بحث قانوني كبير عن السياسة الجمركية ودورها في الاقتصاد الوطني
السياسة الاقتصادية هي مجموعة التوجهات والإجراءات الاقتصادية التي تتخذها حكومة من الحكومات من أجل دفع الاقتصاد الوطني نحو التقدم والنمو. وتعد السياسة الجمركية جزءاً أساسياً من السياسة الاقتصادية[ر] إلى جانب السياسات المكونة الأخرى كسياسات الضرائب والأسعار والإقراض والتصنيع وغيرها.
وتتناول السياسة الجمركية بصورة رئيسة قطاع التجارة الخارجية الذي يضم حركة البضائع استيراداً وتصديراً، وتسعى الحكومات عادة من خلال السياسة الجمركية إلى التأثير في حركة تبادل السلع فتشجع الصادرات وتقلص الواردات لتحقيق توازن في الميزان التجاري مع العالم الخارجي. ويجب أن تكون السياسة الجمركية منسجمة مع الوضع الإنتاجي والاستهلاكي في البلد المعني إذ تفرض رسوم جمركية عالية على البضائع المستوردة المنافسة للمنتجات الوطنية في حين تخفض هذه الرسوم على المواد الأولية لتشجيع الإنتاج الصناعي الوطني وتدعيم قدرته التنافسية. وتقوم السياسة الجمركية الرشيدة بدور مهم في الاقتصاد الوطني عن طريق التمايز في الرسوم المفروضة سواء على الصادرات أم الواردات في الاتجاهات التالية:
ـ تشجيع صادرات فوائض الإنتاج الوطني بإلغاء الرسوم على هذه الصادرات أو حتى بتقديم المعونات التصديرية.
ـ الحد من تصدير المواد الأولية اللازمة للصناعة الوطنية من أجل منع ارتفاع أسعارها سواء بفرض رسوم تصدير عالية أو بوضع تقييدات كمية على هذه الصادرات أو حتى منعها.
ـ الحد من استيراد السلع المنافسة للمنتجات الوطنية سواء بفرض رسوم جمركية عالية (سياسة الحماية الجمركية) عندما تكون المنتجات الوطنية غير كافية لإشباع حاجة السوق، أو بمنع الاستيراد كلياً عندما يكون الإنتاج الوطني كافياً لإشباع الطلب الاستهلاكي.
فالسياسة الجمركية تعد إحدى أدوات السياسة الاقتصادية لدعم الإنتاج الوطني وتيسير عملية النمو الاقتصادي ورفع مستوى رفاه الشعب كما تؤلف السياسة الجمركية أداة لرفد خزينة الدولة بالإيرادات اللازمة لتمويل عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ومن الضروري الإشارة إلى أن لسياسة الحماية الجمركية آثارها السلبية على الاقتصاد الوطني فهي، بإيجاد الحواجز الجمركية العالية أمام البضائع الأجنبية، تقلل من سعي قطاعات الإنتاج الوطني إلى تحسين النوعية وزيادة الإنتاجية مما يرهق كاهل المستهلك ويؤدي إلى جمود الإنتاج. لهذا تلجأ الحكومات إلى التوفيق بين حماية الإنتاج الوطني من جهة والسماح بالمنافسة الدولية على نطاق محدود من جهة ثانية باللجوء إلى الانضمام إلى الاتحادات الجمركية أو الاتفاقيات التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف.
الاتفاقيات التجارية بين الدمج والتكامل
الاتفاقية التجارية trade agreement هي عقد بين دولتين لتنظيم التجارة بينهما وفقاً لما يعبر عن إرادتهما المشتركة بهدف زيادة حجم المبادلات التجارية وتنميتها لكل منهما وتحقيق مصالحهما الاقتصادية والسياسية المشتركة.
وتهدف الاتحادات إلى تسهيل التبادل التجاري بين الدولتين المتعاقدتين ولاسيما تيسير تبادل بعض السلع التي تنص عليها القوائم الملحقة بالاتفاقية ويكون للاتفاقيات التجارية أهداف متعددة منها زيادة حجم المبادلات التجارية بين البلدان المتعاقدة ومنح تسهيلات خاصة متبادلة لبلد معين من قبل البلد الآخر وتشجيع التعاون الاقتصادي بتخفيض الرسوم الجمركية أو الإعفاء من قيود وشروط وإجراءات «روتينية» تفرض على سلع البلدان الأخرى، إضافة إلى تشجيع المقايضة بين البلدين المتعاقدين سواء في عمليات محددة أم في إطار ما يسمى استيراد وتصدير سلع بقيمة محددة من الطرف الآخر.
قد تكون الاتفاقية التجارية جزئية تنظم تبادل سلع محددة تتضمنها القوائم الملحقة بالاتفاقية وقد تكون شاملة تنظم العلاقات التجارية بين الدول المتعاقدة وهذه الأخيرة هي الأهم لأنها ترسم الخطوط العريضة للسياسات التجارية الواجب اتباعها من قبل الدول المتعاقدة. وتترافق الاتفاقيات التجارية باتفاقيات مدفوعات أحياناً ولكنها قد تكون مستقلة بذاتها أحياناً أخرى إذ يتم تسديد قيمة المبادلات بوسائل الدفع الدولية المعروفة وفي هذه الحال يعد تنشيط العلاقات التجارية أمراً مهماً للطرفين بصرف النظر عن طريقة الدفع. وكذلك فقد تكون الاتفاقيات التجارية ثنائية بين دولتين أو قد تكون متعددة الأطراف تنظم العلاقات بين عدد من الدول أوقد تكون جماعية عامة كما هي الحال في الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (غات) G.A.T.T [ر] . والاتحادات الجمركية ذاتها هي اتفاقيات تجارية تنظم العلاقات بين دولتين أو أكثر، وتركز اهتماماتها على تخفيض الرسوم الجمركية أو إزالتها عن المبادلات التجارية بين الأطراف المتعاقدة وتشمل التبادل التجاري برمته بين الدول الأعضاء في الاتحاد.
الاتحادات الجمركية وتوسيع الأسواق
الاتحاد الجمركي custom’s union هو اتفاق بين دولتين أو أكثر على إزالة الحواجز الجمركية التي تعرقل تصدير السلع واستيرادها وتحرير التجارة والمبادلات بين الدول المنضمة إلى الاتحاد كلياً أو جزئياً لتكوين منطقة جمركية واحدة في مواجهة العالم الخارجي. وبحسب الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة المعروفة باسم غات فإن قيام اتحاد جمركي بين بعض البلدان يعني إلغاء الرسوم الجمركية والقيود الكمية على تبادل السلع بينها مع التزام الدول الأعضاء تعرفة جمركية موحدة على السلع المستوردة من الدول خارج الاتحاد وتحل المعرفة الموحدة محل التعرفات الخاصة بكل دولة من الدول الأعضاء، وقد يكون تطبيق الاتحاد الجمركي دفعة واحدة أو بالتدريج تبعاً للأوضاع الإنتاجية في البلدان الأعضاء والمزايا النسبية لإنتاج كل منها من السلع.
تقوم الاتحادات الجمركية بدور كبير في توسيع الأسواق أمام منتجات كل من الدول الأعضاء بفتح أسواق الدول الأخرى أمامها في الوقت الذي لاتجعل هذه المنتجات معتمدة على الحماية فقط إذ تلقى منافسة من منتجات الدول الأعضاء الأخرى أي إنها توفق بين حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية الشاملة بفرض تعرفة جمركية على المنتجات من خارج الاتحاد مع السماح بمنافسة محدودة بفتح الحدود أمام السلع المنافسة الواردة من دول الاتحاد من جهة ثانية. وبذلك تحصل كل دولة من دول الاتحاد عل السلع ذات التكلفة الأقل من الدول الأخرى وتصدر إليها السلع التي تتمتع هي بمزايا نسبية في إنتاجها غير أن الاتحادات الجمركية قد تؤدي إلى سيطرة الدولة الأقوى اقتصادياً بسبب إزالة الحواجز الجمركية بين الدول الأعضاء. ولهذا فإن الاتحادات الجمركية الناجحة يجب أن تتم بين دول متقاربة في مستويات النمو يتمتع كل منها بمزايا نسبية في إنتاج بعض السلع ليتم تسويقها على مستوى الاتحاد أو بين دول يجمعها انتماء قومي واحد فيكون الاتحاد الجمركي خطوة تمهيدية لتحقيق الوحدة الاقتصادية ومن ثم التوحيد السياسي كما حدث للولايات الألمانية في القرن التاسع عشر عندما أقامت بزعامة بروسية الاتحاد الجمركي المسمى زولفراين Zollverein الذي قاد إلى الوحدة الاقتصادية ومن ثم إلى تجميع هذه الولايات سياسياً في دولة واحدة. ولعل واقع البلدان العربية اليوم أقرب ما يمكن إلى واقع الولايات الألمانية في القرن التاسع عشر سواء من ناحية حاجة إنتاج كل منها إلى سوق واسعة أم من ناحية حاجتها جميعها إلى التكامل الاقتصادي لحماية اقتصاداتها الوطنية من المنافسة الخارجية الشديدة.
الاتفاقيات التجارية والاتحادات الجمركية
يلاحظ أن الاتحادات الجمركية هي اتفاقيات تنظم العلاقات التجارية بين الأطراف المتعاقدة وتشمل التبادل التجاري برمته وتعمل على إزالة الحواجز الجمركية التي تعرقل انسياب البضائع بين الدول المتعاقدة الأعضاء في الاتحاد. وبمعنى آخر فإن الاتحادات الجمركية هي اتفاقيات تجارية متطورة ومتقدمة تشمل مجالات أوسع وتضم أحياناً شركاء أكثر عدداً.
لقد ظهرت الحاجة إلى الاتفاقيات التجارية نتيجة أزمات الكساد واضطرار الدولة إلى التدخل في الحياة الاقتصادية لحماية الاقتصاد الوطني ودفع عملية النمو إلى الأمام.
وما مبادئ التدخل والتخطيط إلا نتيجة لعجز آلية السوق عن حل المشكلات الاقتصادية الوطنية والدولية، لهذا جاءت الاتفاقيات التجارية تعبيراً عن إرادة الحكومات المتعاقدة في مواجهة الأزمات ولتسهيل عملية النمو الاقتصادي على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.
بعد انتشار الثورة الصناعية[ر] في بلدان متعددة اقتنع علماء الاقتصاد ورجالات الدولة بعجز نظريات التجارة الحرة عن تيسير التبادل التجاري وتم تركيز الاهتمام بداية على الاتفاقيات التجارية الجماعية لتشجيع التبادل التجاري الدولي. ولكن بسبب اختلاف مستويات النمو على المستوى العالمي وسيطرة بعض الدول على الأسواق الدولية اتجهت بعض الدول إلى عقد الاتفاقيات التجارية الثنائية أو بين دول محددة متقاربة في مستويات النمو، في إطار منطقة جغرافية واحدة. وفي أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية (1929 – 1933) ومرحلة الكساد العالمي الواسع (1931) تبين للدول عجز الحرية التجارية، التي كانت غالبة آنذاك، عن خدمة مصالحها الوطنية مما حدا بهذه الدول إلى التدخل لحماية اقتصاداتها القومية وانصبت الجهود الدولية بداية على البحث في اتفاق جماعي دولي عام فعقد في لندن عام 1933 المؤتمر الاقتصادي والمالي العالمي بهدف الوصول إلى اتفاق جماعي لحل مشكلة التجارة الدولية. وتعددت الآراء داخل المؤتمر بسبب اختلاف مصالح الأطراف المشاركة الذي يرجع أساساً إلى اختلاف أوضاعها الاقتصادية الموضوعية وكان الحل في الاتجاه نحو الاتفاقيات التجارية الثنائية أو محدودة الأطراف. وانتشرت هذه الاتفاقيات بين معظم الدول الأوربية لمواجهة الصعوبات التالية:
ـ صعوبة تمويل عمليات التبادل بسبب تحول الدولار[ر] إلى عملة شبه دولية وحيدة وكان على أية دولة الحصول على الدولارات وهذا ما دفع الدول الأوربية إلى تسهيل التجارة فيما بينها بغية تقليص حاجتها إلى الدولار لدفع قيمة وارداتها وتسوية حساباتها.
ـ صعوبة الحصول على المواد والسلع اللازمة للسوق المحلية مقابل التسديد بالعملة الدولية مما حدا بالدول إلى إيجاد وسيلة تبادل فيما بينها عن طريق اتفاقيات المقاصة القائمة على مبدأ التوازن في الميزان التجاري بين الأطراف.
ـ مواجهة منافسة الدول الأقوى اقتصادياً بسبب تقدمها التقني ومزايا الإنتاج النسبية مما حدا بالدول المتعاقدة إلى النص في الاتفاقيات التجارية على شرط الدولة الأكثر رعاية الذي يمنح الدولة الشريكة في الاتفاقية التمتع بأية مزايا ممنوحة للشركاء التجاريين الآخرين على أن تكون هذه المزايا أفضل للدولة الشريكة.
ـ صعوبات التسويق[ر] الناجمة عن ضيق السوق الداخلية وعدم قدرتها على استيعاب الإنتاج الوطني بكامله مما يحدو بالدول المتعاقدة إلى تضمين الاتفاقيات شرطاً يقضي بتحديد حجم التبادل بين الأطراف وعدم اضطرار أي منها إلى تسوية حساباتها قبل وصول التبادل إلى الحجم المحدد.
لقد قامت الاتفاقيات التجارية بدور مهم في تجاوز الصعوبات الاقتصادية وتسهيل حصول كل من الاقتصادات الوطنية على مستلزمات الإنتاج والسلع الاستهلاكية بشروط أفضل من تلك التي كان يمكن أن توفرها بنفسها. ولكن لهذه الاتفاقيات بعض المساوئ أيضاًَ لأن الاتفاقيات تعقد بين أطراف محددة مما يؤدي إلى خفض حجم التبادل الدولي ومن ثم يفقد الاقتصاد العالمي إحدى أهم المزايا وهي مزية التكاليف النسبية التي تفرض أن يتم إنتاج السلع في حدود حاجة الاستهلاك العالمي من قبل المنتجين الذين يتمتعون بمزايا نسبية أفضل وإيصالها إلى المستهلكين في أي مكان بتكلفة أقل. لأن الاتفاقيات التجارية هي إحدى وسائل الحماية التي تعمد إليها الدول المتعاقدة لمواجهة منافسة الدول خارج الاتفاقية، ولهذا السبب فإنها من أهم الأساليب التي يجب أن تعتمد عليها الدول النامية لحماية اقتصاداتها الوطنية من المنافسة الدولية من طرف الدول الأكثر تطوراً من جهة، وتوسيع سوق منتجاتها الوطنية لبلوغ الحجم الاقتصادي للإنتاج من جهة أخرى.
وغالباً ما تكون الاتفاقيات التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف خطوة تمهيدية لبلوغ مرحلة الاتحاد الجمركي الذي يعد بمنزلة اتفاقية تجارية متطورة إذ يتحقق قيام الاتحاد الجمركي بثلاثة إجراءات رئيسية.
أ. تحرير التجارة بين الدول الأعضاء من أية رسوم جمركية أو أية تحديدات كمية.
ب. وضع تعرفة جمركية موحدة تطبقها كل الدول الأعضاء على التعامل التجاري مع الدول خارج الاتحاد وتراعي هذه التعرفة حماية الإنتاج الوطني لكل منها وتسهيل تبادله فيما بينها.
جـ. توزيع الحصيلة المشتركة للرسوم الجمركية التي تجبى في الدول الأعضاء وفقاً لقواعد يتفق عليها تراعي مصلحة كل منها ووضعها الاقتصادي العام ومستوى نموها مقارنة فيما بينها فيكون التوزيع عامل دعم للدول الأضعف في الاتحاد لمساعدتها في تحقيق النمو الاقتصادي لأن الاتحاد الجمركي يؤلف مرحلة للارتقاء بالتعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء إلى مرحلة متقدمة من التكامل بما في ذلك الوحدة الاقتصادية. وتعد تجربة الاتحاد الجمركي بين الولايات الألمانية المسمى بالزولفراين والذي تطور إلى وحدة اقتصادية بين الولايات ومن ثم أعقبها اتحاد سياسي بينها خير مثال على ارتقاء التكامل الاقتصادي بين الأقاليم ولاسيما المنتمية إلى أمة واحدة كما هي حال الدول العربية لبلوغ الوحدة السياسية المعبرة عن طموحات شعوبها وضمان مصلحتها الاقتصادية المشتركة.
لقد ازداد الاهتمام بالاتحادات الجمركية بعد أن أصبحت التكتلات الاقتصادية واحدة من التطورات البارزة في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأ الفكر الاقتصادي يصوغ الأساس النظري لدراسة الاتحادات الجمركية. وكان الاقتصاديون يعتقدون، سنداً لنظرية التكاليف النسبية، أنه مادام الاتحاد الجمركي ينطلق من مبدأ تحرير التجارة بين الأعضاء فإنه سيؤدي إلى تحسين الرفاه الاقتصادي لشعوب دول الاتحاد، إذ إن تحرير التجارة يقود إلى تحقيق منفعة لكل الأطرف غير أن فاينر Viner دحض هذه الفكرة مشيراً إلى أن تحرير التجارة بين بلدين قد يؤدي إلى خسارة أحدهما أو كليهما عندما يجري تحويل مشتريات البلد المعني من مصدر ذي تكلفة منخفضة إلى آخر ذي تكلفة مرتفعة (في هذه الحالة البلد الشريك في الاتحاد). وعلى الرغم من دور الاتحاد الجمركي في توزيع الموارد ومراكز الإنتاج داخل دول الاتحاد فإنه، مما لاشك فيه، يؤدي على خسارة جزئية في حال تحويل التجارة. غير أن هذه النتيجة لاتلاحظ فقط على مستوى الاقتصاد الوطني الواحد أيضاً. في حين تكون الآثار الإيجابية للاتحادات الجمركية واضحة، ولاسيما على مستوى البلدان النامية الساعية إلى بسط سيطرتها على مواردها وتخصيصها لأغراض التنمية، إضافة إلى توسيع الأسواق أمام صناعاتها الوطنية التي لايمكن أن تكون فعالة إلا بتوفير الأسواق لها. وقد تكون هذه الآثار إيجابية كبيرة جداً على التنمية حتى إن الاتحادات الجمركية قد تكون الحل الوحيد لتنشيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعد المسألة المركزية لهذه الدول والهدف الرئيسي لإقامة التكتلات فيما بينها. ولهذا يرى كثير من الاقتصاديين المعاصرين أنه إذا أرادت البلدان النامية الاستفادة من مزايا الاتحادات الجمركية عليها أن تربط قيام هذه الاتحادات بسياسات وخطط إنمائية متكاملة على أساس رفع الطاقات الإنتاجية المبنية على تخصيص كل منها بتنمية فروع أو صناعات معينة وفتح أسواقها بصورة متبادلة أمام منتجات هذه الفروع، كما أن على هذه البلدان أن تطور الاتحادات الجمركية إلى صيغة وحدة اقتصادية تامة حتى تتحول اقتصاداتها الوطنية إلى اقتصد إقليمي موحد تكون فيه حرية انتقال عوامل الإنتاج والمنتجات متاحة للجميع بغير حدود أو تقييدات.
الاتحاد الجمركي والوحدة الاقتصادية
قد يُلحق الاتحاد الجمركي بعض الخسائر ببعض أعضاء الاتحاد إذا كانت مستويات نمو الأعضاء غير متقاربة مما يؤدي إلى كسب الأعضاء الأكثر تقدماً على حساب الأعضاء الأقل تطوراً. وهذا يؤدي إلى خلق تناقضات بين أعضاء الاتحاد إذا لم يراع نظام الاتحاد تعويض الدول المتضررة على حساب الدول الأكثر استفادة من الاتحاد وهو ما يمكن تحقيقه بإحدى طريقتين: إما بإقرار تعويضات للأعضاء الأقل تطوراً تسهم في رفع مستوى نموها ليصبح متقارباً مع الأقطار الأخرى، أو بتطوير الاتحاد الجمركي ليصبح وحدة اقتصادية تامة. وفي هذه الحالة يمكن للدول الأعضاء أن تحافظ على سيادتها على أراضيها ومواردها الطبيعية على أن تتيح لمواطني الدول الأعضاء الآخرين الإسهام في تنمية هذه الموارد وتطويرها أو أن يتم تطوير الوحدة الاقتصادية لتتحول إلى وحدة سياسية. وتجارب الاتحادات الجمركية تبين إمكانية مثل هذا التطور الصاعد، أو عكس ذلك ينهار الاتحاد وتعود الدول الأعضاء في الاتحاد إلى التنافس فيما بينها والعودة إلى التبعية الاقتصادية للدول المتقدمة.
وإذا أريد للاتحاد الجمركي أن يستمر ويتطور تطوراً صاعداً لابد أن تراعى فيه المصالح الوطنية لكل من أعضائه، وإلاّ فإنه سيؤول إلى الانهيار.
إن التجربة التاريخية لكل من الاتحاد الجمركي الألماني الزولفراين والاتحاد الجمركي السوري اللبناني تؤكد هذه الحقيقة.
الاتحاد الجمركي الألماني (الزولفراين):
واجهت الولايات المتحدة الألمانية بزعامة بروسية، أكبر هذه الولايات، في بداية القرن التاسع عشر تحديات كثيرة في تصريف إنتاجها بعد أن رفعت روسية عام 1810 الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية وتبعتها في ذلك فرنسة عام 1813 في حين اشتدت على نحو كبير منافسة الصناعة الإنكليزية ولم يبق أمام الولايات الألمانية سوى الاعتماد على السوق الداخلية المتبادلة. فاتجهت بروسية إلى العمل على تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على التجارة بين الولايات الألمانية أو إلغاء هذه الرسوم من أجل تشجيع التجارة البيْنية. إضافة إلى ذلك ظهرت دعوات من قبل الاقتصاديين ورجال السياسة إلى إقامة سوق ألمانية مشتركة للوقوف أمام المنافسة التي أوجدتها التقنية الفرنسية والإنكليزية في وجه الصناعة الألمانية وكان من نتيجة ذلك تأسيس الزولفراين الذي اعتمد التعرفة الجمركية وسيلة لتشجيع التجارة البينية وذلك بإعفاء التجارة البينية من الرسوم وفرض رسوم عالية على التجارة مع الدول خارج الاتحاد، وكان من نتيجة ذلك قيام سوق ألمانية موحدة بين جميع الولايات، التي حافظت على وجودها السياسي مقاطعات داخل الاتحاد، ثم ما لبثت أن تحولت إلى وحدة اقتصادية تمثلت بحرية انتقال المنتجات وعوامل الإنتاج بين الولايات بما يحقق الإفادة من المزايا النسبية لكل منها. فكان ذلك سبباً رئيساً في اندماج هذه الولايات في دولة اتحادية جمعت كل الأقاليم الألمانية وتحولت بعدها إلى دولة قوية اقتصادياً وسياسياً كادت أن تسيطر على العالم. وهي اليوم تهدد كل القوى الاقتصادية العالمية بنموها وسرعة تقدمها وتعد من بين الدول الأكثر تقدماً التي يخشى العالم منافستها.
الاتحاد الجمركي السوري اللبناني: ألفت سورية ولبنان إقليماً اقتصادياً واحداً إبان الحكم العثماني ومن ثم إبان الانتداب الفرنسي وقامت بينهما روابط اقتصادية متينة جعلت من مرفأ بيروت مرفأ سورياً لبنانياً كما كانت التجارة ناشطة جداً بين المدن السورية واللبنانية. وبعد حصول البلدين على استقلالهما حاولا المحافظة على هذه الروابط بإنشاء اتحاد جمركي بينهما ووقعا اتفاقية الاتحاد في 1/10/1943. وقد نصت الاتفاقية على أن تكون سورية ولبنان منطقة جمركية واحدة تطبق فيها تعرفة جمركية موحدة ويسمح بحرية انتقال السلع فيما بينها بحرية تامة من دون أية رسوم أو ضرائب جمركية وعلى أن تكون لهما إدارة جمركية واحدة تعمل في إطار خطة جمركية موحدة ويتم توزيع عائدات الرسوم والضرائب الجمركية بين البلدين. وبغية تطوير هذا الاتحاد لكي يلبي مقتضيات النمو الاقتصادي في البلدين جرت مفاوضات في عامي 1946 و1947 لتنسيق السياسة الاقتصادية والمالية في البلدين. ولقد كان واضحاً للمتفاوضين أن استمرار الاتحاد الجمركي بين البلدين ونجاحه يقتضي تطويره باتجاه تنسيق السياسات الاقتصادية فيهما. وبسبب اختلاف النهج الاقتصادي بين البلدين وعجز الحكومتين عن التوصل إلى اتفاق بينهما يخدم مصالحهما المشتركة، أصبح الاتحاد الجمركي مهدداً بالزوال ولاسيما بعد أن وقعت الحكومة اللبنانية اتفاقاً مالياً منفرداً مع فرنسة، مما أدى إلى انهيار الاتحاد النقدي بينهما وخروج سورية نهائياً من منطقة الفرنك الفرنسي في شباط 1949. ومن أجل حماية المصالح الوطنية لكلا البلدين عرضت الحكومة السورية على الحكومة اللبنانية الأخذ بأحد الحلول التالية:
ـ وحدة اقتصادية كاملة.
ـ تبادل حر بين البلدين في إطار اتحاد جمركي بينهما يقوم على تعرفة جمركية موحدة وتعفى المنتجات المحلية من الضرائب والرسوم الجمركية في حين تخضع السلع الأجنبية المتبادلة بين البلدين لتعرفة موحدة أي استمرار الاتحاد الجمركي بما يوسع السوق أمام المنتجات المحلية لكلا البلدين ويدعم قدرة منتجاتهما على المنافسة عن طريق فرض التعرفة على السلع الأجنبية وإعفاء المحلية منها.
ـ تحسين النظام المالي وإنشاء مجلس مشترك للإشراف على التجارة الخارجية بهدف حماية الإنتاج المحلي وتوحيد العملتين في البلدين أو المساواة بينهما.
ولأن المنطلق كان نحو تحقيق المصالح القطرية الآنية وبسبب كون الوكالات التجارية الأجنبية متمركزة في لبنان للسوقين السورية واللبنانية لم تستطع الحكومتان الاتفاق على تطوير الاتحاد الجمركي بينهما فانفصل الاقتصادان السوري واللبناني وعانى كلا البلدين من هذا الانفصال.
في حين كان الاندماج الاقتصادي سيعود عليهما معاً بالنفع إذ إن طاقات إنتاجية أقيمت في كلا البلدين لايستفاد منها بكامل طاقتها بسبب ضيق السوق الداخلية من جهة ومنافسة البضائع الأجنبية في كل من البلدين لبضائع البلد الآخر من جهة ثانية. إن محاولة الاستئثار بالمنفعة الاقتصادية من قبل أي شريك في الاتحاد الجمركي ستقود بالضرورة إلى الإخفاق والتراجع في حين إن حماية المصالح الوطنية لجميع الدول الأعضاء ستقود إلى التطور الصاعد فالوحدة الاقتصادية، وقد تؤدي إلى الوحدة السياسية أيضاً. ويعاني الاتحاد الجمركي بين دول مجلس التعاون الخليجي هو الآخر من مشكلات بسبب التفاوت في النمو الاقتصادي بين أعضائه ويخشى ألا يستطيع تحقيق مهمة الاندماج الاقتصادي بين بلدان الخليج العربية. إن تحقيق التنمية القومية العربية تفترض حداً أدنى من التعاون التجاري العربي وزيادة حجم التجارة العربية البينية. والطريق الأفضل لتحقيق ذلك يكون في تطبيق أحكام السوق العربية المشتركة أو في إقامة اتحاد جمركي على الأقل وذلك بسبب تقارب مستوى النمو الاقتصادي في معظم الدول العربية ومعالجة أوضاع بعض الأقطار العربية الأقل تطوراً بتخصيصها بنسبة أكبر من الفوائد التي تترتب على قيام الاتحاد بكل أقطاره من أجل مقاربة مستويات النمو تمهيداً لتطوير الاتحاد باتجاه وحدة اقتصادية تخدم كل الأعضاء في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى، عصر الأسواق العملاقة من السوق الأمريكية إلى السوق اليابانية إلى السوق الأوربية وغيرها إضافة إلى الاتحادات الجمركية والمناطق التجارية الحرة التي تكاد تجمع في عضويتها كل بلدان العالم تقريباً.
مطانيوس حبيب
مراجع للاستزادة
ـ محمد خليل برعي وعلي حافظ منصور، العلاقات الاقتصادية الدولية (مكتبة القاهرة الحديثة 1974).
ـ محمد زكي شافعي، مقدمة في العلاقات الاقتصادية الدولية (القاهرة 1967).
ـ منير الحمش، التجارة الدولية والبلدان النامية (منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1979).
اترك تعليقاً