت المحكمة في صحة الاتهام وجب عليها القضاء بالبراءة “وأن الأصل في الإنسان البراءة وأن الأحكام تبنى على اليقين وليس على الشك والتخمين كما يتعارض ذلك مع المستقر عليه في الضمير القانوني والقضائي بل والإنساني من أن “أن العدالة لا يضيرها إفلات ألف مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها من إدانة بريء “خاصة وأن الغاية الواضحة من هذا العدول كما أوضح العدول هي مجر فرار بعض المتهمين من العدالة “وذلك واضح من القول في العدول “….فضلا عن أنه يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب “فهل المحكمة العليا بعدولها هذا التفتت عن كل تلك القواعد القضائية الفقهية القانونية والمستقرة في الضمير والوجدان القانوني والقضائي وقبلهما الإنساني أم غابت عنها أم صار دور المحكمة العليا هو الوصول إلى الإدانة بدلا من مراقبة التطبيـق الصحيـح للقانون من عدم ذلك أم ماذا؟.
2 / معارضة حجية الأحكام وعدم الاعتداد بها:
رغم أن المحكمة العليا تقرر بأن الحكم الباطل إذا استنفذ طرق الطعن صار عنوانا للحقيقة، وتقرر بطريق التأكيد أيضا أن الحكم إذا صار نهائيا فإنه تقوم قرينة قاطعة على اعتبار هذا الحكم عنوانا للحقيقة ولا يجوز قبول أي دليل لنقض هذه القرينة وإهدار حجيته ([124]) ورغم أنها تعلن وبوضوح تام قاعدة مهمة هي أن “حجية الحكم من النظام العام “([125]) بل وتذهب إلى أبعد من ذلك حيث تقرر وفي قفزة نوعية مهمة إلى الأمام بأن “حجية الحكم تعلو على النظام العام “([126]) هذا النظام العام الذي تعرفه هي أيضا بأنه “كل ما يرتبط بمصلحة عامة تمس النظام الأعلى للمجتمع سواء كانت هذه المصلحة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو خلقية “([127]) إلا أنها لم تعر كل ذلك اهتماما حيث رفضت طعنا استند على الدفع بالاستناد على حجية الأحكام التي هي من النظام العام فلم تحترم تلك الحجية ولم تورد في أسباب حكمها ما يعلل سبب عدم احترامها لحجية تلك الأحكام ([128]) رغم عدم عدولها عما قررت.
3 / عدم الثبوت على الرأي في ذات المسألة:
نعني بهذه المسألة أن المحكمة العليا تعبر عن رأي في مسألة معينة في جلسة وقف النفاذ مثلا ثم تتنصل من ذلك الرأي في جلسة الموضوع ومن ذلك ما قامت به من الإفراج عن الطاعن في جلسة وقف النفاذ ثم قضت بسقوط حقه في الطعن في جلسة الموضوع ([129]) فوق مسألة العدول بقضاء الدوائر المجتمعة خاصة بتلك الوتيرة الحالية لقضاء الدوائر المجتمعة حيث وصل العدد إلى ستة عدول في شهر واحد وفقا للمنشور من ذلك فقط ([130]) وهذا أمر في حد ذاته لافت للنظر بل ومقلقٌ أيضا فأن تقضي المحكمة العليا بقضاء الدوائر مجتمعة في ستة طعون قضاء عدول وفي شهر واحد فهذه مسألة في حد ذاتها تتطلب الوقوف والتأمل والدراسة والحث وهذا ما يدفعنا إلى التنبيه وطلب التأني قبل أن يصير الأمر إلى ظاهرة قد يصعب تداركها.
4 / الإفراط في القضاء بعدم القبول:
من يتابع قضاء المحكمة العليا في العقد الأخير من القرن الماضي وبداية العقد الأول من القرن الحالي يلحظ وبسهولة هذه المسألة بل هذه الظاهرة التى تتمثل في كثرة القضاء بعدم قبول الطعن لسبب وبدون سبب أو لمغالاة في الشكلية والإفراط في تطبيقها ومن ذلك القضاء بعدم قبول الطعن لعدم تقديم صورة من الحكم الابتدائي مهمشا عليها بأنها طبق الأصل رغم وجود التهميشة وذلك بالاعتماد على رأي نيابة النقض دون الاطلاع على الأوراق ([131]) والقضاء بعدم القبول بمقولة أن صورة الحكم الابتدائي ليس مهمشا عليها من “الكاتب المختص “([132]) رغم أنها مهمش عليها من أمين المحفوظات وذلك دون توضيح لمسألة هل ذلك يعد عدولا ولو بغير قضاء الدوائر المجتمعة عن اعتماد توقيع وتهميشة أمين المحفوظات وهو ما سبق الاستقرار عليه وما جرى عليه العمل لعقود عدة وهو المتفق والسير الطبيعي للأمور. بل إن أكثر من ثلثي الطعون التى نظرتها المحكمة العليا على مدى الثلاثة عقود الأخيرة تحمل توقيع وتهميشة “محمد البوعيسي “أمين محفوظات محكمة استئناف طرابلس.
5/ الخطأ المهني الجسيم:
ونظرا لأهمية هذا السبب وخطورته أيضا فإننا سندلل عليه بثلاثة أمثلة:
الأول: وهذا تجب قراءته بترو وتأن كبيرين ليس لأن القضاء العادي لم يتعرض للمسألة بمثل ما تعرضت له المحكمة العليا بل لأن حصوله من المحكمة العليا يمثل انعطافة خطيرة في القضاء الليبي في قمته تحديدا ولسنا بحاجة إلى القول بأنه “إذا ضعفت القمة ضعفت القاعدة فهذه بدهية كلنا يعرفها فالمحكمة العليا الموقرة اعتبرت أن رفع المحامين لدعوى الحسبة لا مصلحة فيه لأحد معتبرة أن المصلحة الخاصة شرط في دعاوى الحسبة وهذه كارثة لأنه إذا كان من أصدر الحكم لا يعرف أن دعوى الحسبة في الإسلام لا تتطلب فيها المصلحة الشخصية فهذه كارثة وإن كان يعلم ومع ذلك اشترطها فتلك كارثة أكبر ([133]).
المثل الثاني: مخالفة صريحة وصارخة للقانون تمثلت في تأييد المحكمة العليا لحكم رغم تعرضه وتعريضه بالشريعة الإسلامية الغراء في أكثر من موضع ورغم كتابة أكثر من صفحة ونصف من أسبابه بلغة غير اللغة العربية رغم أن لغة المحاكم بأحكام المحكمة العليا ذاتها هي اللغة العربية ([134]) وأنا هنا لست معنيا بوقائع تلك القضية من كونها جريمة قتل عمدي توافر فيها أكثر من ظرف لحكم الإعدام حيث قتل فيها شقيق شقيقه ولكنني لم أقبل ولن أقبل أيضا أن تؤيد المحكمة العليا حكما احتوى على كل تلك الإهانات للدين الإسلامي الحنيف وكتبت أكثر من صفحة ونصف من أسبابه بلغة غير العربية.
كان يمكن للمحكمة العليا أن تعيد الحكم ليتم تفادي ذلك فإذا صدر حكم بالإعدام وهو غالبا سيصدر ترفض الطعن أو أن تنقضه وتتصدى هي للحكم وتصدر حكما بالإعدام وينفذ أي بمعنى آخر أنا لست ضد عقوبة الإعدام إن توفرت شروطها وظروف إنزاله وتطبيقها “ولكم في القصاص حيوة يأولي الألباب “ولكن تأييد حكم بتلك المثالب يسيء للقضاء أكثر مما يحسن إليه ثم ملحوظة لا ينبغي تجاهلها لأنها تطرح تساؤلا مهما وخطيرا يتعلق بفهمنا لأحاكم الشريعة الإسلامية الغراء ومدى احترامنا لها كما يتعلق بالتخصص في القضاء ودمجه ويطرح سؤالا أكبر وأخطر هو هل كنا على صواب عندما دمجنا القضاء وبالتالي يجب علينا أن نستمر أم أخطأنا ويتعين علينا بالتالي الرجوع إلى نظام التخصص في القضاء على الأقل بين الشرعي وغيره من أنواع القضاء؟ سؤال لا بد من الإجابة عليه والتوقف عنده أما اللافت للنظر فهو هل الهيئة تتحدث اللغة الفرنسية التي تمت الكتابة بها وبتلك الطلاقة؟.
المثل الثالث: بعد أن كانت في الطعن المدني رقم 469 / 51 ق الصادر بتاريخ 25 / 2 / 2007 المرفوع عن الحكم الصادر في الاستئناف رقم 413 / 97 عن محكمة استئناف بنغازي (( الدائرة المدنية )) بالحكم الذي جرى منطوقه “حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا وفي الموضوع برفضه عادت وقضت بتاريخ 8 / 4 / 2007 في الطعن المدني رقم 520 / 51 ق في الاستئناف رقم 413 / 97 الصادر عن الدائرة المدنية لمحكمة استئناف بنغازي بالحكم الذي جرى منطوقه “….. بنقض الحكم المطعون فيه وفي الاستئناف رقم 413 / 1997 بنغازي بإلغاء الحكم المستأنف وبعدم اختصاص محكمة أول درجة نوعيا بنظر الدعوى “ولا أضنني بعد هذا أحتاج إلى كثير من التعليق فالحكم واضح بين ذات الخصوم وفي ذات الموضوع وأمام نفس الدائرة أيضا وإن اختلفت بالطبع المواقع ولست أدري كيف ستتعامل المحكمة إن رفع إليها طعن لرفع التعارض بين حكميها هاذين؟ فهل ستستمر على اتجاهها الجديد بجواز اختراق ما استقر عليه قضاؤها من تطبيق لقاعد قانونية فقهية على وجه التحديد بتأييد قضائها في الطعن 469 / 51 ق المذكور سلفا الذي لعب في اعتقادنا البعد الإنساني فيه دورا كبيرا وهو التبرير بعدم الإضرار بمصلحة الطاعنين المالية على وجه التحديد وهي مصلحة لا بد من القول أنها ذات بعد اقتصادي أيضا فوق بعدها الإنساني ولو تعارض ذلك مع النظام العام أم أنها ستأخذ بقضائها في الطعن اللاحق المرقم 520 / 51 ق الذي قضت فيه “بنقض الحكم لعدم الاختصاص “في ذات الموضوع وبين ذات الخصوم معارضة بذلك وبعد أقل من أربعين يوما ما سبق أن قررته في ذات المسألة ومطبقة لصحيح القانون ومستبعدة لكل البعد الإنساني منها وغير الإنساني؟ كيف ستفعل وعلى أي النهجين ستستقر لست أدري؟.
أما التبرير الذي ساقته المحكمة في الطعن رقم 469 / 51 ق كمخرج ومبرر لقضائها فهو فعلا بحاجة للتوقف والبحث حيث قالت “وحيث أنه عن دفع نيابة النقض بعدم اختصاص محكمة أول درجة نوعيا بنظر لدعوى فإنه مردود ذلك أن المستفاد من نص المادة 305 من قانون المرافعات أن قاعدة أن الطاعن لا يضار بطعنه هي قاعدة مطلقة لا استثناء فيها بحيث لا يلغى من الحكم المطعون فيه إلا ما يضر بالطاعن ولا يتعدى ذلك إلى المساس بما ينفعه مهما تردى الحكم المطعون فيه من مخالفة القانون ولما كان الثابت أن المحكوم لهم وحدهم هم من رفعوا الطعن وكان من شأن قبول الدفع بعدم اختصاص محكمة أول درجة نوعيا بنظر الدعوى إلغاء الحكم المطعون فيه وهو ما يشكل ضررا محضا يتصادم مباشرة مع قاعدة ألا يضار طاعن بطعنه الأمر الذي يتوجب معه رفض هذا الدفع مع ملاحظة مهمة هنا هي حكم العليا بمخالفة المحكمة المطعون في حكمها للقانون وفي مسألة تتعلق بالنظام العام وقد تمسكت فوق ذلك بها نيابة النقض في مذكرتها وبالجلسة “فهل يا ترى بعد هذا الإصرار والتأكيد على التمسك بقاعة ألا يضار طاعن بطعنه بقول المحكمة “قاعدة أن الطاعن لا يضار بطعنه هي قاعدة مطلقة لا استثناء فيها بحيث لا يلغى من الحكم المطعون فيه إلا ما يضر بالطاعن ولا يتعدى ذلك إلى المساس بما ينفعه مهما تردى الحكم المطعون فيه من مخالفة القانون “وعلى التأكيد أيضا على أن هذا التمسك من المحكمة بتلك القاعدة مهما تردى الحكم المطعون فيه في مخالفة القانون – وهنا لا بد لنا من التوقف للقول بأننا بدءا ضد هذا الاتجاه – ثم نسأل هل يجوز بعد هذا الحكم وبين ذات الخصوم وفي ذات الوقائع وقبل مرور أقل من أربعين يوما على الحكم العودة إلى الحكم بمخالفة هذا الاتجاه بالحكم بنقض الحكم لعدم الاختصاص النوعي فأين كل ذلك التأكيد؟ بيد أن من معانية أن المحكمة العليا قررت طائعة مختارة مخالفة القانون عن عمد وسبق إصرار بل وترصد إن جاز التعبير بإجازة مخالفة القاعدة باستثناء غير مقبول التبرير وهو أمر قد نقبله منها مع شديد تحفظنا على ذلك إلا أن غير المفهوم ولا المقبول أن تقضي ذات الدائرة في ذات النزاع بين ذات الخصوم بنقض الحكم بعدم الاختصاص النوعي ضاربة عرض الحائط ما قررته قبل 36 ستة وثلاثين يوما؟.
كلمـــة
نقول باختصار شديد وألم أشد: أن القضاء الليبي تُرك دونما تطوير أو تحديث ودونما حتى عناية أو رعاية تليق به وبتاريخه المجيد بل ودونما أدنى اهتمام أو تقدير ودونما عون أو مساعدة واجبة ليس هذا فحسب بل عين فيه كثير ممن ليسوا من أهله ولا حتى من مستواه فكانت هذه النتيجة والبقية تأتي فلا أظننا بعد هذا في حاجة إلى الإشارة إلى القول بأن إتلاف الثلثين في سبيل إصلاح الثلث الباقي أمر جائز أحيانا فإنه واجب وفرض في أحايين أخرى كثيرة وقد حان الوقت لإعادة تنظيم هذا المرفق المهم بما ينسجم مع تاريخه العتيد إذ لا يجوز لمحكمة عليا تحديدا أصدرت مبادئ من أمثال الطعن الإداري الدستوري الذي عرف بتسقط العدالة، ( [135]) وبعد أقل من مائة وخمسون يوما على تاريخ إنشائها والطعن الإداري الدستوري أيضا ([136]) الذي بين “أن القضاة هم بعد الرسل خليفة الله في أرضه وأنه بالعدل قامت السماوات “معلنا أن القضاء هو “الركن الركين والحصن الحصين للمواطن والحاكم على السواء في يومه وحاضره ومستقبله “، ذلك بعد عقد ونيف من عمرها المجيد بل قبل أن يكتمل العقد الأول من عمرها كان الطعن الإداري الجميل في العبارة الراقي في المعنى والمقصود، الذي لم يجد حرجا في أن يبين أن المحاكم قد تخرب البيوت ([137]) كما أنه أقر مبدءا مهما للمحامين تحديدا وهو أن شهادتهم تعدل شهادة رؤساء المحاكم – طبعا اليوم شهادة المحامي لا تعدل حتى شهادة حاجب مع احترامنا لهذه الوظيفة – أما في الشق الجنائي فقد كان “المبدأ الدستور “في القضاء الجنائي على وجه العموم ألا وهو الطعن الجنائي ([138]) الذي لم يتحدث قضاء على مستوى العالم فيما نعلم عن مهمة مأمور الضبط بقدر ما تحدث هذا المبدأ الذي هو في نظرنا يجب أن يكون دستور القضاء الجنائي. فلا يجوز في نظرنا لمحكمة بهذه القيمة والقامة ولها هذا الرصيد من الفكر والقضاء والثقافة والرقي والدرر في الصياغة. من محكمة كان فيها جهابذة أمثال الأساتذة علي علي منصور وعبدالرزاق البشتي ومحمود القاضي وكامل المقهور وعبدالحميد الرعيض وعبد العزيز النجار ومحمد عيسى وغيرهم أن يكون هذا مستوى أداؤها لا يجوز قولا واحدا لا يجوز.
وفي الختام
نقول كيف لا يصح لنا أن نتساءل القضاء الليبي إلى أين؟ كيف والجيل الجديد من القضاء والنيابة أيضا لا يقتدي من السلف من صالح أعمالهم وأقوالهم بشيء لا من السلوك ولا من العلم والعمل ولا من سعة الصدر ويبتدع لنا كل يوم بدعا جديدة كمثل ابتداع تقديم طلب للاطلاع من المحامين وتسديد الرسوم على ذلك الطلب والحكم بأدنى العقوبة على مأموري ضبط تسببوا بما قاموا به من عنف غير مسبوق وغير مبرر على “حدث “حتى أفقدوه ثمانين بالمائة من قدراته النفسية والعقلية وتسببوا في فقده لرجولته وحرموه من أهم نعمة من نعمتي الله اللتين أنعم بهما على الإنسان وهي “البنون “وكيف لا يحق لنا أن نتساءل القضاء الليبي إلى أين والتعويض في هذه القضية المأساة كان فقط عشرة آلاف دينار وعلى كل تلك الأضرار؟ وكيف لا نتساءل والقاضي المدني يأمر بحجز حرية عمال مصريين لا لشيء إلا لأنهم يؤدون عملهم في صيانة مكاتب النيابة التي تقع فوق مقر قاعة المحكمة فأحدثوا بعض الصوت الناتج عن حركتهم التى تتطلبها طبيعة الصيانة وكيف لا وبعض رؤساء المحاكم الابتدائية هم من يتحكمون في تحديد الجلسات بل ويراقبون الإعلانات قبل قيد الدعوى ويقبلون التظلم من أمر المصاريف وأكثر من ذلك حيث يقبلونها شكلا ويلغونها موضوعا رغم أنها صادرة عن الرئيس السابق لذات المحكمة الابتدائية وهذا من مخالفة لأبجديات القانون؟ كيف لا نسأل ورئيس محكمة استئناف يهدد محامية بإحالتها للتحقيق لأنها تأخرت في الشكوى ضد محضر قام بإيداع صك قيمته “ستة وعشرون ألف دينار “في حسابه بدل أن يسلمها إياه؟ كيف لا نسأل ونصيحة أحد المستشارين لمجلس القضاء الأعلى بعدم تعيين قضاة من المتزوجين؟ كيف لا نسأل والمحكمة العليا تؤيد حكما جنائيا انبنى على تقرير طبي تم والمتهمة في حالة تخدير تام بناء على قرار من بالكشف تحت التخدير التام من مدير النيابة الجزئية وبمباركة من رئيس النيابة ([139]) كيف لا نسأل والمحكمة العليا تجيز للنيابة العامة التطاول على الحرمات بالكشف من الدبر حالة الادعاء من القبل ([140]) كيف لا نسأل والمحكمة العليا تقضي بنقض حكم صادر عن أحد أعضاء الدائرة التي نقضت الحكم ([141]كيف لا نسأل والمحكمة العليا تلتفت عن اجتهاد طرح أمامها ([142]) رغم أنها دعوة صريحة للاجتهاد والتدبر في النصوص ([143]) أما ثالثة الأثافي بل وثوالثه مجتمعه فهي هذا التوجه للتوسع اللاّ مبرَّر في إنشاء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية فشخصيا لا أجد مبررا واحدا لإنشاء محكمة العجيلات الابتدائية ولا محكمة استئناف الخمس ولا تقسيم استئناف مصراته ولا هذا السيل من المحاكم والنيابات الجزئية فوارد كل نيابات غرب الزاوية جديدها وقديمها لا يكاد يصل لنصف وارد نيابة الزاوية الجزئية لوحدها لأن هذا في اعتقادنا يتعارض مع الأصول العلمية لبناء قاعدة الهرم القضائي والحاضر خير دليل على ما نقول فهل المقصود هو مجرد تشغيل أكبر عدد ممكن من الشباب موظفين ووكلاء للنائب العام للحد من البطالة أم ماذا؟ إذا كان الهدف كذلك فلا أعتقد أن في هذا تبريرا كافيا يقبله ذو عقل أو منطق سليم لأن المطلوب ببساطة تامة هو صناعة أجيال من القضاة وأعضاء النيابة تليق بماضي القضاء الليبي والمستقبل الذي يطمح إليه كل من يحب هذا البلد ويحرص على علو مكانته ومن ثم المحافظة على مكانة هذا الهرم الكبير في بلادنا وبالتالي فلا نظن أن في ما يحصل طريقا يمكن أن يُتلمس فيه ذلك؟ وكيف لنا أخيرا أن لا نتساءل والترفيع للمحكمة العليا يكون بالجملة ونسأل:
أ / هل تملك محاكمنا الإستئنافية مجتمعة من عادية واستثنائية حقا تخريج هذا العدد من المستشارين في سنة واحدة؟ يليق بهذا الصرح العتيد وماضيه المجيد؟.
ب / هل ليبيا بهذه الطريقة في التعين بالقضاء من أعلاه إلى أعلاه بخير فعلا؟ هل تسير في الدرب السليم والنهج القويم؟ رحم الله تشرشل إن جازت عليه الرحمة؟.
ولكــن… إذا ما قرأنا التوصية الصادرة عن؟؟؟ العامة ([144]) بناء على اقتراح من رئيس لجنة التسوية والتصرف والمحالة إلى؟؟؟ العامة بتاريخ 17 / 1 / 2007 والتي يطلب إليه فيها استصدار قرار عن الثانية باعتبار أصول الأجهزة والشركات المنحلة أموالا عامة وذلك لغرض لا يخفى على متوسط خبرة بالقضاء “إذ أن هذا القرار سيسد الطريق أمام الدعاوى الجديدة ويقف حائلا دون الاستجابة لتنفيذ الأحكام والمطالبات القضائية السابقة “فسندرك المصير الذي يتجه إليه القضاء وهنا نرها فرصة لنؤكد على ندائنا بنقل تبعية القضاء والنيابة إلى المجلس الأعلى للهيئات القضائية قبل أن يفوت الأوان – وإن كان لنا من تعقيب على هذه التوصية والتي وبكل الأسف قد نُفِّذَتْ بقرار؟؟؟ العامة رقم ( 104 لسنة 2007 وبتاريخ 28 / 2 / 2007 = 1375 هو:
أ / هل هذه التوصية ومن ثم القرار ستقف فعلا حائلا بين تنفيذ أحكام القضاء أم أن التشريع الليبي قد عالج مسألة الامتناع عن تنفيذ الأحكام وبما يطهِّر الأجهزة الإدارية؟ من مثل هذا التسلط على القضاء ومكانته ويحتاج فقط إلى الاقتداء بما نقلناه عن المحكمة العليا سلفا من استقلالية وعدم خضوع للسلطة التنفيذية أو غيرها.
ب / كيف تكون أموال هذه الشركات خاصة وهي حية وتكون ذات الأموال عامة بعد وفاة تلك الشركات وانعدام شخصيتها أليس ذلك في القياس عجيب؟.
ج / وأخيرا هل إسباغ وصف “العام “على المال أو رفعه عنه يتم بمجرد قرار أم أنه يحتاج لقانون بذلك والله أعلم؟.
إذن… يمكننا أن نقول بأن القضاء الليبي الذي وصفته المحكمة العليا في ماضيه بأنه “الركنُ الركينُ والحصن الحصين الذي يحمي كل مواطنٍ حاكما كان أم محكوما من حيفٍ في يومه وغده وفي مستقبله، والقضاة هم بعدَ الرسل ظلُّ الله في أرضه وحكامُه، بين خلقه، وبالعدل قامت السماوات والأرض “وكانت المحكمة العليا فيه حامية حارسة ومدافعة عن هذا القضاء وكان موقفها حازما سواء من حيث استقلال القضاء أو من حيث عدم السماح للسلطة التنفيذية بالمساس به حيث لا سلطان للسلطة التنفيذية على القضاء فحرص الدساتير “على كرامة القاضي ليس المقصود به شخصه وإنما المقصود صيانة استقلال القضاء واحترام أحكامه وكل مساس به “([145]) وكانت الوظيفة الرئيسية لرجل الشرطة عنده تركز على مبادئ الأخلاق والأمانة وعلى احترام القانون ومشروعية الدليل وعلى احترام أخلاقيات المجتمع وما استقر عليه من فضائل ذلك أنه “من المبادئ الأخلاقية المستقرة في ضمير الجماعة أن الوظيفة الأساسية لرجل الشرطة هي العمل على منع الناس من ارتكاب الجرائم واكتشاف ما يرتكب منها فعلا صيانة لأمن الجماعة وحفاظا على العلاقات الاجتماعية القائمة بها وأن رجال الأمن وهم بصدد مباشرة هذه الوظيفة مقيدون باحترام قواعد الأخلاق ومبادئ الأمانة التي يعتبر القانون التعبير النهائي السامي عنها بحيث يكون واجبهم الأساسي وقاية المجتمع من أسباب الجريمة وإنارة السبيل أمام المواطنين لمنع انزلاقهم منزلقها الخطر ومتابعة سلوكهم لاكتشاف ما يتم من جرائم من ذوى المسلك الإجرامي دون أن يكون من ضمن أعمالهم وضع المواطنين موضع الاختبار أو الامتحان الاجتماعي والمسلكي برسم الخطط وتزيين سبل الضلال وتسهيل ولوج الجريمة لمن ليس في ضميره سلوكها وتحريك بذور الشر ونزعة الإجرام الكامنة في نفوس بعض الناس وصولا إلى دفعهم إلى مسلك خاطئ يوجب العقاب هذا إلى أن البحث عن الجريمة التامة لا يعفي رجل الأمن وهو يمثل أخلاقيات المجتمع من التقيد بوسائل البحث المشروعة وطرق التحري التي تهتك قواعد الأخلاق أو نواميس الأمانة “([146]) أما في حاضره فالمحكمة العليا التي كان رأيها في المسألة الواحدة يحتاج لعقود من الزمن لتعدل عنه فهي اليوم تقضي في المسألة ذاتها وبين ذات الخصوم بالرأي وضده وفي وقت زمني غيـر بعيـد ([147]) بل وتقضي خلاف ما أجمعت عليه الدوائر مجتمعة في وقت قياسي من الزمن ([148]) وصارت اليوم أيضا تفصل في الطعون بنظام المقابل المالي أو ما يسمى بالإضافي وبعد أن كانت تستهجن مد أجل النطق بالأحكام من القضاء صارت هي تمد أجل النطق ولمدة خمسة أشهر دفعة واحدة ([149]) والأكثر أهمية من هذا كله أنها تركت العمل بنظام تداول الرئاسة رغم كل تلك الميزات والإيجابيات التي حققها ذلك النظام وتلك الفكرة وصارت رئاستها اليوم بالتعيين وإلى مدد لا يعلمها إلا الله أما القضاء فقد وصل الأمر فيه إلى أن اتهمته السلطة التنفيذية بالفساد ولم تدافع عنه حتى المحكمة العليا ([150]) واعتدي على اختصاصاته ولم ينطق ببنت شفة ([151]) وصارت انكسارات الرجال أمام فئة ضالة من مأموري الضبط بإكراههم وإذلالهم لانتزاع اعترافاتهم أمرا معترفا بها من القضاء بل وبأن ذلك حق وجزء من التربية يملكها مأمور الضبط بحكم وظيفته ([152]) وفوق ذلك تم الاعتداء على الشريعة الإسلامية وإهانتها لأكثر من مرة وفي أكثر من حكم دون اتخاذ أي إجراء يوحي بأن للشريعة حدودا لا ينبغي لأي كان المساس بها ([153]) وهذا أمر يؤلم النفس ويتعبها فهل سيبقى الأمر كذلك أم أنه يتوجب علينا أن نحفظ للقضاء هيبته وكرامته وعزته وأن نرسي بالتالي مبادئ وأسس احترام “ثقافة العدالة “. والكلمة الأخيرة في هذا الشأن كيف يكون من بين دوائر المحكمة العليا اليوم دائرة دستورية رغم عدم وجود دستور؟؟؟.
وكلمة أخرى:
نكرر ونؤكد بأننا لم نقل ما قلناه ولا كتبنا ما كتبناه إلا من منطلق حبنا وتقديرنا وحرصنا واحترامنا اللامحدود لهذا المرفق الأهم في حياتنا كمواطنين ومن منطلق خوفنا أيضا على هذا المرفق وأهله الكرام هذا المرفق الذي لا يمكن بدون بقائه “قَويا ومتطورا “أن يكون هناك أمن ولا أمان للفرد مواطنا حاكما كان أم محكوما من حيفٍ في يومه وغده وفي مستقبله ولا يمكن أن يكون هناك مستقبل لنهضتنا القضائية والقانونية.
الرحلة للمحكمة العليا:
لنتصور أيها السادة الكرام أننا ذهبنا سويا في زيارة إلى المحكمة العليا فماذا سنرى؟. لا تتعبوا أنفسكم فلسوف أحاول في إيجاز بسيط أن أصف لكم المشهد. قبل أن تدخل إلى المبنى فسوف يهالك منظر مرعب حفر وأسياخ من حديد وأكوام تراب وخردة حتى لتظن جازما أنك أمام أي مكان غير المحكمة العليا – هذا قبل القصف – ثم تدخل وباعتبارنا مسلمين مستحب لنا استخدام الجانب الأيمن دائما لكنك عندما تلتفت يمنة تجد وخلف باب الحديد مباشرة و- ولست أدري لماذا باب حديد بالتحديد للمحكمة العليا – فستجد ثوالث الأثافي مجتمعة وبقايا رماد فتعتقد للوهلة الأولى أنك في غابة كان يطهوا فيها بعض الشباب طعامهم على الحطب غير أنك سرعان ما تكتشف أن من قام بالطبخ هم حراس هذا الصرح تنظر تلقائيا إلى الأعلى فتجد بعضا من ملابس أولئك الحراس منشورة على الحبل الذي ربط بين شجرتي الليمون تتقدم خمس خطوات فقط إلى الأمام لتجد بقايا صالون وأسياخ حديد. تنعطف ناحية اليسار لتسمع صوتتا لا يليق بأي مكان يتمتع بأدنى قدر من الاحترام ناهيك به المحكمة العليا هو خرير مياه أيضا لكنها من نوع آخر تتقدم خطواتك وأنت في حالة حذر من الوقوع في تلك الحفر لتصعد درجات سلم كئيب من الحديد من المفترض أنها السلم الذي تصعد به إلى داخل المبنى فإذا اخترت أن تذهب مباشرة بعد صعودك إلى مقر الجلسات ومكاتب المحفوظات والمكتبة فستجد بعد ثلاث خطوات كوما من الزبالة وقد وضع – يا للمفارقة العجيبة – بجوار صورة المبنى الذي من المفترض أن يكون عليه شكل المحكمة العليا الحديث. فإن اتجهت يمينا فأنت في ردهة تحمل عبق التاريخ وعبثه أيضا على جدرانها لتجد مكاتب من عهد إيطاليا لم تتم صيانتها بالشكل الصحيح لتشم رائحة الرطوبة وتتألم لأولئك المساكين الذين يعملون داخل تلك المكاتب ويجلسون على مكاتب أكل عليها الدهر وشرب وشطف يديه أيضا فينتابك شعور بضرورة الإسراع في إنهاء الزيارة حفاظا على الصحة فتنهي زيارتك وتعد ومعك حسرة على ما ض تولى لقضاء عتيد وصرح كان شامخا ذات يوم ولو أردنا تلخيص ما قلناه فسوف لن نزيد عما قاله سيادة المستشار مصطفى عبد الجليل عندما كان على رأس؟؟؟ العدل حيث قال “بأن الدولة بثقافتها الحالية غير مهتمة بقطاع العدل وغير مهتمة أصلا بالقضاء وليس من أولوياتها. أولويات الدولة هو الأمن السياسي أولا وثانيا المنفعة الشخصية لمن في أيديهم القرار في ليبيا، أما موضوع العدالة والقضاء في ليبيا فهذا أمر حتى من خلال ميزانية قطاع العدل يعلم الجميع بأنها تتفوق عليها ميزانيات أجهزة مثل ميزانية مكافحة المخدرات، وجهاز الأمن الداخلي، ولا أعتقد أن دولة ميزانيتها بهذا الشكل يكون من أولويات اهتمامها قطاع كقطاع العدل “([154]).
وختــامـــــــا….
كانت تلك قراءة شبه مستفيضة في تاريخ قضائنا الليبي الكريم وصرحنا قضائنا العتيد “المحكمة العليا “حاولنا فيها تسليط الضوء على مرفق من أكثر المرافق أهمية وخطورة في تاريخ المواطنين والشعوب أفرزت ماض ذو مكانة رفيعة عالية وموقع مشرف كريم فترة امتدت منذ تاريخ نشأته حتى فترة التسعينات من القرن الماضي تقريبا ثم كان الحاضر الذي بدأ فيه قضاؤنا الكريم في الترنح والهبوط وخاصة مع بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين غير أن الأمل كبير في أن يقوم هذا المرفق من غفوته وأن ينهض من سقوطه وأن يُهتَم به في ظل ثورة 17 فبراير المباركة ليكون في المكانة الراقية التي تليق به وبماضيه وبدماء شهدائنا وجرحانا وبتطلعات ثورة شبابنا المباركة وفي الموقع المشرف المتقدم بين قضاء العالم الحر لكننا نقول أيضا ونؤكد بأن ذلك لن يتحقق ما لم نهتم بهذا القضاء ونكرمه من خلال التشريعات المنظمة له والمتعلقة به ومما قلناه من إلغاء الندب وفصل للقضاء عن وزارة العدل بأن بتبعية القضاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية وإعادة التداول لرئاسة المحكمة العليا وتولي رئاسة المحاكم الابتدائية بالأقدمية والحد من هذا التوسع في إنشاء المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف أيضا.
نأمل أن يُسمع هذا النداء وأن يُتدارك الأمر وأن تتسارع الخطى حتى لا يأتي ذلك اليوم الذي يصل الحال فيه في بلادنا إلى المناداة بأن تشيَّد فيها قصورا للعدالة بدلا من أن يشاد فيها قصورا للقضاة ([155]) وهو ما بدأت تبرز للعيان بعض ملامحه والخشبة بطبيعتها تطفوا على الماء لكنها إن تشبعت هوت إلى القاع…. التحية كل التحية والتقدير كل التقدير والإكبار كل الإكبار لكل قاض حكم ما حكم إلا بالعدل ولكل وكيل نيابة اتهم ما اتهم إلا بالحق والدليل الصحيح ولكل محام دافع ما دافع إلا طلبا للحق وروما للعدالة ولكل مأمور ضبط أوقف ما أوقف إلا عن شبهة حقيقية وبإجراءات سليمة وصحيحة وموافقة للقانون.
آخر الكلم ثلاث:
الأولى: من خلال ما سلف يمكننا القول بكل ثقة أننا جميعا على اتفاق من أمرين الأول: هو أن القضاء الليبي في حالة تراجع والثاني: أننا نقف من ذلك موقف المتفرج.
الكلمة الثانية: قلت وأقول وسأظل أقول / والله لن يصلح حال القضاء في ليبيا حتى يلغى الندب داخل الجهاز وخارجه وتعود رئاسة المحاكم بالأقدمية ويعود نظام تداول الرئاسة للمحكمة العليا ويعمل به بمحاكم الاستئناف أيضا وتعتمد عقلية الفقيه للترفيع للعليا.
الكلمة الثالثة: إذا لم يقم المسئولين في ليبيانا الحبيبة ليبيا السابع عشر من فبراير بتطهير قضائنا الكريم مما ألحقه به بعض من قاصري العقل والنظر والدين من درن ممن حملوا شرف الانتماء لهذه الأسرة الكريمة بطريق الخطأ فإنه يتعين على المحامين أن يخلعوا الرداء وقل على العدالة السلام.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
ملاحظة أخيرة
هذه الكلمات بدأنا كتابتها سنة 2006 وانتهيت منها في يوم 22 من شهر 8 / 2008 وكان من المفترض أن تقدم هذه الورقة في الموسم الثقافي لنقابة المحامين في شهر رمضان الكريم 2008 إلا أن الوقت لم يسمح فتم تطويرها إلى ما هي عليه الآن وكما يقول المثل الشعبي “كل تأخيرة فيها خيرة “وقد تم بحمد الله وفضله إضافة بعض ما استجد من الوقائع لها حال حدوثها في تواريخ لاحقة لكن بسبب عدم إمكانية النشر في مجلة المحامي كان التأخير ومن بين ما نضيفه اليوم هو أني بتاريخ اليوم 9 / 10 / 2011 م وكنا نشيع جثمان أحد شهداء هذا الوطن ممن قتلهم الطاغية في سجونه ووجدوا في مقابر جماعية قابلني أحد الأساتذة الأفاضل من مستشاري المحكمة العليا وكان من بين الحديث الذي دار بيننا تناول هذا الموضوع فقال لي أرجو أن تكون قد ذكرت بأن هذا القضاء الذي انتقدته كان نتاج تلك المرحلة المنهارة اجتماعيا فقلت حتى ولو لم أذكرها فالمفترض أن تلك الفترة قد انتهت بقيام ثورتنا المباركة لأن الثورة قد قامت لرفض الظلم وتطهير البلاد وإحقاق الحق وإقامة العدالة ولقد بدأت في اعتقادي فعلا بوادر ذلك تلوح في الأفق ففصل القضاء عن وزارة العدل معلم في الطريق الصحيح ولعل في إعادة هيكلة القضاء والنيابة العامة واقتراح تعديل قانون نظام القضاء ولعل مهنة المحاماة في الطريق أيضا مما شابهم من شوائب من تلك الفترة أثرت فيهم وعلى آدائهم تطهيرا وإعادة بناء سليم لهم معلم آخر قد يتحقق يوما. يرونه بعيدا لكننا بحمد الله نراه قريبا. ولما نحن في عصر ثورة 17 فبراير المباركة فإنه لا بد لنا من القول بأننا نوجه نداء إلى الأساتذة في المجلس الانتقالي ثم إلى الحكومة المؤقتة فالرسمية من ضرورة الرجوع إلى مسألة تداول الرئاسة بالمحكمة العليا وأن قبول ما تم من إجراء ليس سوى مسايرة للظروف الحالية وأن الرجوع لنص تلك المادة مسألة وقت فقط وكذلك يجب الالتزام بترأس المحاكم الابتدائية بطريق الأقدمية وأن يجرى التداول المطلوب في العليا حتى على محاكم الاستئناف وفقا لما هو مبين في التوصيات.
التوصيـــــات:
إذا كان لا بد من ذكر توصيات في هذا الموضوع وهي لازمة كما نعتقد وإذا أردنا أيضا للقضاء تطورا وتقدما وللعدالة رسوخا وشيوعا فإننا نوصي بالآتي:
1 / إلغاء الندب في قانون نظام القضاء داخل الجهاز وخارجه فلم ينل القضاء حتى في هرمه من هذا الندب إن كان لداخل الجهاز أو لخارجه إلا تأخرا وتراجعا ونكوصا على الأعقاب وإرهاقا للقضاء وإفسادا للعدالة وما لا نحب أن نرى فيه أو نسمع.
2 / إعادة العمل بنظام تداول الرئاسة بالمحكمة العليا لما لهذا النظام من حسنات ومميزات تدفع بالقضاء وأهله إلى الأمام وتحرك فيهم وتقوي روح التألق والإبداع ولعل خير شاهد لنا هو تلك الخبيئة من الدرر التى صيغت في تلك الفترة إذ لا شك أن رئاسة هذا الصرح هي حلم كل رجل قانون ومن ثم هي دافع قوي للعطاء والتألق والإبداع ونستلهم أمجاد.
3 / اعتماد عقلية الفقيه عند الترفيع للمحكمة العليا فبعقلية الفقيه وعقلية الفقيه وحدها نبني مجدا ونصنع ثقافة ونتواصل مع تاريخ.
4 / نقل تبعية القضاء والنيابة إلى مجلس القضاء الأعلى وفي كل شئونهما وأمورهما([156]).
5 / إنشاء”مجلس استشاري “، من فقهاء وعلماء الشريعة في بلادنا وهم كُثُر بحمد الله يكون مقره المحكمة العليا ويرجع إليه في شأن التفاسير القانونية المتعلقة بتطبيق أحكام الشريعة الغراء.
6 / إنشاء مجلس الصلاحية لتولي القضاء والنيابة فهو كفيل بدرء مفاسد كثيرة عن القضاء والنيابة إذ ليس مقبولا أن يكون وكيلا للنيابة أو قاضيا من كان يتلعثم في الكلام أو نحو ذلك مما يقلل من هيبة القضاء التي يجب أن نحافظ عليها ونقوي من شأنها بالدرجة الأولى.
7 / إخضاع القضاة الجدد المنقولين خاصة من النيابة وإدارة القضايا لفترات تمرين على القضاء المدني والشرعي وغيره وذلك بإلزامهم بالحضور مع الهيئات المختلفة ليكتسبوا الخبرة اللازمة بدءا من طريقة إدارة الجلسة وحتى اكتساب عقلية القاضي الحيادية ذلك أن ما نراه اليوم هو أن من يأتي إلى القضاء من النيابة العامة يظل ردحا من الزمن يعمل بذلت العقلية ومن يأتي من إدارة القضايا يظل أيضا هو أقرب إلى المدافع عن الدولة أكثر من كونه حكما بينها وبين خصومها ولقد وصل الأمر بأحد هؤلاء الأساتذة أن لام وفي جلسة علنية على عضوة بإدارة القضايا عدم دفعها بالتقادم في دعوى ضد الدولة وتحديدا دعوى مركبات.
8 / إدخال مادتي علم النفس القضائي وعلم النفس الجنائي في كليات القانون وكليات ومعاهد الشرطة واعتبارها من المواد المهمة في الدراسة والتخرج.
9 / وجوب السماح بحضور ممثل عن النقابة العامة للمحامين للجمعيات العمومية بدءا من المحكمة العليا وكل المحاكم وعلى اختلاف درجاتها لمعرفة ما يعاني منه المحامين من مشاكل وصعوبات ومن ثم محاولة تذليلها فوق ما يحققه ذلك من تذويب عوامل الفرقة والابتعاد بين القضاء والنيابة من ناحية وبينهما والمحامين من ناحية أخرى ومن ثم دعم روح الزمالة والتعاون وغرسا لثقافة الزمالة طلبا للتطور وروما للعدالة وهو ما يساهم في تقوية استقلالية القضاء ونزاهته.
10 / العمل على إرساء ثقافة الزمالة بين الأسرة القضائية عامة قضاة ووكلاء للنائب العام ومحامون ففي ذلك الخير كل الخير لبلادنا ومستقبل العدالة فيها.
11 / وضع سقف للتعيينات بالمحكمة العليا بحيث لا يتم التعيين إلا عند وفاة أو تقاعد مستشار أو مستشارين وإذا اقتضت الضرورة فلا يجب أن يزيد الترفيع من الثلاث إلى الخمسة مستشارين في المرة الواحدة.
12 / إيفاد كل من يعين بالقضاء أو النيابة لرحلة عمرة عند بداية عمله ورحلة حج عند تقاعده.
13 / لا بد من احترام الأقدمية في ترأس المحاكم الابتدائية.
14 / إدخال تداول الرئاسة في محاكم الاستئناف أيضا لما فيه من ترويض للنفس وتهذيب لها حتى لا تغتر بمنصب في حجم ومكانة هذا الصرح الكبير.
وخير الختام في هذا المقام هو مسك الختام فنختم بقوله تعالي]فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد [“([157]) ” وآخر دعوانا “أن الحمد لله رب العالمين”.
والله من وراء القصد… وعلى الله قصد السبيل… والله الموفق…
(( جزء الهوامش ))
[1] مثل عربي قديم يضرب عند العمل دون تدبر وروية.
[2] (الاستئناف الشرعي 22 / 2007 الزاوية الابتدائية جلسة 17 / 7 / 2007 ز).
[3] مادة 287 مرافعات.
[4] تظلم من تقدير أتعاب الدفاع رقم 1 / 2010 محكمة الزاوية الابتدائية.
[5] جناية 93 / 5 ق، تخصصية قبل النقض.
[6] دعوى 215 / 2010 أحوال مدنية جزئي ترهونة.
[7] جناية رقم 456 / 7 ق الزاوية.
[8] 309 / 2006 كلي العجيلات.
[9] ج / رقم 1486 / 6 ق جنايات العجيلات.
[10] ط / ج رقم 1126 / 54 ق.
[11] جناية رقم 1486 / 6 ق، 309 / 2006 كلي العجيلات.
[12] ط / م رقم 520 / 51 ق، غير منشور.
[13] ط / م رقم 469 / 51 ق، غير منشور.
[14] 7 / 50 ق.
[15] ط / م رقم 574 / 52 ق.
[16] ط / ج / رقم 157 / 3 ق.
[17] ( ط / ج رقك 1021 / 57 ق غ م.
[18] شكواي ضد رئيس محكمة الزاوية الابتدائية 1996.
[19] كتاب التفتيش القضائي إلى رؤساء المحاكم الابتدائية بعليمات آمرة حاسمة الصادر بتاريخ 9 / 5 / 2002.
[20] دعوى المخاصمة رقم 302 / 2006 محكمة استئناف بنغازي.
[21] لم نذكر مسألة تعيين أكثر من عشرين مستشار ودفعة واحدة ولمرتين متتاليتين لان هذا الموضوع قد حدث بعد الانتهاء من الكتابة وسوف نتوال تلك المأساة في مرة قادمة بإذن الله.
[22] البراءة وعدم العقاب لعبد الفتاح مراد، ص 203.
[23] كان ذلك قبل ثورة 17 فبراير المجيدة.
[24] سورة النساء الآية 58.
[25] المائدة، الآية 8.
[26] حديث شريف.
[27] كتاب المرقبَة العُليا فيمن يتولَّى القضاء والفتيا للشيخ عبدالله أبوالحسن بن عبدالله بن الحسن النباهي، ص 3.
[28] المرج السابق، ص 3.
[29] نهج البلاغة الإمام علي كرم الله وجهه طبعة جديدة منقحة 1 – 4 عن مؤسسة دار المعارف بيروت.ومعنى قمش = جمع، بكر = بادر، المبهمات = المشكلات، خباط صيغة مبالغة من خبط الليل، العشوات = ركوب الأمر على غير هدى، لا مليء = غير قيم بذلك ولا عناء فيه لهذا الأمر اكتتم به = كتمه وسره، العج = رفع الصوت.
[30] طعن دستوري رقم 1 / 14 ق.
[31] تاريخ قضاة الأندلس المسمى كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للشيخ أبوالحسن بن عبدالله بن الحسن النباهي المالقي الأندلسي، ص 10، نقلا عن المجْموع المسمّى” المَقْصَِد المحمود.
[32] الطعن الدستوري المشار إليه سلفا.
[33] راجع المحكمة العليا خمسون عاما قراءة بمجلة المحامي العدد 65، 66.
[34] قبل الانتهاء من تبيض هذا الموضع سمعنا برفع الحصانة عن شخص أو أكثر من الهيئة فكان لا بد من الإشارة إليها والإشادة بها فالحمد لله على صحوة نأمل أن تدوم.
[35] انظر بمشاركتنا بالنشاط الثقافي لمركز الدراسات والبحوث بالنقابة العامة للمحامين في حينه؟؟؟.
[36] حيث وصل الأمر إلى وضع صور لمستندات زورها أحد القضاة ومع ذلك لا زال يعمل في أهم رافد من روافد مرفق القضاء.
[37] إشارة إلى قول تشرشل لا خوف على بريطانيا ما دام القضاء فيها بخير.
[38] قول مأثور.
[39] على مدى سنين عدة وبعض الأكفاء من الأساتذة المحامون الخواص يتقدمون بطلبات تعيين بالقضاء ولأسباب لا يستقيم فهمها ترفض طلباتهم في حين يتم تعيين قضاة لا علاقة لهم بالقضاء إلا أنهم دخلوا هذا المرفق المهم في حياة الفرد والمجتمع والدولة بطريق أو بآخر لكن الكفاءة للعمل القضائي على وجه التحديد لا تتوفر لدى الكثير منهم وإلا فقولوا لي كيف تعطى الدوائر الشرعية في أكثر من محكمة جزئية لقضاة صغار السن عزابا معدومي التجربة الحياتية في العلاقة الزوجية ويطلب إليهم الفصل في نزاعات بين زوجين عمر زواجهما ضعف عمر القاضي الذي يتولى الفصل في شقاقهما بل وفي أحيان كثيرة عمر زواجهما أكبر من والديه سنا.
[40] لسنا ندري ما هو السر وراء هذا النقل السنوي خاصة من النيابة إلى القضاء فما الذي سيحدث لو أنه مرت سنتان أو حتى ثلاث على عدم تعيين قضاة جدد وهل التعيين بالقضاء سواء أكان من النيابة أو من غيرها – من غير المحاماة الخاصة تحديدا – في كل سنة هو الحل لما يعاني منه القضاء من تراجع في المستوى؟ بالطبع الأمر ليس كذلك فتراجع المستوى على كافة الصعد ورأيناه واضحا حتى في أعلى قمة الهرم خاصة مع بداية العقد الأول من القرن الحالي. من أراد أن يعود بالقضاء الليبي لأيام مجده فالطريق معروفة وواضحة وقد كتبنا فيها أكثر من مرة ونادينا بها في أكثر من منبر ولا مانع هنا من تلخيصها _ 1 / أكرموا القضاء، 2 / امنعوا الندب داخل الجهاز وخارجه، 3 / اجعلوا رئاسة المحاكم الابتدائية والإستئنافية بالأقدمية، 4 / أعيدوا للمحكمة العليا الترأس بالتناوب كما نصت المادة الثانية من لائحتها القديمة، ثم تعالوا نتحاسب؟.
[41] ملاحظة مهمة هي أننا كنا قد كتبنا هذه المقالة قبل القرار المذكور بوقت طويل وعلى العموم الالتفات إلى الكفاءات أينما وجدت هو أمر محبب لدينا ونراه طريقا صحيحا للتصحيح.
[42] إشارة إلى أن ما يقوم به معهد القضاء في العام 2007 من دورات تدريبية للأساتذة القضاة ليس هو المطلوب ولا المراد فمحاضرات تعطى في الغالب ممن لا يملكون تلك الخبرات المقصودة للتطوير علاوة على ما سمعناه من بعض الأساتذة الحضور على مستوى المحاضرات التي تعطى ليست إلا من باب تضييع الوقت خاصة وأنها تعطى في ذروة السنة القضائية وما ترتب عليه ذلك من ضياع لحقوق المتقاضين بسبب من هذه الدورات نحن ندعوا إلى دورات تقوية وتطوير حقيقية وفي أوقات متناسبة لا تضر بالمتقاضين وحقوقهم.
[43] للمزيد راجع مقالنا المحكمة العليا خمسون عاما مجلة المحامي العددين 69، 70.
[44] ط / ج رقم 364 / 36 ق.
[45] الكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر – قولة للإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
[46] بحوث وآراء قانونية للأستاذ محمد صالح العياري رئيس أول محكمة استئناف تونس.
[47] العالم الذي اكتشف نظيرة الجاذبية والطريف في هذا الأمر أننا كتبنا هذه الإضافة للموضوع – الذي كنا قد بدأناه منذ مدة – يوم الأمس الأحد الموافق 1 / 7 / 2007 فكان أن شاهدنا مساء الجزيرة الوثائقية ليلا وكان بها برنامجا خاصا على حياة الرجل وكان من بين أطرف ما قيل عنه أنه معروف بالجدية وعدم الابتسام ولم يشاهد مبتسما إلا مرة واحدة وذلك عندما سأله أحدهم هل يمكن الاستفادة من الهندسة.
[48] علم النفس القضائي د : رمسيس بهنام، ص 6.
[49] المعنى هو ما حصل معنا عندما اشتكينا رئيس محكمة الزاوية الابتدائية في أخر التسعينيات من القرن الماضي والذي تولى هذا المنصب لقرابة العقد أو الأكثر من الزمن إلى التفتيش القضائي فتم إيقافنا بتهمة إهانة هيئة قضائية وتم الإفراج علينا من النيابة بمبلغ خمسة آلاف دينار ” 5000 ” وبعد التدخل من نقابة المحامين بالزاوية خفِّض المبلغ إلى ألف دينار ” 1000 ” وفي كلا الحالين لم يتم الإفراج بهذا المبلغ حتى على تجار المخدرات ولولا تدخل النائب العام في تلك الفترة لبقينا في الحبس عدد سنين أليس هذا من سخرية القدر.
[50] المقصود ما حصل في شرق ليبيا وكيف انتدبت له دوائر من طرابلس لمحاولة إنهائه.
[51] انظر الطعن المدني رقم 113 / 43 ق حيث لم تعترف المحكمة العليا بالحصانة القضائية لأعضاء المحاماة الشعبية رغم أنهم بنص القانون أعضاء هيئة قضائية وهو ما يجعل النص أو حكم المحكمة العليا على غير صواب أو اتفاق مع القانون.
[52] كان هذا قبل صدور قانون نظام القضاء الجديد وتوسعه في مفهوم الهيئات القضائية حيث شمل المحاماة الشعبية وغيرها.
[53] انظر مقالة المستشار أحمد مكي نائب رئيس محكمة النقض المصرية المنشورة بمجلة “المصري اليوم” عدد 20 / 7 / 2007 المنوه عنها في حلقة 22 / 7 / 2007 برنامج بلا حدود قناة الجزيرة ومما جاء فيها بأنه ” ليس لديه أمل في استقلال القضاء، وأنه ليس في مصر سوى سلطة واحدة، هي السلطة التنفيذية التي تُشغِّلُنا جميعا لحسابها “، وأنه ” لا أمل في وجود العدالة دون وجود قانون عادل”، مضيفا بأن ” السلطة التنفيذية في مصر تسيطر على السلطة التشريعية ولديها قضاة كما وصفوا مرتشون تُشْترى ذِمَمُهم وتَستخرج القوانين وتَسجِن الناس باسم القانون “.
[54] راجع مقالنا الندب في قانون نظام القضاء ما له وما عليه العددين 69، 70 من مجلة المحامي.
[55] تم ترفيع عدد 25 للمحكمة العليا سنة 2010، وعدد 23 مستشارا آخرين في سنة 2012 وهو أمر نستهجنه ونرفضه.
[56] مسئولية القاضي المدنية ” مخاصمة القضاة “، أنس كيلاني المستشار لدى محكمة النقض، ط 1 /، دار الأنوار للطباعة، دمشق، المنطقة الصناعية، ص 101.
[57] ذات المرجع، ص 105.
[58] عن رسالة القضاء للفاروق عمر رضي الله عنه و؟أرضاه المقدمة كهدية للعدد 52 من مجلة المحامي الصادرة بتاريخ 4 / 6 / 2003.
[59] ط / ج رقم 19 / 27 ق.
[60] انظر الطعن رقم 55 / 48 ق أحوال شخصية.
[61] إشارة إلى قول المحكمة العليا في قضية الأستاذ على رجب وذلك في معرض ردها على استنكار قضاء الحكم لقوله لمحكمة الموضوع ” المحكمة خربت بيتي ” فقبلت محكمتنا العليا ذلك القول وأضافت ” وياما المحاكم خربت من بيوت ” الطعن الإداري رقم 3 / 3 ق.
[62] المفصود أن اللائحة التنفيذية للقانون رقم 10 لسنة 90 بشأن إعادة تنظيم مهنة المحاماة تجيز لفرع النقابة أن يسمح للمحامين المقيدين أمام المحاكم الابتدائية بقبول محامين للتمرين بمكاتبهم ولا يخفى على الجميع ما تسببت فيه هذه الإجازة من إضرار للمهنة فمن قال أن كل المحامين المقبولين أمام المحاكم الابتدائية لديهم الخبرة الكافية لينقلوها للمحامين تحت التمرين حتى يجاز لهم ذلك فالواقع يقول أن عددا لا بأس به من هؤلاء لم يترافع أساسا أمام المحاكم الابتدائية حتى يسمح له بتمرين غيره – وقد مرت علينا بلجنة القبول أكثر من حادثة تطلب القيد أمام محاكم الاستئناف ولم يرد لمكتبها قضية واحدة أمام المحاكم الابتدائية – أما التشريعات ذات العلاقة فمثلا المادة 341 إج / ج تبيح للمحامين المقيدين أمام المحاكم الابتدائية أمام الجنايات رغم مخالفة ذلك للمادة 26 مرافعات وكذلك السماح لكل أعضاء إدارة القضايا والمحاماة الشعبية بالحضور أمام مختلف المحاكم دونما اعتداد بدرجات القيد أو حتى الأقدمية في هذا الجهاز أو ذاك.
[63] خلال سنة 2006 تم رفع ستة دعاوى مخاصمة سنة كان الحكم فيها بعدم قبولها وليس هذا فحسب بل إن إحداها وهذا هو الأهم وكانت ضد الأستاذ المحامي العام السابق بمحكمة استئناف الزاوية وأحد الأساتذة وكلاء النيابة بمكتبه فوق رفضها تم الحكم على المخاصِم بأن يدفع خمسة آلاف دينار لكل واحد منهما أي من المخاصَمَين أفبعد هذا ستكون هناك دعوى مخاصمة وهل سيتشجع أي مواطن مهما ظُلم في حريته أو حقوقه بعد هذا في أن يرفع أو حتى أن يفكر في دعوى المخاصمة؟ نعتقد جازمين بأن ذلك في حكم المستحيل بل ربما هو المستحيل بعينه وهنا نسأل ما هو جدوى وجود نوص للمخاصمة بين النصوص طالما كان الأمر كذلك بل ولماذا أتعب المشرع نفسه أساسا لوضعها ضمن موسوعة النصوص؟ سؤالين برسم الإجابة.
[64] راجع بحثنا دعوى المخاصمة بين النصوص والتطبيق وتداعياتها.
[65] عبد الحميد الشواربي الإخلال بحق الدفاع، ص 92.
[66] الأستاذ عبد العزيز فهمي أول رئيس لمحكمة النقض المصرية عن الإخلال للشواربي، ص 92.
[67] د : عبد الحميد الشواربي، ضمانات المتهم في مرحلة التحقيق الجنائي، ص 186.
[68] بالمناسبة كنا خصمين في تلك الدعوى وقد خرجنا من القاعة لنتناقش حول إمكانية الصلح من عدمه ولم يسمع كلينا النداء فغضب الزميل من قرار المحكمة التأجيل والتي لا ذنب لها فيه وكتب تلك العبارات في مذكرة دفاعه.
[69] جناية رقم 93 / 5 ق 114الزاوية / 2002 الحرشة.
[70] د : سعد حماد القبائلي، ص 293، 294 ضمانات حق المتهم في الدفاع أمام القضاء الجنائي.
[71] انظر الندب في قانون نظام القضاء ما له وما عليه مجلة المحامي العددين 61، 62.
[72] بدعة مهينة ووصمة عار دخلا هذا الصرح في الفترة ما بين 2000، 2006.
[73] القانون رقم 10 لسنة 1427 بتقرير بعض الأحكام الخاصة بدعاوى الملكية والطرد والإخلاء المتعلقة بالعقارات التي آلت إلى المجتمع طبقا لأحكام القانون رقم ( 4 ) لسنة 78 بشأن الملكية وتعديلاته.
[74] وفقا لمكاتبتهم إلى التفتيش القضائي.
[75] د : رمسيس بهنام، علم النفس القضائي، ص 43.
[76] كتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي المالقي، ص 4، وهو ما يراه بن فرحون في تبصرته أيضا.
[77] الإخلال بحق الدفاع للشواربي عن كتاب قضاة ومحامون لبيروكا لمندري.
[78] القضية 309 / 2006 كلي العجيلات.
[79] لم نستطع الحصول على رقم القضية بسبب أن المتهمين الذين نعرفهما قد محيا من ذاكرتهما لك الفترة ولا يرغبان في تذكرها ولذلك سنذكر الاسم الأول والثاني فقط لكليهما فهما من الجيران والأقارب الأول / كمال البشير، 2 / خالد إبراهيم وذلك حتى لا يكون ما قلناه دون دليل.
[80] انظر القضية 114 / 2003 الحرشه، جناية 93 / 5 ق تخصصية.
[81] ط. ج رقم 24 / 17 ق.
[82] محكمة الاستئناف التخصصية.
[83] نعتقد بأن السبب الرئيسي لذلك هو عدم ترتيب المشرع لجزاء البطلان على تلك المخالفات.
[84] أما في الزاوية فقد امتنع أحد رؤساء النيابة السابقين لها عن مد يده لزميل على علاقة به ليسلم عليه وبأهله بالقول بأن السلام على المحامين ” شبهة ” يجب الابتعاد عنها أما في طرابلس العزيزة طرابلس العاصمة طرابلس المدينة عروس المتوسط فقد رفض أحد المستشارين بالمحكمة العليا اصطحاب صديق لهم لتأدية واجب عزاء لرئيس إحدى المحكمتين الابتدائيتين في طرابلس بحجة أنه لم يعد زميلا لأنه أصبح محاميا والمحامين يجب تجنبهم – هذا المحامي كان قبل أسبوعين محاميا عاما لإحدى ابتدائيتي طرابلس – غير أن الطريف في عدم الاعتراف بمسألة الزمالة هذه هو أنه بأحد مجمعات المحاكم الجديدة تم في الآونة الخيرة تركيب أكثر من مصعد كهربائي وتحديدا أربعة مصاعد ومع ذلك لم تسلم ولو نسخة واحدة من بطاقات استخدامهم حتى لكبيري السن من المحامين حيث قصر استعماله والاستفادة منه على القضاء والنيابة وموظفيهم وبعض من ضباط وأفراد الشرطة فقط وليت الأمر وقف عند هذا الحد فعندما مرض الأستاذ رئيس المحكمة طلب إلى زواره من الموظفين والكتبة عدم التحدث مع المحامين عن حقيقة مرضه وكان المحامين سيمنعون عنه شفاء اله إن أراده له وهنا حقيقة ينبغي التوقف لتوضيح أمرين: الأمر الأول: ما يجب أن نعترف به هو أن هذا التحسس من المحامين لم يكن موجودا قبل بداية التسعينات تقريبا من القرن الماضي فعندما بدأنا العمل بالمحاماة الشعبية سنة 81 لم تكن هذه الثقافة موجودة بل كنا جميعا محط تقدير واحترام من الأساتذة بالنيابة أو بالقضاء وكنا لا نرى أية فروق بين العمل هنا أو هناك بل كان الزملاء في القضاء والنيابة دائمي الكرم والاستضافة للمحامين في مكاتبهم وتقديم كافة العون لهم في تأدية مهام وظيفتهم غير أنه ولأسباب لا نعرفها شخصيا على الأقل ومنذ منتصف التسعينات تقريبا ومع عودة المحاماة الخاصة من جديد بدأت الأمور تتغير والأحوال تسوء حيث صار اطلاع المحامي في نيابة الزاوية تحديدا لا بد له من طلب مسدد عليه رسوم وغير ذلك ومن ثم بدأت ثقافة الكرة والعد\ء للمحامي تسود شيئا فشيئا. والأمر الآخر: هو أن ثقافة الكره والتعالي على المحاماة والمحامين هي مسألة لا تتعدى بحمد الله غرب ليبيا أما بدءا من مدينة مصراتة والاتجاه شرقا فهذه ثقافة تكاد أن تكون معدومة – وهنا لا نملك إلا أن ندعَو الله بالهداية لنا جميعا وأن تنظر الأسرة القضائية الكريمة إلى المحامين والمحاماة على أنهم إخوة لهم وزملاء في هذه الأسرة الكريمة وحتى يستقيم الأمر كذل لا نملك إلا أن نقول “لا حول ولا قوة إلا بالله” – وهذا أمر مهم ينبغي أن نشيد به وأن نكره والمؤسف أنه حتى تشريعاتنا الحديثة والتي كنا نعول عليها كثيرا في إرساء ثقافة الزمالة رأيناها تخيب أملنا في ذلك بل وتأكد على ترسيخ مفاهيمها حيث جاء قانون نظام القضاء الذي انتظرنا تعديله أو تحديثه بصبر وأمل كبيرين يؤكد هذه الثقافة المؤلمة حيث نصت المادة ( 92 ) من قانون نظام القضاء الجديد\ رقم 6 لسنة 2006 على أن يقتصر حق الاستعانة لأعضاء الهيئات القضائية المحالين على مجالس التأديب وفقا لأحكام هذا القانون على أعضاء الهيئات القضائية من المحامين حيث جري نص تلك المادة ” له أن يقدم دفاعه….. وأن ينيب في الدفاع عنه أحد أعضاء الهيئات القضائية ” ولما كانت المحاماة الخاصة ليست من بين الهيئات القضائية وفقا لنص المادة 1 فقرة 4 من ذات القانون فإن المشرع الليبي يكون بذلك قد اعتدى على حقين مهمين للأساتذة أعضاء الهيئات القضائية وتحديدا القضاء والنيابة: الحق الأول هو: حرمان أولئك الأساتذة من حقهم في اختيار من يدافع عنهم وهذا حق طبيعي وقانوني وقد كفلته لهم القانون. والحق الآخر في حده الأدنى هو حرمان المحامين شرف التطوع للدفاع عن من يرونهم بحاجة إلى جهودهم من زملائهم في القضاء والنيابة وهو ما لا يمكن لمحام أن يقبله أو أن نعترف به وهنا ندعو النقابة العامة للمحامين وغيرها كذلك من النقابات ذات العلاقة إلى أن تمارس دورها الحقيقي وأن تعمل على تعديل النص المذكور فرجال القضاء هم شركاؤنا في الوطن والعدالة ومن حقهم علينا ومن واجبنا أيضا أن نقف إلى جانبهم متى احتاجونا وأن نمد يد العون لهم متى احتاجوها فقط نظيف للعلم بأن قرارات هذا المجلس لا تقبل الطعن وهو شأن أغلب ما نص عليه هذا القانون من أحكام. أما ثالثة الأثافي أما الأكثر مرارة وأشد إيلاما للنفس هو ما قامت به المحكمة العليا من إحالة أحد الزملاء بالزاوية على التحقيق بمقولة أنه “أهان المحكمة وهذا أمر إن حدث يستحق التوقف عنده بل يوجب التوقف والدراسة والقراءة والتأمل في الفعل أو القول الذي أدى إلى ذلك كما أنه يوجب التوقف في مسألة الإحالة هذه وبهذه الطريقة ودون المرور من قناة النقابة العامة للمحامين خاصة في وقت تشتد فيه الوطأة على المحامين بحبس بعضهم والتهديد بحبس الآخر ما نود أن نقوله هنا هو أنه حتى لو سلمنا جدلا بإمكانية صدور هذا القرار من محكمة استئناف أو حتى محكمة أدنى – ونحن لا نسلم بذلك – إلا أنه لا يمكن القبول بذلك من هرم السلطة القضائية من هذا الرمز في حياتنا والذي نكن له كل ود واحترام وتقدير واعتزاز وافتخار خاصة نحن معشر المحامين هذا الهرم القضائي الذي يمثل آخر وأكبر القلاع والحصون ليس للمحامي فقط بل لكل مواطن صغر أم كبر غنيا كان أم فقيرا وذلك في مواجهة طغيان السلطة وجبروتها لذلك فإن إحالة محام إلى التحقيق من هذا الهرم الرمز لا بد وأن تستوقف القانون ورجاله على الأقل لمراجعة آلية الاتهام والإحالة مستقبلا إذ ليس من السهل على النفس قبول هذا الإجراء فأن يقوم محام من المقبولين أمام المحكمة العليا بارتكاب – ونحن نزعم بمعرفتنا للرجل – عمل أو قول عن عمد يقصد منه إهانة المحكمة هو أمر ليس من السهل قبوله ولا تصديقه والأرجح في اعتقادنا هو أمر ناتج عن التباس في قراءة القول أو الفعل الصادر عنه أو حتى في كليهما وحتى لو حصل فعلا ذاك التصرف أو القول من هذا الزميل أو من غيره فالتأكيد كل التأكيد عندنا أن ذلك لم يكن عن سوء نية وعليه فإن المعالجة في اعتقادنا ليست بهذه الصورة التي تمت التي لا تنتج إلا مزيدا من اتساع الفجوة التي تزداد في الآونة الأخيرة اتساعا كل يوم وكل لحظة بين القضاء والنيابة من جهة وبين المحاماة والمحامين من جهة أخرى ثقافة البعد أو الابتعاد عن المحامي وكراهة الدفاع والنظر إليه لا على أنه زميل وشريك في مسألة العدالة بل على أنه طرف غير محبوب وغير مرغوب حتى في حضوره الذي يفرضه القانون في مواقف كثيرة كان يمكن في اعتقادنا معالجة الأمر بصورة مختلفة صورة تنم عن حسن علاقة وطيب زمالة بين القضاء عموما والعالي منه على وجه التحديد من جهة وبين المحاماة والمحامين من جهة أخرى علاقة كان القضاة فيها – على حد قول الأستاذ كامل المقهور رحمه الله – ” يرحبون بالدعاوى إن كان لها محام وتنشرح صدورهم أن مثل المتقاضين واحدا منهم أو تولى الدفاع لاعن متهم وكانوا يستزيدون من أولئك الذين يملكون نواصي الكلم ويأنسون إلى سعة اطلاعهم عن المسائل التي تعمر بها الدعوى ” كان يمكن أن تكون المعالجة بشيء من الحكمة والتعقل ترسخ معنى الزمالة الذي نسير اليوم بخطى حثيثة ربما لافتقاده والابتعاد عنه ثقافة التكامل بين القضاء والنيابة وبين المحاماة والمحامين أي بين طرفي العدالة التي لا يمكن لها أن تقوم إلا بتلاقيهما وانسجامهما واحترامهما لبعضهما البعض والنظر للمحامي على أساس أنه شريك وزميل لازم في مسألة العدالة وأنه طرف أساسي في محاولة الوصول إلى العدالة كما لو عولج الأمر عن طريق النقابة العامة للمحامين مثلا فعلى الأقل كان ذلك سيولد انطباعا لدى أغلب الزملاء المحامين بل ربما المحامين جميعهم باعتراف بالنقابة ومكانتها ودورها في نشر وإرساء ثقافة الدفاع وما تمثله النقابة من مكانة وتقدير من الأسرة القضائية وخاصة في قمتها لما ذا لا تسود ثقافة الثقة والاحترام المتبادل بين القضاء والنيابة وبين المحامين ولماذا هذه النظرة إلى المحامين بعين الريبة والشكوك بدلا من ثقافة الكرة والشك والريبة وعدم الثقة في القول أو التصرف لذلك نسأل ونعتقد أن من حقنا على الأقل أن نسأل أين هذا الموقف المتعجل من قول محكمتنا العليا في سابق عهدها من اعتبار قول المحامي لرئيس محكمة تظم نصف ليبيا آنذاك ” الواحد منا يساوي ستين منكم ” هو قول لا يشكل جرما ولا إهانة للمحكمة بل اعتبرته من قبيل اعتزاز المحامي بمهنته وفخره وافتخاره بها وذاك القول من محكمتنا العليا مهما قيل في تبرير صدوره إنما هو في نظرنا تعبير صادق لما كانت تنظر به محكمتنا العليا من احترام وتقدير وعلو مكانة للمهنة والمنتمين إليها فوق أنه تعبير صادق على تلك الروح الطيبة المفقودة اليوم بين المحامين ومهنتهم من جهة وبين القضاء والنيابة من جهة أخرى وتلك ثقافة ندعو إلى التمسك بها والسير على هديها والمشي على دربها وأن نرعاها وندعمها بكل قوة وثقة في النفس فلن تجنى العدالة إلا قصورا وتقصيرا من كل ابتعاد بين الدفاع والسادة القضاة وأعضاء النيابة وكما يقول الأستاذ المقهور رحمه الله ” ولا تستوي العلاقة بين المحامي والجهاز القضائي إلا من اللحظة التي تصبح فيها علاقتهما تقوم على الثقة دون خشية أي منهما من مسلك أو تصرفات الآخر ” – الاقتطافتين من محاضرته رحمه الله ” المحاماة مهنة وسلوك ” نشرت بالعدد 65، 66 من مجلة المحامي – لذلك إزاء هذا الموقف فلا نملك إلا أن نقول بأن هذه الإحالة آلمتنا أيما إيلام وآذتنا أيما إيذاء وأنها موقف ما تمنينا أن يحصل في هذا الصرح أو حتى أن نسمع به يوما ولذلك فإننا نأمل وندعو ألا تتكرر مستقبلا فرحابة صدور أساتذتنا الأجلاء في اعتقادنا تتسع لتقبل المحاماة والمحامين حتى وإن أخطا البعض منهم.
[85] قد يكون المكان الطبيعي من الناحية الفنية أن نورد تلك المعلومة في الهامش غير أنه لِما تحمله من معاني وتداعيات على المحامين والمحاماة وإيضاحا لكيفية معاملتهم وتأكيدا على وجود تلك الثقافة لدى من هم بحكم القانون جزء لا يتجزأ من المهنة فقد أوردناها بالمتن وبخط مبرز لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
[86] راجع ص 203 من كتاب التجريم والعقاب في قوانين المخدرات لعبد الفتاح مراد.
[87] نقض 1 / 4 / 1940، القواعد القانونية، ج 5 رقم 86 س، 161، مشار إليه في مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري، د : رءوف عبيد\، ط 5، سنة 1964، مطبعة نهضة مصر بالفجالة، ص 307.
[88] أشرنا إلى رقمها وسنة الإصدار في مقالنا الندب في قانون نظام القضاء ما لـه وما عليه المنشور بالعددين 61، 62 السنة 16 لمجلة المحامي.
[89] الشكوى رقم 39 / 2006 الزاوية.
[90] انظر الدعوى رقم 30 / 2006، 161 / 2006 مدني مستعجل الزاوية.
[91] انظر الاستئناف رقم 1186 / 3ق س الزاوية.
[92] انظر القضية 214 / 2006 مدني كلي الزاوية والشكوى المقدمة للتفتيش القضائي فيها بسبب تلك الواقعة.
[93] راجع يومية الجلسات بتاريخ 22 / 11 / 2006 مدني مستعجل الزاوية.
[94] جناية 716 / 39 ق.
[95] انظر القضية رقم 262 / 2006 الزاوية الجزئية.
[96] القضية 93 / 5 ق تخصصية.
[97] انظر الإشكال رقم 602 / 2004 محكمة السواني الابتدائية.
[98] انظر القضية 1000 / 2006 مدني مستعجل الزاوية الابتدائية.
[99] الطعن المدني رقم 3 / 9 ق ج 16 مايو 1964.
[100] إشارة إلى أن بعضا الأساتذة من القضاة وحتى من المستشارين وفي محاكم مختلفة بعضها استئناف يرتدون الزي الليبي وبصورة لا تليق بساحة العدالة وتقلل من هيبة القضاء والقضاة في نظر المتقاضين بل وتنفر من ارتداء الزي أصلا.
[101] ونحن شهود على ذلك.
[102] لست أدري لم التشاور دائما أو على الأقل في الأغلب مع عضو اليمين بالذات وكأن عضو اليسار ليس من الهيئة؟.
[103] القضية رقم 1067 / 2003، ج طرابلس الابتدائية الدائرة التجارية.
[104] مادة 30 من ق رقم 8 لسنة 84 بشأن الزواج والطلاق وآثارهما تعديلاته، انظر أيضا الطلاق في الشريعة الإسلامية والقانون د أحمد الغندور، ط 2، دار المعارف بمصر، ص 127.
[105] انظر الاستئناف الشرعي 22 / 2007 الزاوية الابتدائية جلسة 17 / 7 / 2007.
[106] تعبير الإنجيل هو مقولة شائعة بين الأساتذة بالمحكمة العليا تحديدا يقصد به قضاء النقض المصري.
[107] ( مادة 26، ق تعزيز الحرية رقم 20 لسنة 91.
[108] مسكن الزوجية بين قانون إيجار الأماكن وقانون الأحوال الشخصية، د : محمد حسين منصور، نقى علا عن أحكام الشريعة الإسلامية للشيخ عمر عبدالله، ط 66، س 1968، ص 118، والشيخ محمد أبو زهرة الأحوال الشخصية، ط 3، س 1957، 283.
[109] ط / ج رقم 685 / 47 ق.
[110] ط / م رقم 183 / 44 ق بقضاء الدوائر مجتمعة.
[111] ط / م رقم 150 / 42 ق، ط / م رقم 206 / 42 ق.
[112] ط/ م/ رقمي 2 / 2 ق، 137 / 3 ق.
113] الوافي في شرح القانون المدني، مجلد 2، في المسئولية المدنية والفعل الضار، د : سليمان مرقس، ص 177.
[114] مقدمة مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة العليا من تاريخ إنشائها في 10 نوفمبر 1953 حتى نهاية شهر يونية 1967 جنائي الجزء الأول، ص 7.
[115] راجع للمزيد مقالنا المحكمة العليا خمسون عاما المشار إليه سلفا.
[116] راجع المادة الخامسة من قانون المحكمة العليا الصادر بتاريخ 18 9 / 1955 م والمادة الثانية عشر من اللائحة الداخلية للمحكمة الصادرة بتاريخ 15 ربيع الثاني 1373 ه الموافق 10 / يناير 1954 م.
[117] انظر جدول الرؤساء في مقالنا المحكمة العليا خمسون عاما المشار إليه سلفا.
[118] انظر التجريم والعقاب في قوانين المخدرات لعبدالفتاح مراد وقضاء.
[119] المقصود تعريف المستشار المذكور للإخلال بحق الدفاع فد نقله في أغلب حروفه وكلماته دون أن يشير إلى مصدره وهو محكمتنا العليا ورد ذلك في مؤلفه الإخلال بحق الدفاع في ضوء الفقه والقضاء، د عبدالحميد الشواربي، 1967، منشأة المعارف بالإسكندرية، ص 366 في نجد فقيها كالدكتور عبد الفتاح مراد يشيد بالمحكمة العليا أورد ذلك في مؤلفة التجريم والعقاب، ص 203.
[120] ممثلا في المحكمة التخصصية إن جاز بالطبع اعتبارها قضاء عاديا وهو ما لا نقول به هذا بالطبع قبل أن تلغى المحكمة.
[121] (الطعن الجنائي رقم 802 / 39 ق.
[122] الطعون الجنائية 626 / 23 ق، 17 / 27 ق، 1067 / 43 ق.
[123] بتاريخ قضاء الدوائر مجتمعة رقم 7 لسنة 50 ق 31 / 5 / 2006.
[124] الطعنين المدنيين رقمي 17، 22 / 41 ق.
[125] الطعن المدني رقم 19 / 27 ق.
[126] الطعن المدني رقم 19 / 27 ق.
[127] الطعن المدني رقم 23 / 7 ق.
[128] الطعن الشرعي رقم 55 / 48 ق سبقت الإشارة إليه.
[129] الطعن الجنائي رقم 802 / 39 ق.
[130] انظر العدد الأول السنة الأربعين من مجلة المحكمة العليا.
[131] ط م 76 44 ق.
[132] الطعن المدني رقم 399 / 49 ق.
[133] انظر دعوى المخاصمة رقم 1174 / 54 ق المرفوعة من الأستاذ علي علي بن سعود ضد الهيئة الإدارية بالمحكمة العليا.
[134] ط / ج رقم 1060 / 44 ق.
[135] 1 / 1 ق.
[136] 4 / 14 ط.
[137] 22 / 8 ق.
[138] 9 / 18 ق.
[139] ط / ج رقم 1126 / 54 ق.
[140] ط / ج رقم 1126 / 54 ق.
[141] ط / م رقم 4254 / 54 ق ).
[142] لإعمال المادة 8 من الوثيقة الخضراء الكبرى لحقول الإنسان.
[143] ط / ج رقم 1287 / 51 ق.
[144] يلاحظ أن سيادته كان رئيسا بالنيابة العامة.
[145] 4 / 14 ط إداري، دستوري.
[146] انظر التجريم والعقاب لعبدالفتاح مراد وهو يشيد بمحكمتنا العليا، ص 203.
[147] انظر الطعن المدني رقم 272 / 49 ق، الذي قضت فيه باعتبار الاختصاص ابتدائيا، وقارن ذلك بالطعن المدني رقم 13 / 48 ق والمرفوع من باقي الورثة ضد ذات الخصوم وعن ذات الوقائع والذي قضت فيه باعتبار الاختصاص جزئيا.
[148] راجع “المحكمة العليا تشيع قانون تعزيز الحرية” مقالة للنقيب العام الأسبق الأستاذ محمد العلاقي جريدة أويا 15 / مارس 2009 وفقا للموقع.
[149] ط / م / رقم 574 / 52 ق.
[150] إشارة إلى قرار صادر عم ما يسمى مؤتمر الشعب العام المنوه عنه سلفا.
[151] إشارة إلى منشور إدارة التفتيش القضائي البناء على تعليمات ما كان يسمى بأمانة العدل سابقا المشار إليه سلفا أيضا.
[152] جناية رقم 716 / 39 ق طرابلس.
[153] لم نشر إلي أرقام دعاوى لشهرة تلك القضايا ومعرفة الجميع بها.
[154] انظر مقابلة سيادته كاملة في موقع بن رباح على شبكة المعلومات الإنترنت.
[155] من أسباب استقالة وزير العدل اللبناني الأسبق عندما قدم استقالته لشقيقه العماد إيميل لحود رئيس الجمهورية اللبنانية.
[156] ( تم ذلك بحمد الله بعد ثورة السابع عشر من فبراير المباركة.
[157] الآية الكريمة 44 سورة غافر.
اترك تعليقاً