بحث قانوني ونظرات اقتصادية في أسباب تحريم الشريعة للربا

اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى في التشريع، أن لا يخالف صريح المنقول صريح المعقول؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يمكنه إدراك المنقول إلا إذا أدرك عقله ذلك، وهذا ما يميز الخطاب الإلهي عن غيره، وهنا يتأطر دور الباحثين في الدراسات الإسلامية، وذلك عن طريق السعي للبحث عن الحكمة من التشريع في المسألة المراد بحثها، وبين يدينا مسألة مهمة جدًّا، ألا وهي الربا، فالإسلام شدد في تحريم الربا وغلظ في عقوبته، لذلك كان علينا كباحثين في الاقتصاد الإسلامي بيان السبب المعقول من هذا التحريم والتغليظ، عن طريق البحث عن الحكمة الاقتصادية لتحريم الربا، وأثر ذلك على المتغيرات الاقتصادية الكلية.

وإذا كانت القوانين الوضعية في العالم أجمع، والمأخوذة أساسًا من قوانين غربية في البلاد الأوروبية المسيحية، تبيح التعامل بالربا، فإننا في هذا المقال نثبت خطأ هذا التوجه الاقتصادي، نسأل الله التوفيق والسداد في مبتغانا.

أولًا ـ الربا والنقود:

إن من أعظم الأشياء التي قامت البشرية بابتكارها هي النقود بديلًا عن نظام المقايضة، فأصبحت بذلك النقود معيارًا للقيم وأداة للحساب والمبادلات وإبراء الذمم، لكن من غير المنطقي أن يتم تبادل النقود في المجتمع دون أن ينتقل بواسطتها سلع وخدمات، وخروج النقود عن وظائفها الأساسية بجعلها محلًا للمتاجرة كما في الربا، وذلك معناه تعطيل لهذه النقود وتضييق المبادلات الحقيقية في المجتمع، وما ينتج عن ذلك من نقص الإنتاج وزيادة البطالة وانتشار المعاملات الوهمية غير الحقيقية.

يقول “موريس آليه”، عالم اقتصادي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: (إن آلية الائتمان ـ أي التمويل الربوي ـ تؤدي بصورة جوهرية إلى خلق وسائل دفع من لا شيء؛ ذلك لأن صاحب الوديعة في أي مصرف من المصارف يعتبر وديعته رصيدًا نقديًّا متاحًا تحت تصرفه، في حين أن هذا المصرف قد أقرض معظم هذه الوديعة، الذي إذا ما أُعيد إيداعه في مصرف آخر أو لم يعد إيداعه، اعتبر رصيدًا نقديًّا متاحًا تحت تصرف صاحبه، فكل عملية ائتمان ترافقها إذًا عملية مضاعفة للنقود).

إن هذا القول يجسد لنا الأثر البالغ الذي يولده التمويل الربوي على النقود، التي تسعى كل السياسات الاقتصادية إلى الحفاظ على استقرارها وعلى تأديتها لوظائفها الأساسية بشكل سليم.

ثانيًا ـ الربا والاستثمار والادخار:

تسعى كل الأنظمة الاقتصادية إلى تحقيق التعادل الدائم بين الادخار والاستثمار كشرط لضمان مستوى معين من الدخل، ولتعبئة الموارد النقدية ذات الطاقة العالية للفعالية الاقتصادية، ويعتقد الاقتصاديون أن ذلك يصطدم بضعف الحافز للاستثمار بسبب ضيق فرص الاستثمارات الجديدة، وهو بلغة الاقتصاد يؤدي إلى انخفاض الكفاءة الحدية المتوقعة للاستثمارات الجديدة “معدل العائد”، ولما كان شرط توازن الاستثمار هو تعادل الكفاءة الحدية لرأس المال مع سعر الفائدة، فإن اتجاه معدل الكفاءة الحدية سوف يؤول إلى الانخفاض، وهذا بدوره يقوم بإحداث فجوة مع الزمن بين الادخار والاستثمار، من جهة أخرى يدفع التعامل الربوي الناس إلى التقتير وإمساك المال، وعدم إنفاقه على شراء المنتجات التي يعرضها التجار في الأسواق؛ مما يعرض الاقتصاد لأزمات قصور الاستهلاك، لأن المال هنا يبقى دُوَلة بين الأغنياء.

ثالثًا ـ الربا والإنتاج:

من المسلم به أن من مصلحة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وتجارة وصناعة، أن يكون المشتركون فيها لهم رغبات وأهداف ومصالح متآلفة متحدة، تتجه إلى ترقية هذه الأنشطة ـ أي حافز الملكية ـ وذلك لا يتم إلا باشتراك جميع أطراف النشاط الواحد في اقتسام عائد هذا النشاط من الربح أو الخسارة؛ حتى يتسنى للجميع جلب الربح وتجنب الخسارة.

لكن التبادل الربوي يتيح لأصحاب الأموال أن يستغلوا ثرواتهم في هذه الأنشطة الاقتصادية لا كشركاء في الربح والخسارة، وإنما من حيث هم دائنون لهذه الأنشطة، حيث يحصلون على الربا من خلال قروضهم دوريًّا وبشكل منتظم، وهنا لا يهمه المرابي هل ربح المشروع أم لا؟ ولا يهمه ترقية مستوى الإنتاج أو تحسينه في المشروع؛ وهذا بدوره يقلل من الكفاءة الفنية التي تعتمد بالدرجة الأولى على العنصر البشري، فبدلًا أن يتم التعاون على أساس المشاركة والاهتمام بموضوع المشروع وجدواه وكيفية تضافر الجهود لكي يعمل بطريقة تمتاز بالكفاءة، يكون التفكير بالنسبة للمقرض في كيفية حصوله على العائد الثابت، والمقترض في كيفية رد هذا القرض بأي طريقة سواءً ربح المشروع أو خسر.

رابعًا ـ الربا وعدالة التوزيع:

إن التمويل الربوي الذي يقوم به الجهاز المصرفي اليوم يعني حصول المصرف على أصل الدين زائد الفوائد الثابتة، وهي تثبت محاسبيًّا كديون على الشركة المقترضة، ولا تتأثر قيمة القرض زائد الفوائد بالأرباح الناشئة عنها؛ سواءً التشغيلية أو الرأسمالية، والمنطق هنا يقول: أن هذا القرض قد ساهم في الحصول على هذه الأرباح بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا بحد ذاته يعتبر ظلمًا للمصرف، فبدلًا أن يُعطى نصيبه الحقيقي من الناتج الذي ساهم فيه، يُعطى مبلغًا مقطوعًا بغض النظر عن نتيجة المشروع؛ سواءً ربحًا أو خسارة، وفي حالة الخسارة يكون الظلم على المقترض، الذي بناءً على علاقة المدين بالدائن سوف يلتزم بسداد القرض مع فوائده، وفي هذه الحال سوف تكون خسارته خسارتين، خسارة المشروع والخسارة الناتجة عن إلزامية تسديد الدين، وفي كلا الحالين ـ الربح والخسارة ـ لا تتحقق عدالة التوزيع؛ سواءً للمصرف الربوي أو المقترض.

خامسًا ـ الربا والمالية العامة:

إن من سمات الموازنات العامة في الدول النامية، وخصوصًا العربية والإسلامية، أنها تقوم على أهرامات هائلة من الديون، يعتمد بعضها على بعض، و المصدر الرئيس لتمويل العجوزات في الموازنة العامة لهذه الدول هو الاقتراض الخارجي بفائدة، وهذا بحد ذاته له آثار اقتصادية سيئة على الاقتصاد، منها انخفاض قيمة العملة للدولة المقترضة؛ بسبب عدم الثقة في أداء المالية العامة لتلبية الاحتياجات ذاتيًّا، ومنها التقبل الغير مشروط لشروط وإملاءات الدول المقرضة الاقتصادية والتي تخدم مصالحهم، وهذا يمكن إدراكه باستقراء كثير من الحالات الواقعية التي يفرضها صندوق النقد الدولي على بلدان الدول النامية المدينة لصالح الدول الدائنة.

الخاتمة:

يتبين مما تقدم بأن الربا له آثار جسيمة على الاقتصاد تطال كل متغيراته، وهذا ما يجب أن يدركه المسلمون بوجوب ومنطقية تجنب التعامل الربوي التزامًا بالمنقول من الشريعة، وإدراكًا للمعقول؛ لأن في ذلك درء مفاسد كثيرة وجلب مصالح واقعية وملموسة، والله الموفق إلى سواء السبيل