بحث قانوني بعنوان حــق النسب و البصمة الوراثية
أكادنمية الدراسات العليا – شعبة القانون الدولة
” بحث في حقوق الإنســـان “
بإشــراف الدكتـــور: ميلود المهذبـــي
إعــــداد الطالبــة: إنتصار حسين الحصائري
2009
أولاً المقدمـــــــة
إن موضوع النسب و مسألة إثباته موضوع خطير و حساس ، يترتب عليه من نتائج خطيرة تؤثر على المجتمع و على العلاقات الاجتماعية ؛ لذلك عملت الشريعة الإسلامية على حفظ الأنساب من الضياع و الكذب و التزييف و جعلت ثبوت النسب حقا للولد يدفع به نفسه من الضياع و حقا لأمه تدرأ به عن نفسها الفضيحة و الفحشاء و حقا لأبيه يحفظ به نسبه و و لده له عن كل دنس و ريبـــــــة و حتى تبنى الأسرة و توجد القرابة على أساس متين يربط أفرادها رباط قوي متين من دم واحد و أصل مشترك .
و معنى النسب هو إلحاق الولد (ذكر أو بنت ) بأبيه و ما يترتب على ذلك من الالتزامات بينهما من عطف الأب على الولد و تربيته و تعليمه حتى يبلغ أشده و من احترام الولد للأب و رعايته في شيخوخته و التوريث فيما بينهما و كذلك حق الولد في حمل جنسية أبيه .
و لما كان نسب الولد من أمه ثابت في كل حالات الولادة شرعية أم غير شرعية
فإن ثبوت أو نفي نسب الولد من أبيه لم يجعل المشرع له أسباباً إلا في حالات معينة ؛ و حالات النسب هي ثبوت النسب بالزواج و بالا قرار و بالبينة أونفيه باللعان ,أما في المجتمعات الغربية فهناك طرق حديثة يتم اللجوء إليها : مثل الزمرة الدموية أوفي قياس عدد نطاف وحركته تركيزه واحدث , أما أحدث طريقة يتم اللجوء إليها في وقتنا الحاضر هي البصمة الوراثية ولان القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة قد حثتا على العلم و الاخذ بكل مايثبته العقل و العلم وبالتالي يجب الاخذ بهذه الطريقة ايضاً ونحن نفهم عدم ورود هذه الطريقة ضمن الطرق الواردة في الشريعة الاسلامية للاثبات أو نفي النسب كون هذه الطريقة لم تكن معروفة في ذلك الوقت لانه تم اكتشافه حديثاًوبالتالي ليس هناك مبرر في عدم الاخذ بها في وقتنا الحاضر بحجة عدم ذكرها في الشريعة الاسلامية .
والبصمة الوراثية هي إحدى نتائج علم الوراثة ، و هو علم جديد ظهر في بداية القرن و كان لا يزال في بعض الدول المختلفة فرع من فروع علم التشريح في كليات الطب و تعتبر مسألة البصمة الوراثية ومدى الاحتجاج بها من القضايا المستجدة التي اختلف فيها فقهاء العصر, وتنازعوا في المجالات التي يستفاد منها وتعتبر فيها حجة يعتمد عليها كليا أو جزئيا، وقد شاع استعمال البصمة الوراثية في الدول الغربية وقبلت بها عدد من المحاكم الأوربية وبدأ الاعتماد عليها مؤخرا في البلدان الإسلامية ونسب أعمال الإجرام لأصحابها من خلالها في الشق الجنائي لها متعتمين أو متحفظين على شقها في مجال النسب ، لذا كان من الأمور المهمة للقضاة معرفة حقيقة البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات الأنساب وتمييز المجرمين وإقامة الحدود .
ثانياً أهمية الموضوع :
أختير هذا الموضوع لما له أهمية شخصية حينما تلاحمنا نحن كجيران حي واحد لإثبات نسب أحد افرادها جاهدين هذا من ناحية ، و من ناحية أخرى فإن الموضوع قيد البحث له أهمية موضوعية إذ أن المشرع بشكل عام و المشرع الليبي بشكل خاص يراوح في مكانه مقارنة بالتطور التقني في جميع .
ثالثاً نطاق البحث :
سنتطرق بإذن الله تعالى في هذا البحث إلى إثبات النسب بالبصمة الوراثيـــــــة وعلاقة هذا الأثر بحقوق الإنســـان و ما يترتب على هذه التقنية من تسجيد حـــــي و منطقي لمبدا حقوق الانسان و خاصة حقوق الطفل الذي ينادي به المجتمع الدولي.
رابعاً اشكالية البحث :
إن من باب أولى و نحن في بداية القرن الثاني و العشرون وباحثين و دارسين دراسات عليا أن نواكب التقنية الحديثة و تسخيرها فيما يتواءم مع سير خططنا الآنية و المستقبلية و أن يطور المشرع من أدواته بما يتوافق مع التسارع الحاصل في العلم و المعلوماتية ؛ وكما جاءت البصمة الوراثية بالحل الناجح في إثبات أو نفي الجرائم فيما يتعلق بالمجال الجنائي و مجال النسب فعلى الأرجح اعتبارها أنها قرينة قوية مبنية على الدقة المتناهية ، خاصة و أن هناك العديد من القضايا التي يكون فيها القضاء عاجز عن إتخاذ تدبير إتجاهها ، وإن قبل المكشرع بهذه التقنية فهل هي مفتوحة على مصرعيها متاحة لكل من يشك في نسبه أم ان للمشرع قواعد يرسي عليها تقنينه لهذه التقنية ؟! .
خامساً منهج البحث :
سنتخذ بإذن الله تعالى في هذا البحث بشكل تفصيلي المنهج المقارن بين الشريعة و القانون الوضعي مدعماً ذلك بالنصوص القرآنية و النصوص القانونية التي سنتوصل إليها اثناء البحث .
سادساًً خطة البحث
ستناول بإذن الله تعالى موضوع حق النسب بين الشريعة و القانون و حجية البصمة الوراثية لإثبات النسب في ضوء حقوق الإنسان و ذلك عبر خطة ثلاثية تتناول بشكل تفصيلي كل ما يتعلق بماهية حق النسب في ضوء البصمة الوراثية :
المبحث الأول : البصمة الوراثية.
المطلب الأول : ماهية البصمة الوراثية
المطلب الثاني : نشأة و تطور البصمة الوراثية
المطلب الثالث : خصائص البصمة الوراثية .
المبحث الثاني : إثبات حق النسب بالبصمة الوراثية
المبحث الأول : إثبات النسب بالبصمة الوراثية.
المبحث الثاني : الآثار المترتبة على استخدام البصمة الوراثية.
المبحث الثالث : حكم استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب
الفصل الثاني :حقوق الإنسان و البصمة الوراثية.
المبحث الأول : علاقة إثبات النسب وحقوق الإنسان
المبحث الثاني: الدلائل على احقية الإنسان في إثبات نسبه
المبحث الثالث: أولوية ثبوت حق النسب.
المطلب الأول : تعريف البصمة الوراثية
أولاً / ماهية البصمة الوراثية لغةً و إصطلاحاً :-
• تعريف البصمة الوراثية لغةً:
كلمة ” البصمة ” مشتقة من البُصم و هو : فوت ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر ، يقال : ما فارقتك شبراً ، و لا فتراً ، و لا عتباً ، و لا رتباً ، و لا بصماً ، و رجل ذو بصم : أي غليظ البصم ، و بصم بصماً : إذاً ختم بطرف أصبعه ، و البصمة أثر الختم بالإصبع كما أقر بذلك مجمع اللغة العربية ، فالبصمة عند الإطلاق ينصرف مدلولها إلى بصمات الأصابع ، و هي : الإنطباعات التي تتركها الأصابع عند ملامستها سطحاً مصقولاً ، و هي طبق الأصل لأشكال الخطوط الحلمية التي تكسو جلد الأصابع و هي لا تتشابه إطلاقاً حتى في أصابع الشخص الواحد.
أما كلمة ” الوراثية ” فهي من الوراثة و هي علم يبحث في إنتقال صفات الكائن الحي من جيل إلى آخر و تفسير الظواهر المتعلقة بطريقة هذا الإنتقال ، و أصل الورث أو الإرث ، الإنتقال تقول : ورث المال يرثه ورثاً إرثاً و وراثةً أي صار إليه بعد موت مورثه ، و يقال : ورث المجد و غيره و ورث أباه ماله و مجده أي ورثه عنه ، فهو وراث و هي وارثة و الجمع ورثة ، و أورثه الشي أي أعقبه إياه ، و الوارث من صفات الخالق عز و جل سبحانه.
• تعريف البصمة الوراثية إصطلاحاً :
تعيين هوية الإنسان عن طريق تحليل جزء أو أجزاء من الحمض النووي المتمركز في نواة أي خلية من خلايا جسمه ، أو تلك المادة الحاملة للعوامل الوراثية و الجينات في الكائنات الحية ، فهي مخزنة في بئر الأسرار و هو الجينات الوراثية و عرّف العلماء المتخصصون أن ذات الإنسان كجسم ، هو عبارة عن خلية بداخلها النواة مسؤولة عن حياة الخلية ثم تمّ معرفة ما بداخل النواة حيث أنها تحتضن الصبغيات أو الكروموسومات الستة والأربعين لتنقسم ثم أكتشف بأن هذه الصبغيات أو الكروموسومات تقع في شكل شريط مرتب عليه حوالي مائة ألف جين تشبه في شكله شكل الخرز على الخيط ثم تم التوصل إلى معرفة أن الجين الواحد مكون من أربعة عناصر متضافرة ، بعد الوصول لهذه المرحلة المتقدمة أتحد علماء هذا العصر لدراسة عناصر الجين فيما يسمى بمشروع الجين العملاق وهو ما يطلق عليه علمياً شريط DNA المتوفر حسب ما توصلت إليه الأبحاث العلمية و الطبية في أي من أنسجة الجسم عن طريق تحليل جزء أو أجزاء من الحامض النووي المتمركز في نواة أي خلية من خلايا جسمه ، حيث أن مصادر البصمة الوراثية موجودة في النواة من كل خلية في جسم الإنسان والجسم يحتوي على ترليونات من الخلايا ، وكل خلية تحتضن نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها وكل نواة تحتضن المادة الوراثية بداية من الخواص المشتركة بين البشر جميعهم أو بين سلالات متقاربة وانتهاء بالتفصيلات التي تختص بالفرد وتميزه بذاته بحيث لا يطابق فرداً آخر من الناس ومصدر البصمة موجود على شكل أحماض أمينية (DNA) وتسمى الصبغيات لأن من خواصها أنها تلون عند الصبغ ويطلق عليها أيضاً ” الحمض النووي ” لأنها تسكن في نواة الخلية وهي موجودة في الكروموسومات، وهذه الكروموسومات منها ما هو مورث من الأب والأم ومنها ما هو مستجد بسبب الطفرة الجديدة NEO MUTATION
والصفات الوراثية تنتقل من الجينات وهذه الجينات تتواجد في الكروموسومات وهناك حوالي مئة ألف جين مورث في كل كروموسوم واحد ، لذلك لو تم دراسة كروموسومين فقط بطريقة عشوائية لأمكن متابعة عدد كبير من هذه الصفات الوراثية في هذين الكرموسومين ولأصبح الجواب الصحيح في معرفة البصمة الوراثية للأبوة والبنوة بنسبة نجاح تصل لـ 99.9% نظراً لعدم تطابق اثنين من البشر في جميع هذه الصفات الوراثية .
المطلب الثاني : نشأة و تطور البصمة الوراثية
• المصدر التاريخي لتأصلها :
نجد أن المصدر الأساسي لظهور فكرة البصمة الوراثية هي القيافة كمصدر تاريخي شرعي كان معمولاً بها و ما يزال في صورته الحديثة فالقيافة لغةً من مصدر قاف و هي بمعنى تتبع أثره ليعرفه ، و يقال فلان يقوف الأثر و يقتافـــــه ، و القائف هو الذي يتبع الآثار و يعرفها و يعرف شبه الرجل بأبيه و أخيه أو هو الذي يعرف النسب بفراسته و نظره إلى أعضاء المولود ، و هي نوعان كالآتي:-
الأول منها قيافة الأثر : و تعني أن الشخص القائم بها يقتفي آثار الأقدام و الأخفاف و الحوافر.
الثاني منها قيافة البشر : و تعني أن الباحث هنا يستعمل الإستدلالات بناءً على هيئة أعضاء الشخص فيما يخص مجال التعرف على هوية الشخص بطريق النسب.
و ما تحويه القيافة من مجادلات في معرفة المولود و غيرها من تلك الأمور و قد فسر ( باب القائف بأنه هو الذي يعرف الشبه و يميز الأثر ، سمي بذلك لأنه يقتفي الأشياء أي يتتبعها ، نقل الأصمعي : هو الذي يقفو الأثر و يقتافه قفوا و قيافةً و الجمع هم القافة ) ، فإن للقيافة القيمة القانونية و الأساس التاريخي الذي سبق العمل به و الإعتماد عليه في معرفة حقيقة أمر من الأمور الهامة التي كان العرب قديماً الرائدون فيها و العاملين بها وترسيخها لما فيها من تحقيق أحد مقاصد الشريعة الغراء ألا و هو حفظ النسل بمعرفة النسب.
• المصدر العلمي لتأصيلها :-
و الوجود الواقعي و العملي للقيافة أظهر الحاجة إلى وسيلة أدق منها و أسرع بل و تعد فنية أكثر ألا و هي ما يسمى بالبصمة الوراثية ، بعدما تم اكتشاف ما يؤدي لها من النواة و موكناتها و الكروسومات وما تحمله من صفات وراثية إكتشف العالم إليك جيفري في عام 1985 م البصمة الوراثية أو الشفرة الوراثية ، ولم تُعرَف البصمة الوراثية حتى كان عام 1984 حينما نشر د. “آليك جيفريز” عالم الوراثة بجامعة “ليستر” بلندن بحثًا أوضح فيه أن المادة الوراثية قد تتكرر عدة مرات، وتعيد نفسها في تتابعات عشوائية غير مفهومة؛ و واصل أبحاثه حتى توصل بعد عام واحد إلى أن هذه التتابعات مميِّزة لكل فرد، ولا يمكن أن تتشابه بين اثنين إلا في حالات التوائم المتماثلة فقط؛ بل إن احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد في الترليون، مما يجعل التشابه مستحيلاً؛ لأن سكان الأرض لا يتعدون المليارات الستة، وسجل الدكتور “آليك” براءة اكتشافه عام 1985، وأطلق على هذه التتابعات اسم “البصمة الوراثية للإنسان” The DNA Fingerprint” ، وعرفت على أنها “وسيلة من وسائل التعرف على الشخص عن طريق مقارنة مقاطع “(DNA)”، وتُسمَّى في بعض الأحيان الطبعة الوراثية “DNA typing”.
و مع تطور العمل الفني في الإثبات الجنائي ظهرت البصمة الوراثية على إعتبارها أدق صور الإثبات حتى الآن ، و الذي يدعونا إلى بحث أبرز صور إستخدامها في المجال الجنائي كأهم و أدق طرق تحقيق العدالة في عصرنا الحالي في أغلب الدول أن لم تكن جميعها .
المطلب الثالث خصائص البصمة الوراثية
تتمتع البصمة الوراثية بخصائص فنية تختص بها و كذلك لها خصائص خلقية ثابتة في كل إنسان ، لذا سأتطرق لهذان النوعان من الخصائص من ناحيتين هما الخلقية و الفنية.
(أ) الخصائص الخلقية:
إن أصل الخلق من نطفة الأمشاج كما في قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، و هذه النطفة هي التي يختلط فيها الحيوان المنوي بالبويضة الأنثوية و دليلنا على تفسير معناه ما رواه حسين ابن الحسن حدثنا أبو كدينة عن عطاء ابن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يحدث أصحابه فقالت قريش يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال لا أسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي ، فجاء حتى جلس ثم قال يا محمد مما يخلق الإنسان قال يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل و من نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظام و العصب و أما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم و الدم ، فقام اليهودي فقال هكذا كان يقول من قبلك ، و بذلك نستدل على النطفة بدليله الشرعي قبل ظهور الدليل العلمي عند علماء الوراثة ، و كتركيب علمي لهذا الأصل الخلقي فإن الحيوان المنوي يحمل كروموسومات xy و البويضة xx و وفقاً لنظرية علم الوراثة الأولى من نوعها نظرية مندل أول مكتشف لعلم الوراثة ، فإن الأبناء لا يختلفون عما تكونت منه جيناتهم الأساسية المنتجة من خلايا الأب و الأم ، و دليلنا في ذلك خطاب الله الخالق سبحانه و تعالى إلى خلقه (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُــــــونَ ) ، و الدليل المساند لذلك نستنتجه من السنة الشريفة لما رواه عباس ابن الوليد ( حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله صلى الله عليه و سلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل ، فقالت أم سليــــــــم و أستحييت من ذلك قالت و هل يكون هذا ؟! فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم نعم فمن أين يكون الشبه أن ماء الرجل غليظ أبيض و ماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه ) ؛ فللبصمة الوراثية الدلالة الهامة في معرفة الشبه منذ فجر الإسلام ، لما رواه إبراهيم ابن موسى الرازي و سهل ابن عثمان و أبو كريب و اللفظ لأبي كريب قال سهل حدثنا و قال الآخران أخبرنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن مصعب ابن شيبة عن مسافع ابن عبدالله عن عروة ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم هل تغتسل المرأة إذا احتلمت و أبصرت الماء ؟! فقال نعم ، فقالت لها عائشة رضي الله عنها تربت يداك وأٌلت قالت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” دعيها و هل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله و إذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه “، مما يعني أن للبصمة الوراثية الدلالة الواضحة حتى و إن كانت من دون بحث بمجرد الشبه يسهل الإثبات ، من هذا نستطلع أي فائدةٍ عظيمةٍ من بيان التركيب الخلقي تتمثل في الدليل العظيم الواضح الثابت الذي وهبنا الله إياه في أنفسنا حتى لا تضيع الأنساب ، و يعلم الجاني من فاعل الخير لقوله تعالى ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ، و قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، أي أن البصمة الوراثية علامة مميزة لكل إنسان في نفسه و لنفسه و لنسله ، و قد ذهب بعض الفقه إلى أن وظيفة الفحص الوراثي بالحمض النووي من باب الوسيلة الغير مباشرة للإثبـــــات و ليست كشهادة الشهود التي بدورها تسبغ على الواقعة محل التقاضي مباشرة.
(ب) الخصائص الفنية:
و يتم تلخيص خصائصها الفنية عبر نقاط مرتبطة يبعضها البعض :
1. لما تتمتع به البصمة الوراثية من خصائص و مميزات ما كانت لها المكانة التي تستدعي أن يستعان بالخبراء للكشف عنها حيث تمتعها بعدم التكرار بين الأفراد ، كما أنها من أدق الوسائل للتوصل إلى الفاعل الحقيقي بأسرع الطرق ، فتظهر أهم مميزات البصمة الوراثية في تفرد كل شخص بها على حده دون خلط مما يساعد على جلاء الحق و إزالة أي شوائب تشوبه ، بل و التثبت على اليقين دون الشك و ذلك فيما عدا حالة التوائم المتشابهة .
2. للبصمة الوراثية الميزة الفنية التي تقطع الشك باليقين ، بالتوصل إلى جذور الحقيقة حيث أن ما ينتج عنها من نتائج علمية من واقع الجريمة و حقيقتها ، و لها الفائدة القانونية في الكشف عن المجرمين.
3. تتمتع البصمة الوراثية بميزة الدقة ، حيث ما تملكه من الإثبــــــات و كذلك النفي ، في أي من أنواع الجرائم.
4. أن الله حتى يظهر الحق على الحال التي كانت عليه الجريمة ، فإن البصمة الوراثية التي يحملها الحمض النووي لا تتأثر بالظروف الجوية ، و لو كانت جافة و لو كانت متعفنة ، و من أي من أجزاء الجسم.
5. و تتميز البصمة الوراثية بعدم إمكانية الخلط بين جزئيين متواجدين في مسرح الجريمة و لكن لشخصين مختلفين ، حيث يمكن الفصل بينهما مهما كان الحال من الإختلاط ، فيسهل فيها الفرز.
6. يمكن التوصل للبصمة الوراثية لأي شخص بالبحث و الفحص الدقيق للحمض النووي ، و لو كان المصدر عبارة عن بقعة دم أو مني ، أو غير ذلك من المصادر مهما كانت قليلة.
المطلب الأول : إثبات النسب بالبصمة الوراثية
و قبل أن نسهب في التعمق في كيفية إثبات النسب بالبصمة الوراثية قبلا علينا أن نحدد ماهية النسب لغةً و اصطلاحاً حتى يتمكن القارئ من رصد الخطوط العريضة للموضوع :
النسب في اللغة: القرابة، وسميت القرابة نسباً لما بينهما من صلة واتصال، وأصله من قولهم نسبته إلي أبيه نسباً، ومن باب طلب، بمعني: عزوته إليه، وانتسب إليه: اعتزي.
التعريف الاصطلاحي:
تعريف العلامة البقري بقوله : هو القرابة ، والمراد بها الرحم، وهي لفظ يشمل كل من بينك وبينه قرابة ، قربت أو بعدت ، كانت من جهة الأب أو من جهة الأم )
وعرّفه صاحب العذب الفائض، بالقرابة أيضاً، ثم قال: وهي الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة.
وقد حاول بعض الباحثين المعاصرين تعريف النسب بمعناه الاصطلاحي الخاص ، وهو القرابة من جهة الأب باعتبار أن الإنسان إنما ينسب لأبيه فقط فقد قال في تعريفه : ( حالة حكمية إضافية بين شخص وآخر ، من حيث أن الشخص انفصل عن رحم امرأة هي في عصمة زوج شرعي ، أو ملك صحيح ، ثابتين ، أو مشبهين الثابت للذي يكون الحمل من مائه ) .
وبعد هذا التعريف المسبط لتكوين فكرة عامة عما تناهى إليه في تعريف النسب نحاول الاشارة بشكل دقيق و موجز إلى إثبات النسب بواسطة التقنية الحديثة أي البصمة الوراثية .
لا خلاف بين الفقهاء فى أن النسب الشرعي يثبت بالفراش الطبيعي والحقيقي عن طريق مشروع بالنكاح ، و كذلك إثباته بالاستلحاق ، والبينة بشهادة الشهود وماهو متعارف عليه بين الناس و القيافة ، و أخيراً القرعة حينما يتنازع طرفان على الابوة تجرى القرعة ولكن لا يؤخذ بها.
أما العلم الحديث فقد تولى أبحاثاً مستفيضة ليتوصل إلى أنه تتابع عقد بروتينية على جديلة خاصة داخل العصى الوراثية نستنتج أن كل إنسان يتفرد بنمط خاص في التركيب الوراثي ضمن كل خلية من خلايا جسده ، لا يشاركه فيه أي شخص آخر في العالم أي أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية هودليل مادي يعتمد العلم والحس ويقوم على التسجيل الذي لا يقبل العود والإنكار بخلاف غيرها الذي يعتمد على الذمم ويقبل العود والإنكار، وتساهم البصمة الوراثية في إثبات أو نفي النسب بإعتبارها تقنية ذات قوة تدليلية قطعية في ذلك فهي موجودة على صيغة واحدة في جميع مكونات الجسم سواء الدم ، المني ، الشعر أو في أي عضو من أعضاء الجسم تختلف من شخص لآخر ، وتبقى ثابتة مدى الحياة إلى أن تتحلل الجثة بعد الموت مما يسمح للطب الشرعي من معرفة النسب حتى بعد الوفاة ،ومكونات DNA للأب لإثبات الأبوة وDNAالأم لإجراء المطابقة بين DNA الطفل ، واللجوء للبصمة الوراثية يتم عن طريق الخبرة العلمية التي يتم فيها تحديد ضرورة فحص الحمض
النووي للبصمة الوراثية على أساس أن دقة ثبوت النسب أو نفيه بهذه الطريقة العلمية تصل حسب الخبراء والأطباء إلى نسبة وتقول التقارير أن تطور العلوم بشأن الحمض النووي كفيلة بالوصول به في ظرف زمني قريب إلى نسبة 100 ٪ لهذا يرى اساتذة القانون ضرورة تقنين جواز اللجوء للطرق العلمية القاطعة التي قد يقع تحديدها عن طريق التنظيم تمييزا لها عن الطرق العلمية الظنية ما دام أنه لا مانع شرعي في ذلك .
كما أن الباحثين استندوا في إعتماد البصمة الوراثية طبقا لما جاءت به المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الصادرة بتاريخ 21 رجب 1422 و.ر الموافــــــــــــق 08 أكتوبر 2001 ف توصل إلى أن الإسلام يقر الأخذ بالبصمة الوراثية في حال تنازع أكثر من شخص في أبوة مجهول النسب ،فقد ذكر الأمين العام للمنظمة في جريدة البيان بتاريخ 09/10/2001 الدكتور أحمد الجندي أن 26 باحثا شاركوا في إعداد بحث البصمة الوراثية و ذلك من الناحية الطبية والشرعية و توصلوا من خلاله إلى حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب ، وضرورة الإحتكام إليها في حالة تنازع إثنين في مجهول النسب أو عدول الأب عن إستلحاق مجهول النسب أو إنكار أبنائه و توريث مجهول النسب و إذا أقر بعض الإخوة بأخوته و نفاها آخرون و في حالة إدعاء إمرأة بأمومتها بشخص ما دون دون دليل على ولادتها له ، كما أنه ذكر أن كل إنسان ينفرد بنمط خاص في التركيب الوراثي ضمن كل خلية من خلايا جسده ، ولا يشاركه فيها أي شخص آخر .
والمتأمل فى قول ابن القيم عن حكم العمل بالقرائن القوية فى الحدود فى كتابه الطرق الحكمية ” لم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم ،وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار ، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهه ” المتأمل فى ذلك يلحظ مدى حاجة الناس فى زمن ابن القيم لأدلة مادية تعتمد الحس ولا تعتمد الذمم ، وفى عصرنا أشد.
ومن هنا استدرك أن البصمة الوراثية تصلح أن تكون مانعا من قبول طرق الإثبات التقليدية دون العكس لما سبق أن بيناه من شروط العمل بتلك الطرق والتي أهمها عدم وجود ما يعارضها كما أعتقد أن البصمة الوراثية تصلح أن تكون شرطا لقبول طرق الإثبات التقليدية لما سبق أن بيناه من شروط العمل بتلك الطرق والتي أهمها إمكان صدقها عقلاً ؛ و من هذا الإعتبار نستطيع أن نستلهم أن البصمة الوراثية التى تحدد الصفات الوراثية للإنسان ، يمكن بهامعرفة صدق المدعين من كذبهم ، كما أنه يمكن البحث عن أهل مجهول النسب بإجراء البصمة على المشتبه فيهم .
وبهذا تظهر فائدة البصمة الوراثية على هذا الصنف من مجهول النسب فى كشف صدق الإدعاء بالإستلحاق وفى البحث عن أهله من المشتبه فيهم ، الأمر الذي لم يعد يصلح بعده الرجوع فى الإقرار بالنسب لتيقن ثبوته بالبصمة الوراثية.
المبحث الثاني : الآثار المترتبة على استخدام البصمة الوراثية.
حسبما قادنا البحث من استقصاء المعلومات و التفتيش وراء المعرفة رأيتُ أن الآثار المترتبة عن استخدام البصمة الوراثية تنقسم لشقين احدهما ايجابي و الآخر سلبي :
الشق الايجابي من استخدام البصمة الوراثية :
• حالات تبديل المواليد في مستشفيات الولادة :
و هو أن يتم تسليم مولود إلى غير أبويه خطأً أو عمداً ، و أيضاً في بعض حالات الطواريء قد يتم خلط المواليد حديثي الولادة مع بعضهم البعض خاصة في حالات الإخلاء السريع ، في مثل هذه الحالات يتنازع رجلان على المولود و لا يمكن للتشابه الخلقي الشديد ( القيافة ) بين الطفل و أحد الرجلين أن يرقى مطلقاً لأن يكون دليلاً يعتمد عليه بصورة مؤكدة لإلحاقه بأحدهما لعدم وجود القائف المتمكن هذه الأيام ، كما أن تحديد فصائل الدم تستخدم للإستبعاد فقط ، و لا يمكن إثبات البنوة على أساسها حيث أنها وسيلة نفي فقط و ليست وسيلة إثبات ، و يمكن إستعمال البصمة الوراثية لحل هذه المشكلة حيث يتم فحص الحمض النووي لأمهات و آباء المواليد و كذلك المواليد أنفسهم ، و بمقارنة البصمة الوراثية بين الطفل و كلا الرجلين فإنه يمكن قطعاً نفي المولود عن أحدهما أو عن كليهما أو إثباته لأحدهما إن كان هو أباه ، فالبصمة الوراثية تعتمد على التشابه و التطابق في كل ما يمكن أن يكون متوارق من الأبوين ، و لا يمكن أن يكون مستحدثاً جديد.
• الحالات التي ينكر فيها الرجل أن الأب لطفل نتيجة نكاح غير شرعي كالإغتصاب أو الزنا :
و ذلك لتبرئة نفسه من هذه الجرائم ، بمقارنة البصمة الوراثية لهذا الرجل و الطفل يمكن إثبت أنه الأب الحقيقي للطفل ، و المذهب أن ولد الزاني لا يلحق به و إن أعترف به لحديث الفراش السابق ، و أختار الشيخ الجليل تقي الدين أنه إذا أستلحق ولده من الزنا و لا فراش لحقه ، و في الإنتصار : يلحقه بحكم حاكم.
• حالات الإدعاء من قبل المرأة لتحقيق غاية معينة :
كالحالات التي تدعي فيها المرأة أن مولودها يخص رجلاً معيناً لإجباره على الزواج أو طمعاً في الميراث أو في أخذ النفقة ، و بمقارنة البصمة الوراثية للمولود و الرجل المدعى عليه يمكن إثبات أو نفي إدعائها.
• الحالات التي يدعي فيها رجلان نسب الولد المجهول النسب أو اللقيط :
من أدعى نسب اللقيط من ذكر أو أنثى ألحق به متى كان وجوده منه ممكناً ، لما فيه من مصلحة اللقيط دون ضرر يلحق بغيره ، أما البصمة الوراثية فهي تنتقل من الأباء إلى الأبناء و ملازمة للفرد ، و لو كانت البصمة الوراثية معروفة لدى الفقهاء القدامى للجئوا إليها لأنها تؤدي إلى إقامة الحجة و البينة على صدق أو كذب المدعي للنسب و هو الغرض الذي يقوم به الشهود العدول ، فلو أن البصمة الوراثية لمدعي النسب تطابقت مع الطفل الذي يدعي نسبه فهو ابنه يقيناً ، بمعنى أن مقارنة البصمة الوراثية لكل المدعيين و الولد قد تكون ذات فائدة عظيمة في نفي النسب عن أحدهما و إثباته للآخر أو في نفي النسب عن كليهما بصورة أكيدة و دقيقة.
• الحالات التي يدعي فيها رجل نسب شاب مجهول النسب أو العكس على أساس أنه ابنه و قد فقده منذ فترة طويلة أو أن ينسب شاب نفسه لرجل طمعاً في تحقيق غاية ما :
كأن يدعي شاب نسبه إلى رجل معين فقد ابنه منذ فترة طويلة و ذلك طمعاً في أخذ الميراث أو الخلوة بمحارم المدعى به ، هنا ظاهر الأمر ليس كباطنه ، فالدعوى قد تكون كاذبة ! فإن مشكلة الأولاد مجهولي النسب واردة و قائمة بين المسلمين في هذا الزمان الذي تحدث فيه جرائم الإغتصاب و الزنا و ذلك لمجاراة الكفار في عاداتهم و سلوكياتهم ،في هذه الحالة يمكن للبصمة الوراثية أن تنفي النسب إذا كانت الدعوى كاذبة فعلاً ، و ذلك بمقارنة البصمة الوراثية و إثبات عدم تطابقها ، و في هذا النفي منفعة عظيمة و إبقاء لمصلحة ، إذ أن الإبقاء على حال جهالة النسب أولى من أن يستحل كاذب أموال و أعراض الآخرين بغير حق.
• الحالات التي تتنازع فيها أمرأتان على أمومة ولد و تساوتا في البينة ( الشهود ) :
هنا أختلف الفقهاء ، فهل يثبتونه لإحداهما أو ينفى عن كلتيهما أو يثبتوه لكلتيهما ، من المعروف أنه لا يمكن أن يكون للولد أُمان ، لذلك يمكن نفي الولد عن إحداهما و إثباته للأخرى عن طريق مقارنة البصمة الوراثية للولد و المرأتين ، و كذلك إذا أدعت أمرأة أمومة ولد فإنه بمقارنة البصمة الوراثية للولد و المرأة يمكن نفي الأمومة عنها أو إثباتها لها بصورة أكيدة ، و قد يكون للولد أُمان ، إحداهما ولدته و الأخرى أرضعته ، و تدعي كل منهما الولد ، و حيث أن أحكام النسب هي أحكام الإرضاع ، و أن الإرضاع لا يغير من البصمة الوراثية للولد ، لذلك يمكن نفي الودل عن إحداهما و إثباته للأخرى عن طريق مقارنة البصمة الوراثية.
• الحالات التي يتنازع فيها رجلان على مولود من أمرأة زوجة لأحدهما و مطلقة من الآخر :
كالمطلقة طلاقاً رجعياً أو بائناً و تزوجت برجل آخر و أنجبت في أدنى مدة للحمل ، أو في أقصى مدة للحمل ، أو تزوجت قبل إنقضاء فترة العدة ( كالتزوير مثلاً ) ، فهل ينسب المولود للزوج الأول أو للثاني أو لكليهما ؟! و إذا أنجبت توأماً فهل من الممكن أن تحمل المرأة من الرجلين ؟! أجمع الفقهاء على أن أقل مدة حمل هي ستة شهور و في عصرنا الحاضر يمكن للطب تشخيص عمر الجنين على وجه التقريب عن طريق الأشعة المتطورة و إستشاف مراكز التعظم في عظامه ، كما يمكن فحص الدم و مقارنة البصمة الوراثية لمعرفة الأب الحقيقي إذا أشكل الأمر ، فهذا معناه أن الحمل قد يتأخر إما بسبب الزوج ، أو بسبب تأخر إطلاق المبيض للبويضة أو تناول أدوية منع الحمل التي قد تؤدي إلى إنقطاع الطمث لفترة قد تزيد عن سنة أحياناً ، و هذا شي بديهي طبياً ، إضافةً للحالة النفسية و الإجتماعية و الفردية و العرق و المناخ … إلخ ، لكن القول بأن فترة الحمل تمتد إلى سنتين و ثلاث و أربع و خمس و سبع دون إبداء الدليل الطبي الواضح فهذا غير صحيح ، فطبياً يستمر الحمل حوالي 280 يوماً بعد اليوم الأول من آخر حيضة ، و في حالة إختلاط الأمر يمكن فحص الدم و مقارنة البصمة الوراثية للطفل مع كل من الزوجين .
• إدعاء المسلم و الكافر النسب :
إذا أدعى مسلم و كافر نسب ولد فهما شرعاً متساويان في دعوى النسب ، لأنه بنسب الولد إلى الكافر لا نحكم بكفره ، و دعوى المسلم والكافر للنسب من القضايا الهامة في هذه الأيام ، و لذلك لكثرة زواج بعض المسلمين من الأجنبيات الغير مسلمات ، و بعد فترة من الزواج قد يحدث خلاف بين الزوجين و تسافر الزوجة الأجنبية إلى بلدها و يجامعها رجل آخر من ديانتها حيث أن ذلك من عاداتهم ، فإذا حدث حمل و ولادة قد تدعي المرأة أن المولود هو ابن الرجل المسلم ، أو أن ابن الرجل المسلم هو للرجل الأجنبي ، هنا بمقارنة البصمة الوراثية للمولود و زوجها المسلم يمكن معرفة نسب الطفل إليه أو نفيه عنه.
• إثبات النسب لطفل الأنبوب ( التلقيح الصناعي ) :
ينشأ طفل الأنبوب عندما يتم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي خارج الرحم ، ثم تعاد البويضة الملقحة إلى درب الصفاق الخلفي للرحم لينمو الجنين بشكل طبيعي حتى يحين وقت الولادة ، و هذا العمل أصبح معتاداً الآن كوسيلة للتلقيح الصناعي ، و لكن يشترط رضا الزوجين و أن يكون من الزوج و الزوجة ، فإذا حدث تلاعب ، و ذلك بأخذ حيوانات منوية من رجل غير الزوج أو أخذت البويضة من أمرأة غير الزوجة ، يمكن إثبات النسب للطفل الحادث بواسطة مقارنة البصمة الوراثية له مع الزوج و الزوجة.
مما سبق إيضاحه و إيراده في معرض سياق الكلام أعلاه يتضح لنا و يتجلى ان هذه أثار استخدامها يكون الحد الفاصل في الفصل في النزاعات الحاصلة .
و لكن لها شقّ سلبي أذا اعتمد المشرع الاخذ بها في العموم :
• الشك في النسب :
قال صاحب بداية المجتهد لما كان الفراش موجباً للحوق النسب ، كان للناس ضرورة إلى طريق ينفونه له إذا تحققوا فساده ، و تلك الطريق هي اللعان ، فاللعان حكم ثابت بالكتاب و السنة و القياس و الإجماع ، إذ لا خلاف في ذلك عامة فبين كل زوجين لعان ، لأنه ينفي عنه الولد ، فالرجل إذا ولدت أمرأته ولداً يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم ، و لا ينتفي عنه إلا بنفيه باللعان ، و يكون نفي الحمل في حالة ما إذا أدعى الزوج أنه لن يطأها أصلاً من حين العقد عليها ، أو أدعى أنها أتت به لأقل من ستة أشهر بعد الوطء ( أدنى مدة حمل ) ، أو لأكثر من سنة أو سنتين أو أربع ( أقصى مدة حمل حسب رأي الفقهاء ) من وقت الوطء ، فإذا نفى الرجل ابنه و تم اللعان بنفيه له ، أنتفى نسبه من أبيه و سقطت نفقته عنه و أنتفى التوارث بينهما و لحق بأمه ، هنا يمكن للبصمة الوراثية أن تثبت أن هذا الطفل من هذا الزوج أم لا و نفي الشك.
فاستخدام البصمة الوراثية للتأكد من صحة النسب الثابت و من باب سد الذرائع ، فإن النسب إذا ثبت بأحدي الطرق الشرعية ، فإنه لا يجوز نفيه البتة و فتح مثل هذا الباب يجعل الحياة الاسرية غير مستقرة و هذا ليس غاية المشرع فإن أخذه بالوسائل الحديثة ليس ألا حفاظاً على هذا الكيان .
و لو قارنا بين الاثرين لنجد أن للبصمة الوراثية فوائد من باب أولى أن يهتم بها المشرع و أن ينظر لها كقرينة قطعية تثبت الواقعة أو تنفيها .
المبحث الثالث : حكم استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب
لا يزال جمهور الفقهاء و المشرع متوجسين من البصمة الوراثية و لا يزالوا يرون أنها محل ظن و تخمين لا ترقى أبداً لمستوى الدلالة القطعية و أن الأخذ بها كدليل ثابت مبني على أساس غير سليم و غير مقنع و هو أنها غير دقيقة و غير جازمة ليست في حد ذاتها و إنما في الظروف المحيطة بها فإن تلوثت العينة حتى بغبار و لو بشكل بسيط و متناهي في البساطة فإنها تقلب النتيجة رأساً على عقب هذا غير أنه لا يوجد ضمانة لعدم التلاعب بالنتيجة سواء بالخبراء و فساد الذمم أو بواسطة أخطاء بشرية أو معمليلة من تلوث و غيره أو خطا في الاجراءات أو الإلتباس و اللبس(( فإن هناك كثير من الأخطاء المعملية سواء كانت الإضافات ، أو في طريقة الفحص ، أو في طريقة العمل أو في الشخص نفسه أو السلوكليات التي يسلكها الباحث أو مساعد الباحث ، فهناك محاذير يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار)) .
هذا من جهة و من جهة أخرى فإن الخطأ وارد وما من طريق لإثبات النسب إلا و هو مظنة لحصول الخطأ في أي منها وراد ، و مع ذلك فقد دلت الادلة الشرعية على إثبات النسب بالطرق المشروعة حتى مع وجود قرائن و دلائل قد تشكك في الطرق الشرعية في حالة من الحالات لأن الاصل في الإثبات أن الولد للفراش و وللعاهر الحجر أي أن أثبات النسب يكون بالفراش وإن كان هناك شبهة فإن الفراش أصل الإثبات و إن لم يكن من ماء الزوج ولا يبطل ذلك أن الفراش دليلاً و من هذا المنطلق فإننا نبني إعتقادنا على باب سد الذرائع حتى لا يشكك العامة في أنسابهم و يسهل عليهم تقديم القرينة باعتبارها أمر قطعي فيزرع الضغينة و المفاسد و يقدح في أعراض الناس .
و من زاوية أخرى فإن البصمة الوراثية في بعض اعتقاد الفقهاء كما القافة مبنية على الظن و التخمين و المشرع لا يأخذ بهما و إنما يأخذ بالقرائن و الدلائل ، كما أن الفقهاء أتوا بأسباب غير متعلقة بالبصمة الوراثية مباشرة و إنما متعلقة بالعقيدة حيث تعللوا أن الدين جاء كاملاً مستدلين بالاية الكريمة ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” أي أن الآية الكريمة نصت على إكتمال الدين بأحكامه التي لا نقص فيها ، و إدعاء وجود مكتشفات و تصرفات جديدة إتهام للشريعة بالنقص ، و هذا أمر مردود عليه فقد تثبت كمال الدين بأحكامه الجزئية و قواعده الكلية ، فكل تصرف مستحدث يدخل تحت القواعد الكلية و بذلك تكون الآية حجة عليهم ، لأنها تشمل أحكام الوقائع الحالية و المستقبلية.
و أما دليل المعقول فمنه أن التعامل بالبصمة الوراثية تعامل في خلايا الإنسان ، و الإنسان له حرمة بنص الآية الكريمة “َلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” دليل المعقول ، القول بأن التعامل بالبصمة الوراثية يتعارض مع تكريم الإنسان غير صحيح ، لأن الإسلام هو الذي أستن الحلق و التقصير ، و حث على تقليم الأظافر و شرع الختان ، و أمر بالتدواي و لو كان بتراً لعضو فاسد و في كل ذلك إهدار للخلايا البشرية ، و لا يعتبر هذا هدراً لقيمة و تكريم الإنسان بل على العكس ، يعد تكريماً للإنسان بمعالجته و تهذيبه.
فالقانون المصري يعطي مثالاً هنا بشأن تعرضه لحالات إثبات النسب و إنكاره؛ فيأخذ القانون المصري بما قررته الشريعة الإسلامية في مسألة ثبوت النسب و إنكاره و لم يخرج القانون المصري عما رسمته الشريعة الإسلامية .
فالمادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1929 نصت على (( لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجه ثبت عدم التلاقي بينهما و بين زوجها من حين العقد و لا لولد زوجه آتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها و لا لولد المطلقة و المتوفى عنها زوجها أتت به لأكثر من سنة وقت الطلاق أو الوفاة )).
إثبات النسب :-
القاعدة في إثبات النسب أنه إذا استند إلى زواج صحيح أو فاسد فيجب لثبوته أن يكون الزواج ثابت لا نزاع فيه سواء كان الإثبات بالفراش أو الإقرار أو البينة الشرعية …)) .
كما قضت محكمة النقض في حكم آخر لها (( من الأصول المقررة في فقة الشريعة الإسلامية و على ما جرى به قضاء هذه المحكمة أن النسب يثبت بالفراش الصحيح و هو الزواج الصحيح وما يلحق به و هو المخالطة بناء على عقد فاسد أو شبهه كما أن المقرر في الفقه الحنفي أن الزواج الذي لا يحضره شهود هو زواج فاسد يترتب عليه أثار الزواج الصحيح ومنها ثبوت النسب بالدخول الحقيقي )) .
فالقانون المصري و القضاء المصري مستقران على أن النسب لا يثبت إلا بالفراش الصحيح و هو الزواج الصحيح و الزواج الفاسد و الوطء بشبهه . كما هو في الشريعة الإسلامية ، فقضت محكمة النقض (( الزواج الذي لا يحضر شهود هو زواج فاسد تترتب عليه أثار الزواج الصحيح ومنها النسب بالدخول الحقيقي )) .
يجوز استخدام تحليل DAN – كوسيلة إثبات – في إنكار النسب بشكل يتفق مع الشريعة ، فالزوج الذي ينكر نسب ابنه إنما هو يقذف المحصنات و هناك حد وجزاء للقاذف فقررت الشريعة الإسلامية اللعان بين الزوجين في حالة إذا رأي الزوج على زوجته فعل الزنا و لم يكن لديه الدليل أربعة شهود عدل فقررت الشريعة له أن يلاعنها و بعد اللعان لا يثبت النسب للولد للزوج الملاعن لزوجته و يثبت النسب للزوجة فقط .
أما في القانون الجزائري لقد اتضح تأثر المشرع إثر التعديل الذي طرأ على قانون الأسرة بموجب الأمر 05-02 المؤرخ في 07/02/2005 التي نصت عليها الفقرة الثانية من المادة 40 (ويجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب).
أما القانون التونسي في الفصل 68 وما يليه من مجلة الأحوال الشخصية” إذا ثبت نسب الطفل استنادا إلى فإن ذلك يمنحه حقوق الطفل المولود في إطار الزواج. فله الحق في أن يحمل اسم ولقب وجنسية والده وله الحق في النفقة و الحق في الإرث.
“أما إذا كان الطفل مولود من أبوين غير مرتبطين بزواج وثبتت أبوته قضائيا (بعد التحليل الجيني) على أساس الفصل الأول من القانون المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 كما تم تعديله بمقتضى قانون 7 جويلية 2003 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين أو مجهولي النسب, فإن ذلك يخول له “الحق في النفقة والرعاية من ولاية وحضانة ما دام لم يبلغ سن الرشد أو بعده في الحالات المخولة قانونا”.
أما عند المشرع الليبي فقد حسم الأمر في قانون الضمان الاجتماعي أن منح للقيط اسما و لقباً و بطاقة هوية و جواز سفر و كتيب عائلة و ان لم يطلبه للزواج دون الرجوع للهوية الاصلية للاب البيولوجي، ولكن ملاحظة التطور الحاصل في الجماهيرية العظمى يجعلنا نستبشر خيراً ونرى أن البصمة الوراثية صارت تتسرب مفاتيحها وإن كانت قاصرةً على زاوية معينة فإن المشروع الجديد المعروف بالرقم الوطني إستعان بالبصمة الوراثية كتطبيق عملي لاثبات الهوية و رصد للموروث الجيني لكل عائلة مما أجزم انها خطوة جبارة للأخذ بالتطور التكنولوجي و لكن بصورة غير مباشرة فعن شروط تجهيز الرقم الوطني قيل ” إن الرقم الوطني سيتم منحه منذ الولادة ولكنه يبقي غير مفعل ويتم تفعيله بعد أخذ البصمات وحسب القانون تؤخذ البطاقة الشخصية في سن السادسة عشرة فما فوق وبهذا يعتبر الرقم الوطني دون سن الــ 16 هو رقم وطني مرجعي غير مفعل ومشروع البصمة الوراثية تم إسناده للجنة الوطنية للبحث العلمي التي بها خبراء ومتخصصون في هذا الإطار وسيتم أخذ عينات بصمة وراثية للمواطنين إلى أن يتم إنشاء معامل التحليل وعينة البصمة قابلة للحفظ في الظروف الحالية وصالحة لمدة أربعة عشرة عاماً والتي يهدف من خلالها تحديد الشخصية وإجراء تحديد الشخصية من خلالها وإجراء البحوث العلمية في بعض الأمراض” .
و من هذا المنطلق نستنتج أن القضاء الوطني لا يتوجس خيفة من هذه التقنية بل إنه يحاول سبر أغوارها و التعامل معها بالكيفية التي يراها تكفل له تحيق العدالة و التحقق من سلبياتها و تفاديها عبر تجارب سابقة من دول أخذت بها و هذه التجربة .
المبحث الأول : علاقة إثبات النسب و حقوق الإنسان
عنت مبادىء حقوق الإنسان بالإنسان أولاً، منذ أن كان مجرد فكرة ، بأن تضمن له الحق في أن يولد سليماً معافى و ان يتمتع بكافة الحوقوق من اسم و جنسية و رعاية و تعليم ؛ و أبرم المجتمع الدولي إتفاقيات ومعاهدات تضمن للآتي في المستقبل حقة في الحياة أولا و في الكرامة و الحرية .
و نرى أن موضوع الكرامة موضع متشعب جداً و متناقد احياناً فمن جهة يخشى الحقوقيين المساس بكرامة الانسان المتعلقة بجسده و من جهة اخرى يحاول جاهداً ان يكفل له كرمته منذ ان يتخلّق؛ إلا أن الحق الطبيعي في الهوية أو في إثبات النسب يرتبط ارتباط وثيق بالكرامة الإنسانية و أن إنسان بلا هوية فهو كما يقال ساقط قيد أي غير معترف بوجوده أصلاً و هذا منافي لآدمية البشر حتى لا يكون فرداً شاذاً على المجموعة فيضحى مبنوذاً بسبب موروث ثقافي حول اللقطاء أو مجهولي النسب أو حتى أولئك اللذين تثار حول أنسابهم قدحاً و فتن .؛ لذا فإن الحقوق المتعقلة بالإنسان والتي أدرجتها تلك المواثيق بشكل مفصل ودقيق خصوصاً في حقوق الطفل كانت متعلقة بشكل أساسي بآدمية و أنسانية البشر منذ ولادتهم .
لذا كانت حقوق الطفل تعنى بأن “يسجل الطفل بعد ولادته فوراً و يكون له الحق في اسم و الحق في اكتساب جنسية و يكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديـه و تلقي رعايتهما” ؛ و قد عنت بها في أكثر من مادة من مواثيق حقوق الانســـان و الأتفاقيات الدولية ، كما أضافت الشروط و التدابير العقابية لإنكار ذلك .
و بهذا نستلهم أن مواثيق حقوق الإنسان ليست إلا سلسلة متشابكة تؤدي في نهاية الأمر لذات الغاية التي تؤذيها بشكل عام ، و من باب أولى أن نأخذ بالأسباب في هذا الأمر فإن الله سبحانه و تعالى قد أثرى على آدمية الانسان و كرّمه على سائر خلقه جميعاً و كفل له الحقوق التي تؤدي لهذه الغاية .
فإن إثبات النسب يثبت لمجهول الهوية حقوقه و واجباته و احترامه و وضعه الاجتماعي و القانوني و السياسي و ممارسة جميع حقوقه السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية بشكل طبيعي دون عراقيل أو حتى في بعض الحالات الإستبعاد ؛ كما كفلت بالاخص للمواطن الليبي الوثيقة الخضراء لحقوق الانسان في بندها السادس عشر الكرامة و الصحة و الهوية التي تضمنتها مفهوم رعاية الطفولة .
فإن إثبات النسب ماهو إلا تعزيز لهذه المفاهيم التي نادت بها ثورة الفاتح العظيم مع الأخذ بالأسباب التي تذلل الصعب للوصول لهذه الغاية ، فإن المجتمع الصحي الذي نادت به الوثيقة ليس إلا نتاج طبيعي لأفراد أصحاء بدنياً و نفسياً ؛ فإن أي فرد منا بغض النظر عن جنسه ونوعه وأصله لابد له من أسم يدعى به أو شهرة أو لقب وهذه الأمور تثبت في وثيقة الهوية الأساسية للإنسان وهي شهادة الميلاد و هذا أمر مسلم به و لكن الحق الاساسي ليس في اسم و لقب و إنما في أسرة طبيعية أو كأقل تقدير نسب صريح لا مجال فيه للشك أو التدليس ، حتى لا يتم استغلالهم شر استغلال كمل حصل إبان احتلال فرنسا للجزائر بتجنيد اللقطاء لقيامهم بأردَ الأفعال و أبشعها مستغلين ظروفهم النفسية و قسوتهم على المجتمع .
فإني أرتئي أن العلاقة وطيدة جداً و هي علاقة كاشفة لوجود الإنسان و احترام كرامته و حقوقه فإن على سبيل المثال قد ولد طفل مجهول النسب دون إثبات نسبه فإنه في السجل المدني يمنح هوية منفصلة باسم وهمي لاعلاقة له به فقط لإدراجه بقيود السجل المدني كأحد مواطني الدولة و يعيش كفرد منبوذ شاذ و غير سوي مما يؤثر في حياته و صحته النفسية و تضيع كرامته و في بعض الحالات إن ظل مجهول النسب لا يستطيع ممارسة التعلم و الزواج لظروفه الاجتماعية التي عادة يبغض الناس أولئك الفئة من المجتمع ؛ و هذا يفضي إلى أن اثبات النسب أمر لا مناص منه و على المشرع أن يجد حالاً يقنيناً لينمو الفرد بكرامة داخل المجتمع .
المبحث الثاني: الدلائل على أحقية الإنسان في إثبات نسبه
أولت الشريعة الاسلامية اهتمامها الكبير بالنسب وذكر الله عزّ وجل في كتابه الحكيم ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، ولا يتحقق معرفة الشعوب والقبائل ، وما يترتب علي ذلك من تعارف وتألف إلا بمعرفة الأنساب وحفظها عن الاشتباه والاختلاط .
ومن أجل ذلك عني الإسلام أيما عناية بتنظيم العلاقة بين الرجل والمرآة ضماناً لسلامة الأنساب و عدم خلطها و نكرها و تدليسها كما قال سبحانه و تعالى في كتابه العزيز( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) ، فإن الزجر هنا جاء بمعنى التحذير و عظمة الأمر و هوله حتى لا يستهان به ، و قد عنى الاسلام جدا بالانسان و حريته و قننها بشروط.
و عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في معرض التحذير من خلط الانساب ، وبيان الوعيد الشديد علي فاعله : ( من ادعي إلي غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) .
أما المشرع فإنه استمد دلالة أحقية الانسان بآدميته و كرامته من القانون الوطني و القانون الدولي المتمثل في المعاهدات و الاتفاقيات ، حيث أستمد القانون الوطني هذا الحق من الوثيقة الخضراء لحقوق الإنسان (المجتمع الجماهيري متضامن ويكفل لأفراده معيشة ميسرة كريمة ، وكما يحقق لأفراده مستوى صحياً متطوراً وصولا إلى مجتمع الأصحاء يضمن رعاية الطفولة والأمومة وحماية الشيخوخة والعجزة ، والمجتمع الجماهيري ولي من لا ولي له) .
كما أشار في البند التاسع عشر من الوثيقة الخضراء على أن (أبناء المجتمع الجماهيري يؤكدون حق الإنسان في التمتع بالمنافع ، والمزايا والقيم والمثل التي يوفرها الترابط والتماسك والوحدة والألفة والمحبة الأسرية ، والقبلية ، والقومية والإنسانية ؛ ولذا فإنهم يعملون من أجل إقامة الكيان القومي الطبيعي لأمتهم ، ويناصرون المكافحين من أجل إقامة كياناتهم القومية الطبيعية ، وأبناء المجتمع الجماهيري يرفضون التفرقة بين البشر بسبب لونهم أو جنسهم ،أو دينهم ، أو ثقافتهم) و لا يمكن حفظ حق الانسان و التمتع بالمنافع إلا إذا أوتيَ حقه بالكامل دون بخس لكي يتمتع بالترابط و التماسك الاسري التي تنادي به الوثيقة الخضراء و الذي يبدأ من حق الحياة حتى الحق الممتد لبعد الممات بما فيه حق الهوية والنسب و حق الابوة و الامومة و الأسرة و الجنسية و الحقوق السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الدينية ؛ و هذا يلخص الأهداف السامية لهذه الوثيقة وما تسعى إليه لتطبيقها .
أمـــا في القانون الدولي في مواثيق حقوق الطفل فيسجل الطفل بعد ولادته فوراً و يكون له الحق في اســـم و الحق في اكتساب جنسية و يكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديــــــه و تلقي رعايتهم ، إذ أن الاسر هي المنبت الطبيعي للأولاد التي تترعرع أعوادهم فيها زاكية ؛ و دور الحضانة و ملجأ الأيتام التي تؤوي اللقطاء لا تغني أبداً عن البيت و لا عوض فيها قط عما يشيع في جوه من رقة و رحمة و حنو .
فإن الغريزة الطبيعة لدى الإنسان هي الأنسة و الألفة فلا يقوى الفرد على التعايش منبوذاً وحيداً مجهولاً مهمشاً ، فإن كل فرد يرغب أن يشعر بمدى تأثيره في محيطه و إن كان متناهى في الصغر ، فإن خير دليل بعد كتاب الله العزيز هي الغريزة الانسانية في أن يكون ضمن أسرة و أن يكون نتاجاً طبيعاً لها و أن تمتع بحقوقه دون تفرقة لأسباب لا علاقة لها بها و إن لم توجد الأسرة فعلى الأقل يعلم أبويه و إخوانه و أسرته حتى يشعر بالاطمئنان و السعادة .
المبحث الثالث: أولوية ثبوت حق النسب بالبصمة الوراثية
قوة البصمة الوراثية في الاثبات تعتمد على طريقة جمع العينات و حالاتها و كفاءة المعامل و جودة الفحص ,و نظراً لأهمية تحليل الـ DNAفي الاثبات فإنه يلزم تقنين هذه الطريقة تشريعيا بحيث يتضمن القانون شروط اللجوء لتحليل الـ DNAو إجراءاتها و ضمانات عدم إساءة استخدام النتائج التي تسفر عنها ، قاطع و حاسم في القضايا الجنائية .
و ليس ثمة خلاف بين علماء الدين و رجال القانون في أهمية استخدام الـDNA في الاثبات سواء في مسائل الاحوال الشخصية أو في المجال الجنائي إنما درجة الخلاف في نطاق استخدام الـDNA و مداه , اذ يقصر غالبية علماء الدين استخدامه في اثبات النسب و البنوة في الزواج الصحيح شرعا أما ما دونه فلا يعتدون به , اما رجال القانون فهم يطلقون استخدامه في كافة المجالات دون قيد ؛ وفي رأينا ان الرأي الأخير هو الصحيح و الواجب الإتباع و سندنا في ذلك ان طريقة الـ DNAتأتي بنتائج قاطعة في الإثبات قد لا تقبل الشك أوم الظن و بأسلوب علمي متقدم .
و قد تباينت اتجاهات القضاء في مدى قبول البصمة الوراثية كدليل إثبات , فاتجاه القضاء العربي يقوم على اعتبار البصمة الوراثية دليلاً مساعدا ًيساعد القاضي في تكوين عقيدته و قناعته الشخصية على خلاف القضاء الجانبي الذي يعتمد على البصمة الوراثية كدليل للإثبات في المنازعات القضائية الخاصة بتنازع النسب و إثبات البنوة بشكل مطلق ، والحقيقة لابد لنا القول بان اللجوء إلى طريقة الـ DNAأو البصمة الوراثية يجب ان يأخذ طريقها إلى تشريعنا ويجب إضافة هذه الطريقة الى الطرق إثبات النسب أو نفيه الى مشروعنا الجديد وإذ نحن نحاول مواكبة التطور و التقدم العلمي و لا أعتقد ان هذه الطريقة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية لان القرآن الكريم قد حث على العلم ولأنها طريقة علمية صحيحة يمكن ارتكان إليه لأنها تثبت حقيقة نسب الولد من والديه لكن بشرط توفر الأجهزة والتقنيات المتقدمة وكذلك اكتساب مهارات فنية دقيقة والتمرس في تفسير النتائج و تكون خاضعة للرقابة العلمية والفنية .
للبصمة الوراثية الميزة الفنية التي تقطع الشك باليقين ، بالتوصل إلى جذور الحقيقة حيث أن ما ينتج عنها من نتائج علمية من واقع الجريمة و حقيقتها ، و لها الفائدة القانونية في الكشف عن المجرمين، و تتمتع بميزة الدقة ، حيث ما تملكه من الإثبات و كذلك النفي ، فإن البصمة الوراثية التي يحملها الحمض النووي لا تتأثر بالظروف الجوية ، و لو كانت جافة و لو كانت متعفنة ، و من أي من أجزاء الجسم. و تتميز البصمة الوراثية بعدم إمكانية الخلط بين جزئين متواجدين في مسرح الجريمة و لكن لشخصين مختلفين ، حيث يمكن الفصل بينهما مهما كان الحال من الإختلاط ، فيسهل فيها الفرز، كما يمكن التوصل للبصمة الوراثية لأي شخص بالبحث و الفحص الدقيق للحمض النووي ، و لو كان المصدر عبارة عن بقعة دم أو مني ، أو غير ذلك من المصادر مهما كانت قليلة.
و مما سبق يتضح أن من باب أولى الأخذ بها في إثبات النسب كقرينة ثابتة و عدم أهمالها و استبعادها بحجة الإشتباه في اللبس و التكرار أو الظنية فأقل ما يمكن أن يقال أن تؤخذ على محمل الجد و أن ينظر لها المشرع بعين الاعتبار و أن تخضع لقياساته و أن تبدي باردة دراسة هذه التقنية.
الخاتمــــــة
مما سبق ذكره يتضح أن البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية الدلالة بنسبة 99.9% الا مع التواءم المتشابهة ، و هي طريقة قوية الدلائل و ثابتة إن تمت في ظروف بعيدة عن التلوث اي أنها طريقة لحسم الأمر في مهده و يكفل الكرامة الإنسانية ، كما أنها وسيلة علمية ناجحة و دقيقة و حاسمة في إثبات النسب إلا أن المشرع الليبي لم يأخذ بها لما يشوبها من لبس الذي آثره جمهور الفقهاء حول إمكانية تلوث العينة و فساد الذمم و أن هذه التقنية سوف تتطرق إلى مسألة النسب الثابت و تحدث فتن و قدح في أعراض الناس لما له جانب في رمي المحصنات و هذا أمر نهى عنه الذين فمن باب سد الذرائع لا يمكن الاخذ بها حسبما تراءى لجمهور الفقهاء ؛ كما آثاروا مسألة أن التقنية الحديثة لا يمكن التنبؤ بسقفها حيث أن إمكانية تغيير الجينات و إن كان أمر غير مقبول أو معقول حالياً إلا أنه وارد قياساً بالعلم و تطوره .
كما نشير إلى أن المشرع أهمل النظر إليها كدليل ثبوت و قرينة دامغة لا تقبل الجدال- و إن كان نسبياً – متذرعاً بسد الذرائع و معتمداً على أساليب هي ذاتها مقارنة بالبصمة الوراثية و هي القيافة و لم يحاول تهذيب و تطوير هذه التقنية لما يتماشي مع واقع جرائم النسب التي تعد شوكة في حلق المجتمع و لم يحاول حتى دراسة هذه التقنية بما يتواءم مع هذا العصر ؛ ومن قناعة شخصية تحتم ضرورة الإعتماد على البصمة الوراثية في الإثبات القانوني و أنه لا غنى لأي سلطة قضائية أو تحقيقة أو أي جهة لها علاقة بالجناية عن إستخدام البصمة الوراثية بعد اللجوء للمختبرات العلمية لعمل الفحوص المخبرية و مقارنة النتائج إستعانة بالخبـــــــراء و أهل الطب الشرعي ، لإحقاق الحق و إظهاره و إزهاق الباطل و إحلال العدالة و عدم ترك النزاعات تتفشى بين أفراد المجتمــــــع وضرورة الحفاظ على أمن المجتمع و إستقراره كي يتقدم نحو مستقبل أفضل ، كما أن للبصمة الوراثية علاقة بحقوق الانسان فإن المبادىء التي ينادي بها الحقوقييون لا تتحقق في اغلبها الا بالوسائل الحديثة التي تكفل للفرد ابسط حقوقه .
التوصيات
و من خلال هذا البحث توصلت إلى التوصيات التالية :
1. البصمة الوراثية لا بد من الإستعانة بها و هي ضرورة محتمة في الإثبات القانوني في مجال النسب .
2. أنها تختصر الوقت في إجراءات المحاكمة كونها تظهر الحقيقة بأسرع وقت ممكن و بدقة عالية متناهية.
3. لا يؤخذ بنتيجة البصمة الوراثية إلا من مختبر أو معمل معتد به من قبل أصحاب الإختصاص.
4. يجب الإستعانة بأهل الطب الشرعي و الخبراء المعنيون بكل ما يتعلق بأخذ عينات البصمة الوراثية و فحصها و مقارنة نتائجها ، للوصول إلى الحقيقة.
5. عدم إمكانية خطأ البصمة الوراثية إلى درجة تصل الإستحالة ، مما يؤكد قوتها في الحجة.
6. وضع سجل خاص و تخصيص ناس من ذوي الخبرة و أهل الإختصاص ، لأجل القيام بتسجيل كل القضايا التي تم إعمال البصمة الوراثية فيها ، و كذلك حصر كل البشر الذين يمرون بفحص البصمة الوراثية ، لتسهيل العمل في المجال الطبي و المجال القانوني فيما يتعلق بالنسب و الجناية و كذلك المجال القضائي حالياً و في المستقبل.
7. ضرورة إضافة البصمة الوراثية و حجيتها في الإثبات كمادة معتمدة في الخطة الدراسية ذات منهج معتمد من ذوي الخبرة و الإختصاص ممن يعنون بالأمر ، لتخريج أفراد قادرون على العمل القانوني فيما يتعلق بالنسب و الجناية و كذلك العمل القضائي بشكل متمكن و قوي و يكون لديهم تمرس فيما يخص البصمة الوراثية.
قائمة أهم المراجع
• القرآن الكريم .
• الإعلان العالمي لحقـوق الإنسان – حقوق الطفل.
• القانون التونسي ، الاحوال الشخصية ، دعم حقوق المرأة والطفل من خلال تكنولوجيا المعلومات.
• القانون الجزائري ، قانون الأسرة .
• محمد الغزالي ، حقوق الانسان بين تعاليم الإسلام و إعلان الأمم المتحدة ، الطبعة الرابعة ،2005 ، نهضة مصر للنشر و الطباعة و التوزيع .
• مناقشات مجلس المجمع الفقهي في دورته الخامسة عشر في إثبات النسب بالبصمة الوراثية .، الشيخ محمد المختار السلامي .ضمن ثبت كامل أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني – رؤية إسلامية.
• الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان
• هشام الصيد ، مجلة أويا للاعلان – الأحد, 11 أكتوبر – التمور 2009 الموقع الالكتروني : .
الفهرس
الموضوع رقم الصفحة
المقدمة 1
خطة البحث 4
الفصل الاول البصمة الوراثية 5
المطلب الاول ماهية البصمة الوراثية 6
المطلب الثاني : نشأة و تطور البصمة الوراثية 9
المطلب الثالث : خصائص البصمة الوراثية 11
الفصل الثاني : اثبات حق النسب بالبصمة الوراثية 14
المطلب الاول : اثبات النسب بالبصمة الوراثية 15
المطلب الثاني : الآثار المترتبة على استخدام البصمة الوراثية 19
المبحث الثالث : حكم استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب 24
الفصل الثاني :حقوق الإنسان و البصمة الوراثية.
29
المبحث الأول : علاقة إثبات النسب وحقوق الإنسان 30
المبحث الثاني: الدلائل على احقية الإنسان في إثبات نسبه 32
المبحث الثالث: أولوية ثبوت حق النسب. 34
الخاتمة 36
التوصيات 37
قائمة أهم المراجع 39
اترك تعليقاً