(اثبات المسؤولية الجنائية عن الأخطاء الطبية)
تمهيد
لمهنة الطب قدسية لا حد لها، فهي مهنة علمية، إنسانية وأخلاقية، تتطلب فيمن يمارسها التمكن العلمي والفني، وأن يكون رحيماً بالناس قادراً على بذل أقصى ما عنده لرفع المعاناة عنهم. ومن مقتضيات ممارسة هذه المهنة أن يتمتع الطبيب بقدر كبير من الحرية والاطمئنان بما يمكنه من مباشرة عمله بثبات وثقة،
فيمهد له ذلك سبيل اكتساب الخبرة وزيادة المهارة. وحياة الإنسان سواء كان سليماً أو مريضاً، وسلامة بدنه تعد من أهم الحقوق التي حرصت التشريعات المختلفة على حمايتها، بتحديد عقوبات زاجرة لكل من اعتدى عليها بقصد أو بخطأ. وعليه فإن علاقة الطبيب بالمريض هي علاقة إنسانية وقانونية، توجب على الطبيب بذل العناية اللازمة لحفظ حياة المريض وسلامة جسمه، وقوام هذه العناية هي تلك الجهود الصادقة المخلصة، المحفوفة باليقظة والانتباه، التي يجب أن تكون متفقة مع الأصول والقواعد العلمية الثابتة.
أولا: مقتضيات إباحة العمل الطبي
تضمنت قوانين العقوبات على اختلاف مشاربها نصوصاً تقتضي معاقبة كل شخص ارتكب فعلاً عن عمد أو خطأ وأدى إلى وفاة شخص أو إلحاق أذى بدني به أيا كانت درجة جسامته. ولا يجادل أحد في أن الطبيب يمارس أثناء قيامه بعمله بعض الأعمال التي لو وضعت تحت مقياس قانون العقوبات لاعتبرت جرائم، ومع ذلك لا يسأل الطبيب جنائياً.
ولقد تعددت الآراء التي قيل بها في أساس إباحة العمل الطبي والجراحي، والاتجاه الراجح فقهاً وقضاء يسند إباحة الأعمال الطبية إلى الرخصة المخولة للأطباء قانوناً مزاولة مهنة الطب، وأن الأعمال الطبية تستهدف المحافظة على الجسم ومصلحته في أن يسير سيراً عادياً طبيعياً، فضلاً عن أن هذه الأعمال يجريها الطبيب على جسد مريضه بموافقته ورضائه. ولقد عبر المشرع الإماراتي عن ذلك كله بقوله في نص المادة 53/2 عقوبات اتحادي: “لا جريمة إذا وقع الفعل بنية سليمة استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون، وفي نطاق هذا الحق”.
كما أن غالبية التشريعات تحرص على النص عليه صراحة منعا لأى لبس قد يقع فى الأذهان . ومن تلك التشريعات قانون العقوبات المصرى الذى نص فى المادة 60 عقوبات ( 206 ) على ما يأتى : ” لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة
ويعتبر استعمالاً للحق:
– الجراحة الطبية وأعمال التطبيب طبقاً للأصول العلمية المتعارف عليها في المهن الطبية المرخص بها متى تمت برضاء المريض أو النائب عنه قانوناً صراحة أو ضمناً، أو كان التدخل الطبي ضرورياً في الحالات العاجلة التي تقتضي ذلك، وعليه فإنه يشترط لاباحة العمل الطبي توافر ما يلي:
1- الترخيص بمزاولة مهنة الطب: إن حصول الطبيب على الترخيص الذي يخوله مزاولة مهنة الطب وفق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القوانين المنظمة لمزاولة مهنة الطب يبيح له مباشرة الأعمال الطبية، ذلك أنه متى اعترف المشرع بمهنة الطب ونظم كيفية مباشرتها، فهو يسمح حتماً بكل الأعمال الضرورية لمباشرتها.
ويجب على الطبيب الحصول على الترخيص قبل مزاولة الأعمال الطبية، وهذا الترخيص قد يكون عاماً شاملاً لجميع أعمال المهنة، وقد يكون خاصاً بمباشرة أعمال معينة، وفي هذه الحالة لا تتوافر الاباحة إلا إذا كان العمل داخلاً في حدود الترخيص المقرر كما هو الحال بالنسبة لطبيب الأسنانة.
2- رضاء المريض: يتطلب المشرع لإباحة الجراحة الطبية وأعمال التطبيب أن تتم برضاء المريض أو النائب عنه قانوناً صراحة أو ضمناً، فلا يجوز أن يرغم الشخص على تحمل المساس بتكامله الجسدي ولو كان ذلك من أجل مصلحته. ويجب الحصول على رضاء المريض قبل البدء في مباشرة العمل الطبي، وبتوافره تنتج الاباحة آثارها بالنسبة لما يحدث من مساس بجسم المريض. ويتعين توافر هذا الرضاء في كافة مراحل العمل الطبي أي من مرحلة التشخيص إلى مرحلة التدخل العلاجي الذي قد يتم بتعاطي الأدوية أو التدخل الجراحي.
ويستطيع الطبيب أن يتجاوز عن الحصول على رضاء المريض ويظل فعله مباحاً إذا كان المريض مصاباً بمرض معد يخشى انتقال عدواه إلى غيره فيتم تطعيمه دون رضائه. وكذلك الحال إذا كان المريض مهدداً بخطر جسيم يقتضي التدخل العلاجي السريع، وكان المريض غير قادر على التعبير عن إرادته ولم يوجد من يرضى نيابة عنه.
ويشترط لصحة رضاء المريض أن يكون حراً ومتبصراً، وأن يصدر عن مريض متمتع بأهلية إصداره بأن يكون بالغاً رشيداً متمتعاً بكامل قواه العقلية وفي حالة صحية تسمح له بإبداء ذلك الرضاء. ولما كان الرضاء موقفاً إرادياً كامناً في النفس، فإن المريض يعبر عنه صراحة بالكلام أو الإشارة أو الكتابة أو ضمناً.
3- قصد العلاج: يجب لاباحة العمل الطبي أن تتجه إرادة الطبيب إلى العلاج لا إلى غاية أخرى، أي أن يكون غرضه مما يقوم به من أعمال مهنته الوصول إلى علاج المريض بتخليصه من الآلام التي يكابدها أو التخفيف من حدتها. فإذا قصد الطبيب من عمله تحقيق غرض آخر غير العلاج فإنه يسأل جنائياً عن نتائج فعله، كمن يجري عملية جراحية يعلم عدم جدواها سلفاً، لكنه يقدم على إجرائها إما بدافع الحقد على المريض أو بغية استكمال بحث له.
ويتضح مما تقدم أن إباحة الأعمال التي يأتيها الطبيب تحقيقاً للغرض الذي من أجله شرعت هذه المهنة يقتضي توافر الشروط السالفة الذكر بحيث لو انعدم أحدها أصبح عمل الطبيب غير مشروع فيسأل عنه جنائياً.
وفي الإمارات العربية المتحدة وبسبب حداثة عهدها واستفادتها من الخبرات السابقة فقد صدر القانون الاتحادي رقم (7) لسنة 1975م في شأن مزاولة مهنة الطب البشري، وأرسى قواعد تحدد واجبات الطبيب ومسؤوليته ( الباب الثالث، المواد من 12 إلى 26). ثم جاء القانون الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م في شأن قانون العقوبات وكرّس مبادئ المسؤولية الطبية على النحو الذي سنراه في محلّه من هذا البحث. إن الخطأ الطبي هو جوهر المسؤولية الطبية غير العمدية وأساسها الذي لا تقوم إلا به، وهو الذي يرتب النتيجة التي يجرمها القانون، وعليه فسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلب أول نتناول فيه أركان المسؤولية الطبية غير العمدية، ومطلب ثان نتعرض فيه لإثباتها.
المطلب الأول
أركان المسؤولية عن الأخطاء الطبية
سنقسم هذا المطلب إلى عدد من الفروع نتعرض في كل واحد منها لركن من أركان المسؤولية موضوع الدراسة.
*الفرع الأول: الخطأ الطبي
*أولاً: ماهية الخطأ الطبي:
لم يعرف المشرع الإماراتي الخطأ في المادة (38) فقرة (2) عقوبات اتحادي، بل اكتفى بذكر صوره فقط. والراجح فقهاً أن الخطأ هو “إخلال الجاني عند تصرفه الإرادي بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها المشرع على كافة الأفراد فيما يباشرونه من أفعال، حرصاً على الحقوق والمصالح التي يحميها القانون، وعدم حيلولته تبعاً لذلك دون إفضاء سلوكه لإحداث النتيجة المعاقب عليها”.
وعليه فإن الخطأ عموماً يتوافر إذا تصرف الشخص دون التقيد بواجبات الحيطة والحذر التي يتقيد بها الأفراد فيما يباشرونه من أفعال، حرصاً على الحقوق التي يحميها القانون، وعدم حيلولته تبعاً لذلك دون تحقق النتيجة المعاقب عليها قانوناً كأثر لفعله، إما لاعتقاده أنها لن تحدث، أو عدم توقعه هذه النتيجة بينما كان من واجبه وفي استطاعته توقعها.
وهذا المدلول ينطبق على الخطأ الطبي أيضاً، والذي يتوافر إذا قام الطبيب بمباشرة مهنته على نحو لا يتفق مع الواجبات التي تقتضيها ممارسة المهنة، وكذلك القواعد العامة للحيطة والحذر التي يتقيد بها عامة الناس، فتترتب على مسلكه نتائج ضارة كان يمكن لطبيب معتاد تفاديها. ومن أمثلة ذلك تصرف الطبيب على نحو يخالف الأصول العلمية والفنية المقررة والثابتة في مهنة الطب.
ومن الثابت فقهاً وقضاء أن القواعد والأصول الطبية هي تلك المبادئ والقواعد الأساسية الثابتة والمستقرة نظرياً وعملياً بين أهل مهنة الطب، بحيث لم تعد محلاً للجدل والمناقشة بينهم. غير أن هذا لا يعني أن الطبيب يلتزم بتطبيق الأصول العلمية والفنية كما يطبقها غيره من الأطباء، بل من حق الطبيب أن يُترك له قدر من الحرية والاستقلال من حيث اختيار الطريقة التي يرى أنها أصلح من غيرها في علاج مريضه، مادام أنه قد التزم في اختياره بالثابت علمياً وفنياً في مهنة الطب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يجوز للطبيب في ظل الظروف الاستثنائية الخروج عن القواعد والأصول العلمية والفنية الطبية، تطبيقاً للقواعد العامة في امتناع المسؤولية الجنائية إذا توافرت حالة الضرورة، وفقاً لما تحدده المادة (64) فقرة (1) عقوبات اتحادي، كما لو كان هناك خطر جسيم يهدد حياة المريض أو صحته، فلم يكن أمام الطبيب من سبيل لدفعه غير الفعل الذي أتاه، والذي خرج فيه عن أصول مهنته، فتمتنع مسؤوليته عندئذ.
وعلى ذلك فإن القاضي الجنائي لا يسأل الطبيب إلا عن تلك المخالفات الخطيرة للنصوص التي يطبقها، فالخطأ الطبي الجنائي هو الخطأ الفني أو المادي الذي كان بإمكان الطبيب المعتاد الحذر اليقظ تفاديه.
وإن مساءلة الطبيب عن أخطائه الطبية قد ثبت في عدد من الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم كافه ومنها هذا الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا، نسوق منها في هذا الخصوص قولها: “…. الأعراض المرضية والعاهات والإعاقة التي حدثت للطفل…. يرجع سببها إلى استمرار ارتفاع نسبة الصفراء بالدم ولا يوجد لها مبرر آخر، وتقع مسؤولية التأخير والإهمال في علاج الطفل المذكور على الطبيبات المناوبات بقسم الولادة واللاتي كن يناظرن الطفل من تاريخ بدء ٍظهور الصفراء…. وهكذا يتضح جلياً أن الطبيبات أي المطعون ضدهن قد خالفن واجباتهن الإنسانية والمهنية بما أدى إلى تفاقم حالة الطفل المرضية…. وإن احتماءهن بعملهن تحت إشراف الاستشاري الذي وقعت إدانته في الأصل لا يقيهن من تحمل مسؤولياتهن نتيجة أخطائهن الشخصية الصادرة عنهن والتي يجب عليهن أن يحاسبن عليها بشكل ذاتي وفقاً لمقتضيات المنطق والقانون….”.
وسائل إثبات الخطأ الطبي
الأصل أن إثبات الخطأ الطبي جائز بكافة طرق الإثبات بما فيها الخبرة وشهادة الشهود والقرائن القضائية والكتابة)1(، حيث يقع على عاتق المتضرر إثبات خطأ الطبيب وهذا ممكن بالاعتماد على كل وسائل الإثبات.
ويتحقق القاضي من وجود خطأ طبي أكيد ارتكبه الطبيب عن رعونة وعدم تبصر فمن الضروري أن يكون الخطأ ثابتا ثبوتا قطعيا أكيدا وليس مجرد تخمين، لذا يجب أن يستند الإثبات إلى وقائع دقيقة وليس إلى مجرد معطيات يمكن إثبات عكسها.
غير أن طرق إثبات الأخطاء الطبية تختلف باختلاف طبيعتها من حيث كونها، أخطاء ذات طابع فني أو أخطاء متعلقة بالإنسانية الطبية.
بالنسبة للأخطاء المتعلقة بالإنسانية الطبية فيمكن اعتماد كل وسائل الإثبات القانونية
الممكنة لإثباتها بما في ذلك القرائن وشهادة الشهود، كما يكون للقاضي الدور الإيجابي في إثبات هذه الأخطاء فمنها ما يمكنه اكتشافها وفقا لثقافته العامة كالأخطاء العادية للطبيب، كما يلعب دور مهم في الأخطاء المهنية، وذلك بالرجوع إلى التزامات الطبيب المنصوص
عليها في القانون ومحاولة قياس سلوكه مع هذه الالتزامات.
أما الأخطاء الطبية ذات طابع فني، فإن القاضي يكون ملزما بالاعتماد على الخبرة
باعتبارها وسيلة الإثبات الوحيدة الناجعة لحل المسائل الفنية المطروحة أمامه ويبقى دوره منحصرا في الأخذ أو عدم الأخذ بتقرير الخبرة.
ـــــــــــــــ )1( علي عصام غصن، الخطأ الطبي…، مرجع سابق، ص 160. )2( د/ عاطف النقيب، المسؤولية المدنية …، مرجع سابق، ص 135.
المطلب الثانى
الخبره باعتبارها احد وسائل اثبات الخطأ الطبى امام المحاكم الجنائيه
لا يستطيع القاضي بسبب عدم المعرفة الكافية لدية بالمسائل الطبية ان يتصدى مباشرة لمناقشة هذه المسائل وان يقدر بنفسة خطأ الطبيب بهذا المجال، لذلك على القاضي ان يتوجة إلى المختصين من الخبراء بين اهل الطب من اجل استيضاح الامر وبالتالي القاء الضوء على سلوك الطبيب المتهم ان كان يتفق مع سلوك الطبيب الوسط الحريص في مهنته، وهذا يعني ان اهل الخبرة هم الذين سيقدمون وجهة نظرهم حول مسألة السلوك والحذر الذي كان يجب ان يقدمة الطبيب.
واذا كان الخبير يقوم بمساعدة القاضي باستنباط الخطأ في المجال الطبي، سواء في المسائل التطبيقية ام في الاخلاق الطبية، الا ان القاضي يستقل في التكيف القانوني بالسلوك الفني للطبيب وهو الذي يقوم بتقدير رأي الخبير وبالنتيجة الاخذ به او عدم الاخذ به .
ولكي نستطيع الوقوف على سلطة المحكمة في تقدير المسؤولية الطبية الجنائيه لا بد من الوقوف على دور الخبرة في اثبات الخطأ الطبي ومدى حرية القاضي في تقدير تقرير الخبرة.
أولا: دور الخبرة في اثبات الخطأ الطبي الاصل ان القاضي له ان يتحرى الوقائع الفنية وله ان يستعمل جميع الوسائل المشروعة لكي يتحقق من عناصر المسؤولية المدنية، ولاستكمال قناعتة له ان يلجأ إلى اهل الخبرة في المسائل الفنية سواء كانت طبية او هندسية او غير ذلك، وان كان له اللجوء إلى الخبرة في هذه المسائل، الا انه لا يجوز له ان يلجأ إلى اهل الخبرة في المسائل القانونية والتي هي من صميم عمله، وبالتالي فان الطبيعة الفنية للمسألة او للواقعة هي التي تبرر مبدأ الخبرة وتضع حدودة القانونية، فالخبير فني يستدعي بصفتة هذه ليكون مساعدا للقضاء.
والخبرة هي تكليف شخص من قبل المحكمة لرؤية النزاع والادلاء برأية الفني، من خلال تقرير مقدم إلى المحكمة، وذلك عندما يكون موضوع النزاع متعلق بالمسائل الفنية، التي لا يستطيع القاضي ان يفصل بها دون اللجوء إلى خبير، لذلك فان المحاكم تلجأ إلى تكليف خبير بفحص موضوع النزاع وابداء الرأي فية وتحديد المسائل الفنية فية، لكي يصار فيما بعد إلى تطبيق القانون على النزاع المعروض، بعد ان تكون الجوانب الفنية واضحة بما يريح ضمير المحكمة ويحقق العدالة، لذلك فان الخبرة تتناول المسائل العلمية والفنية للفصل في الدعوى، ولا تعني ان الخبير يقوم بالفصل في النزاع بل يبقى ذلك من عمل المحكمة لا بل ان المحاكم غير ملزمة برأي الخبراء، ولهذا يوصف رأي الخبير بانه رأي استشاري (استئناسي) .
ان اللجوء إلى الخبرة لتحديد ما اذا كان سلوك الطبيب يشكل خطأ ام لا هو امر تقتضية طبيعة المسائل الفنية في المجال الطبي، مما يحتم على القاضي ان يستعين باهل الخبرة المتخصصين فنيا في الحقل الطبي، وهم بهذه الصفة يصبحون عون للقضاء.
هذا وقد استقرت محكمة النقض المصرية والفرنسية على ان مهمة الخبير تقتصر على ابداء الرأي في المسائل الفنية التي يصعب على القاضي استقصائها بنفسة .
ان انتقال تقدير الوقائع من المجال العلمي إلى المجال القانوني يكون صعبا، فلكي تكون الخبرة وسيلة قضائية مناسبة ينبغي انتقال التقدير من المجال العلمي إلى المجال القانوني، مثل هذا الانتقال لا يتم الا بتقرير طبي مستمد من تقرير الخبير، وهنا تكمن الصعوبة ويخشي ان ينزلق في ذلك امهر القضاة وبكامل حسن النية.
وكثيرا ما تختلط النواحي الفنية والنواحي الطبية، فيعد كل ما هو فني مسألة طبية، وهذا الخلط يساهم بدورة في زيادة غموض فكرة الخبرة الطبية، فاذا كانت الخبرة الطبية ضرورية في بعض الاحيان فانها ليست ضرورية في احيان اخرى، ومع ذلك يلجأ القضاه اليها، وهذا ما يفسر اتجاه القضاء في التوسع في مهمة الخبير، والاستعانة بة دون ضرورة قانونية تحتم ذلك، ومثل هذا التفويض من قبل القاضي للخبير، من شأنة ان يؤدي نسبة صفة قانونية للخبير، وهذا امر منتقد ذلك ان الخبرة يجب الا تتدخل الا كتكملة قانونية لخبرة القاضي، وفي المجال الذي يجهلة.
ومما يزيد الامر سوءا انه يحدث كثيرا ان يتوسع الخبير في نطاق مهمتة ويعطي تقريرا قانونيا للموقف وهذا لا يدخل في تقدير اختصاصة . من المهم ان يجتهد القاضي في ان يحدد دون غموض مهمة الخبير في المجال الفني، وان يحتفظ صراحة في تقدير وتكيف ما قد يزوده بة الخبير من عناصر، ويلاحظ ان الحصول على تقدير موضوعي من الخبير تعترضة في الواقع صعوبتان : الاولى موضوعية، وثانية شخصية.
من ناحية الاولى: ان مهمة الخبير مهمة خطيرة ودقيقة، فاذا كان يتعين علية من الناحية العلمية المجردة احترام التحقيق العلمي المحايد الذي يقوم به للبحث عن سبب الواقعة، فان ذلك لا يمنع من قيام ذلك الخطر في المجال الطبي فيما يتعلق بالناحية الفنية للخبرة الطبية، وليس مؤكدا بصفة مطلقة ان الخبير الذي يقوم بمهنتة بالكامل يستطيع ان يقدر بدقة الموقف الذي وجد فية الطبيب محل المسألة، والذي كان يمارس عملة في ظروف واقعية مختلفة، والصعوبة التي تكمن امام الخبير هي الاختلاف بين المعطيات المجردة والحقيقة الواقعية الملموسة.
اما من الناحية الثانية: تعاني قيمة الخبرة الطبية من احتمال اهتزاز الثقة في الخبراء بسبب وجود تضامن مهني يمكن ان يترتب عليه نوع من التسامح مع الزملاء الاطباء محل المسألة.
ومما لا شك فية انه اذا ثبت ذلك فان الخبير يدان اشد الادانة اذ يعتبر ذلك قصورا بشرف ونزاهة المهنة، لذلك نجد في غالب الامر ان الكثير من الخبراء الاطباء لا يقومون به>ه المهمة بشرف وموضوعية، ويجب على القاضي في الحالات التي يشعر فيها ان الخبير يريد تغطية زميلة وابعادة عن المسألة الجنائيه يجب عليه الا ياخذ بهذه الخبرة ويقصيها جانبا، وقد يستخلص هذا من انعكاس تلك الرغبة على تقرير الخبير بحيث يظهر عدم ادراك الخبير للمقتضيات الخاصة لمهمتة عندما يتجة لتقديم تقرير قانوني وهو ما لا يدخل اصلا في نطاق هذه المهمة وهذا نوع من المحاباة والتحايل الذي لا يجوز، والذي يحاول من خلاله القفز عن الجوانب الفنية لتقديم تقرير قانوني.
نستخلص مما سبق ان الخبير يجب الا يتعرض للنواحي القانونية بل يجب ان يقتصر تقريره على تقرير النواحي الفنية، وان امكن ان يوضح الشك في وجود الرابطة السببية بين فعل الطبيب محل المسألة والحادثة، فانة لا يكون له ان يقترح تحديدا للمسؤولية ولا ان يوصي بحدوث ضرر بسيط بغرض الوصول إلى تخفيض العقوبه او التعويض المفروض.
ثانيا: حرية القاضي في تقدير تقرير الخبير سبق لنا وان أوضحنا ان عمل الخبير قد تصاحبة بعض الاخطار لعدم التزام الخبير بمعيار المعطيات العلمية والقواعد المنظمة للممارسة الطبية وقواعد الاخلاق الطبية عند وضعه للتقرير الذي يقدمة إلى القاضي كخبره في المجال الطبي. ومن اجل التغلب على هذه الصعوبات، فلا يجب ان يتردد القاضي في حرية واستخدام وتأكيد حرية التقدير واجراء الموازنة الدقيقة، التي تعترف له بها النصوص القانونية في مواجهة اراء الخبراء، حتى يستطيع استخلاص خطأ الطبيب بطريقة موضوعية ومجردة. في هذا النطاق وحيث لا يوجد ما يلزم القاضي ان يستمد قناعتة من شيء محدد، ولو كان خبرة رسمية، ثم يسعى هو نفسة للحصول عليها مع عدم اختصاصة بالنواحي الفنية، قد يؤدي إلى شيء من الغموض .
فقد وجدت بعض الاحكام القضائية الذي رفض القضاة فيها الاخذ بما ورد في تقارير الخبراء وحكموا بعكس ما خلصت الية هذه التقارير من نتائج فنية، وعلى العكس من ذلك هناك احكام تلتزم بالرأي الوارد في تقارير الخبراء . ومما لا شك فية انه عندما يرفض القاضي ما انتهي الية الخبير في تقريره، بالنظر إلى ما يحيط بالقاضي من تبريرات متشابكة فانة يخاطر بان يخلق موقفا قد يوصف بة بالتطرف، بذلك فان كان من سلطة القاضي طرح ما ورد في تقرير الخبير الفني، والحكم طبقا لما يقتنع انه محقق للعدالة فان ذلك لن يكون يسيرا عليه مالم يقدم تبريرا مقنعا له.
وان كان من المهم جدا من ناحية اولي ان يضع القاضي نصب عينية مواجهة التضامن المهني المحتمل بين الخبير والطبيب المدعى عليه وان يكون له بالمرصاد، فالطب كمهنة تعد من أكثر المهن التصاقاً في حياة الافراد، لذلك يجب ادراك كل ما يلزم المريض سواء من الناحية الفنية البحتة او من الناحية الانسانية التي يجب ان تبسط جناحيها على العمل الطبي، فالفن والانسانية لا يجوز الفصل بينهما في هذا المجال.
وخلاصة القول فانه اذا كان عبء اثبات خطأ الطبيب يقع على عاتق المضرور المجنى عليه متى كان التزام الطبيب ببذل عناية فيقع على عاتق المجنى عليه ان يقدم الادلة التي تبرهن على انحراف الطبيب عن السلوك الوسط الذي يسلكة طبيب من نفس مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية، ويخضع تقرير هذه الادلة لسلطة قاضي الموضوع الذي يستطيع ان يلجأ إلى الخبرة الفنية في المسائل الدقيقة ويظل محتفظا بتقدير ما يرد بتقدير الخبراء ويختلف دور القاضي في تقديرة للادلة، اذا كان الالتزام الملقى على عاتق الطبيب هو التزام بتحقيق نتيجة.
ثالثا: المهام الملقاة على عاتق الخبير يمكن القول ان خطأ الطبيب في ممارسة عملة الفني يمر بمرحلتين:
الاولى تتمثل في تحديد مدى مطابقة هذا العمل للقواعد الفنية للمهنة والاصول العلمية المستقرة، وهذا العمل لا يستطيع ان يقوم بة الاشخص امتهن مهنة الطب،
واما المرحلة الثانية فهي تكمن في عرض نتيجة المرحلة الاولى على المعيار القانوني للخطأ المهني وهذا عمل قانوني يقوم بة قاضي الموضوع.
وحتى يستطيع الخبير ان يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقة فلا بد من اتباع الاسس القانونية الصحيحة والتي يقع تحديد بعضها على المحكمة (قاضي الموضوع) التي كلفت الخبير للقيام بهذه المهمة، فيمكن القول انه يقع على عاتق المحكمة بالنسبة للخبرة المهام التالية:
1. على المحكمة ان تحدد مهمة الخبير بدقة، فيجب على الخبير ان يجيب بوضوح تام عن كل ما يوجة اليه من اسئلة، وان يبحث في الاسباب التي ادت إلى الحادث، مع بيان ما اذا كان يمكن تجنب وقوع هذا الحادث تبعا للمعطيات العلمية المستقرة، ومدى ما ارتكبة الطبيب من اهمال ما كان ليرتكبة طبيب يقظ احيط بنفس الظروف الخارجية التي احاطت بالطبيب المسؤول، وهذا ما اكدت عليه محكمة التمييز في احكامها .
2. لا يجوز للمحكمة ان تحدد للخبير الوسائل التي يستطيع الاعتماد عليها، بل يجب اعطاء الخبير قدرا من الحرية والاستقلالية في تقرير الخبرة، وبالنسبة للخبراء التي تنتخبهم المحكمة فتقع عليهم الواجبات التالية .
أ- دراسة حالة المريض وتتبع مراحل تطور المرض والعوامل التي ادت الية، وهل الضرر ناتج عن شدة المرض ام إلى العلاج الذي وصفة الطبيب، ام إلى قوة استهداف المريض؟
ب- على الخبير ان يحدد في تقريره ما اذا كان الطبيب قد ارتكب خطأ ام لا، فاذا وجد ان سلوك الطبيب فية مخالفة للاصول المستقرة فيعتبر ذلك خطأ ويتوجب علية تقدير الاضرار التي لحقت بالمريض.
ج- على الخبيران يتجنب الاراء العلمية التي ما زالت محلا للجدل العلمي وعلية الابتعاد عن طرح ارائة الشخصية اذا لم تكن متفقة مع الاصول العلمية المستقرة.
د- على الخبير عدم الخوض في المناقشات القانونية الدقيقة، وعلية ان يقتصر في تقريره على بحث الوقائع المتعلقة بسلوك الطبيب وتقديرها من الناحية الطبية.
ه- على الخبيران يتوخى الدقة والوضوح عند كتابة تقريره، وفي حالة اذا لم يستطع الخبير القيام بهذه المهمة، علية ان يطلب من المحكمة اعفائة من هذه المهمة وتعيين خبير آخر. و- على الخبير انجاز المهمة الموكولة الية بشخصة، اذ لا يجوز ان يعهد بهذه المهمة إلى غيره، ومع ذلك له ان يلجأ إلى اهل الفن يستعين بارائهم ويسترشد بمعلوماتهم، وله ان يستعين بمعاونين يعملون تحت اشرافة ومسؤوليتة.
وفي حالة اذا ما قامت المحكمة بتكليف أكثر من خبير للقيام بنفس المهمة، وجب عليهم ان يشتركوا في انجازها ولا يجوز لهم ان يقتسموا المهمة بينهم.
مما تقدم يتضح اهميه الخبره فى اثبات خطا الطبيب وهو ما يسوقنا بالضروري الى محاوله التعرف على ماهيه الخبره الطبيه
المطلب الثالث ماهية الخبرة الطبية
إن بيان ماهية الخبرة تستدعي بيان المقصود بالخبرة الطبية وطبيعتها القانونية، وكذا خصائصها وأنواعها، وكيفية ندب الخبير و ذلك من خلال الفروع التالية.
تعريف الخبرة الطبية وطبيعتها القانونية
أولا : تعريف الخبرة الطبية:
الخبرة لغة هي العلم بالشيء، والخبير هو العالم، ويقال خبرت الأمر أي علمته، وخبرت بالأمر، إذ عرفته على حقيقته)1(، أما اصطلاحا، فلقد عرفت الخبرة بأنها إحدى طرق الإثبات التي تقوم على تقديم دليل الإثبات المادي للقاضي في المسألة الفنية التي تعترضه، ليكون حكمه قائما على الحقيقة، فهي تلك الاستشارة الفنية التي يقدمها الخبير للقاضي في المسائل الفنية التي يطلب رأيه فيها)
وقد عرف المشرع الجزائري الخبرة انطلاقا من الهدف أو الغاية منها، وذلك من خلال
نص المادة125 ت إ م إ حيث تنص ” تهدف الخبرة إلى توضيح واقعة مادية تقنية أو علمية محضة للقاضي “.
ــــــــــــــــــ
)1( د/ مراد محمود الشنيكات، الإثبات بالمعاينة والخبرة في القانون المدني، دراسة مقارنة، دار الثقافة، عمان، 2008، ص 98. )2( سمير عبد السميع الأودن، مسؤولية الطبيب والجراح …، مرجع سابق، ص 90.
تستمد الخبرة أساسها ومصدرها من الشريعة الإسلامية لقوله سبحانه وتعالى “فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون “)1(. عرفها الأستاذ محمود توفيق اسكندر باعتبارها وسيلة من وسائل التحري ، أما الفقه الفرنسي فلقد عرفها على أنها إبداء الرأي في نقطة متنازع فيها تتعلق بالفن الذي يختص فيه الخبير. كما عرفها البعض بأنها الحصول على معلومات فنية في المسائل التي تعرض
على القاضي ولا يستطيع العلم بها، بل أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي في المسائل الفنية بعلمها إذ يجب الرجوع فيها إلى أهل الخبرة، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا الفرنسيه في قرارها الصادر بتاريخ 2003/06/24 يتضح مما تقدم ان تعريفات الخبرة تدور عامة حول صفاتها وطبيعتها القانونية، حيث أن جميعها لا تخرج عن اعتبار الخبرة إجراء تحقيقي يقصد به الوصول إلى معلومات فنية يصعب على القاضي فهمها وإدراكها، بحيث تكون الخبرة السبيل الوحيد لإثباتها وتحقيقها.
يمكننا أن نقول أن الخبرة هي الاستشارة الفنية التي يعتمد عليها القاضي لحل
المسائل الفنية المطروحة أمامه، وهذا لعدم إلمامه بهذه المسائل بحكم عمله وثقافته، وهذا ما دفع بمعظم المشرعين إلى السماح للقضاة باللجوء إلى خبراء بقصد مساعدتهم فنيا.
اترك تعليقاً