الأدلة الملزمة للقاضي في المواد المدنية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
مقدمـــة :
بلغة الرياضيات في عالم القانون فإن الحق بدون دليل عند المنازعة فيه يساوي الصفر، رغم أن الإثبات ليس ركناً في الحق ، إذ يوجد الحق بقطع النظر عن وسيلة إثباته غير أنه لا وجود للحق مجرد عن دليله عند المنازعة فيه فهو قوام حياته.
لهذا فإن للإثبات القضائي أهمية في الدعوى القضائية بالنسبة للقاضي و في وجود الحق من عدمه بالنسبة للمتقاضي ، و قد عرفه الفقه بأنه إقامة الدليل أمام القضاء الطرق التي حددها القانون على واقعة قانونية ترتبت آثارها([1]).
و قد اعتنت مختلف التشريعات بالإثبات القضائي و نظمته معتنقة في ذلك مذهب من المذاهب الثلاثة ،الأول يعرف بالمذهب الحر أو المطلق و يجد أساسه في عدم تحديد القانون طريقاً للإثبات فيكون بأية وسيلة توصل إلى إقناع القاضي الذي بدوره يتمتع بسلطة تقديرية واسعة تجعل من موقفه موقف إيجابي إزاء أدلة الإثبات ، أما الثاني فهو المذهب المقيد أو القانوني يكون فيه للقانون دور في تحديد الطريقة التي يصل بها القاضي إلى الحقيقة دون أن يتجاوز دوره تطبيق الأدلة كما يقدمها الخصوم و يقدرها حسب القيمة التي حددها القانون لكل دليل.
و بين الأول و الثاني يوجد المذهب الثالث و هو المذهب المختلط فهو مذهب حر و مقيد في الوقت ذاته، يتخذ القاضي من خلاله موقفاً وسطاً يسمح له بتقدير بعض الأدلة التي جعل له فيها المشرع حرية التقدير و لم يقيده بحجيتها أما الباقي من لأدلة قيدت و رصدت لها حجية معينة لا يجوز للقاضي إعمال سلطته التقديرية بشأنها .
و بما أن المشرع الجزائري قد تبنى نظام الإثبات المختلط جعل السلطة التقديرية للقاضي في تقدير طرق و أدلة الإثبات في الدعوى المدنية تبلغ حدها الأدنى ،ذلك أن
القواعد الموضوعية للإثبات الواردة في الباب السادس من الكتاب الثاني من التقنين المدني، و بغض النظر عن أي تصنيف فقط من حيث قوتها و حجيتها، فإن سلطته التقديرية التي هي نشاط ذهني لفهم الوقائع المطروحة تكون مقيدة في بعض الأدلة كالكتابة و اليمين الحاسمة و الإقرار القضائي و القرائن القانونية .
وهو أحد التقسيمات لطرق الإثبات التي يعتمد عليها الفقهاء ،و هو ما سأحاول دراسته من هذا الجانب إذا علمنا كما سبق ذكره أن الأدلة من حيث الحجية تنقسم إلى ما هو ملزم للقاضي ليس له سلطة تقديرية بصددها، و أخرى غير ملزمة ليس له سلطة تقديرها مع اقتصار الدراسة على الأدلة الملزمة فقط .
و هذه الأخيرة بدورها تنقسم إلى أدلة حجيتها قاطعة لا تقبل إثبات العكس ،و أخرى حجيتها غير قاطعة تقبل إثبات العكس لهذا تثار عدة تساؤلات تتعلق أساساً بمدى سلطة القاضي التقديرية تجاه الأدلة الملزمة التي حدد لها القانون الحجية في المواد المدنية ؟
لذلك ارتأينا أن نعالج الموضوع معتمدين على الخطة التالية.
الفصل الأول: الأدلة الملزمة ذات الحجية غير القاطعة.
المبحث الأول: الكتــــابة .
المطلب الأول: المحررات الرسمــية
المطلب الثاني : المحررات العــرفية
المطلب الثالث: المحررات الإلكترونية
المبحث الثاني: الإقرار القـضائي .
المطلب الأول: صيغ الإقرار القضائي و صوره
المطلب الثاني : شروط الإقرار القضائي
المطلب الثالث: حجية الإقرار القضائي و سلطة القاضي في تقديره
المبحث الثالث: القرائن القانونية غير القاطعة .
المطلب الأول: حجية القرينة القانونية غير القاطعة ومجال عملها
المطلب الثاني : إثبات عكس القرينة القانونية غير القـــاطعة
المطلب الثالث: دور القاضي وسلطته في الإثبات بالقـــرينة القانونية غير القاطعة
الفصل الثاني: الأدلة الملـزمة ذات الحجية القـاطعة.
المبحث الأول: اليمين الحـاسمة .
المطلب الأول : موضوع اليمين الحاسمة و صيغتها
المطلب الثاني : أطراف اليمين الحاسمة
المطلب الثالث: آثار اليمين الحاسمة وسلطة القاضي في تقديرها
المبحث الثاني : القرائن القانونية القـاطعة .
المطلب الأول :ارتباط القرينة القانونية القاطعة بالإثبات
وعلاقتها بالنظام العام
المطلب الثاني : نقض القرينة القانونية القـاطعة
المطلب الثالث: تطبيقاتالقرينة القانونية القاطعة
المبحث الثالث: قوة الشيء المقضي به .
المطلب الأول: الشروط الواجب توافرها في الحكم
المطلب الثاني : الشروط اللازم توافرها في الحق المدعى به
المطلب الثالث :آثار قوة الشيء المقضي به و سلطة القاضي التقديرية بشأنها
الفصل الأول
الأدلة الملزمة ذات الحجية غير القاطعة
الأدلة الملزمة ذات الحجية غير القاطعة هي التي حدد لها المشرع الحجية بنص القانون ، غير أنها تتميز بإمكانية إثبات عكسها و تشتمل هذه الأدلة على الكتابة و الإقرار القضائي و القرائن القانونية البسيطة و هو ما سنتعرض له من خلال تخصيص مبحث لكل دليل.
المبـحث الأول
الكتابــة
يعرف الدليل الكتابي بأنه طريقة يبين بها المتقاضي حقيقة اتفاق ما أو واقعة قانونية تكون هي مصدر حقه الذي يدعي به أمام القضاء ([1]) ,لذلك جعل المشرع من الكتابة وسيلة إثبات أساسية معترفا لها بالقوة المطلقة ,هذا ويلاحظ أنه رغم هذه الأهمية للكتابة إلا أنها ليست حجة مطلقة في الإثبات, ذلك أنها على اختلاف أنواعها إنما يجوز إثبات عكسها و إن تم ذلك بطرق مختلفة بحسب نوع الورقة أو المحرر([2]) ,إذ أن المفهوم التقليدي يشتمل على الكتابة الرسمية و العرفية غير أن المفهوم الحديث أدرج ضمن النوعين السابقين نوع حديث من الكتابة و هي الكتابة الإلكترونية وهو ما سنتطرق إليه مخصصين بذلك مطلب لكل نوع نبرز من خلاله شروط و حجية كل نوع وسلطة القاضي في تقديره.
المطلب الأول: المحـررات الرسميــة.
تناول المشرع الجزائري تعريف العقد الرسمي و يقصد به المحرر الرسمي في المادة 324 قانون مدني جاء فيها: ” العقد الرسمي عقد يثبت فيه موظف أو ضابط عمومي أو شخص مكلف بخدمة عامة ما تم لديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن و ذلك طبقا للأشكال القانونية و في حدود سلطته و اختصاصه “و يتضح من خلال النص انه قد حدد شروط إضفاء الصفة الرسمية على المحرر، لذلك سنعرض لهذه الشروط و جزاء تخلفها في فرع أول ثم نتطرق إلى قوة و حجية المحرر الرسمي في فرع ثاني ثم سلطة القاضي في تقديره في فرع ثالث.
الفرع الأول: شـروط المحـرر الرسمي و جـزاء تخلفها.
بالرجوع إلى المادة 324 قانون مدني نجد المشرع تناول شروط صحة المحرر الرسمي والتي تتلخص في:
– أولا: أن يصدر المحرر من موظف أو من في حكمه.
– ثانيا: أن يقوم الموظف بتحرير المحرر في حدود سلطته و اختصاصه.
– ثالثا:أن يتم التحرير وفقا للأشكال التي حددها القانون.
فاختلال أي شرط يجعل الورقة الرسمية باطلة، و بمفهوم المخالفة بمجرد توافر الشروط الثلاثة يكتسب المحرر الصفة الرسمية و تصبح للورقة القوة الذاتية في الإثبات لذا كل من قدم ورقة رسمية للقضاء تتوافر على الشروط السابقة لا يطلب منه إثبات صحتها بل أن كل من أنكر حجيتها عليه أن يطعن فيها([3]) , ولعل الجزاء الذي يلحق بالمحرر عند تخلف أحد الشروط يختلف بحسب الشرط الذي تخلف، فإذا تعلق بالشرط الأول أو الثاني فإنه يؤدي إلى بطلان المحرر أما إذا تعلق بالشرط الثالث فنميز بين ما إذا كان المتخلف أحد البيانات الجوهرية فيعتبر المحرر باطلا و بين ما إذا كان أحد البيانات غير جوهري فلا تأثير على المحرر,غير المشرع قد أخذ بقاعدة تحول المحرر الرسمي إلى محرر عرفي طبقا للمادة326 مكرر2 إذا كان موقعا من الأطراف.
الفرع الثاني: حجيـة المحـرر الرسمــي.
إن تحرير المحرر الرسمي طبقا للشروط المنصوص عليها قانونا ،من شأنه جعل المحرر ينطوي على قرنيتين قرنية بسلامته المادية و قرنية أخرى بصدوره من الأشخاص الذين وقعوا عليه وهم الموظف أو الضابط العمومي أو المكلف بخدمة عامة وأصحاب الشأن ([4]) , وقد حدد المشرع حجية المحرر الرسمي في المواد 324 مكرر 5 إلى 324 مكرر 7 قانون مدني.
أولا : حجية المحرر الرسمي بالنسبة للأشخـاص
حسب المادتين 324 مكرر 5 و 324 مكرر6 فإن المحرر الرسمي حجة على الناس كافة سواء فيما بين المتعاقدين أو في مواجهة الغير بما دون فيه من أمور قام بها محرره في حدود مهمته أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره إلا إذا تبين تزويره بالطرق المقررة قانونا, غير أن تصريحات ذوي الشأن فإن حجيتها لا تقرر إلا بالنسبة لهم و خلفائهم سواء كانوا خلفا عاما أو خاصا، و على من يدعى منهم عدم صحة التصريحات أن
يثبت ذلك، أما الغير الأجنبي و هو كل شخص من غير ذوي الشأن و خلفائهم لا تكون تلك التصريحات حجة عليهم إذا أنكروا صحتها دون حاجة إلى أن يثبتوا عدم صحتها ([5]) .
ثانيـًا: حجية البيانات الواردة في المحرر الرسمي
أما فيما يتعلق بالبيانات فقد صدرت عدة قرارات توضح المسألة منها قرار المحكمة العليا الذي جاء فيه ” حيث إذا كانت حجية الورقة الرسمية في الإثبات هي حجة على الناس كافة أي فيما بين المتعاقدين و بالنسبة للغير فإنه يجب التفرقة بين الوقائع التي أثبتها الموثق مما جرى تحت سمعه وبصره و التي فيها مساس بأمانة الموثق و هذه حجيتها مطلقة و لا يجوز إنكارها إلا عن طريق الطعن فيها بالتزوير أما الوقائع التي ينقلها ذوي الشأن فيجوز الطعن فيها عن طريق إثبات عكسها دون حاجة إلى الطعن في الورقة ذاتها بطريق التزوير” ([6]) .
و عليه فإن البيانات الواردة في المحرر الرسمي إذا ما أثبتها الموثق فإنه لا يجوز إثبات عكسها إلا بالطعن بالتزوير أما إذا صدرت هذه البيانات من ذوي الشأن فإنه يتم الطعن فيها بالبطلان وهو ما يؤكده في السياق ذاته قرار المحكمة العليا فيما يتعلق بحجية عقد الشهرة الصادر في 27/09/2000 ([7]) .
ثالثـًا: حجيـة صـور المحرر الرسمـي.
يتم تحرير المحرر الرسمي من أصل وصورة ويظل الأصل محفوظا بمكتب التوثيق و يعطى لذوي الشأن صورا عنه و قد بين المشرع حجية صور المحرر الرسمي في نص المادتين 325 و 326 من القانون المدني و اعتبر حجية الصورة أقل من حجية الأصل إنما أقام قرنية على مطابقتها للأصل و لهذا فحجيتها تتوقف على عدم منازعة أحد الطرفين في المطابقة لهذا تختلف هذه القوة بحسب :
أ/ وجود أصـل المحرر الرسمي.
إذا كان الأصل موجود فإن للصورة ذات الحجية المقدرة للأصل بغض النظر إذا كانت الصورة خطية أو شمسية , كما يستوي أن تكون صورا نقلت عن الأصل مباشرة أو صور أخذت عن صور الأصل ما دام أنها
كلها رسمية أي تم نقلها عن الأصل و عن صور الأصل بواسطة موظف مختص ([8]) ,و الصورة الرسمية لا تكون لها الحجية المقررة للأصل إلا إذا كانت مطابقة له و عليه فإنه بإمكان الخصم الذي يحتج عليه بصورة رسمية أن
يطلب إحضار الأصل، و يلزم القاضي بالأمر بإحضارها دون أن يمتنع من تمسك بها القيام بذلك , فإذا كانت الصورة مطابقة للأصل كانت لها قوتها في الإثبات أما إذا تبين عدم مطابقتها للأصل يتم استبعدها([9]) .
ب/ عدم وجود أصل المحرر الرسمي
و نميز بين ثلاث حالات قررتها م 326 قانون مدني :
* حالة الصورة الرسمية : هذه الصورة تؤخذ من الأصل مباشرة، سواء كانت هذه الصورة تنفيذية أو غير تنفيذية مثل النسخ أو الصورة الأصلية البسيطة فكلها تعتبر الصورة الأصلية لأنها مأخوذة من الأصل مباشرة و لها حجية الأصل طالما أن مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها ،وهذه الحجية مستندة إلى الصورة ذاتها لعدم وجود الأصل والذي يجعل الصورة تأخذ هذا الحكم هو ختم الموثق عليها رغم عدم حملها لتوقيعه و لا توقيع الأطراف.
* حالة الصورة الرسمية المأخوذة من الصورة الأصلية : الصورة في هذه الحالة ليست مأخوذة من الأصل مباشرة ،و لكن لها نفس الحجية التي للصور المأخوذة عنها بشرط أن تكون الأصلية موجودة حتى يمكن المراجعة عليها إذا ما طلب أحد الطرفين ذلك، حجية الصورة في هذه الحالة ليست مستمدة من ذاتها بل هي مستمدة من الصورة الأصلية فإذا لم تكن مطابقة للصورة الأصلية استبعدت و بقيت الصورة الأصلية هي صاحبة الحجية .
و لذلك إذا فقدت الصورة الأصلية فمعنى ذلك أن الصورة المأخوذة عنها لا يكون لها الحجية عند المنازعة فيها و لا يعتد بها إلا بمجرد الاستئناس ([10]) .
* حالة الصورة الرسمية للصورة المأخوذة من الصورة الأصلية : تعد في هذه الحالة الصورة الثالثة بالنسبة للصورة الرسمية الأصلية، لا حجية لها في ذاتها و لا يعتد بها إلا لمجرد الاستئناس تبعاً للظروف ،كأن تكون مجرد قرائن بسيطة أما اعتبارها مبدأ ثبوت الكتابة ففيه خلاف ([11]) .
الفرع الثالث: سلطة القاضي في تقديـر المحرر الرسمـي.
رأينا أن المحرر الرسمي يعتبر حجة على الناس كافة ،و الخصم الذي يتمسك به لا يلزم بإثبات صحته غير أن هذه القرنية التي يتمتع بها المحرر الرسمي لا تحدث أثرها إلا أذا اتسم المحرر الرسمي بحالة ظاهرة من الصحة و المشروعية، فإذا ظهر على أن شكله مشوب بعيب ظاهر للعيان لوجود حشو أو تشطيب أو كشط و غيره من العيوب المادية, فإنه وتماشياً مع الدور الإيجابي للقاضي في الإثبات فقد منح المشرع للقاضي سلطة إسقاط الصفة الرسمية على المحرر([12]) , دون أن ينتظر القاضي تحرك الخصم ليطعن في هذا المحرر بالتزوير, هذا الحكم أورده المشرع المصري في المادة 28 من قانون الإثبات في حين أن المشرع الجزائري أغفل النص عليه صراحة فقط ما أورده في نص المادة 43 قانون الإجراءات المدنية بإمكانية قيام القاضي بالتحقيق في الكتابة إضافة إلى نص المادة 27 من القانون رقم 06/02 المتضمن تنظيم مهنة التوثيق و التي أوردت حكماً يقضي بأن الكلمات المحورة أو المكتوبة بين السطور أو المضافة باطلة إذا تضمنها العقد ليبقى التساؤل بشأن هذا البطلان المقرر بنص صريح إذا ما كان القاضي أن يثيره من تلقاء نفسه أو على أحد الخصوم أن يدفع به، في حين أن القانون المصري ترك للقاضي إذا شك في المحرر المقدم إليه أن يأمر من تلقاء نفسه باتخاذ ما يراه من إجراءات الإثبات فله أن يدعو الموظف الذي صدر عنه المحرر ليبدي أمامه ما يوضح به حقيقة الأمر فيه، فإذا تأكد القاضي أن المحرر مزور كان له أن يحكم برد المحرر و بطلانه حتى لو لم يطعن أمامه بالتزوير و لا شك أن سلطة القاضي في ذلك تنبع من سلطته في تقدير الأدلة المقدمة إليه و الأخذ بما يرتاح إليه، فقط عليه أن يذكر في حكمه الأسباب التي استند إليها متى كان المحرر جوهرياً و جدياً في النزاع([13]) .
وللإشارة فقط فإن الخصم إذا أراد إسقاط حجية المحرر الرسمي فإن عليه إتباع طريق حاليا هو الوحيد وهو طريق الإدعاء الفرعي بالتزوير لأنه هو الوسيلة الوحيدة المقررة قانوناً لهدم قوة المحرر الرسمي في الإثبات ،غير أن المشرع الجزائري أوجد طريقا آخر لهدم قوة المحرر الرسمي من خلال دعوى التزوير الأصلية المنصوص عليها في المواد 186 و 187 و 188 قانون الإجراءات المدنية و الإدارية و الذي سيبدأ سريانه من تاريخ 21 أفريل 2009
المطلب الثاني: المحــررات العرفيــة.
لم يضع المشرع تعريفًا خاصاً للمحرر العرفي إلا أنه يمكن أن يعرف بأنه سند معد للإثبات يتولى تحريره و توقيعه أشخاص عاديون دون تدخل من الموظف العام ([14]) ,و هذه المحررات إما تكون معدة سلفاً للإثبات و في هذه الحالة تكون موقعة ممن هي حجة عليه, و إما غير معدة للإثبات لذلك يغلب ألا تكون موقعة و إما يعطيها القانون حجية في الإثبات([15]).
الفرع الأول : المحررات العرفيـة المعـدة للإثبـات.
وضعت المادة 326 مكرر الإطار التي من خلاله يعتبر المحرر العرفي دليل كامل لهذا نتطرق أولاً إلى شروطها ثم نتناول حجيتها :
أولاً: شروط المحررات العرفية المعدة للإثبات: لا بد من توافر شرطين هما:
1-الكتابـة : لا يقصد بالكتابة في هذا الباب أن تكون الورقة العرفية مكتوبة فهذا أمر بديهي ,و لكن يقصد بها أن تنصب على الواقعة المراد إثباتها بالمحرر، و يستوي أن تكون هذه الكتابة باللغة العربية أو بلغة أجنبية بخط اليد أو بآلة يتولاها الأطراف أو أي شخص آخر.
2- التوقيـع : يعرف على أنه علامة أو إشارة أو بيان ظاهر مخطوط إعتاد الشخص على إستعماله للتعبير عن موافقته على عمل أو تصرف قانوني بعينه([16]) ,لذلك هو شرط أساسي لنسب المحرر إلى صاحب التوقيع, لذلك إذ لم يوجد التوقيع على المحرر لا يمكن اعتباره دليل كامل و التوقيع المطلوب هو توقيع من يعتبر المحرر دليلاً ضده.
التوقيع إما أن يكون بالإمضاء أو بصمة الأصبع و هو ما أورده تعديل2005 في المادة 329 أو ببصمة الختم، ويوضع التوقيع في آخر الكتابة للدلالة على إطلاع الموقع على مضمونه وإن وجد في مكان آخر فللمحكمة أن تقرر قيمة المحرر.
ثانياً : حجيـة المحررات العـرفية المعدة للإثبـات
تناول المشرع هذه الحجية في نص المادة 327 قانون مدني و لمعرفة هذه الحجية نتطرق بداية إلى الحجية من حيث المضمون ثم من حيث التاريخ.
أ – حجية المحرر العرفي من حيث مضمونه :
1- حجية المحرر العرفي فيما بين أطرافـه :
أشارت الفقرة الأولى من المادة 327 قانون مدني إلى أن العقد العرفي و المقصود المحرر يعتبر صادراً ممن كتبه أو وضع عليه بصمة أصبعه ما لم ينكر صراحة ما هو منسوب إليه.
و معنى ذلك أن المحرر العرفي يحوز الحجية إذا اعترف صاحب التوقيع على المحرر العرفي بصدوره منه أو سكت و لم ينكر صدوره عنه صراحة كله أو بعضه ، عندئذ ينفذ التصرف الثابت في المحرر في حقه هو و خلفه العام و الخاص ([17]) و هو ما أكدته المحكمة العليا في عدة قرارات لها ([18]) .
2- حجية المحرر العرفي بالنسبة للغيـر.
وحسب الشطر الثاني للمادة 327 قانون مدني التي تنص:” أما ورثته أو خلفه فلا يطلب منهم الإنكار و يكفي أن يحلفوا يميناً بأنهم لا يعلمون أن الخط أو الإمضاء أو البصمة هو لمن تلقوا منه هذا الحق “. فإن المحرر العرفي حجة على من صدر منه وعلى خلفه العام و الخاص و إذا ما توفي صاحب التوقيع فهنا لورثته أو الخلف أن يتمسكوا لعدم صدور المحرر ممن وقعه لا عن طريق إنكار التوقيع بل يكفي أن يحلفوا يميناً بأنهم لا يعلمون أن الخط أو البصمة أو الختم هو لمن تلقون عنه الحق وهو طريق الطعن بالجهالة الذي لا يمتد أثره إلى التصرف ذاته الصادر عن المورث ([19]) , أما إذا أقرا الخلف أو الورثة بأن الختم أو التوقيع أو البصمة الموجودة على المحرر لمن تلقوا عنه الحق فإنه لا يقبل منهم بعد ذلك الطعن بالجهالة بل عليهم سلوك الطعن بالتزوير في المحرر العرفي.
ب/ حجية المحرر من حيث تاريخــه:
إذا كان للمحرر العرفي حجية بما ورد به من بيانات و منها تاريخه في مواجهة طرفيه حتى يثبت العكس و له ذات الحجية في مواجهة الغير فما عدا التاريخ فلا يكون حجة إلا إذا كان ثابتاً .
الغير حسب م 328 قانون مدني , لا يقصد به ذلك الشخص الأجنبي الذي يكون بعيدا عن التصرف موضوع المحرر و إنما يراد به كل من يضار من الاعتداد بالتاريخ الثابت في المحرر العرفي ([20]) .
لذلك لا يعتبر من الغير المتعاقد نفسه ولو قام نائبه بالتعاقد نيابة عنه، أيضا الخلف العام الذي مثله سلفه في المحرر، و الدائن الذي مثله مدينه فكل هؤلاء ليسوا من الغير لأنهم أطراف في المحرر العرفي أو كانوا ممثلين فيه بواسطة شخص آخر أما الغير فهما :
– الخلف الخـاص: فهو من تلقى حق عيني من صاحب التوقيع على المحرر العرفي على شيء معين بالذات كالمشتري بالنسبة للبائع و الموهوب له بالنسبة للواهب و الدائن المرتهن للمدين الراهن وجميع هؤلاء تسري في حقهم تصرفات السلف فقط إذا كانت سابقة على تاريخ اكتسابهم لحقوقهم.
– الدائـن الحاجـز: ([21]) الدائن العادي لا يعتبر من الغير حسب الأصل لأن حقه لا يتعلق بعين معينة من أموال مدينه بل تتعلق بذمة هذا المدين ،ولكن القانون يجيز للدائن أن يتخذ بعض الإجراءات يترتب عليها أن يتعلق حقه بمال معين من أموال مدينه وحتى لا يضار هذا الدائن من تصرفات مدينه الوارد على هذا المال فإنه يعتبر من الغير إذ لا تسرى في حقه تلك التصرفات إلا إذا كانت ثابتة التاريخ و سابقة على اتخاذ الإجراء الذي علق حق الدائن بالعين، أهمها الحجز فإذا حجز الدائن على منقول مملوك لمدينه و تقدم شخص مدعياً إنه اشتراه لا يسري في حق الدائن الحاجز هذا الشراء إلا إذا كان ثابت التاريخ بشكل قطعي و كان تاريخه الثابت سابقاً على تاريخ الحجز، أما إذا كان تاريخ الشراء غير ثابت أوكان لاحقا على الحجز فإنه لا يحتج به على الدائن الحاجز و بالتالي مواصلة إجراءات التنفيذ على الشيء المحجوز لبيعه و استيفاء حقه.
– ثبوت التاريخ في المحرر العرفي : دائما بالرجوع إلى المادة 328 قانون مدني نجد أن المشرع حدد حالات ثبوت التاريخ و تتمثل في :
– ثبوته من تسجيله في مصلحة الطابع والتسجيل: بصدور القانون رقم 91/25 المؤرخ في 16/12/1991 المتضمن قانون المالية لسنة 1992 في مادته 63 منع تسجيل المحررات العرفية و أوجب أن تفرغ جميع العقود الخاضعة للتسجيل في محرر رسمي فأصبحت هذه الحالة غير متصورة.
– ثبوته من يوم ثبوت مضمونه في محرر رسمي: ويشترط في هذه الحالة أن يذكر مضمون المحرر العرفي بصورة واضحة لا تؤدي إلى أي لبس و هنا يكون التاريخ الثابت للمحررين واحد ،ومن ذلك الإشارة إلى مضمون
المحرر العرفي في محاضر الضبطية أو أي محرر يكون مصدره موظف أو ضابط عمومي أو شخص مكلف بخدمة عمومية.
– ثبوته من يوم وفاة أحد ممن لهم على المحرر أثر معترف به : سواء بخط أو إمضاء أو بصمة ،و هنا يكون من المفروض أن المحرر صدر قبل الوفاة و يصبح تاريخ الوفاة تاريخ ثابت للمحرر العرفي و يقاس نفس الأمر بالنسبة لليوم الذي يصبح مستحيلاً على أحدهم أن يكتب أو يبصم لعلة كبتر اليدين.
– ثبوته من يوم التأشير على المحرر العرفي من موظف عام :و هذا عند المصادقة على إمضاء الأطراف أمام ضابط الحالة المدنية ،أو عند تأشير القاضي على المحرر العرفي المقدم في الدعوى لتسليمه للخصم الآخر للإطلاع عليه.
و للإشارة فقد منح المشرع سلطة تقديرية للقاضي حسب ظروف كل قضية أن يستبعد تطبيق المادة 328 فيما يتعلق بالمخالصات، و ذلك للصعوبة التي يتلقاها الأفراد لو طبق النص عليها لكثرة التعامل بها.
الفرع الثاني : المحررات العرفية غير المعـدة للإثبات.
توجد محررات عرفية لم تعد مقدماًً للإثبات و هي في الغالب غير موقعة و رغم ذلك فإن القانون يضفي عليها قوة في الإثبات و هو ما تعرض له المشرع في المواد من 329 إلى 332 قانون مدني و يتعلق الأمر بأربعة أنواع.
أولاً- الرســائل و البرقيـــات :حسب المادة 329 قانون مدني نميز بين :
1- الرسائـل: و تعرف الرسالة على أنها كل كتابة مخصصة لربط علاقة بين شخصين و أكثر لغرض من الأغراض([22]) و حسب الشطر الأول من المادة 329 التي تنص على أنه” تكون للرسائل الموقع عليها قيمة الأوراق العرفية من حيث الإثبات” فالمشرع قد ساوى بين الرسالة و المحرر العرفي أي أنها تكون دليل كتابي كامل بشرط أن تكون موقعة وتتضمن من البيانات ما يعين الواقعة المراد إثباتها ، من جهة أخرى فإنها تخضع لنفس الحكم الذي يخضع له المحرر العرفي من حيث عدم الإحتجاج بتاريخها على الغير إلا إذا كان تاريخها ثابتاً ، و الحق في استخدام الرسالة للإثبات يكون لمالكها و تعتبر الرسالة ملكاً للمرسل إليه لذا هو صاحب الحق في تقديمها للإثبات.
2- البرقيـات : دائماً و حسب المادة 329 قانون مدني في شطرها الثاني فإن المشرع افترض مطابقة البرقية لأصلها المودع في مكتب التصدير ، لأن موظف التلغراف لا مصلحة له في تغيير مضمون الأصل و من الحجية التي يعطيها المشرع للبرقية مشروط بقاء أصلها الموقع عليه من المرسل ،فإذا انعدم أصل البرقية فلا يعتد بها إلا لمجرد الإستئناس([23]) .
ثانياً- الدفاتـر التجاريـة :
أوجب القانون التجاري في المادة 14 منه على التاجر مسك دفترين هما دفتر اليومية و دفتر الجرد يقيد فيهما العمليات التجارية و كل ما يرتبط بتجارته و تنظيمها ،حتى يكون له حجة في الإثبات طبقاً للمادة 330 قانون مدني و التي إما تكون حجة للتاجر أو حجة عليه.
1- دفـاتر التاجر حجة عليه : بغض النظر عن الشخص الذي تعامل معه التاجر فقد يكون تاجراً أو لا و ما إذا كان الأمر يتعلق بنزاع مدني أو تجاري ، فالبيانات المدونة في الدفتر هي بمثابة إقرار مكتوب ([24]) ,صادر عن التاجر و هذا خروج عن القواعد العامة في الإثبات، من ناحية أن دفتر التاجر محرر عرفي غير موقع من التاجر هذا من جهة و من جهة أخرى أن التاجر ملزم بتقديم دليل ضد نفسه.
2- دفـاتر التاجر حجـة له : خروجاً عن قاعدة أنه لا يجوز للشخص أن يصطنع دليلاً لنفسه بنفسه يمكن أن تكون لدفاتر التاجر حجة له في حالتين .
الأولى: في الدعاوى التجارية إذا كان الخصم تاجر إستناداً إلى المادة 13 قانون تجاري و هنا يجوز للقاضي مقابلة الدفاتر و التأكد من صحة البيانات الواردة بها.
الثانية: في الدعاوى المدنية إذا كان الخصم ليس تاجراً أجاز كذلك القانون أن يكون الدفتر حجة للتاجر إذا تعلق بما يورده لعملائه غير التجار ، و ألا تزيد قيمة البضائع على ما يجوز إثباته بالبينة أي 100.000 دج ،و الحجية في هذه الحالة ناقصة يتعين إذا ما قبلها القاضي أن يكملها باليمين المتممة أي يوجهها إلى أي من الخصمين([25]) .
ثالثاً-الدفـاتر والأوراق المنزلية :
يقصد بها المذكرات التي يضعها الأشخاص و يدونون فيها الوقائع الخاصة بشؤونهم و تصرفاتهم اليومية المنزلية و المالية أما على دفاتر و أوراق متفرقة .
و قد بين المشرع حجية هذه الأوراق و الدفاتر المنزلية في نص المادة 331 قانون مدني و ما يمكن إستخلاصه أن هذه الدفاتر و الأوراق المنزلية لا تكون حجة لصاحبها في أية صورة لأنه لا يستطيع أن يصطنع دليلاً لنفسه غير أنه يمكن أن تكون لها حجية على صاحبها في حالتين:
الأولى: أن يذكر فيها من صدرت منه أنه أستوفى ديناً و يكون ذلك بشكل صريح و يقصد به إقرار الدائن بوفاء الدين سواء كان كلياً أو جزئياً.
الثانية : إذا ذكر صراحة أنه قصد بما دونه أن تقدم هذه الأوراق مقام السند لصاحب الحق فيها.
و يراعى أن حجية الدفاتر و الأوراق المنزلية هنا هي حجية قابلة لإثبات العكس ،فيستطيع صاحبها أن يثبت أن البيانات التي دونها تم تدوينها عن طريق الخطأ و إنتظاراً الوفاء لم يتم، و يمكن ذلك حتى بالبينة و القرائن. و لا يقال هنا أن الدفاتر و الأوراق المنزلية لا تعد محررات عرفية موقعة تنطبق عليها هذه القاعدة([26]).
و الأصل أن هذه الأوراق لا يجوز الإجبار على تقديمها إلى القضاء إلا إذا كانت مشتركة بين الخصمين أو مثبتة لإلتزاماتها و حقوقها المتبادلة.
رابعاً- التأشير على السند بما يستفاد منه براءة ذمة المدين:
إذا قام المدين بالوفاء بالدين فإن الدائن يعطيه عادة مخالصة بالسداد أو يؤشر على سند الدين بالوفاء مع التوقيع و يعد بذلك دليل كتابي كامل ،و قد يكتفي الدائن بالتأشير بخطه دون توقيع على السند المثبت للدين ببراءة ذمة المدين ، خاصة إذا كان الوفاء جزئياً فاعتبر المشرع طبقاً للمادة 332 قانون مدني أن مثل هذا التأشير حجة على الدائن بحصول الوفاء حتى يثبت عكس ذلك، و يلزم لإعمال هذا الحكم توفر عدة شروط تختلف حسب ما إذا كان السند في حيازة الدائن أم في حيازة المدين.
1- التأشير على سند الدين و هو في يد الدائن:
إذا أشر الدائن على سند الدين الموجود في حيازته بما يفيد الوفاء الكلي أو الجزئي فإن هذا التأشير رغم أنه غير موقع عليه من الدائن يعتبر دليلاً على براءة ذمة المدين، و لكن حجية هذا التأشير مقرونة بشرطين.
– أن يتضمن التأشير بما يفيد براءة ذمة المدين من كل أو بعض الدين، و أن يقع التأشير على سند الدين ذاته لا على صورة له أو ورقة مستقلة عنه و التأشير على السند يكون بأي شكل سواء في ظهره أو بهامشه و وجود شطب أو محو لا يؤثر على وجود الوفاء ما دام مقروءاً ما لم يثبت الدائن العكس.
– يجب أن لا يكون السند قد خرج من حيازة الدائن، فإذا خرج من حيازته فيقع عليه عبء إثبات خروج السند لدحض هذه الحجية.
2- التأشير على سند الدين و هو في يد المدين : إذا أشر الدائن بما يفيد براءة ذمة المدين على السند الموجود لدى المدين فإن ذلك يكون حجة في الإثبات بشرطين هما([27]) :
– أن يكون التأشير مكتوب بخط الدائن على نسخة من السند الأصلي أو على مخالصة ببراءة ذمة المدين و لا يلزم أن يكون التأشير موقعاً عليه من الدائن، و لكن يجب ألا يكون هنالك محو أو شطب و إلا زالت الحجية للتأشير لأنه لا يفهم من المحو إلا أن الوفاء لم يتم و إذا أدعى أن الشطب تم عن غلط أو دون علمه عليه الإثبات.
– يجب أن تقع نسخة السند أو المخالصة في حيازة المدين ، و متى توفر الشرطان اعتبر التأشير حجة على الدائن في براءة ذمة المدين إلا أنه لا يصل إلى قوة الورقة العرفية الموقعة و من ثمة يمكن للدائن أن يثبت عكس هذا الدليل بكافة الطرق.
المطلب الثالث : المحررات الإلكترونيــة .
لعل التطور المتسارع في مجال التكنولوجيا و ما استتبعه من ظهور شكل حديث للكتابة و التوقيع، جعل الدول الرائدة في هذا المجال تعدل النصوص القانونية المتعلقة بالإثبات لتتناسب و هذا التطور الذي قاد إلى تجريد المحررات من دعامتها الورقية و التي تعتمدها نصوص الإثبات التقليدية لتحل إلى جانبها محررات دعامتها إلكترونية، و هذا ما دفع المشرع الجزائري إلى مواكبة هذا المفهوم الجديد واعتماده في نصوص المواد 323 مكرر و 323 مكرر 1 و327 قانون مدني ، و لم تعد الكتابة كدليل في الإثبات قاصرة على الكتابة المفرغة في محرر ورقي بل تشمل أيضاً التي تضمنتها دعامة إلكترونية أيا كان شكلها و متى توفرت فيها الشروط المتطلبة قانوناً([28]) ، لذلك سنحاول معرفة عناصر المحررات الإلكترونية و حجيتها و سلطة القاضي التقديرية بشأنها .
الفرع الأول : عناصر المحررات الإلكترونية.
أولاً:الكتابة الإلكترونية وشروط صحتها.
دون الغوص في المفاهيم التي أوجدتها “الأونيسترال” ([29]) , في القوانين النموذجية و كذا التشريعات المقارنة للكتابة الإلكترونية فإن المشرع الجزائري كان مسايراً لما يحدث في هذا المجال،حيث أنه و لأول مرة يعرف مدلول الكتابة في نص المادة 323 مكرر قانون مدني و يجعله جامعاً و قابلاً للتطبيق على كل أنواع الكتابة، و بذلك فصل بين الكتابة كعنصر من عناصر المحرر و الوسيط الذي تتم من خلاله سواء كانت دعامة ورقية و إلكترونية فإنه لا يؤثر على قوتها الثبوتية ،و باستقراء المادة 323 مكرر قانون مدني التي تنص على أنه ” ينتج الإثبات بالكتابة من تسلسل حروف أو أوصاف أو أرقام أو أية علامات أو رموز ذات معنى مفهوم مهما كانت الوسيلة التي تتضمنها و كذا طرق إرسالها” , يمكن أن نستخلص أول شروط صحة الكتابة الإلكترونية و هو أن تكون:
1/ ذات دلاله تعبيرية واضحة و مفهومة و هو شرط مألوف لأن الكتابة المستعملة تحتاج إلى وسيط سواء مادي كالشاشة و لوحة المفاتيح أو غير مادي كبرنامج الكمبيوتر و ذلك لتشغيل البيانات و المعلومات المحمولة([30]) .
و عليه و رغم أن الكتابة الإلكترونية تكون في شكل معادلات و خوارزميات تنفذ من خلال عمليات البيانات و إخراجها من خلال شاشة الكمبيوتر و أن قراءتها و الإطلاع عليها لا يكون بطريقة مباشرة إلا أن ذلك غير ذي أثر على الإعتراف بها كدليل إثبات، و هو ما يتجلى في نص المادة 323 مكرر بقولها ” مهما كانت الوسيلة التي تضمنها و كذا طرق إرسالها”.
أما الشرطين الثاني و الثالث فقد أوردتهما المادة323 مكرر1 قانون مدني.
فأما الشرط الثاني فيتعلق بـ :
2/ التأكد من هوية الشخص الذي أصدرها ، أي إذا أستخدمت طريقة لتعيين هوية الشخص و التدليل عليه فإن ذلك يعد من قبيل التوقيع على رسالة البيانات غير أن هذا الشرط يرتبط أكثر بالعنصر الثاني للمحررات الإلكترونية ألا و هو التوقيع و الذي سنوضحه في حينه.
أما الشرط الثالث فهو يتعلق بـ :
3/ إمكانية الحفظ و الإسترجاع و هو ما عبرت عنه المادة السالفة الذكر بقولها ” و أن تكون معدة و محفوظة في ظروف تضمن سلامتها” و معيار تقدير سلامة المعلومات هو تحديد ما إذا كانت قد بقيت مكتملة و دون تغيير بالشكل الذي أنشئت أو أرسلت أو أستلمت به.
في حين أن الإسترجاع فيعبر عنه بإمكانية الإطلاع على المعلومات و الرجوع إليها لاحقاً بعد إعدادها و حفظها و إرسالها([31]) .
ثانياً :التوقيع الإلكتروني و شروط صحته.
المشرع الجزائري لم يورد تعريفاً للتوقيع الإلكتروني و من خلال المادة 327 قانون مدني فإنه ربط بين التوقيع و الشروط المتعلقة بالكتابة الإلكترونية ، و إذا أردنا إعطاء تعريف له فإنه يتعين علينا إيضاح هذا التعريف في كل من قوانين الأونيسترال و كذا المنظمات الدولية و التشريعات المقارنة لفهم هذا المدلول و بما أن المقام لا يتسع ،فمن المهم فقط معرفة أن جل التشريعات تنقسم بين من يعرف التوقيع الإلكتروني بالوظائف المنوطة به و هو حال التشريعات اللاتينية و بين من يعرفه بالجانب التقني أي كيفية العمل و هو حال التشريعات الأنجلوساكسونية و هذا الإنقسام عرفه أيضاً الفقه بنفس التفرقة التي عرفتها التشريعات، حتى ظهر فريق يجمع بين الفريقين ،و من ذلك أن التوقيع الإلكتروني هو مجموعة من الإجراءات و الوسائل التي يتيح إستخدامها عن طريق الرموز أو الأرقام إخراج رسالة إلكترونية تتضمن علامة مميزة لصاحب الرسالة المنقولة إلكترونياً، يجري تشفيرها باستخدام خوارزم المفاتيح ،واحد معلن و الآخر خاص بصاحب الرسالة “([32]) .
و عرف أيضاً بأنه مجموعة من الرموز أو الأرقام و الحروف الإلكترونية تدل على شخصية الموقع دون غيره([33]).
و عرف أيضاً بأنه عبارة عن ” معلومات أو معطيات في شكل إلكتروني ترتبط أو تتصل منطقياً بمعطيات إلكترونية أخرى و تستخدم كوسيلة لإقرارها”([34]).
أما بالنسبة لشروط صحة التوقيع الإلكتروني فقد أحال المشرع على شروط الكتابة الإلكترونية في المادة 323 مكرر1 ،و هي إمكانية تحديد هوية الشخص الذي أصدره و كذا الحفظ في ظروف تضمن سلامته، غير أنه و في ظل غياب نص تنظيمي للمسألة تطرح إشكالية تحديد الشخص الذي يصدر عنه التوقيع
و كذا ضمان سلامة التوقيع ما دام لا توجد هيئة الإقرار و التوثيق التي من خلالها يتم إعتماد إجراءات بين الأطرف تهدف إلى التحقق من أن التوقيع لم يتعرض إلى أي تعديل أو تغيير.
و بالرجوع إلى الشرط الأول فإنه يتحقق بالربط المنطقي بين التوقيع و بيانات إنشاء التوقيع المخزنة في قاعدة بيانات خاصة و التيقن من تطابقهما من عدمه.
أما الشرط الثاني فيقتضي أن تكون هناك سيطرة على منظومة التوقيع ،و علم الموقع الوحيد ببيانات إنشاء التوقيعات وقت إستعمالها ،و على هذا الأساس يجب على الموقع أن يولي قدراً معقولاً من العناية و الحرص لتأمين البيانات التي يستخدمها للتوقيع و هذا يختلف حسب كل نوع من التوقيعات الإلكترونية([35]).
الفرع الثاني : حجيـة المحررات الإلكترونيــة.
المتمعن في نص المادة 323 مكرر1 قانون مدني يجد أن المشرع قد عادل بين الإثبات بالكتابة في الشكل الإلكتروني و الإثبات بالكتابة المفرعة على دعامة ورقية و ما يرتبه ذلك من أثر ،لهذا نتطرق أولاً إلى هذا المبدأ و ثانياً إلى أثر ذلك.
أولاً : مبدأ التعادل الوظيفي بين الكتابة في الشكل الإلكتروني و الكتابة على الورق.
صحيح أن مبدأ المعادلة الوظيفية مقرر بنص المادة 323 مكرر1 قانون مدني غير أنه في الوقت ذاته يظهر الإلتباس في عدم وجود نصوص تنظيمية للمبدأ ،و يتضح ذلك من خلال أن المشرع لم يحدد نوع الكتابة التي يمكن أن تعادل في حجيتها الكتابة في الشكل لإلكتروني، بمعنى هل هذه المعادلة الوظيفية تتعلق بالمحرر الرسمي أو المحرر العرفي .
طبعاً و قد أنقسم الفقه حول هذه المسألة بين من يفسر هذه المادة إلى نطاق يتسع ليشمل الكتابة الرسمية و بين من يرى أن هذا التدخل التشريعي يجب أن يحصر مجال إعماله في المحررات العرفية فقط ذلك أن المحررات الرسمية يشترط لصحتها حضور الأطراف أمام الضابط العمومي و توقيعه للمحرر حتى تمنح له الرسمية
و هذا غير ممكن في المحرر الإلكتروني ،و لعل هذا الرأي هو الأقرب إلى الترجيح في ظل غياب نصوص توضح المسألة عندنا([36]).
ثانيـاً : أثر التعادل الوظيفي بين المحررات الإلكترونية و المحررات العرفية
بعد ما خلصنا إلى أن الكتابة في الشكل الإلكتروني تعادل المحررات العرفية وظيفياً و باستقراء المادة 327 قانون مدني فإن حجية المحررات الإلكترونية تطبق عليها نفس الأحكام المقررة لحجية المحرر العرفي الذي تم التطرق إلى أحكامه في المطلب الثاني و هذا مع مراعاة الشروط الخاصة بالكتابة في الشكل الإلكتروني و التي أوردتها المادة 323 مكرر1.
الفرع الثالث: سلطة القاضي في تقديـر المحرر الإلكتروني
رأينا أن التفرقة بين التوقيع العادي و التوقيع الإلكتروني قد أزيلت و أعطي للتوقيع الإلكتروني ما إذا توافرت شروطه الخاصة نفس الحجية و الآثار القانونية دون تمييز بينهما ، غير أن التوجه الأوروبي يرى بأنه لا بد من التمييز بين التوقيع الإلكتروني العادي و التوقيع الإلكتروني المتقدم أو المعزز([37])إذا تم النظر إليهما من زاوية سلطة القاضي التقديرية ،فالتوقيع المتقدم يثبت حجيته بقوة القانون عكس التوقيع العادي الذي لا يتمتع سوى بقرينة يجب تعزيزها بإثبات جدارة التقنية المستخدمة و عليه للقاضي سلطة واسعة في تحديد قيمته في الإثبات مستعيناً برأي الخبراء ([38]) .
من جهة أخرى أثيرت مسألة التنازع بين الدليل الكتابي الورقي و الدليل الكتابي الإلكتروني و موقف القاضي منهما ، و كما سبق الذكر المشرع الجزائري تناول فقط المبادئ دون تفضيل عكس ما ذهب إليه المشرع الفرنسي في نص المادة 1316-02 قانون مدني التي تنص على أنه: ” عندما لا ينص القانون على قواعد مخالفة أو عندما لا يكون هناك إتفاق متكافئ في إثبات الإلتزامات و الحقوق بين الأطراف ،
يبث القاضي في النزاعات القائمة حول الإثبات بالكتابة غير تحديد السند الأكثر مصداقية أياً كانت دعامته و ذلك عن طريق إستخدام كافة الطرق المتوفرة لديه.
هذا الحل التشريعي الذي اعتمده المشرع الفرنسي أعطى للقاضي سلطتين الأولى تتعلق بالبث في النزاعات القائمة حول وسائل الإثبات و تحديد السند الأكثر مصداقية ، أما الثانية هي سلطة تقديرية واسعة في عملية التحديد فهو الذي يرجح واسطة إثبات دون أخرى بغض النظر عن الدعامة ورقية كانت أو إلكترونية و ذلك باستخدام الأدوات المتوفرة لديه.
و مما أوجده النص أيضاً أنه منح إمكانية وضع إتفاقات بين المتعاقدين تخالف قواعد الإثبات الموجهة للقاضي، و بالتالي الاعتراف بأن هذه القواعد يمكن الإتفاق على خلافها([39]) ,و هو الإتجاه الذي أيدته محكمة النقض الفرنسية في أشهر قضية عرضت على القضاء الفرنسي([40]) بقولها ” تخضع حقوق الأطراف لحرية التصرف فيها و كل تصرف يرد عليها يجوز إثباته اتفاقاً ….” فهذا الإجراء الحديث- التوقيع الإلكتروني- يقدم نفس الضمانات التي يقدمها التوقيع اليدوي و الذي يبقى سارياً لا يعلمه سوى حائز البطاقة.
و يبقى الأمر صعب على القاضي الجزائري في ظل أولاً غياب نصوص تنظيمية للمسألة ،و من جهة أخرى تعود القاضي على وسائل الإثبات الورقية و معرفته المتصلة بالقانون و ليس بالتقنية من جهة أخرى.
المبحث الثاني
الإقــرار القـضائي
الأصل أن الادعاءات و التصريحات سواء الشفهية أو المكتوبة التي يتقدم بها الأطراف عن أنفسهم لا تقوم دليلا بذاتها لبناء قناعة القاضي، ومن ثمة لا تصلح أساسا لحكمه إلا أنها متى تضمنت إخبارا من احد الخصوم لثبوت واقعة مدعى بها عليه في حقه أصبحت ذات قيمة و أثر قانونيين، وهو مايصطلح عليه بالإقرار القضائي وقد عرف المشرع الجزائري الإقرار القضائي في المادة 341 قانون مدني على أنه “اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه وذلك أثناء سير الدعوى المتعلقة بها الواقعة ” لهذا فهو عمل قانوني بإرادة منفردة، وجب أن تتوفر فيه شروط التصرف القانوني ([41]).
لذلك يتعين البحث بشيء من التفصيل في صيغ الإقرار القضائي و صوره في مطلب أول و شروطه في مطلب ثاني و حجيته و سلطة القاضي في تقديره في مطلب ثالث .
المطلب الأول : صيغ الإقرار القضائي وصوره.
بما أن الإقرار القضائي طريق غير عادي للإثبات مادام يعفي الخصم من اللجوء إلى طرق الإثبات المقررة قانونا، فهو يجعل الواقعة غير متنازع فيها لهذا يأخذ صيغا و صورا متعددة نتناول كل واحدة في فرع.
الفرع الأول : صيغ الإقرار القضائي .
ليس للإقرار شكل خاص فهو قد يكون صريحا أو ضمنيا, و الصريح قد يكون مكتوبا أو شفويا ([42]) و الغالب انه يكون تقريرا مكتوبا دون اشتراط أي شكل .
و الإقرار لا يكون ضمنيا إلا قليلا، لأن الأصل أنه لا ينسب لساكت قول فتغيب الخصم عن الحضور أمام المحكمة ،أو سكوته عن الرد عند استجوابه ،أو تخلفه عن الحضور للاستجواب لا يكفي لاستخلاص إقرار ضمني ،غير أن المشرع الجزائري أوجد حالات من الإقرار الضمني و أحداث لها آثار قانونية ومن ذلك ما جاء في المادة 347 قانون مدني “كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون ردها على خصمه و كل من ردت
عليه اليمين فنكل عنها خسر دعواه “فالمشرع أعطى حكم الإقرار الضمني بمجرد الامتناع عن حلف اليمين ،أو بعد ردها على من وجهها إليه .
كما أن حضور الخصم للتحقيق ورفضه الإجابة عن أسئلة محددة موجهة إليه من طرف القاضي يمكن اعتباره إقرار.وقد قضي بان دفع المدين بسقوط دعوى الدائن بالمقاصة أو الإبراء إقرار علي عدم الوفاء بالدين، و إذا تبين عدم صحة المقاصة أو الإبراء فلا يجوز للخصم الدفع بالوفاء ،و ادعاء خصم بواقعتين فينكر خصمه إحداهما صراحة و يسكت عن الأخرى يعتبر إقرار ضمني بصحة الواقعة المسكوت عنها([43]).
الفرع الثاني : صور الإقرار القضائي .
نميز بين ثلاث صور مختلفة للإقرار القضائي :
الإقرار البسيط : ويقصد به الاعتراف بما يدعيه الخصم دون تعديل أو إضافة
الإقرار الموصوف: هو الذي يتضمن الاعتراف بالواقعة المدعى بها ،مع إضافة واقعة أخرى مرتبطة بها نشأت
وقت نشوء الواقعة الأصلية ومن شانها أن تؤثر في نتيجتها .
الإقرار المركب: يكون كذلك إذا تضمن إلى جانب الواقعة الأصلية واقعة أخرى مستقلة عنها نشأت بعد نشوء الواقعة الأصلية([44]).
غير أن البحث بشيء من التفصيل في هذه الأنواع سنتطرق إليه عند دراسة حجية الإقرار .
المطلب الثاني :شروط الإقرار القضائي .
من خلال نص المادة 340 قانون مدني نخلص إلى أن للإقرار ثلاثة شروط مهمة نتطرق لكل واحد منها في فرع .
الفرع الأول : صدور الإقرار من الخصم .
وهو تقرير لواقعة معينة على اعتبار أنها حصلت، و لاشك في أن التقدير على هذا النحو هو عمل مادي كالشهادة و الكتابة و التوثيق ،إذن في الأصل هو عمل مادي غير أنه من جهة أخرى في ينطوي علي نزول من جانب المقر عن حقه في مطالبة خصمه بإثبات ما يدعيه و هذا النزول هو تصرف قانوني من جانب واحد فيكون التكييف الصحيح للإقرار انه واقعة مادية تنطوي على تصرف قانوني ([45]).
وللإقرار من حيث هو واقعة مادية لا حاجة في تمامه إلى قبول من الخصم الذي صدر الإقرار لصالحه، و إذا كان هذا الخصم يطلب عادة إثبات الإقرار في المحضر فهو يفعل ذلك لا لإظهار قبوله إياه بل لتسجيله كما صدر حتى يتيسر الرجوع إليه .
أما الإقرار من حيث هو ينطوي علي تصرف قانوني من طرف واحد لا يحتاج أيضا إلى قبول الخصم بل يجب لصحته الشروط الواجبة لصحة التصرف القانوني .
و الإقرار يكون في حكم عمل من أعمال التصرف كونه لا ينشئ الحق المقر به ،فهذا الأخير موجود قبله و يأتي الإقرار ليؤكده فقط ،و إنما يعد كذلك لان ما يثبت الحق ذاته و يبرزه إنما يؤثر على هذا الحق تأثيرا ايجابيا مما جعله في مصاف أعمال التصرف، وما دام يعتبر من أعمال التصرف و ليس من أعمال الإدارة يجب أن يكون التوكيل به بموجب وكالة خاصة طبقا للمادة 571 قانون مدني لهذا تثار مسألة حجية الإقرارات الصادرة من المحامين عن موكليهم، و التي فصلت فيها المادة 04 من قانون رقم 91/04 المتضمن تنظيم مهنة المحاماة حين منحت بصريح النص الحق للمحامي في الإقرار و التنازل عن حق موكله، و هو استثناء لنص المادة 574 قانون مدني أما الوكلاء من غير المحامين مقيدون بالنص السالف الذكر و لا يمكن للقاضي أن يصدر حكمه بناءا على إقرار وكيل الخصم بموجب وكالة عامة، وإلا كان حكمه معيب بعيب القصور في التسبيب .
أما الولي و الوصي و القيم فيصح إقرارهم عن الأصيل في الحدود التي يجوز فيها القيام بأعمال التصرف فيشرط في كثير من الأحيان لصحة هذا الإقرار الحصول على إذن من المحكمة .
الفرع الثاني : أن ينصب الإقرار على واقعة قانونية مدعى بها .
محل الإقرار هو الحق المراد إثباته، و لا يشترط في الواقعة المقر بها أن تكون تصرفا قانونيا بل يصح أن تكون واقعة مادية كالإقرار بالجوار أو الالتصاق، و الإقرار لا ينصب على القواعد القانونية لأن القاضي هو المكلف بالبحث عنها و يشترط في محل الإقرار :
– أن لا يكذبه ظاهر الحال كإقرار شاب ببنوة كهل ([46]).
– ألا ينصب على ما لا يجوز التعامل به أو فيه مخالفة للقوانين و النظام العام أو الآداب، كالإقرار بفوائد ربوية بين الأفراد أو الإقرار لإثبات وجود عقد شكلي، كما لا يصح الإقرار لدحض ما جاء في محرر أو محضر له حجية إلى غاية الطعن فيه بالتزوير، و لا يعتد بالإقرار خلافا لما تقتضيه قرينة قانونية قاطعة ([47]).
– أن يكون محل الإقرار معينا تعينا كافيا مانعا للجهالة و هذا مرتبط أساسا بكونه من أعمال التصرف فلا يجوز الإقرار بشيء لم يوجد بعد كونه لم يترتب بعد في ذمة الشخص .
الفرع الثالث : أن يتم الإقرار أمام القضاء و أثناء سير الدعوى .
هذا الشرط يقضي معرفة مكان و زمان الإقرار
-أولا: يجب أن يتم الإقرار أمام القضاء و هو ما يميز بين الإقرار القضائي و غير القضائي، و قد ذهب البعض إلى انه يعد الإقرار الذي يحصل أمام محكمة غير مختصة إقرار قضائي بشرط ألا يكون عدم اختصاصها متعلق بالنظام العام ,و كذلك الإقرار الذي يتم أمام المحكمين.
أما الإقرار أمام النيابة و التحقيق و الخبراء فلا يعتبر إقرار قضائي لأن هذه الجهات ليست جهات قضاء لعدم اختصاصها بالفصل في الموضوع([48]). وقد اعتبرت المحكمة العليا أن الإقرار الصادر أمام الخبير لا يعتبر إقرار قضائيا و تختلف حجيته عن الإقرار القضائي([49])
– ثانيا :أن يكون الإقرار أثناء سير الدعوى :
و مقتضي ذلك أن يصدر الإقرار خلال إجراءات الدعوى التي يكون فيها الإقرار دليل الإثبات، فيصح أن يكون في صحيفة الدعوى ذاتها أو في المذكرات التي تليها أو في المذكرات التي يرد بها علي الدعوى، و قد أكدت المحكمة العليا ذلك في قرارها المؤرخ في 13/10/1991 تحت رقم 79639 جاء فيه “من المقرر قانونا أن الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعي بها عليه وذلك أثناء سير الدعوى المتعلقة بها الواقعة ومن ثم فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون .
و لما كان من الثابت في قضية الحال أن الطاعن يتمسك في الطعن بالرسالة الموجهة له من المدعى عليه و التي يوجه له فيها الإنذار لمغادرة السكن المؤجر له و ذلك بعريضة افتتاح الدعوى التي يتعرف فيها المطعون ضده بأنه سلم للطاعن السكن على سبيل الإيجار فان قضاة الاستئناف بعدم تحليلهم لذلك بأنه إقرار قضائي يكونوا قد خرقوا القانون و متى كان كذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه”.
المطلب الثالث : حجية الإقرار القضائي وسلطة القاضي في تقديره .
الفرع الأول :حجية الإقرار القضائي .
متى توافرت شروط الإقرار القضائي ترتبت آثاره القانونية الواردة في المادة 342 من القانون المدني، و التي تنص على أن “الإقرار حجة قاطعة على المقر و لا يتجزأ الإقرار على صاحبه إلا إذا قام على وقائع متعددة و كان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما و جود الوقائع الأخرى.”
ومن خلال النص يتبين أن الإقرار حجة قاطعة على المقر و قاصرة عليه و أن الإقرار لا يتجزأ إلا استثناءًا .
-أولاً : الإقرار حجة قاطعة على المقر .
يقصد بذلك انه يعتبر حجة عليه يؤاخذ به و لا يجوز له العدول عنه، و كونه يكسب حجية كاملة ضد المقر هو انه يصدر من الخصم ضد مصلحته الشخصية غير انه إذا كان الإقرار حجة على المقر و لا يجوز له أن يعدل عنه فذلك لا يمنع من أن يطعن المقر في إقراره بأنه صوري تواطأ عليه خصمه أو انه وقع نتيجة غلط أو تدليس أو إكراه، أو صدر منه و هو ناقص الأهلية فإذا اثبت ذلك بالطرق المقررة قانونا بطل الإقرار، و لا يكون هذا رجوعا في إقرار موجود بل هو إلغاء لإقرار ظهر بطلانه ،أما الإقرار القائم الصحيح فلا يجوز الرجوع فيه و لا يجوز إثبات عكسه ([50])
في ذات الوقت بما أن الإقرار حجة قاطعة على المقر فهو إذًا حجة قاصرة عليه و على الخلف العام ([51])، فالإقرار تصرف قانوني لا تسري آثاره إلا بالنسبة للأشخاص الذين تنصرف إليهم آثار التصرف القانوني، أما غير هؤلاء فلا يتعدى إليهم أثر الإقرار ، فإقرار احد الشركاء لا ينصرف إلى باقي الشركاء ،و إقرار أحد الورثة بدين على التركة لا يسري على باقي التركة وإقرار أحد المدينين المتضامنين بعد اكتمال مدة السقوط لا يسري في حق غيره.
-ثانياً : عدم جواز تجزئة الإقرار .
يقصد بعدم جواز تجزئة الإقرار انه لا يجوز للخصم أن يفصل في الإقرار بين ما يكون نافعا له يأخذه وبين ما يكون ضارا به فيتركه، و ذلك على أساس أن ارتباط أجزائه في قصد المقر يجعل الإقرار وحدة يجب أخذها بأكملها أو تركها بأكملها ([52]) ،إلا أن تطبيق هذه القاعدة يجرنا إلى الحديث عن صور الإقرار و التي تم التطرق إليها في المطلب الأول بإيراد أمثلة عن ذلك .
ففي الإقرار البسيط لا مجال لإعمال قاعدة تجزئة الإقرار، و مثال ذلك أن يدعي الدائن انه اقرض المدعى عليه مبلغا فيعترف المدعى عليه دون تعديل .
أما في الإقرار الموصوف نميز بين الاعتراف بواقعة أصلية مدعى بها ،تضاف إليها واقعة أخرى مرتبطة بها نشأت وقت نشؤ الواقعة الأصلية ومن شأنها أن تؤثر في نتيجتها مثل أن يدعي المدعي أنه اقرض المدعى عليه مبلغ من المال وان الأجل قد حل و يطلب الوفاء غير أن المدعى عليه يقر بالدين و لكن الأجل لم يحل بعد، فالإقرار هنا موصوف و الوصف هو عدم حلول أجل الوفاء و حكمه أنه لا يتجزأ على صاحبه فقد أقر المدين بالدين مؤجلا، فإما أن يأخذ الإقرار كله موصوفا كما هو و إما أن يتركه كله و ليس للدائن أن يجزئه مقتصر على ما يفيده منه
في حين في الإقرار المركب الواقعة الأصلية المعترف بها تقترن بواقعة أخرى مرتبطة بها توجد بعدها ،و لا تنشا وقت نشوئها ،و مثاله أن يقر المدين بأنه اقترض مبلغ من المال وهي الواقعة الأصلية و لكنه وفـى ذلك المبلغ وهي واقعة أخرى مستقلة عن الواقعة الأصلية و نشأت بعدها، و الأصل أن الإقرار المركب لا يتجزأ على صاحبه ،غير أن هناك من يفرق بين صور الإقرار المركب و التي منها ما يمكن أن يتجزأ على صاحبه وحسبهم الإقرار المركب لا يتجزأ إذا كانت الواقعة المضافة إلى الواقعة الأصلية مرتبطة بها ارتباطا وثيقا من حيث محلها و طبيعتها و تفترض سابقا وجودها و إلا فانه يتجزأ و اعتبروا الإقرار بالدين و الوفاء لا يقبل التجزئة وهو ما أكدته المحكمة العليا ([53])
الفرع الثاني : سلطة القاضي في تقدير الإقرار القضائي .
إذا توافر للإقرار كل الشروط التي يتطلبها القانون لانعقاده و صحته صار حجة قاطعة على المقر لا يجوز له العدول عنه، و يتعين على القاضي أن يأخذ به و يحكم بمقتضاه، فالإقرار ليس من الأدلة التي يكون للقضاة سلطة تقدير حجيتها و إنما من الأدلة التي يتقيد القاضي بحجيتها وهو ما ضمنته المحكمة العليا في أحد قراراتها حيث جاء فيه “متى كان من المقرر قانونا أن الإقرار القضائي حجة قاطعة على المقر فان قاضي الموضوع لا يحتفظ باختصاصه في السلطة التقديرية تجاه هذا الإقرار ومن ثم فان القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون ،ولما كان من الثابت في قضية الحال أن المطعون ضده اعترف صراحة انه استولى على الغرفة المتنازع عليها دون علم أو موافقة المالك أمام القاضي الأول فان القضاة بإلغائهم الحكم المستأنف لديهم ومن جديد القضاء برفض طلب الطاعن الرامي إلى طرد المطعون ضده من الغرفة المتنازع عليها الكائنة بالعمارة التي يملكها يكونوا كما فعلو خرقوا القانون و متى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه ” ([54])
ومع ذلك فان للقاضي أن يفسر الإقرار لتوضيح ما فيه من غموض و إزالة ما فيه من لبس و هي سلطة مقررة له بالنسبة لأي دليل ومن حقه أن يفسر كل دليل يقدم لديه .
المبحث الثالث
القرائن القانـونية غير القاطعة “البسيطة”
المشرع الجزائري تناول الأحكام الموضوعية للقرائن في نصوص المواد من 337 إلى 341 قانون مدني
وبما انه كان من الأحسن تناول موضوع القرائن تأصيلا ثم تفريعا بيان تعريف و عناصر القرينة ثم أنواع القرائن و حجية كل منهما في دراسة شاملة و كاملة غير إننا ملزمون بالتقيد بموضوع البحث و ذلك بالتطرق إلى القرائن القانونية البسيطة على اعتبار أنها دليل إثبات له حجية ملزمة تقبل إثبات العكس .
فالقرينة بصفة عامة تعرف على أنها النتائج التي يستخلصها المشرع أو القاضي من واقعة أو وقائع معلومة ثابتة لسحبها على واقعة أخرى غير موجودة أو متنازع فيها ،وكان يستحيل أو يصعب إثباتها من الناحية العملية ([55]) لهذا نميز بين قرينة قانونية تتعلق بما يستنبطه المشرع نفسه مما يغلب وقوعه فعلا في نوع معين من الحالات ،و قرينة قضائية تتعلق بما يستنبطه القاضي من وقائع الدعوى المعروضة عليه.
و القرائن القانونية الأصل فيها جواز إثبات عكسها لأنها تقوم على الراجح الغالب الوقوع وقد لا يتفق الراجح الغالب مع الوقائع، فيجعل المشرع في بعض الأحيان القرينة القانونية غير قابلة لإثبات العكس، و على هذا تقسم القرائن القانونية إلى قرائن بسيطة أو غير قاطعة و هي التي يجوز إثبات ما يخالفها و قرائن قانونية قاطعة لا يجوز إثبات ما يخالفها ([56]) .لذلك سنتناول في هذا المبحث حجية القرينة القانونية غير القاطعة و مجال عملها و كيفية إثبات عكسها و أخيرا دور القاضي وسلطته في الإثبات بها .
المطلب الأول : حجية القرينة القانونية غير القاطعة و مجال عملها .
القرائن القانونية غير القاطعة ليست كلها في نفس درجة الحجية فهناك قرائن قانونية غير قاطعة يجوز إثبات عكسها بجميع الوسائل ،و قرائن قانونية غير قاطعة يجوز إثبات عكسها بطرق محددة ،و المشرع عندما حدد مجال تطبيقها فمنها من قررها لتعمل في مجال إثبات المسؤولية أو إثبات ركن من أركانها، و هناك قرائن يفرض بها صحة الوضع القائم بناء على ما هو ثابت و ظاهر حتى يثبت العكس .
الفرع الأول : حجية القرينة القانونية غير القاطعة .
نص المشرع الجزائري على القرينة القانونية غير القاطعة و اعتبرها الأصل و هذا مانستشفه من نص المادة 337 قانون مدني و قد جرى الفقه على تقسيمها إلى قرائن بسيطة الحجية و أخرى نسبية الحجية .
أولاً: ذات الحجية البسيطة :
هذا النوع هو الغالب لذلك المشرع أخضعها للقواعد العامة في الإثبات، و معيار تمييزها أن النص يرفق دائما بعبارة “ما لم يقم الدليل على عكس ذلك ” دون تحديد منه لا لوسيلة الإثبات و لا لمحله ومن ثمة نفي حجيتها بجميع الوسائل ،و من ذلك ما نصت عليه المادة 499 قانون مدني بقولها “الوفاء بقسط من بدل الإيجار يعتبر قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة ما لم يقم الدليل على عكس ذلك ” ، أيضا ما نصت عليه المادة 98 قانون مدني بقولها “كل التزام مفترض أن له سببا مشروعا ما لم يقم الدليل على غير ذلك “.
ثانياً : ذات الحجية النسبية :
فهي كما عرفها الفقه الفرنسي بأنها قواعد إثبات قانونية لا تقبل إثبات عكسها إلا بإثبات وقائع معينة بوسائل محددة ،فهي تشترك مع ذات الحجية البسيطة في أنها تقبل إثبات العكس غير أنها تختلف عنها من حيث أنها لا تقبل إثبات عكسها إلا بإثبات وقائع معينة و بوسائل معينة ،ففي التشريع الفرنسي يستدلون بنص المادة 552 من القانون المدني التي تفيد بأن مالك الأرض يملك ما فوق الأرض و ما تحتها و التي يمكن إثبات عكسها بوسيلتين هما الكتابة أو التقادم .
وفي الفقه الإسلامي توجد أيضا قاعدة شرعية تقضي بان الولد للفراش و اللعان هو الطريق المقرر لنقض هذه القرينة ([57]) .
في القانون الجزائري لا يوجد نص مقابل للنص الفرنسي غير انه أورد في بعض النصوص كما جاء في المادة 822 قانون مدني بأنه إذا تنازع أشخاص متعددون في حيازة حق واحد اعتبر بصفة مؤقتة أن حائزه هو من
كانت له الحيازة المادية إلا إذا قد اكتسب هذه الحيازة عن طريق التدليس ،فهذا النص يجعل من الحيازة المادية قرينة على الحيازة القانونية و هي قرينة غير قاطعة جعل القانون لا ثبات عكسها إثبات واقعة التدليس في الحصول على الحيازة المادية .
الفرع الثاني: مجال عمل القرينة القانونية غير القاطعة
يختلف مجال عملها باختلاف الدافع إلى تقريرها من طرف المشرع، فهي إما تقيم وقائع تتعلق بالمسؤولية المدنية تسهيلا لإثبات ركن من أركانها و إما يقيمها مقام الشرط في عمل القاعدة الموضوعية ،و يكون دورها هو مجرد الاستدلال مؤقتا على صحة الوضع القائم بناءًا على الافتراض المحض و استصحاب الأصل، لهذا قسمها الفقه إلى قسمين :
أولاً : قرائن تقوم على أساس الافتراض الأولي السابق.
و هي التي يقيمها المشرع بناءا على عمل افتراضي محض لما يجب أن يكون في الواقع بحكم أصل وظيفة الأشياء و مثال ذلك تقرير الملكية في حيازة المنقول استناداً إلى المادة 835 قانون مدني و التي استخلصها من ظاهرة الحيازة فالأصل أن الحائز للمنقول يفترض انه هو المالك فيقيم المشرع هذا الأصل لحماية التصرف باعتباره مظهرا للملكية .
ثانياً : القرائن المستقلة عن تطبيق القاعدة القانونية .
و هي التي أقامها المشرع بناءاً على اعتبارات واقعية أساسها فكرة الاحتمال الراجح الوقوع دون تعلقها بقاعدة موضوعية بموجبها يتحول الإثبات من الواقعة المتنازع عليها إلى واقعة أخرى قريبة منها و تجعل من ثبوتها ثبوت واقعة النزاع، و مثال ذلك قرينة الخطأ المنصوص عليها في المادة 140 من قانون مدني التي تقوم على أساس واقعة تهدم البناء و لو جزئيا تفترض في الواقع أن المالك قد قصر في صيانته أو تراخى في ترميمه و هذه الواقعة تكفي و حدها للدلالة على خطأ المالك الذي تقوم مسؤوليته .
المطلب الثاني : إثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة .
إن التطرق لكيفية إثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة يتطلب معرفة محل إثبات العكس فيها ثم الوسائل المقبولة قانونا لذلك .
الفرع الأول : محل إثبات العكس في القرينة القانونية غير القاطعة .
بما أن القرينة القانونية تقوم على صفة العموم و التجريد باعتبارها مقررة بنص قانوني فإنها تتميز بطبيعة خاصة في إثبات العكس فليس لمن يريد إثبات عكسها إلا الخيار بين :
-أن ينفي تحقق شرط القرينة القانونية غير القاطعة بنفيه الواقعة البديلة التي ارتبطت بها القرينة سواء بعدم قيامها أصلا أو أنها مشوبة بعيوب تجعلها غير منتجة في نظر القانون .
-أو أن يثبت عكس النتيجة المقررة في القرينة ذاتها و ذلك بإثبات عدم التطابق بين ما تقرره القرينة مع ما هو حاصل فعلا في الواقع .
الفرع الثاني : أدلة إثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة
لاشك في أن القرينة القانونية غير القاطعة يمكن إثبات عكسها بدليل ذي قوة مطلقة، فيمكن إثبات العكس بإقرار من تقررت القرينة لمصلحته أو بنكوله عن اليمين، كما يمكن أن يثبت عكسها بالكتابة أو بمبدأ ثبوت بالكتابة معززة بالبينة أو القرائن القضائية ،و إذا استحال الحصول على الكتابة أو استحال تقديمها بعد الحصول عليها فيثبت عكسها بشهادة الشهود أو بالقرائن القضائية ([58]) و مثال ذلك انه إذا كانت القرينة القانونية مستفادة من ورقة مكتوبة كالمخالصة بقسط الأجرة اللاحق و هي قرينة على الوفاء بالقسط السابق و استخدمت في إثبات تصرف لا يزيد قيمته عن مئة ألف دينار فانه يمكن إثبات عكس القرينة بالبينة و ليس هذا إثبات لعكس ما هو مكتوب بل هو إثبات لعكس القرينة المستفادة من المكتوب .
أما إذا كانت القرينة القانونية قد استخدمت في إثبات تصرف قانوني يزيد قيمته عن مئة ألف دينار فانه لا يجوز إثبات عكسها إلا بالكتابة أو الإقرار أو اليمين الحاسمة .
المطلب الثالث : دور القاضي و سلطته في الإثبات بالقرينة القانونية غير القاطعة.
الفرع الأول :دور القاضي في تطبيق القرينة القانونية غير القاطعة .
القرينة القانونية ملزمة للقاضي و ليس له أي سلطة لتقدير حجيتها و ذلك لأنها مقررة بنص القانون الذي يبين شروط انطباقها ،فمتى توفرت هذه الشروط التزم القاضي بالأخذ بدلالتها و لان الشروط التي تقوم عليها القرينة تتعلق بإثبات الواقعة البديلة و وسائلها فان هذه الوسائل القانونية يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة المحكمة العليا .
لكن على الرغم من أن دور القاضي يقتصر فقط علي التحقق من ثبوت الواقعة التي ربط بها المشرع القرينة القانونية ،فهذا لا يمنعه من استخدام سلطته التقديرية بغرض الوصول إلى الحقيقة ,كأن يستخلص من وقائع النزاع عنصر من عناصرها لكن بشرط أن تكون هذه الواقعة قابلة للإثبات بالقرائن القضائية وفقا للقواعد العامة في مجال الإثبات مثلا قرينة الوفاء ببدل الإيجار المنصوص عليها في المادة 499 قانون مدني و التي اشترط المشرع لقيامها إثبات واقعة بديلة و هي دفع المستأجر لبدل إيجار لاحق، فهنا لا يوجد ما يمنع القاضي من أن يستخلص من واقعة ما في الدعوى قرينة قضائية يستدل بها على ثبوت وفاء المستأجر بأجرة المدة السابقة و ليس هذا تعدي على حجية القرينة القانونية و ليس توسعا في تفسيرها ،و إنما يدخل في صميم الدور المنوط به للتحقيق في ثبوت الواقعة البديلة التي قررها المشرع و جعل دلالتها ثابتة .
الفرع الثاني : دور القاضي في إثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة .
أعطى المشرع للقرينة القانونية غير القاطعة حجية بسيطة في الإثبات ،بحيث تقبل إثبات العكس في جميع الحالات التي لا تكون فيها مطابقة لواقع النزاع و تقدير ثبوت عكس القرينة من عدمه من الأمور الموضوعية التي يرجع تقديرها لسلطة قضاة الموضوع دون تعقيب عليهم من المحكمة العليا، مادام تقديرهم مؤسس على أسباب موضوعية سائغة و مبررة، فإذا توصل القاضي بناءاً على سلطته التقديرية إلى اعتبار أن الوقائع التي يحتج بها الخصم لا تمثل مبررا كافيا لإسقاط حجية قرينة المسؤولية التي تثبت ضده فإن له كامل الحرية أن يرفض دفوع الخصم الذي يحتج بالقرينة من اجل دفع قرينة المسؤولية بعد تحري بناءا على سلطته التقديرية بعدم توفر شروط القوة القاهرة ([59]) ،أما إذا اقتنع القاضي بما قدمه الخصم من دفوع و استخلص منها بما له من سلطة
وقائع يرى بأنها تنطوي على حجية تفوق حجية القرينة فلا يكون أمامه مانع أن يقر ثبوت عكس القرينة و يرفض من ثم الحكم على أساسها من دون أن يعرض حكمه للنقض مادام سبب حكمه تسبيبا كافيا ([60])
وسلطة القاضي التقديرية في إثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة يختلف بحسب نوع القرينة ،فإذا كانت القرينة غير القاطعة بسيطة فللقاضي استعمال سلطته التقديرية في جميع الوقائع التي يدفع بها الخصم ،كما يجوز له أن يأخذ بالواقعة التي اقتنع بها متى اقتنع بأنها منتجة في الدعوى و كافية لإثبات عكس القرينة، كما له أن يستبعدها جميعا متى توصل إلى نتيجة و أن حجيتها لا تصل إلى درجة حجب القرينة ،أما في القرينة غير القاطعة النسبية فدور القاضي في إثبات عكسها محدود لأن المشرع حدد فيها محل إثبات العكس كما هو الشأن في قرينة العلاقة السببية بين الخطأ و الضرر حيث يلتزم القاضي في تحريه حدود التأكد من مدى ثبوت الوقائع التي تمثل حالة من حالات السبب الأجنبي و هذه المسائل قانونية يخضع فيها القاضي لرقابة المحكمة العليا.
[1] – د / يحي بكوش ,أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري والفقه الإسلامي ,المؤسسة الوطنية للكتاب ,الطبعة 02 ,الجزائر,ص :71
[2] – د/ محمد حسن قاسم ,قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية ,منشورات الحلبي الحقوقية ,بيروت لبنان ,ص :139 .
[3]- د/ محمد زهدور ,الوجيز في طرق الإثبات المدنية في التشريع الجزائري ,طبعة 1991 ,ص :27 .
[4] – د /عبد الرزاق السنهوري ,الوسيط في شرح القانون المدني ,الجزء الثاني,دار إحياء التراث العربي ,بيروت لبنان ,ص :143 .
[5] – د/ ملزي عبد الرحمن , المرجع السابق,ص :14 .
[6] – قرار المحكمة العليا رقم :190514 المؤرخ في : 29/03/2000 ,المجلة القضائية لسنة 2000 ,العدد 01 ,ص : 154
[7] – قرار رقم :60264 المؤرخ في :27/09/2000 ,الإجتهاد القضائي في الغرفة العقارية ,الجزء 02 , لسنة 2004 , ص : 139
[8]- د/ ملزي عبد الرحمن، المرجع السابق ، ص 15
[9] – د / يحي بكوش , المرجع السابق ,ص :122 .
[10] – د / ملزي عبد الرحمن ,نفس المرجع السابق , ص : 16 .
[11] – يرى الأستاذ ملزي عبد الرحمن أنه قد تعتبر في دعوى أخرى بداية ثبوت بالكتابة فيكملها القاضي بالشهادة ,نفس المرجع , ص: 16 ,عكس ما ذهب إليه بعض الفقهاء المصريين كالأستاذ عبد الرزاق السنهوري نفس المرجع ص 170 و 171 والأستاذ رمضان أبو السعود نفس المرجع ص127 في عدم جواز إعتبارها مبدأ ثبوت بالكتابة .
[12] – د /يحي بكوش ,المرجع السابق , ص 114 ,في المعنى د/ عبد الرحمن ملزي ،المرجع السابق ص 13 .
[13] – د/ رمضان أبو السعود ,أصول الإثبات في المواد المدنية و التجارية ،الدار الجامعية ،بيروت لبنان ،1994 ,ص 130 و 131 .
[14] – د / يحي بكوش , المرجع السابق , ص 126 .
[15] – د / عبد الرحمن ملزي, المرجع السابق,ص 17 .
[16] – د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق ص 159 .
[17] – د / احمد أبو الوفاء ,الإثبات في المواد المدنية والتجارية , الدار الجامعية للطباعة والنشر ,سنة 1983 , ص 93 .
[18] – القرار رقم 45658 المؤرخ في 07/12/1987 ,المجلة القضائية 1990 ,العدد 04 ,ص 61 و القرار رقم 53931 المؤرخ في 28/05/1990 ,المجلة القضائية لسنة 1992 , العدد 01 , ص 99 .
[19] -د/ محمد حسين منصور ,قانون الإثبات وطرقه , ص 89
[20] – د/ أحمد أبو الوفاء ,مرجع سابق ,ص 94 .
[21] – د/ عبد الرحمن ملزي ، مرجع سابق , ص 23
[22] – د / يحي بكوش ,مرجع سابق , ص 153
[23] – د/ عبد الرحمن ملزي, مرجع سابق, ص27.
[24] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص 277
[25] – د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق ص 287 .
[26] – د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق ص 202 .
[27] – د / محمد حسين منصور , المرجع السابق ص 118 .
[28] – د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق ص 147 و 148 .
[29]- ” الأونيسترال ” اختصار لتسميتها باللغة الإنجليزية :
UNITED NATION COMMISSION ON INTERNATIONAL TREADE LAW. –
أما باللغة الفرنسية فتسمى:
Commission de Notions Unies pour le droit commercial international ( C N U D C I ) .-
[30] – د / نعيم مغبغب ,حماية برامج الكومبيوتر ,منشورات الحلبي الحقوقية ,بيروت, لبنان, سنة 2006 .
[31] – مستخلص من نصوص المواد 8 ,9 ,10 من القانون النموذجي المتعلق بالتجارة الإلكترونية للأونيسترال .
[32] – د / علاء محمد النصيرات ,حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات ,دار الثقافة ،عمان ،الاردن ,الطبعة الأولى , ص 30 .
[33] – منير محمد الجنبيهي , ممدوح محمد الجنبيهي ,الطبيعة القانونية للعقد الإلكتروني ,دار الفكر الجامعي ،ص 194
[34] – د/ محمد بودالي ,التوقيع الإلكتروني ,مجلة إدارة ,العدد الثاني ,سنة 2003 ، ص 55 .
[35]ـ تتعدد صور التوقيع الإلكتروني ومنها :
ـ التوقيع البيومتري : و الذي يقوم على التحقق من المتعامل بالاعتماد على الصفات الجسمية كبصمة الإصبع، قزحية العين، بصمة الكف ، نبرة الصوت
ـ التوقيع بالقلم الالكتروني : ويتم ذلك باستعمال قلم حساس خاص على شاشة الحاسب الآلي عن طريق برنامج معين و يقوم ها البرنامج بالتقاط التوقيع وتخزينه ليتم فيما بعد مقارنة التوقيع المخزن بالتوقيع الموجود على المحرر
ـ التوقيع بالرقم السري: ويستعمل هذا التوقيع في البطاقات البلاستيكية الممغنطة
ـ التوقيع الرقمي أو المشفر: ويعتمد على قيام الكمبيوتر بتحويل رسالة البيانات إلى أرقام و يقسم إلى نوعين تشفير متماثل يقوم على فكرة رقم سري معلوم بين الطرفين وتشفير غير متماثل والذي يعتمد على زوج من المفاتيح عام وخاص الأول معلوم للكل والثاني معلوم فقط لصاحبه والي يحتفظ به سرًا
[36] – عكس فرنسا التي حسمت هذه الإشكالية بصدور المرسومين الذين يسمحان بإبرام العقود التي تطلب الكتابة الرسمية في الشكل الإلكتروني .
المرسوم رقم :972-2005 المتعلق بالمحضرين القضائيين والمرسوم رقم : 973 – 2005 المتعلق بالموثقين .
[37]ـ الفرق بين التوقيع الالكتروني العادي والمتقدم أن الأول يشترط فيه فقط أن يكون مميز وقادر على تحديد الموقع أما الثاني يشترط فيه أن تكون التقنية المستعملة جديرة بالحماية و ضمان سريته من صاحب التوقيع مع إمكانية اكتشاف كل تغيير أو تحريف استنادا إلى شهادة توثيق معتمدة
[38] – د / ثروت عبد الحميد ,التوقيع الإلكتروني ,دار الجامعة الجديدة ,الازاريطة ,مصر, 2007 ,ص 163.
[39] – د / سامي بديع منصور ,الإثبات الإلكتروني في القانون اللبناني ,الجزء الأول ,منشورات الحلبي الحقوقية ,بيروت لبنان , طبعة 2004 , ص 360 .
[40] – قضية شركة CREDICAS التي فتحت ائتمان للسيدة P.BISSON أمام محكمة SETE .
[41] – د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق، ص364.
[42] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص474.
[43] – د / يحي بكوش ,مرجع سابق , ص 267.
[44]–د / محمد حسن قاسم , المرجع السابق، ص 370 و37 .
[45] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص484.
[46]- د/ سليمان مرقس ، الوافي في شرح القانون المدني، أصول الإثبات وإجراءاته في المواد المدنية، الجزء الخامس، دار الكتاب الحديث،1991، ص 605.
[47]- د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص492.
[48] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص492.
[49] -القرار رقم 49562 المؤرخ في 07/12/1988، المجلة القضائية ،العدد الثاني لسنة 1990، ص38.
[50] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص499.
[51] -هناك من يرى بأن أثر الإقرار ينصرف إلى الخلف الخاص فيما يتعلق بالحق الذي انتقل إليه أنظر في ذلك الأستاذ محمد حسن قاسم المرجع السابق
صفحة 369.
[52] – د/ محمد حسن قاسم ,المرجع السابق، صفحة 369.
[53] -القرار رقم 25311 المؤرخ في 12/05/1982 المجلة القضائية لسنة 1989 ،العدد الثاني، ص 30.
[54] -القرار رقم 40402 المؤرخ في 17/06/1987,المجلة القضائية لسنة 1990، العدد الرابع.
[55] – د / يحي بكوش ,مرجع سابق , ص 335.
[56] – د / محمد حسن قاسم ,المرجع السابق، صفحة346.
[57] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص629.
[58] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص626.
[59] -قرار المحكمة العليا ملف رقم 53010 الصادر بتاريخ 25/05/1998،المجلة القضائية لسنة 1998 ،العدد الثاني، ص 11.
[60] – د / يحي بكوش ,مرجع سابق , ص 370.
الفصل الثاني
الأدلة الملزمة ذات الحجية القاطعة
بعد أن تطرقنا في الفصل الأول إلى الأدلة الملزمة ذات الحجية غير القاطعة سنحاول في هذا الفصل التطرق إلى الأدلة التي حدد لها القانون مبلغ حجيتها و لم يتركها لمحض تقدير القاضي، و هو الوجه الذي تتشابه فيه مع ما تطرقنا إليه سابقا من أدلة ملزمة غير أنها تنفرد عنها في كون حجيتها قاطعة لا تقبل إثبات العكس ،لهذا سنتطرق إليها من خلال تخصيص مبحث لكل دليل بدءًا باليمين الحاسمة فالقرائن القانونية القاطعة.
المبحث الأول
اليميـــن الحـــاسمة
قد يعوز الخصم الدليل في إثبات حقه المدعى به، فلا يجد بدًا من ذلك إلا بالالتجاء إلى ضمير خصمه و ذلك بتوجيهه اليمين إليه يحسم بها النزاع ،هذه اليمين يتخذ منها الحالف الله شاهدا على صحة ما يقوله لهذا فهي عمل ديني و مدني .
وقد نظم المشرع أحكام اليمين الحاسمة و شروطها و آثارها في المواد 343 إلى 347 قانون مدني ،فاليمين الحاسمة حق خاص بالخصم و ليس من حق القاضي أن يتولى أو يأمر تحليف الخصم بدون طلب خصمه ([1]) و بذلك فهي تختلف عن اليمين المتممة التي يوجهها القاضي لاستكمال دليل ناقص في الدعوى .
و لعل الفقهاء قد اختلفوا في تحديد طبيعة توجيه اليمين الحاسمة بين اعتبارها صلح أو تعاقد أو تصرف قانوني يتم بالإرادة المنفردة مع أن المحكمة العليا اعتبرت توجيه اليمين الحاسمة عقد قضائي بين الخصمين ([2]) لذلك سنحاول معرفة الأحكام المختلفة لليمين الحاسمة و سلطة القاضي في تقديريها .
المطلب الأول : موضوع اليمين الحاسمة و صيغتها .
الفرع الأول : موضوع اليمين الحاسمة .
بالرجوع إلى المادة344 قانون مدني نجد أن اليمين الحاسمة تنصب على الوقائع القانونية لا القانون ،و يجب أن تتعلق هذه الواقعة بشخص من وجهت إليه و ألا تكون مخالفة للنظام العام و بالتالي تكون حاسمة للنزاع، فموضوع اليمين الحاسمة على الوقائع القانونية سواء كانت وقائع مادية أو تصرفات قانونية أيا كانت قيمتها و لو جاوزت النصاب القانوني لإثبات ما يجاوز أو يخالف مضمون ما يثبت كتابة بين الخصوم ([3]) و هو ما أكدته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 03 مارس 2004 إذ جاء فيه:”وحيث أن ما يعيبه الطاعن على القرار المطعون فيه في غير محله ،ذلك أن القانون يمنع الإثبات بالبينة أو القرائن إذا جاوزت قيمة التصرف مبلغ مائة ألف دينار لكن لا يمنع الشخص من أن يحتكم إلى ضمير خصمه بتوجيه اليمين الحاسمة له ومن ثم يجوز للدائن أن يوجه اليمين الحاسمة إلى المدين و لو فاقت قيمة التصرف مائة ألف دينار لإثبات الدين “([4])
أما ما لا يجوز الطعن فيه إلا بالتزوير كالمحاضر الرسمية و باقي السندات التي تكتسب الصبغة الرسمية أو في التصرفات التي تعد الشكلية ركنا في قيامها فلا يجوز و لا يستساغ إثبات ما يخالفها باليمين .
و يشترط أن تكون الواقعة المراد تأدية اليمين عنها متعلقة بشخص من وجهت إليه و إن يكون أداء اليمين على إثبات وجود الواقعة أو نفيها، أما إذا لم تكن الواقعة متعلقة بشخص من وجهت إليه اليمين بل تتعلق بغيره فيجوز للخصم أن يحلف على مجرد العلم بالواقعة و ليس لإثبات وجودها لأنها ليست من فعل نفسه بل من فعل غيره لذا سميت بيمين العلم أن مورثه كان مدينا للشخص الذي يطالب بالدين ([5])
و يشترط أيضا في الواقعة المراد تأدية اليمين عنها ألا تكون مخالفة للنظام العام ([6]) فلا يجوز توجيه اليمين الحاسمة بشان دين ناجم عن قمار كما لا يجوز توجيه اليمين الحاسمة بشأن واقعة فصل فيها بمقتضي حكم حائز لقوة الشيء المقضي فيه .
الفرع الثاني :صيغة اليمين الحاسمة .
يتعين صياغة المحلوف عليه في صيغ واضحة لا لبس فيها و لا إبهام و تكون هذه الصيغة من حق موجه اليمين مع و جوب عرض هذه الصيغة على المحكمة حتى تأمر بتوجيهها بعد أن تعتمدها و إلا كانت اليمين باطلة ،و يجوز لمن وجهت إليه أن يعترض على صياغتها لعدم توافر شروط الواقعة كعدم تعلقها بالشخص مثلا، و يجب على المحكمة الفصل في منازعته و لا يعد ناكلا عن أدائها إلا في حالة رفض أوجه اعتراضه ،أما إذا قبلها حكمت بأداء اليمين مبينة في منطوق حكمها الصيغة التي ستؤدى بها اليمين في الجلسة المخصصة لذلك وفقا للمادة 433 قانون الإجراءات مدنية و تفاديا للإشكالات يتعين على القاضي المحافظة على الصيغة التي تقدم بها الخصوم ما أمكن ذلك ،و إن كان عليه إضافة تعديل عليها فيجب أن يراعي في ذلك عدم المساس بمعناها و مدلولها ،و يجب تحديد الأشياء المؤداة عليها حتى تتمكن المحكمة العليا من بسط رقابتها عل مدى احترام القواعد القانونية المنصوص عليها في هذا الشأن .
و إذا ما صدر الحكم بأدائها غيابيا يبلغ للخصم المتغيب فإذا حضر و امتنع عن أدائها أو تخلف عن الحضور بغير إبداء عذر شرعي عد ناكلا ،أما حال حضوره و موافقته على أدائها يحرر القاضي محضرا بأدائه اليمين و يوقع عليه مع أمين الضبط ([7])
أما عن كيفية أدائها فقد نصت المادة 434 قانون إجراءات مدنية على أن الخصم يؤدي اليمين بالجلسة أمام القاضي بعبارة “احلف بالله العلي العظيم” كما يجوز للقاضي أن يقبل أو أن يأمر بان تؤدي اليمين بالصيغة المقررة في ديانة الحالف، أما اليمين بين المسلمين فلا تصح إلا باسم الله عز وجل و لا تجوز بغير ذلك مثل الحلف بالقرآن أو النبي، و إذا كان من وجهت إليه اليمين أبكماً عبر عن قبوله أدائها أو نكوله أو رده لها على خصمه كتابةً و إن كان لا يحسن الكتابة فيكون تعبيره عن ذلك بإشارته المعهودة ([8]) .
المطلب الثاني : أطراف اليمين الحاسمة .
وفقا للمادة 343 قانون مدني فانه “يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر على انه يجوز للقاضي منع توجيه اليمين الحاسمة إذا كان الخصم متعسفا في ذلك ” فهذه المادة حددت أطراف اليمين الحاسمة و يمكن حصرها في موجه اليمن و الموجهة إليه اليمين .
الفرع الأول : موجه اليمين الحاسمة .
يوجه اليمين الحاسمة الخصم الذي يدعي أمر دون أن يقيم عليه دليل، سواء كان ذلك الخصم مدعيا في دعوى أصلية أو فرعية أو في دفع من الدفـوع .
يجب أن تتوافر فيمن يوجه اليمين أهلية التصرف في الحق موضوع الحلف، لأن حلف الخصم سيترتب عليه ترك ذلك الحق له و اعتبار التصرف الذي حلف على إبرامه ثابتا في حق موجه اليمين و منه يجب ألا يكون محجورا عليه كالمجنون أو المعتوه أو السفيه فلا يجوز لأي من هؤلاء توجيه اليمين الحاسمة إلا بواسطة النائب عنهم قانونا الذي قد يكون الولي الذي يملك توجيه اليمين لأنه يملك التصرف ([9]) أما الوصي و القيم ومن في حكمهما فيحتاجون لإذن من القاضي المختص لتوجيه اليمين في حق من وضع تحت نظرهم لأن توجيه اليمين الحاسمة يتجاوز أعمال الإدارة ،كما أن نائب صاحب الحق لا يجوز له توجيه اليمين الحاسمة في شان هذا الحق إلا بموجب وكالة خاصة من صاحب الحق طبقا للمادة 574 من قانون المدني، في حين أن توجيه اليمين الحاسمة من محامي الخصم لا يشترط أن يكون المحامي قد منحت له وكالة خاصة لتوجيه اليمين طالما أن المشرع قد أعطاه وكالة قانونية بموجب القانون 04/91 المتعلق بمهنة المحاماة .
و لما كان توجيه اليمين الحاسمة تصرف قانوني فانه يشترط في الخصم أن تكون إرادته خالية من العيوب ،و لأن أيضا اليمين عمل قانوني غير لازم فان من يوجه اليمين إلى خصمه يجوز له العدول عن توجيهها ،و لا يسقط حقه في العدول إلا إذا أعلن من وجهت إليه اليمين استعداده للحلف ([10]) ،وهو ما تقضي به المادة 345 من القانون المدني حيث نصت على انه ” لا يجوز لمن وجه اليمين أو ردها أن يرجع في ذلك متى قبل خصمه حلف تلك اليمين ” فمن خلال هذا النص يتبين انه من حق الخصم الموجه لليمين الرجوع عنها طالما أن خصمه لم
يبدي إعلانه عن قبول أداء اليمين ،و هذا الرجوع يمكن أن يكون صادرا من الخصم الذي قام بتوجيه اليمين كما يمكن أن يكون صادرا عن الخصم الذي ردها ففي الحالة الأولى يزول كل اثر لليمين الحاسمة
أما في الحالة الثانية فتزول اليمين وحدها و يبقي توجيهها قائما، أما بعد قبول الخصم لأداء اليمين الموجهة إليه فانه لا يمكن لمن وجهها أن يرجع عنها كما لا يمكن لمن قبلها أن يتنصل من هذا القبول .
و لا يعتبر قبولا لليمين أن يرضى الخصم بحلفها على بعض الوقائع دون البعض الآخر لان الحكمة من اليمين هي وضع حد نهائي للنزاع كله، غير أن التعديل البسيط لليمين لا يعد رفضا لها كما انه إذا صدر إقرار من الخصم الذي وجهت إليه اليمين لم يعد هناك محل لليمين و يعد هذا الإقرار أقوى من النكول عن اليمين و عليه يجوز لمن وجهها أن يرجع عنها ([11])
الفرع الثاني : الموجهة إليه اليمين الحاسمة .
توجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الذي يكون منكرا موضوع الحلف، لذلك لا بد آن يكون الخصم حقيقي أصلي في الدعوى و توجه إليه اليمين شخصيا لا إلى نائبه لأن حلف اليمين لا يجوز فيه التوكيل ،غير انه إذا حدثت الواقعة المطلوب التحليف عليها من النائب شخصيا لا من الأصيل كاستلام مبلغ ،فلا يجوز تحليف الأصيل إلا على علمه بها فحسب ويجوز تحليف النائب عليها على ألا يضار الأصيل بنتيجة الحلف ،و يجب أن تتوافر فيمن توجه إليه اليمين ما يشترط فيمن يوجهها من أهلية أي أن يكون أهلا للتصرف في موضوعها أو له ولاية في ذلك .
وبناءا على ما تقدم فلا يجوز توجيه اليمين إلى القاصر إلا فيما يملك من أعمال الإدارة و لا إلى الولي إلا فيما يملكه من أعمال التصرف دون إذن المحكمة، و لا إلى الوصي أو القيم إلا عن أعمال صدرت منه شخصيا في حدود ولايته كقبضه الدين المستحق للقاصر ([12]) و إذا كان الخصم شخصا معنويا وجهت اليمين إلى من يمثله قانونا ،و توافر الأهلية لا يكفي عند توجيه اليمين لا بد من استمرارها إلى أن يتم الحلف أو الرد.
أيضا لا بد أن يكون من توجه إليه اليمين ذا صفة في الدعوى فإذا انقضت الشركة المدعى عليها و زالت شخصيتها و انتهت سلطة مديرها في تمثيلها أو التصرف في حقوقها فلا يجوز توجيه اليمين الحاسمة إليه عن واقعة الوفاء بدين الشركة بعد زوال صفته في تمثيلها و التصرف في حقوقها.
و لا يجوز مطلقا توجيه اليمين الحاسمة من المتهم إلى المدعي المدني و لا من المدعي المدني إلى المتهم إمام المحكمة الجزائية سواء في الدعوى المدنية أو في الدعوى العمومية المنظورة أمامها لان المتهم لا يجوز تحليفه.
المطلب الثالث :آثار اليمين الحاسمة و سلطة القاضي في تقديريها .
الفرع الأول : آثار توجيه اليمين الحاسمة .
إذا وجهت اليمين وفقا للأحكام السابقة تترتب عن ذلك إما أن يقوم الخصم بحلفها أو بردها على صاحبها أو يرفض أدائها و لا يردها فيعتبر ناكلا.
أولاً: حلـف اليمين .
يجب على من وجهت إليه اليمين الحاسمة و لم يردها على خصمه أن يؤدي اليمين بنفسه لأنه إذا كان التوكيل في توجيه اليمين جائز فانه في أدائها غير جائز ،فإذا حلفها أصبح مضمون تلك اليمين حجة ملزمة للمحكمة و يحسم النزاع و يخسر من وجه اليمين دعواه سواء صدق الحالف بيمينه أو كذب فيها ،و يكون الحكم برفض الدعوى نهائيا تتعلق به حجية الشيء المحكوم فيه لان اليمين تشكل حجة قاطعة، فيمنع على المحكمة أن تتناول النزاع من جديد بأدلة أخرى كما يمنع على من خسر دعواه الطعن في الحكم بالاستئناف أو التماس إعادة النظر تأسيسا على كذب اليمين إلا إذا أثبت ذلك بحكم جزائي، و هنا يجوز للخصم المتضرر طلب التعويض أو الطعن في الحكم بالطرق المقررة قانونا استنادا إلى نص المادة 346 قانون مدني .
إذن ثبوت كذب اليمين شرط أساسي سابق على إقامة الدعوى السابقة بطلب التعويض أو إقامة الطعن على الحكم الصادر بناءا على حلف اليمين ،ونجد أن حجية اليمين الحاسمة قاصرة على طرفي النزاع فمن وجه اليمين و احتكم إلى ضمير خصمه كان أثر هذا الاحتكام قاصرا عليه هو وورثته بصفتهم خلفا عاما له و لا يتعدى أثرها غيرهم ،غير انه و استثناءا في حالات التضامن بين الخصم الذي أدى اليمين و بين غيره يستفيد المدينون المتضامنون من اليمين إذا حلفها احدهم أو إذا وجهها للدائن فنكل عنها و كذا بالنسبة للدائنين المتضامنين إذ تطبق قاعدة النيابة التبادلية فيما ينفع لا فيما يضر([13]) .
إذ تنص المادة 232 فقرة 2،3 من القانون المدني على أن ” إذا نكل احد المدينين المتضامنين عن اليمين الموجهة إليه أو إذا وجه هذه اليمين إلى الدائن و أداها هذا الأخير فلا يضار بذلك باقي المدينين و إذا اقتصر الدائن على توجيه اليمين إلى احد المدينين المتضامنين و حلفها المدين فيستفيد منها الباقون “.
ثانياً: رد اليمـين :
تنص المادة 343فقرة 2 قانون مدني “و لمن وجهت إليه اليمين أن يردها على خصمه غير انه لا يجوز ردها إلا إذا قامت اليمين على واقعة لا يشترك فيها الخصمان بل يستقل بها شخص من وجهت إليه اليمين ”
بناءا على ذلك يجوز لمن وجهت إليه اليمين أن يضع خصمه في المركز الذي وضعه فيه بدلا من أن يحلف أو ينكل ،و يشترط في اليمين المردودة ما يشترط في اليمين الموجهة من عدم وجود إكراه أو غلط أو نقص في الأهلية و يشترط أن تكون الواقعة موضوع أداء اليمين مشتركة بينهما،و ليست خاصة بمن وجهت إليه اليمين كواقعة الإقراض أو الوفاء .
و على من ردت عليه اليمين إما أن يحلف و يكسب دعواه أو ينكل و يخسر دعواه ،و لا يستطيع ردها مرة ثانية على خصمه لأن الرد لا يكون إلا مرة واحدة و يكون رد اليمين نهائيا لا رجعة فيه بمجرد قبول الخصم الذي ردت عليه اليمين بأن يؤديها أما إذا لم يقبل أدائها فيجوز لمن رد اليمين الرجوع عن رده لها مما يجعل التوجيه الأول قائما في حقه ،و هو ما تؤكده المادة 345 قانون مدني التي جاء فيها “لا يجوز لمن وجه اليمين أو ردها أن يرجع في ذلك متى قبل خصمه حلف ذلك اليمين “
ثالثاً : النكول عن اليمين :
وفقا للمادة 347 قانون مدني التي جاء فيها”كل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون ردها على خصمه و كل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر دعواه “.
و النكول موقف سلبي للخصم يتمثل في عدم الحلف حينما يجب عليه ذلك، و يقع النكول إما ممن وجهت إليه اليمين و لم يردها على خصمه و لا يحلف فيعد ناكلا ،و إما أن يقع ممن ردت عليه اليمين فان لم يحلف عد ناكلا و قد يعد النكول صريحا أو ضمنيا كما إذا ما امتنع الذي وجهت إليه اليمين عن الحضور بدون عذر للجلسة التي حددتها المحكمة لأداء اليمين لكن لا يعد نكولا رفض الخصم أداء اليمين على واقعة غير متعلقة بشخصه ([14]).
و يعد النكول بمثابة إقرار بالحق المدعى به عليه و بالتالي يترتب عليه خسران الناكل لدعواه و بالتالي يكون الحكم نهائيا لا يجوز الطعن فيه، و لا يسمح للمحكوم عليه بعد ذلك أن يثبت عدم صحة الواقعة التي اعتبرت صحيحة بناءا على نكوله أو الحلف من جديد لليمين ،وحجية اليمين الحاسمة من حيث النكول قاصرة إذ تكون حجة فقط على من وجهها و على خلفه العام أما في حالة التضامن فإذا نكل احد المدينين المتضامنين كان نكوله حجة عليه دون سائر المدينين .
الفرع الثاني : سلطة القاضي في تقدير اليمين الحاسمة .
انطلاقا من أن اليمين الحاسمة حق للخصم يوجهها متى أراد ذلك ،فذلك يعني أن القاضي لا يحق له أن يوجهها إلى احد الخصوم من تلقاء نفسه و إلا كان حكمه عرضة للنقض ،وبما أن حجية اليمين الحاسمة قاطعة إذا ما حلف الخصم الذي وجهت إليه فإنها حجة ملزمة للقاضي لا يجوز أن يتدخل و إنما يقتصر دوره على التأكد من أن ترتيب الآثار القانونية لليمين يكون في شكل صحيح .
غير أن المشرع أجاز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين الحاسمة إذا كان من وجهها متعسفا في ذلك استنادا للمادة 343 قانون مدني و هو ما أكدته المحكمة العليا في احد قراراتها “يجوز للقاضي منع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفا في ذلك “([15]) .
و لا يقصد بالتعسف بمعناه الاصطلاحي أي مجرد إساءة ممارسة الحق في طلب تحليف الخصم و إنما المقصود منه رقابة القاضي على الخصم بصدد توجيه اليمين للخصم بحيث لا يجوز له كلما تخلف شرط من الشروط الواجب توافرها فيه ،و بالتالي للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كانت الواقعة المراد التحليف عليها لا تتعلق بالدعوى أو غير منتجة فيها أو غير جائز قبول إثباتها باليمين الحاسمة ،أو كانت الواقعة عملا قانونيا مما يوجب القانون صبه في شكل خاص أو كانت واقعة مما أثبتها موظف عام في محرر رسمي مادام قام به بنفسه أو عاينه شخصيا أو إذا كان محل اليمين حق يقضي النظام العام بعدم جواز التنازل عنه كالحق في ثبوت النسب ([16]) .
وفي الحقيقة إن صور التعسف عديدة يصعب حصرها و تقدير القاضي لتوافر الشروط السالفة الذكر لا يخضع فيها لرقابة المحكمة العليا عكس تقديره لمخالفة موضوع اليمين للنظام العام فانه يخضع لرقابة المحكمة العليا في ذلك، من جانب آخر هذه السلطة التقديرية تمتد إلى سلطة تعديل صيغة اليمين غير أن هذا التعديل يكون قاصرا على الصيغة لإيضاح عباراتها و هو ما ذهبت إليه المحكمة العليا ([17]).
و يجوز دائما للخصم المطلوب توجيه اليمين إليه أن ينازع في جواز توجيهها إليه لعدم توافر شروطها كأن ينازع بان الواقعة المنطبق عليها اليمين لا تتعلق بشخصه و حينئذ على المحكمة أن تفصل في منازعته و أن توجه إليه اليمين على مقتضي ما تنتهي إليه و أن تحدد له جلسة لحلفها إن رأت توجيهها إليه لا يجوز اعتباره ناكلا قبل الفصل في هذه المنازعة .
المبحث الثاني
القرائن القانونية القاطعة
هي قرائن قانونية أقامها المشرع لاعتبارات هامة تقتضي أن تبقي قائمة في جميع الأحوال ليس تسهيلا لعملية الإثبات بل تعداه ليجعل من حجيتها قاطعة الدلالة و الثبوت و هي بذلك في منأى عن الإثبات العكسي لذلك و صفت بالقاطعة أو المطلقة .
لهذا سنحاول معرفة ارتباط القرينة القانونية القاطعة بفكرة الإثبات و كذا النظام العام و كيفية نقض هذه القرينة إن كان فيه مجال لذلك أم لا ،لننتهي في الأخير إلى بعض التطبيقات لهذه القرينة القانونية القاطعة .
المطلب الأول : ارتباط القرينة القاطعة بفكرة الإثبات و علاقتها بالنظام العام
الفرع الأول : ارتباط القرينة القانونية القاطعة بفكرة الإثبات
إن الطابع الاستثنائي للقرينة القانونية القاطعة و عدم إمكانية إثبات عكسها جعل البعض يشك في مدى تعلقها بفكرة الإثبات و على الرغم من أنها تقوم على أساس عنصر الغالب الوقوع إلا أنها لا تكون غالبا مطابقة للواقع مما يستلزم على المشرع أن يجعل للمدعى عليه الحق في إمكانية إثبات عكسها أو استبعادها وفقا لمبدأ حرية الإثبات و هو ما يغيب في بعض القرائن القانونية القاطعة مما جعلها تقترب من حيث الحجية إلى القواعد الموضوعية و تبتعد عن دائرة الإثبات .
لكن رغم هذا فانه لا يمكن الجزم بان القرائن القانونية القاطعة لا ترتبط بقواعد الإثبات مادام المشرع قد أقامها على أساس واقعتين، واقعة معلومة يجب إثباتها ممن تقررت لمصلحته القرينة و واقعة مجهولة تستنتج من الواقعة الأولى و هو بذلك يهدف إلى تحقيق غاية قضائية و هي تسهيل و تنظيم عملية إقامة الدليل و حجيته أمام
القاضي ،إلا أن الإثبات بالقرينة القانونية القاطعة أعطاه المشرع نوعا من الخصوصية عندما جعلها تتميز عن غيرها من وسائل الإثبات الأخرى حيث تتلاشي منطقة الإثبات لتصل إلى انعدامها و يختفي الحق في الإثبات و بالتالي إنشاء قاعدة إثبات، و حدد في الوقت ذاته منطقة الإثبات و قوة الدليل معاً و مثاله الضرر الذي يحدثه الحيوان عند إفلاته من يد حارسه جعله المشرع قرينة قانونية قاطعة على خطأ الحارس في القيام بواجبه في الحراسة و اعتبره المسؤول عن التعويض و منعه من جهة أخرى من إقامة الدليل لإثبات عكس هذه القرينة فيما يتعلق بنفي الخطأ لأن القرينة القانونية غير قابلة لإثبات العكس و إنما يستطيع نفي علاقة السببية بإثبات عكسها و هو السبب الأجنبي ([18]).
الفرع الثاني :علاقة القرينة القانونية القاطعة بالنظام العام
الأصل أن تكون القرينة القانونية غير قاطعة فتقبل إثبات العكس و هذا شان كل دليل ينظمه القانون لكن هناك قرائن أقامها المشرع لاعتبارات هامة خطيرة، يحرص كل الحرص على عدم الإخلال بها و لا يرجع ذلك بالضرورة إلى أن القرينة القاطعة هي الأكثر انطباقا على الواقعة من غيرها بل يرجع لاعتبارات يستقل بتقديرها المشرع مراعيا في ذلك المصلحة العامة و النظام العام حتى ولو اقر لمن قامت لمصلحته خلاف ما تقرره ، و الكثير من الفقهاء يضربون مثالا عن ذلك بقرينة حجية الشيء المقضي به ،رغم الخلاف الفقهي فاعتبارها قرينة قانونية قاطعة أو قاعدة موضوعية مادام أن المحكمة لا يجوز لها أن تثيرها من تلقاء نفسها .
المطلب الثاني : نقض القرينة القانونية القاطعة .
القرائن القانونية القاطعة باعتبارها قواعد إثبات و ليست قواعد موضوعية فانه يمكن دحضها و لو أنها لا تقبل إثبات العكس لهذا سنتطرق إلى الوسيلة التي تدحض بها القرينة القانونية القاطعة و أساس ذلك .
الفرع الأول : وسيلة دحض القرينة القانونية القاطعة .
كما قلنا أن القرائن القانونية و لو كانت قاطعة فهي قواعد إثبات و أيا كانت المرتبة التي أرادها المشرع لها في القطع و الحسم فهي لا تستعصي أن تدحض و لا يتأتي ذلك إلا بالإقرار القضائي و اليمين الحاسمة .
و يقصد بعدم جواز نقض قرينة الإثبات القاطعة عدم جواز ذلك ممن تقررت القرينة ضده و مادام الإقرار و اليمين يصدران ممن تقررت تلك القرينة لصالحه فانه لا محل لإعمالها، و هذا كله كون الإقرار و اليمين يعتبران من أهم وسائل الإثبات التي تقطع كل شك في حقيقة الواقعة المتنازع فيها .
والمشرع الجزائري لم يتناول مبدأ دحض القرينة القانونية القاطعة بالإقرار أو اليمين إلا انه من الجائز ذلك على اعتبار أن القرينة تقام في حق من تقررت لصالحه فله أن يتنازل عليها بحرية .
الفرع الثاني : أساس دحض أو استبعاد تطبيق القرينة القانونية القاطعة .
للقرينة القانونية القاطعة قوة ثبوتية بمجرد تحقق شروطها و لكنه و على الرغم من منعه نقضها مباشرة ممن قامت ضده، إلا انه و مع ذلك مكنه من استبعادها بطريقة غير مباشرة عن طريق إقرار الخصم أو نكوله عند أداء اليمين بعد أن وجهت له ،و الإقرار في هذه الحالة يجعل من النتيجة المفترضة للقرينة مستحيلة التحقيق في وقائع الدعوى المطروحة ،و عليه فإن استبعاد تطبيق القرينة القاطعة ليس راجعا لنقضها عن طريق الإثبات العكسي و إنما راجع لتنازل من وضعت هذه القرينة لمصلحته ،و مهما اجتهد الذي قامت القرينة ضده في تقديم الأدلة لإثبات عكسها أمام القاضي فلن يستطيع ذلك لأنها مفترضة افتراضا لا يتغير هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ما هو في حقيقة الأمر إلا تنازل عن حق أو حماية من طرف من قررت القرينة لمصلحته بعد أن التجأ خصمه للاحتكام إلى ضميره .
المطلب الثالث : تطبيقات القرينة القانونية القاطعة .
المشرع لم يجعل للقرينة القانونية القاطعة مجالا لإعمالها فيتم إعمالها في مجال المسؤولية المدنية عقدية كانت أو تقصيرية و يدور ذلك حول افتراض قيام أحد أركان المسؤولية أو افتراض قيام المسؤولية كما توجد حالات تقرر فيها القرينة القانونية القاطعة على أساس منع سماع أو قبول الدعوى أمام القضاء ،و هو ما نحاول التطرق إليه
الفرع الأول : القرينة القانونية القاطعة في مجال المسؤولية المدنية .
أولاً: في مجال المسؤولية العقدية :عمل القرينة القانونية القاطعة في مجال المسؤولية العقدية لا يكون إلا إذا تعلق الأمر بإخلال المدين بالتزامه التعاقدي أو كان محل الالتزام هو الالتزام بتحقيق نتيجة أما اذا كان محل الالتزام هو ببذل عناية فيكون فيه إثبات الالتزام خاضع للقاعدة العامة في الإثبات طبقا للمادة 323 قانون مدني .
ومن أهم الأمثلة في مجال المسؤولية العقدية قرينة مسؤولية ناقل الأشخاص التي تناولها المشرع في المادة 62 قانون تجاري إذ جعلها مسؤولية قائمة على الخطأ المفترض من طرف الناقل الذي لا يقبل إثبات العكس و لا يمكنه التخلص من هذه المسؤولية إلا بإثبات السبب الأجنبي وفقا لنص المادة 63 قانون تجاري و هذا مراعاة و حماية لمصلحة المسافرين و هو ما أكده قرار المجلس الأعلى إذ اعتبر إصابة المسافر أثناء تنفيذ عقد النقل قرينة قاطعة على خطأ الناقل ([19])
– ثانياً :في مجال المسؤولية التقصيرية : بما أن الخطأ هو محور المسؤولية التقصيرية و جودا و عدما فان المشرع عمد بالنظر لكثرة الحوادث و تداخل الأخطاء في وقوعها و هو ما يؤدي بالمتضرر في كثير من الأحيان إلى تضيع حقوقه إما لعجزه عن تحديد المسؤول و إما لصعوبة إثبات الخطأ لذلك لجأ المشرع إلى تحديد الشخص المسؤول و أقام مسؤوليته على أساس الخطأ المفترض غير القابل لإثبات العكس ،من ذلك قرينة الخطأ في مسؤولية حارس الحيوان المنصوص عليها في المادة 139 قانون مدني و مسؤولية حارس الشيء المنصوص عليها في المادة 138 قانون مدني حيث أن المشرع ساوى بين هاتين المسؤوليتين و جعل أساسهما الخطأ المفترض افتراضا لا يقبل إثبات العكس و لا تنتفي المسؤولية في كليهما إلا بإثبات السبب الأجنبي و ليس على المضرور إقامة الدليل على مسؤولية الحارس و إنما يثبت فقط أن الضرر سببه الشيء أو الحيوان.
الفرع الثاني : قرائن قانونية قاطعة بعدم قبول الدعوى للتقادم أو لسبق الفصل فيها .
القرينة القانونية القاطعة إذا كانت قائمة على اعتبارات روعيت فيها المصلحة العامة كحجية الشيء المقضي به و التقادم، فانه لا يجوز دحضها حتى بالإقرار أو اليمين فيبقي الحكم قرينة قاطعة على ما قضي به حتى ولو أقر من صدر الحكم لمصلحته بأنه خاطئ و يبقي الحق مقضيا أو مكسوبا بالتقادم حتى لو أقر من تم التقادم لمصلحته بان الحق لم ينقض أو لم يكسب ،و عليه الذي لا يدحض بالإقرار أو اليمين كحجية الشيء المقضي و التقادم ليس قرينة قانونية بل هو قاعدة موضوعية تقوم هي أيضا علي فكرة الراجح الغالب الوقوع ([20])، بما أن المجال لا يتسع للتميز بين القواعد الموضوعية و القرائن القانونية فإننا سنحاول التطرق إلى حجية الأمر المقضي به و التقادم كقرائن قانونية قاطعة .
أولاً: التقادم المسقط .
التقادم مكسبا أو مسقطا قاعدة موضوعية إجبارية و ليس قرينة قانونية قاطعة و هذا المبدأ محل إجماع الفقهاء ،غير أن هذا الأصل يرد عليه استثناء يتعلق بالتقادم المسقط بسنة واحدة و هو ما تناوله المشرع في نص المادة 312 قانون مدني المتعلقة بالتقادم القصير لحقوق التجار و الصناع عن الأشياء التي وردوها و كذا حقوق أصحاب الفنادق و المطاعم و المبالغ المستحقة للأجراء و التي أقيمت في شأنها قرينة قانونية قاطعة على أنها دفعت بعد مرور سنة دون المطالبة بهذه الحقوق، غير انه في الوقت ذاته اعتبرها دليل غير كامل إذ عزز هذه القرينة بيمين ([21])،يحلفها المدين على واقعة شخصية له هي أداؤه الدين فعلا و إذا كان قد مات خلف الورثة أو أوصيائهم إذا كانوا قصرا بيمين عدم العلم بوجود الدين أو يعلمون بحصول الوفاء ،و هذه اليمين إجبارية للقاضي يوجهها من تلقاء نفسه إلى المدين وورثته دون الدائن و سواء طلبها هذا الأخير أم لا،و القاضي ملزم بنتيجتها بحيث إذا حلفها المدين كسب دعواه و إذا نكل عنها كان ذلك إقرار منه بعدم دفعه للدين المطالب بدفعه .
ثانياً : قوة الشيء المقضي به .
أدرج المشرع قوة الشيء المقضي به في نص المادة 338 قانون مدني و اعتبرها قرينة قانونية مع أن هناك سجال فقهي بين من يرى أن قوة الشيء المقضي به لا تستند إلى قرينة قانونية قاطعة بل هي قاعدة موضوعية لا تقبل النقض و لو بالإقرار أو اليمين و وضعها بين القرائن القانونية يعتبر خطأ شائع ([22])، فالأستاذ زهدور يعتبر الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به هي قواعد موضوعية وليست قرائن قانونية قاطعة، حيث يقول:”يلاحظ أن المشرع الجزائري امتثالا لما ذهب إليه المشرع الفرنسي والمشرع المصري اعتبر الأحكام التي حازت قوة الشيء فيه قرينة قانونية قاطعة لا تقبل أي دليل ينقضها، مع أن هذه القاعدة ليست قرينة قانونية وإنما قاعدة موضوعية بنيت على قرينة، لأن القرينة القانونية باعتبارها وسيلة إثبات تقتضي أن تكون قابلة لإثبات عكسها، كما أن القرينة القانونية تؤدي إلى وجود دليل يساعد على حل نزاع لازال لم يفصل فيه بعد، بينما الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي فيه فصلت في نزاع و انتهى أمره، لذلك فإن الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي فيه في الحقيقة هي قاعدة موضوعية مبنية على قرائن”([23]).
و هناك من يرى بأن قوة الأمر المقصي به هي قرينة قانونية قاطعة لا تقبل الإثبات بالعكس لأنها تقوم على مبدأ احترام الأحكام القضائية([24]).
لذلك بين هذا و ذاك سوف نتطرق في المبحث الثالث إلى مختلف الأحكام المتعلقة بحجية الشيء المقضي به.
المبحث الثالث
قوة الشيء المـقضي به
كما سبق الـذكر فمهما تعددت الآراء الفقهية فالمشرع هو الذي يمسك في يده زمام القواعد الموضوعية و القرائن القانونية فيرتفع إن شاء بالقرينة القانونية إلى منزلة القاعدة الموضوعية ويهبط إن شاء بالقاعدة الموضوعية إلى مرتبة القرينة القانونية .
و بالرجوع إلى المادة 338 قانون مدني فإن” الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق ولا يجوز قبول أي دليل ينقض هذه القرينة ولكن لا تكون لتلك الأحكام هذه الحجية إلا في نزاع قائم بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم و تتعلق بحقوق لها نفس المحل و السبب.”
و معنى قوة الشيء المحكوم به أو قوة الأمر المقضي به أن الحكم متى أصبح نهائيا يعتبر قرينة قانونية قاطعة على صحة ما قضى به لا تقبل إثبات ما ينقضها، وذلك لأن الحكم النهائي يجب أن يعتبر حكما صحيحا للضمانات التي أوجدها الشارع في الإجراءات ([25]).
ولا يعتبر الحكم نهائيا متى كان قابلا للطعن فيه بطريق المعارضة أو الاستئناف ومتى كان كذلك فان الحكم لا يحوز إلا حجية الشيء المقضي عند صدوره .
مع الإشارة إلى أن الفقرة الثانية من المادة السالفة الذكر لم تجز للمحكمة إثارة هذه القرينة تلقائيا وهو ما سايره قضاء المحكمة العليا ([26]).
هذا الموقف الذي اتخذه المشرع من عدم جعل قوة الشيء المحكوم به من النظام العام يدفع بالقول إلى انه يعتبرها ضمنيا قاعدة موضوعية و ليست قرينة قانونية ومن ثمة فإثارتها من طرف القاضي دون طلب من الخصوم هو خرق لمبدأ حياد القاضي ، وهو نفس الموقف الذي اتخذه المشرع المصري سابقا، غير انه بصدور قانون الإثبات الجديد ومن خلال نص المادة 101 جعل هذه الحجية من النظام العام تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها و في أية حالة كانت عليها الدعوى و بغير طلب من الخصوم.
لذلك سنتطرق إلى الشروط الواجب توافرها في الحكم في مطلب أول و إلى الشروط اللازم توافرها في الحق المدعى به في مطلب ثاني و آثار قوة الشيء المقضي به و سلطة القاضي بشأنها في مطلب ثالث
المطلب الأول: الشروط الواجب توافرها في الحكم .
هناك شروط يجب أن تتوافر في الحكم النهائي حتى يمكن التمسك بقرينة قوة الشيء المقضي به وهي أن يكون الحكم صادرا عن جهة قضائية في إطار سلطتها القضائية وفي حدود اختصاصها وأن يكون الحكم قطعياً ([27]).
الفرع الأول: صدور الحكم عن جهة قضائية بموجب سلطتها القضائية وفي حدود اختصاصها.
ويقصد بالحكم هنا الذي يفصل في نزاع بين طرفين أو أكثر صدر عن المحكمة بموجب سلطتها القضائية لا بموجب سلطتها الإدارية و الولائية، ومن ذلك أحكام رسو المزاد في البيوع القضائية سواء كانت جبرية أو اختيارية ،فهي لا تخرج عن كونها عقود بيع حصلت على يد المحكمة كالعقود الرسمية التي تحصل على يد الموثق إلا إذا حصلت أثناء ذلك مسألة فرعية وفصلت فيها المحكمة فيحوز الحكم قوة الشيء المقضي به بالنسبة لهذه المسألة الفرعية ([28]).كما يخرج من مفهوم الحكم ما تصدره المحكمة خارج أي نزاع وفي غير مواجهة الخصوم كما هو الحال في الأوامر الولائية، بل أن هناك أحكام قضائية بالمعنى التام للكلمة ومع ذلك لا تحوز قوة الشيء المقضي به كما هو الحال بالنسبة للدعاوى المتعلقة بحالة الأشخاص كدعاوى إثبات الزواج و إثبات النسب، وذلك لكونها تعتمد على شهادة الشهود أساسا و هؤلاء من المحتمل غيابهم فترفض الدعوى لعدم تأسيسها لكن ما دامت تتعلق بأمر مهم في حياة الأفراد فانه لا مانع من إعادة رفعها حال توافر الدليل الذي يثبت المركز القانوني المدعى به وهو ما أكدته المحكمة العليا في احد قراراتها إذ جاء فيه :”
وحيث أن قضية الحال تعد من قضايا الحالة وبالتالي فلا تطبق بشأنها المادة 338 من القانون المدني لأن مثل هذه القضايا تعتمد غالبا على الشهود وهؤلاء تارة يحضرون و أخرى يغيبون لتغير إقامتهم وسكناهم مما يجعل
بعض الأزواج يعجزون عن تقديم حججهم فكان على قضاة الموضوع القيام بإجراء تحقيق للوصول إلى الحقيقة ” ([29]).
أيضا بالنسبة للأحكام التي لا تتفق مع نصوص الميراث لا تكتسي قوة الشيء المقضي به لأن الميراث وصية الله وكل ما يتعلق به يعتبر من النظام العام.
ولا بد أن تكون المحكمة مختصة بإصدار الحكم ،فإذا كان عدم الاختصاص من النظام العام بحيث يمكن التمسك به في أية حالة كانت عليها الدعوى، و القاضي يثيره من تلقاء نفسه، ولا يملك الخصوم الاتفاق على ما يخالفه كما لو قضت محكمة مدنية في دعوى من اختصاص القضاء الإداري ،فإن الحكم لا يحوز قوة الشيء المقضي به .
أما إذا كان عدم الاختصاص لا يعد من النظام العام و يتعلق الأمر بالاختصاص المحلي ،فإن هذا لا يؤثر على حيازة الحكم لقوة الشيء المقضي به متى أصبح نهائيا.
الفرع الثاني: أن يكون الحكم قطعياً.
الأحكام القطعية هي التي تقطع النزاع في نقطة ما و بإصدارها تصبح المحكمة معزولة عن تعديلها أو نقضها مع بقاء الحق للخصوم للطعن فيها بطريق المعارضة أو الاستئناف أي انه يفصل في موضوع الدعوى أو في بعضه أو دفع أو مسألة فرعية .
لذلك هناك أحكام لا تحوز قوة الشيء المقضي به لأنها تصدر قبل الفصل في موضوع الدعوى و تتعلق أساسا بالأحكام التحضيرية و الأحكام التمهيدية و الأحكام الوقتية .
فالحكم التحضيري هو الذي تصدره المحكمة أثناء سير الدعوى بإجراءات معينة دون أن تبين المحكمة رأيها فيها مع أن لها الحق في العدول عنها إذا وجدت أنه لا فائدة من ذلك للدعوى ،ولها أيضا ألا تأخذ بنتيجتها بعد تنفيذها إذا كونت اعتقادها في الدعوى بوسائل أخرى.
أما الحكم التمهيدي هو الذي يمهد للحكم في الدعوى و يدل على اتجاه رأي المحكمة،هذا الحكم يصدر من المحكمة من تلقاء نفسها أو بطلب من الخصوم ، و عند تنفيذ الحكم التمهيدي في حالة طلبه من الخصوم فإنه يكون قد بت في أمر وحسم النزاع فيه هذا فضلا عن أنه قد أصبح حقا مكتسبا للطالب لذلك يحوز قوة
الشيء المقضي به من جهة وجوب تنفيذه و هو الاتجاه الذي أكدته المحكمة العليا في احد قراراتها الذي جاء
فيه :
“إن الحكم التمهيدي يحوز على قوة الشيء المقضي به و أنه لا يجوز إبطال دعوى المدعي الذي حاز حقوقا أصبحت ثابتة بمقتضى الحكم التمهيدي…..” ([30]).
أما الأحكام الوقتية كالحكم الصادر بتعيين حارس قضائي على مال متنازع عليه ، فإنها لا تحوز قوة الشيء المقضي به في موضوع النزاع ،بل يمكن للمحكمة التي أصدرت الحكم أن تغيره قبل الحكم في الموضوع إذا دعت الضرورة إلى إصدار حكم وقتي آخر مخالف للأول.
أما بالنسبة للأحكام التهديدية الصادرة بتوقيع غرامة تهديديه فإنها لا تحوز قوة الشيء المقضي به على عكس الحكم بتصفيتها فإنه يحوز على قوة الشيء المقضي به.
الفرع الثالث: أجزاء الحكم التي تثبت لها قوة الشيء المقضي به.
الأصل أن العبرة بمنطوق الحكم لا بأسبابه غير أنه متى كانت الأسباب مرتبطة بالمنطوق ارتباطا وثيقا بحيث لا تقوم له قائمة إلا بها وتكون معه وحدة لا تتجزأ، يرد عليها ما يرد عليه فإن هذه الأسباب تحوز قوة الشيء المقضي به([31]).
ولا مانع من أن بعض المقضي به يكون في الأسباب، فإذا قضت المحكمة ببطلان عقد البيع بعد أن استعرضت في أسباب حكمها الأوجه التي دار النزاع حولها طلبا ودفعا وبحثت في هذهالأوجه و فصلت فيها فصلا تاما ،ثم وضعت بالمنطوق الحكم ببطلان البيع وهو نتيجة ما وضعته في الأسباب لذلك يجب أن يكون الفصل في الأسباب فصلا جديا بعد بحث جدي و مرافعة بين الخصوم أما مجرد الإشارة إلى قرائن تعزز صحة ما ذهبت إليه المحكمة في حكمها فلا يكفي .
وقد تثار مسألة فرعية في الدعوى و يرافع فيها الخصوم فتبحثها المحكمة في الأسباب دون المنطوق فالحكم يحوز قوة الشيء المقضي به بالنسبة للمسألة الفرعية أيضا، ولا يخفى أن الحكم في المسألة الأصلية يبنى في على الحكم في المسألة الفرعية لذلك كل فصل في الأسباب في نقطة حاسمة في الدعوى يحوز قوة الشيء المقضي به ولو لم يذكر في المنطوق .
و قوة الشيء المقضي به ليست مقصورة على المنطوق الصريح للحكم بل قد يكون للحكم منطوق ضمني ،و هذا المنطوق يحوز قوة الشيء المقضي به أيضا بشرط أن يقتضيه المنطوق الصريح حتما وبطريق اللزوم العقلي ولو لم يذكر في الأسباب .
المطلب الثاني : الشروط اللازم توافرها في الحق المدعى به .
دائما و حسب نص المادة 338 قانون مدني فإنه يجب التأكد من توفر ثلاثة شروط، و هي اتحاد الموضوع أو محل الحق و اتحاد السبب واتحاد الخصوم باتحاد صفاتهم، و ذلك لقيام قرينة حجية الشيء المحكوم به القاطعة لأن أي نقض فيها و في أي شرط من شروطها من شأنه أن يؤثر على قوة قطعها التي تمنع الخصوم من رفع دعواهم مرة أخرى منعا باتا .
الفرع الأول : إتحاد الموضوع أو محل الحق .
حتى يمكن التمسك بقوة الشيء المقضي به يجب أن يكون موضوع الدعوى الثانية أو محل الحق فيها هو بعينه موضوع الدعوى المحكوم فيها ،ويعد موضوع الدعويين متحدا إذا كان الحكم الصادر في الدعوى الثانية مناقضا للحكم السابق وذلك بإقرار حق أنكره هذا الحكم أو بإنكار حق أقره فيناقض الحكم الثاني الحكم الأول ،فصحة العقد وطلب بطلانه وجهان متقابلان والقضاء بصحة العقد يتضمن حتما القضاء بأنه غير باطل
والحكم بشيء يسري على ملحقاته أو بما يتفرع عنه فمن يحكم له
بملكية منزل لا يمكن لخصمه الذي كان ينازعه في الملكية أن ينازعه في استحقاقه لريعه لذلك يصح أن يقال بان الحكم بالكل يسري على الجزء ،غير أنها ليست قاعدة مطلقة فقد يرفع وارث دعوى ضد آخر بأكثر من نصيبه في التركة فترفض دعواه فإن هذا لا يمنعه من المطالبة بنصيبه فيما بعد إلا إذا حكم بأنه غير وارث .
ولا يعتبر الموضوع متحدا لمجرد تعلق النزاع في الدعويين بشيء واحد بل العبرة بموضوع النزاع ذاته،
غير أنه إذا طرأت واقعة جديدة بعد الحكم الأول لا يمكن التمسك بقوة الشيء المقضي به و يصح أن يصدر حكم ثاني مخالف للأول فمسألة ما إذا كان الموضوع متحدا أم لا مسألة موضوعية بحتة تفصل فيها محكمة الموضوع دون رقابة المحكمة العليا عليها في ذلك.
الفرع الثاني: إتحــاد السبب.
السبب هو الأساس القانوني الذي يبـنى عليه الحق أو ما نتج عنه،لذلك يجب أن يكون السبب متحدا في الدعويين حتى يمكن التمسك بقوة الشيء المقضي به فإذا تغير السبب لا يمكن ذلك ولو كان الموضوع واحدا والخصوم هم أنفسهم، فالحكم في دعوى استرداد الحيازة لا يحوز قوة الشيء المقضي به في دعوى طلب تسليم العين باعتبارها مؤجرة ، و إنكار التوقيع على عقد لا يمنع بعد الحكم بصحة التوقيع من الطعن فيه بصدوره في مرض الموت .
وكما يسري وجوب وحدة السبب على الطلب يسري على الدفع، فإذا دفع شخص دعوى مطالبة بدين بالوفاء وحكم ضده يستطيع رفع دعوى ببراءة ذمته بناءًا على التقادم .
والعبرة في وحدة السبب هي بوحدة المسألة الأساسية التي يبنى عليها الحكمان دون اهتمام بوحدة التاريخ الذي قد تذكره المحكمة الأولى وتصححه المحكمة الثانية ،ولا يؤثر أيضا تغير الحجة القانونية أو الوصف القانوني كما لو أريد التمسك بنص قانوني لم يحصل التمسك به في الدعوى الأولى ولم يطبقه القاضي فإن هذا غير ممكن .
ويجب عدم الخلط بين السبب من جهة ودليل الإثبات من جهة أخرى، فمن ادعى وفائه بدين فإن سبب ادعائه هو براءة ذمته فإذا حاول إثبات ذلك بشهادة الشهود فلم يفلح فلا يجوز له تجديد دعواه بتقديم دليل كتابي لأن السبب هو ذاته والاختلاف انحصر في وسائل الإثبات .
الفرع الثالث: إتحاد الخصوم وإتحاد صفاتهم .
ليس من العدل أن يعطى للحكم أية قوة ضد شخص لم يكن خصما في الدعوى لم يدافع عن حقوقه والمقصود أن يتحد الخصوم قانونا لا طبيعة، فلا يشترط أن يكون الخصوم هم بأشخاصهم الذين حضروا في الدعوى الأولى فإذا وكل شخص محاميا ورفع هذا الأخير الدعوى ورفضت فلا يصح أن يجددها الموكل بحجة أنه شخص غير المحامي وبالتالي الحكم الذي صدر في مواجهة الوكيل يحوز قوة الشيء المقضي به في مواجهة الموكل ، و هو نفس الحكم الذي ينطبق على الوصي الولي والقيم مع الإشارة إلى أن الأحكام الصادرة في مواجهة ممثل الخصم لا تسري على نفس الخصم إلا في حدود نيابة الممثل والسلطة المخولة له، وهكذا كلما اتحدت الشخصية واختلفت الصفة لا يحوز الحكم قوة الشيء المقضي به بالنسبة للصفة الأخرى سواء كان لصالح المحكوم عليه أو ضده.
أما الحكم في مواجهة الأصيل أو السلف فإنه يسري على الخلف العام كما هو الحال بالنسبة للوارث أو الموصى له، غير أنه لا يسري الحكم على الوارث إذا كانت هناك مخالفة للقانون ،كما لو باع المورث عينا
لأحد ورثته واحتفظ بحيازته و بحقه في الانتفاع ورفع عليه الوارث دعوى وحكم له بصحة البيع، فإن هذا الحكم لا يسري على غيره من الورثة .
أما الخلف الخاص فإن الحكم لا يسري عليه إلا إذا كان سابقا على اكتسابه لحقه ،أما بالنسبة للمدينين المتضامنين فإذا صدر حكم لصالح أحدهم فإنه يستفيد منه الباقون والحكم ضده لا يضرهم، لأنه يعتبر وكيلا عنهم فيما ينفعهم لا فيما يضرهم إلا إذا كان الحكم مبنيا على سبب خاص بالمدين الذي صدر الحكم لصالحه فإنه لا يفيد الباقين ولا يضرهم الحكم الذي صدر ضده .
المطلب الثالث :آثار قوة الشيء المقضي به و سلطة القاضي التقديرية بشأنها .
الفرع الأول :آثار قوة الشيء المقضي به .
متى توافرت الشروط المتعلقة بالحكم ذاته أو الحق المدعى به، ترتب أثر هام هو أن ما قضى به الحكم قد جعل ما كان محل النزاع حقيقة ثابتة قانونا،وذلك من حيث وجود محتوى العلاقة القانونية محل النزاع فلا يمكن التراجع عن الشيء المقضي به ولو كان الحكم الصادر يتناقض وقانون لاحق أو اعتمد على قانون قد ألغي فيما بعد.
وبما أن قرينة الأمر المقضي به وضعت لحماية المصالح الفردية الخاصة فإنه يجوز للخصوم أن يتنازلوا عن الدفع بها وهذا التنازل سواء صريح أو ضمني .
أيضا وكما سبق ذكره فقوة الشيء المقضي به ليست من النظام العام لا يمكن للمحكمة أن تأخذ بها من تلقاء نفسها، غير أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للمنازعات الإدارية إذ تعد قوة الشيء المقضي به من النظام العام ومن ثم يمكن للقاضي الإداري إثارتها من تلقاء نفسه خاصة في دعوى تجاوز السلطة لأنه لا يمكن التمسك بقرار إداري مخالف لمبدأ المشروعية ،مما يجعل قوة الشيء المقضي به من وسائل حماية المشروعية ([32]).
أيضا لا يجوز إثارة الوجه المتعلق بمخالفة قاعدة قوة الشيء المقضي به لأول مرة أمام المحكمة العليا.
الفرع الثاني: سلطة القاضي التقديرية بشأن قوة الشيء المقضي به .
إن الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به قرينة قانونية قاطعة لا تقبل أي دليل ينقضها متى تمسك بها الخصم، وهي ملزمة للقاضي يقتصر دوره بشأنها في التأكد من توافر الشروط اللازمة لقيامها غير أن قرينة قوة الشيء المقضي به لا تحول دون تفسير الخطأ المادي الذي وقع في الحكم بشرط أن يشمل الحكم سواء في منطوقه أو في أسبابه العناصر اللازمة لهذا التصحيح بحيث لا تكون هناك حاجة مطلقا للبحث في الموضوع مرة أخرى ([33]).
كذلك ويمكن طلب تفسير الحكم إذا كان فيه لبس أو غموض إنما لا يصح أن يتخذ ذلك وسيلة لإحداث تعديل أو تغيير فيه ، وسلطة محكمة الموضوع في تفسير الأحكام التي يحتج بها لديها هي كسلطتها في تفسير سائر المستندات التي تقدم لها ، فلقاضي الموضوع أن يأخذ بما يراه مقصودا منها بشرط أن يبين في أسباب حكمه الاعتبارات التي استند عليها .
[1] – د/ الغوثي بن ملحة، قواعد وطرق الإثبات و مباشرتها في النظام القانوني الجزائري، الديوان الوطني للأشغال التربوية، الطبعة الأولى، 2001، ص85.
[2] – ملف رقم 44822 المؤرخ في 12/10/1988، المجلة القضائية لسنة1990، العدد الثاني، ص 190 .
[3] – د / يحي بكوش , المرجع السابق ,ص ،317.
[4] -القرار رقم 282159، المجلة القضائية لسنة 2004 ،العدد الأول، ص 97.
[5] – د/عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص542.
[6] – قرار المحكمة العليا رقم 520422 المؤرخ في 05/04/1989 ،المجلة القضائية لسنة 1991 ،العدد الأول، ص 14 .
[7] – د/ محمد زهدور، المرجع السابق ،ص66.
[8] – د/عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص554.
[9] – د/ سليمان مرقس، المرجع السابق، ص752.
[10] – د/ سليمان مرقس، المرجع السابق، ص754.
[11] – د / يحي بكوش ,مرجع سابق , ص315 و316.
[12] – د/ سليمان مرقس، المرجع السابق، ص761 .
[13] – د/ محمد زهدور، المرجع السابق ،ص65.
[14] – د/ يحي بكوش ,مرجع سابق , ص326.
[15] – القرار رقم 159335 الصادر في 30/04/1990 المجلة القضائية لسنة1992، العدد الأول، ص29.
[16] – د/ سليمان مرقس، المرجع السابق، ص779.
[17] -القرار الصادر في 26/10/1998 المجلة القضائية لسنة 1999 العدد الثالث.
[18] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص611.
[19] -القرار رقم 27429، مجلة الاجتهاد القضائي لسنة 1987، ص 18.
[20] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص615 و616.
[21] – يوجد خلاف فقهي حول طبيعة هده اليمين مع العلم بأنها يمين الاسيثاق فهناك من يرى بأنها يمين حاسمة وهو رأي الأستاذ سليمان مرقس وهناك من يرى بأنها يمين متممة وهو رأى الأستاذ عبد الرزاق السنهوري ولكل تأسيسه في ذلك.
[22] – د /عبد الرزاق السنهوري , مرجع سابق , ص624.
2 – د/ محمد زهدور- المرجع السابق- صفحة87 .
3- د/ الغوثي بن ملحة ,القانون القضائي الجزائري, الجزء الأول, ديوان المطبوعات الجامعية سنة 1994.ص149-150.
[25] – أ / احمد نشأت، رسالة الإثبات، الجزء الثاني، الطبعة السابعة، ص 203.
[26] – القرار رقم 741924 المؤرخ في 18/06/1991 المجلة القضائية لسنة 1994، العدد الثاني، ص 59.
[27] -د/ محمد زهدور, المرجع السابق, ص89 .
[28] – أ / احمد نشأت، المرجع السابق، ص 209.
[29] – القرار رقم 262912 الصادر في 18/04/2001 المجلة القضائية لسنة 2002 العدد الثاني,ص411.
[30] -القرار رقم 24509 المؤرخ في 03/03/1982 المجلة القضائية لسنة 1989، ص 26 .
[31] – أ / احمد نشأت، المرجع السابق، ص 245.
[32] – أ / لحسن بن شيخ آث ملويا، دروس في المنازعات الإدارية، دار هومة للطباعة ، الطبعة الأولى، الجزائر، 2006 ،ص 288.
[33] – أ / احمد نشأت، المرجع السابق، ص 400.
[1] – د/ عبد الرحمن ملزي, محاضرات بعنوان : طرق الإثبات في المواد المدنية , ألقيت على الطلبة القضاة الدفعة 17,سنة 2007/2008 .
منقول من سعدي محمد ( مذكرة التخرج لنيل إجازة المدرسة العليا للقضاء ) الجمهورية الجزائرية
اترك تعليقاً