بحث قانوني مفصل عن المبادئ المتعلقة بمرتكبي الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي
إن مرتكب الجرائم الدولية الخاضعة للقانون الدولي الجنائي يكون على درجة كبيرة من الخطورة ويستحق العقاب لارتكابه الجرائم التي تنتهك حقوق الإنسان وتمس بالقيم العليا للمجتمع الدولي ، وحتى نضمن تطبيق العقاب على مرتكبي هذه الجرائم فلابد من الالتزام بمبادئ القانون الدولي الجنائي وتطبيقها على مرتكبي هذه الجرائم وهذه المبادئ هي ستة نتكلم عليها في ستة مطالب الأول ، للمسؤولية الجنائية الفردية . والثاني ، لعدم جواز منح العفو لمرتكبي هذه الجرائم . والثالث ، لعدم جواز منح الملجأ لهم . والرابع ، لمبدأ عدم الاعتداد بالحصانة لمرتكبي هذه الجرائم . والخامس ، لمبدأ عدم جواز التذرع بأمر الرئيس للإعفاء من المسؤولية . والسادس ، لمبدأ المحاكمة العادلة لمرتكبي هذه الجرائم .
المطلب الأول
مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية لمرتكبي جرائم انتهاك حقوق الإنسان
لقد كان هناك خلاف حول مدى إمكانية مساءلة الفرد جنائياً على الصعيد الدولي حيث ظهرت ثلاثة اتجاهات فقهية حول هذه المسألة([61]).
الاتجاه الأول : يرى أن الدولة وحدها هي المسؤولة عن الجريمة الدولية تطبيقاً للمفهوم التقليدي القائل بان الدولة هي الشخص الوحيد للقانون الدولي .
الاتجاه الثاني : ينادي بالمسؤولية الجنائية المزدوجة لكل من الدولة والفرد لان الدولة والأفراد الذين يتصرفون باسمها يتحملون المسؤولية الجنائية عن مخالفات القانون الدولي .
الاتجاه الثالث : يذهب إلى القول إن الجرائم الدولية لا يمكن أن ترتكب إلا من قبل شخص طبيعي وبالتالي هو المحل الوحيد للمسؤولية الجنائية .
ويعد الاتجاه الأخير الذي يأخذ بالمسؤولية الدولية الجنائية للشخص الطبيعي هو الاتجاه السائد في الفقه الدولي وفي القانون الدولي الجنائي (إذ انه كما للفرد الحق في حماية كرامته الإنسانية ومصالحه الخاصة على الصعيد الدولي فعليه أن يكون مسؤولاً عن الأعمال التي تتدخل مباشرة في هذه القيم وتهددها)([62]).
وقد جاء في أحكام المحكمة العسكرية لنورمبرغ (إن الأشخاص الطبيعيين وحدهم الذين يرتكبون الجرائم وليس الكائنات النظرية المجردة ولا يمكن كفالة تنفيذ احترام نصوص القانون الدولي إلا بعقاب الأفراد الطبيعيين المرتكبين لهذه الجرائم)([63]). وعندما قامت لجنة القانون الدولي بصياغة أحكام نورمبرغ صاغت مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية على النحو الأتي : (كل شخص يرتكب فعلاً يشكل جريمة حسب القانون الدولي ، يسأل عنه ويوقع عليه العقاب) ، وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول اعترضت على صياغة هذا المبدأ على هذا الشكل([64]). ولكن الاعتراضات لم تأخذ بها لجنة القانون الدولي وجاءت الصياغة على النحو السابق ، وهو ما كان محل تقدير من بقية أعضاء اللجنة لان تبني هذا المبدأ هو إنهاء للمفهوم التقليدي الذي كان يحصر المسؤولية الجنائية بالدول وحدها([65]). وقد كان هناك الكثير من التعليقات التي أبدتها الدول عن طريق مندوبيها في اللجنة وعبرت فيها عن ارتياحها لتبني هذا المبدأ ([66]).
ولكن التطور الحقيقي لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية في نطاق القانون الدولي الجنائي كان في العقد الأخير من القرن العشرين ، على اثر الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وما نجم عنه من ارتكاب جرائم إبادة وضد الإنسانية وجرائم حرب في كل من يوغسلافيا ورواندا ، فكانت هناك ضرورة ملحة لتأكيد هذا المبدأ والعمل به ، وبالفعل تم النص عليه في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا لعام 1993 والمحكمة الدولية لرواندا عام 1994 ، حيث أكد النظام الأساسي للمحكمتين المسؤولية الجنائية الفردية للأشخاص الطبيعيين([67]).
ثم تأكيد المبدأ في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها لعام 1996 ، إذ اعتبر المشروع أن ارتكاب إحدى هذه الجرائم يرتب مسؤولية دولية فردية([68]).
وقد كان التتويج النهائي لهذا المبدأ وتأكيد رسوخه في القانون الدولي الجنائي هو تبنيه من قبل النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية الدائمة ، إذ ورد فيه (إن المحكمة يكون اختصاصها على الأشخاص الطبيعيين)([69]). وان (الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية وعرضة للعقاب وفقاً لهذا النظام الأساسي)([70]).
ولكن رغم تأييدي للرأي القائل إن المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية يتحملها الأفراد الطبيعيون ،إلا انه ينبغي الإجابة عن السؤال الأتي : هل أن تحمل الفرد الطبيعي للمسؤولية الجنائية عن الجرائم في القانون الدولي الجنائي يعني إعفاء الدولة من المسؤولية عنها ؟
ويمكن الرد بالقول ، إن المسؤولية المترتبة على الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي (الجرائم الدولية بطبيعتها) هي مسؤولية دولية (مزدوجة) تتحمل تبعتها كل من الدولة والأشخاص المتهمين بارتكابها والذين يعملون باسمها ولحسابها ، وبذلك تتميز هذه الجرائم عن الجرائم الدولية ذات الطابع الدولي الخاضعة للقانون الجنائي الدولي التي فيها المسؤولية جنائية عادية يتحمل تبعتها الأفراد المتهمون بارتكابها .
إذ انه من غير المعقول أن تتخلص الدولة من تبعة المسؤولية عن الجرائم الدولية وذلك بإلقاء تبعتها على عاتق الأفراد الطبيعيين ، بل إن مسئوليتها الدولية تظل قائمة بجانب المسؤولية الجنائية للأفراد ، (ذلك لان إدخال هؤلاء الأفراد إلى دائرة المساءلة الدولية الجنائية جاءت بسبب جسامة تلك الأفعال الموجهة ضد النظام القانوني الدولي ، وما تحدثه تلك الأفعال من إهدار للقيم العليا وانتهاك للمصالح الإنسانية الجديرة بالحماية الجنائية)([71]).
ويؤكد هذا القول ما توصلت إليه لجنة القانون الدولي من اعتماد (مشروع مسؤولية الدولة عن الأعمال غير المشروعة دولياً) لعام (2001) الذي يمثل تطوراً كبيراً في مجال القانون الدولي الجنائي ، وخاصة فيما يتعلق بمسؤولية الدول عن الجرائم الدولية الخطيرة .
وقد تم الاطلاع عن المشروع من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار (A/Res/56/83) الصادر في 12/1/2001([72]).
إن هذا المشروع يقرر مسؤولية الدول عن كل التصرفات الصادرة عن أجهزتها أو الأشخاص الذين يتصرفون باسمها ولحسابها ولنأخذ على سبيل المثال مسؤولية الدولة التي يرتكبها الأفراد في جهاز القوات المسلحة ، والقضية الأولى التي تنشأ في هذا السياق هي هل أن الدولة مسؤولة عن جميع سلوكيات أفراد قواتها المسلحة التي قد تؤدي إلى ارتكاب جرائم حرب أو ضد الإنسانية أو إبادة جماعية ؟ من خلال الاطلاع على نص المادة (7) من المشروع نجد أنها وسعت من نطاق مسؤولية الدولة عن أعمال قواتها المسلحة بصورة اكبر من ما هو مقرر في المادة (91) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949 والذي اعتبر أن طرف النزاع (… يكون مسؤولاً عن كافة الأعمال التي اقترفها الأشخاص الذين يشكلون جزءً من قواتها المسلحة) بينما نصت المادة (7) من مشروع مسؤولية الدولة عن الأعمال غير الشرعية (إن سلوك أي جهاز لدولة ما … يمكن اعتباره عملاً من أعمال الدولة بموجب القانون الدولي إذا كان الجهاز أو الشخص … يتصرف بهذه الصفة ، حتى إذا تجاوز سلطته أو خالف التعليمات) وبإجراء مقارنة مع المادتين (91) و (7) نلاحظ مدى التوسيع من نطاق مسؤولية الدولة عن ما يرتكبه أفراد قواتها المسلحة من أفعال غير مشروعة ، إذ إن التحليل الدقيق للمادة (7) يوضح أن الدولة مسؤولة عن جميع الأفعال التي يرتكبها أفراد قواتها المسلحة حتى بصفتهم الشخصية مثل السرقة أو الاعتداءات الجنسية التي يمارسها أي جندي في ارض محتلة أثناء فترة الإجازة ، وتبرير المسؤولية المطلقة يستند إلى أن الجنود فئة خاصة من فئات أجهزة الدول تمارس الدولة عليها سيطرة اكبر مما تمارسه على الموظفين الآخرين ، كما انهم يتصرفون باسم الدولة وتحت توجيهاتها ، وهو بصفتهم الشخصية لم يكن بإمكانهم قط الاحتكاك برعايا العدو أو العمل على أرضه([73]).
كما إن تبرير المسؤولية المطلقة للدولة يستند إلى القواعد الآمرة في القانون الدولي الإنساني ، إذ أن قواعد هذا القانون الأساسية هي قواعد آمرة تهدف إلى حماية حقوق الأشخاص المحميين في المنازعات المسلحة ، وعلاوة على ذلك تحمي هذه القواعد في المنازعات المسلحة الدولية وغير الدولية على حد سواء (الحقوق الأساسية للإنسان) وتعد أمثلة تقليدية للقواعد الآمرة ، لذلك فان هذا القانون تتحمل الدولة بمقتضاه المسؤولية عن سلوك أفراد قواتها المسلحة حتى إذا ارتكبوا هذا السلوك بصفتهم الشخصية([74]).
إما عن طبيعة مسؤولية الدولة عن الجرائم الدولية ، فان مسؤولية الدولة في حالة المسؤولية المزدوجة هي مسؤولية مدنية بحيث تتحمل الدولة تبعة العمل غير المشروع وفقاً لقواعد المسؤولية الدولية ، حيث تتحمل مسؤولية الضرر عن الفعل الإجرامي ، في حين أن المسؤولية الجنائية كما قلنا يتحمل تبعتها الفرد الطبيعي الذي قام بارتكاب الفعل الإجرامي([75]).
وتتمثل مسؤولية الدولة المدنية بواجب وقف السلوك غير الشرعي وتقديم التعويضات المالية ، والى ذلك أشار الباب الثاني من مشروع مسؤولية الدول عن الأعمال غير المشروعة دولياً لعام (2001) .
وتجدر الإشارة إلى أن تحمل المسؤولية عن الأعمال غير المشروعة لم يقتصر بموجب هذا المشروع على الدول فقط بل تشمل الحركات التمردية ، ولكن اشترط المشروع في المادة (10) لكي تتحمل هذه الحركات التمردية المسؤولية عن الأعمال غير المشروعة أي الجرائم التي يرتكبها أفراد لحسابها أن تنجح هذه الحركات التمردية في تشكل حكومة جديدة داخل الدولة ، أو حكومة في جزء معين داخل أراضي دولة معينة([76]).
وبذلك تختلف المادة (10) من المشروع عن أحكام القانون الدولي الإنساني الذي يضفي ضمناً على أطراف النزاع المسلح غير الدولي – سواء نجحت أم لم تنجح – الشخصية القانونية الدولية الوظيفية والضرورية لممارسة الحقوق وأداء الالتزامات التي حددتها([77]).
فالمادة (3) المشتركة من اتفاقيات جنيف لعام 1949 كفلت قيام الشخصية القانونية الدولية في حق المتمردين بالحروب الأهلية ، ولو لم يعترف لهم بصفة المحاربين من جانب الحكومة القائمة أو الدول الأخرى ، كما لم تشترط المادة (3) أن يكون للمتمردين في الحرب الأهلية سلطة الرقابة الإقليمية ، أي أن تمارس سلطة فعلية على جزء معين من الدولة ، أما المادة (1) من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 الملحق باتفاقيات جنيف فإنها اشترطت ثلاثة عناصر لازمة لسريان البروتوكول على الحركات التمردية ، والاعتراف لها ضمناً بالشخصية القانونية الدولية اللازمة للوفاء بالالتزامات الواردة في البروتوكول وهذه العناصر هي : أ-عمومية حجم التمرد . ب-خضوع المتمردين لقيادة منظمة . ج-ممارسة الرقابة الإقليمية . أي ممارسة السلطة على جزء من إقليم الدولة([78]).
ويترتب على إقرار قواعد القانون الدولي الإنساني بالشخصية القانونية الدولية للمتمردين في النزاعات المسلحة غير الدولية أي تكون هذه الحركات مسؤولة مسؤولية مدنية إلى جانب المسؤولية الجنائية عن سلوكها الخاص لانتهاكها للقانون الدولي الإنساني إذ ارتكبته قواتها التابعة لها ، (حيث أن جميع المتحاربين بصفتهم متساويين أمام قانون المنازعات المسلحة يخضعون لمبدأ المسؤولية المدنية ، والضحايا والجناة قد ينتمون إلى هذا الطرف أو ذاك)([79]).
بقي أن نشير إلى أن النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية الدائمة أكد مسؤولية الدولة عن الجرائم الدولية بنصها في المادة (25/4) على أن (المسؤولية الجنائية للأفراد لا تؤثر على مسؤولية الدولة وفقاً للقانون الدولي) .
المطلب الثاني
مبدأ عدم جواز منح الملجأ لمرتكبي جرائم انتهاك حقوق الإنسان
الملجأ في اللغة الإنكليزية (Asylum) ويقابلها في الفرنسية (Asile) وهي في الأصل مأخوذة من الكلمة الإغريقية (asylam) والمقصود بها المكان المنيع (inviolable)([95]). أما في اللغة العربية فيقصد به المكان الذي يحتمي به الخائف من خطر قد يهدده كما في قوله تعالى (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولّوا إليه وهم يجمحون)([96]).
وفي القانون الدولي لم يهتم الفقه بتعريفه أو تحديده حتى اصبح في بعض الأحيان من المستحيل معرفة معنى كلمة (ملجأ) دون معرفة سياق الجملة الذي وردت فيه ، وقد فضل عدد من الفقهاء عدم إعطاء تعريف محدد لمصطلح الملجأ واستعملوا تعابير مختلفة لتعطي نفس المعنى (ملجأ – لجوء – التجاء)، وان كان معهد القانون الدولي في دورته عام 1950 قد عرف الملجأ بأنه (الحماية التي تمنحها الدولة في إقليمها أو في مكان أخر يكون تحت سيطرة أحد أجهزتها لشخص جاء يبحث عنه)([97]).
أما اللاجئ (فهو كل شخص الذي بسبب أحداث سياسية فوق أراضي البلد الذي ينتمي إليه، غادر عن طواعية أم لا تلك الأراضي، أو بقي بعيدا عنها ولم يحصل على جنسيه جديدة ولا يتمتع بالحماية الدبلوماسية من قبل أي دولة أخرى)([98]).
وعرفت اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951 اللاجئ بأنه (كل من وجد نتيجة لأحداث وقعت قبل الأول من كانون الثاني 1951 بسبب خوف له ما يبرره من التعريض للأخطار أو بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته، وانتمائه إلى فئة اجتماعية معينة بسبب أراءه السياسية خارج البلاد التي يحمل جنسيتها، ولا يستطيع أو لا يرغب في حماية ذلك البلد بسبب الخوف، أو كل من لاجنسية له وهو خارج البلد أقامته السابقة، ولا يستطيع أو لا يرغب بسبب ذلك الخوف في العودة إلى ذلك البلد)، وتجدر الإشارة إلى انه هناك العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي تناولت وضع اللاجئ وتعريفه إضافة إلى التعريف الوارد في اتفاقية عام 1951، التي انتقدت لكونها حددت اللجوء بفترة زمنية معينة هي قبل الأول من كانون الثاني 1951، لذلك جاءت الاتفاقيات اللاحقة لتوسع من نطاق الحماية الدولية للأشخاص الذين ينطبق عليهم وصف اللاجئ دون تحديد فترة زمنية، ومن أهم هذه الاتفاقيات البروتوكول الخاص باللاجئين لعام 1967 والاتفاقية الأفريقية لعام 1969 والاتفاقية الأوربية لعام 1980 و إعلان دبلن لعام 1990 وإعلان قرطاج الذي جاء بتعريف شامل ودقيق للاجئ حيث عرفت اللاجئين بقولها (الأشخاص الفارين من بلادهم بسبب تهديد حياتهم أو أمنهم أو حريتهم بسبب أعمال العنف أو عدوان خارجي أو نزاعات داخلية، أو خرق عام لحقوق الإنسان، أو أية ظروف أخرى أخلت بشدة بالنظام العام في بلادهم)([99]).
مما سبق نستطيع القول إن مفهوم اللاجئ في القانون الدولي مفهوم عام يشمل كل الأشخاص ، الذين اضطروا نتيجة لحوادث وقعت وهي خارجة عن إرادتهم ، إلى ترك محل إقامتهم ، وان هذه الحوادث قد تكون طبيعية كالزلزال أو أن تكون من صنع الإنسان كالحرب أو الاضطهاد الذي يعني ، قطع العلاقة بين الفرد والسلطة في دولته، وان هذا القطع يعني إن الفرد قد فقد الحماية التي كانت توفرها له السلطة، كما تعني إن هذا الشخص قد يتعرض إلى إجراءات قسرية إذا ما بقي في بلده، وان هذه الإجراءات ينبغي أن تكون في الشدة بحيث تكون مولدة للاضطهاد.([100])، وبعد هذا العرض الموجز لتعريف اللاجئ والملجأ وموقف الاتفاقيات الدولية ، يثور السؤال الأتي : هل أن حق اللجوء المقرر في الاتفاقيات الدولية يمكن منحة لشخص متهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان تشكل جرائم خاضعة للقانون الدولي الجنائي؟قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نوضح أولا أن هناك نوعين من اللجوء ، اللجوء الجماعي وهي الحالة التي تأخذ شكل خروج جماعات تقدر بمئات اوالالوف من الأفراد الذين ينتمون إلى جنسية واحدة هرباً من الاضطهاد أو الكوارث الطبيعية وهنا لامجال للبحث عن مدى انطباق حق اللجوء على شخص متهم بارتكاب جريمة دولية،والذي يهمنا هو النوع الثاني من اللجوء(اللجوء الفردي) لشخص معين أو أشخاص معينين فهنا يمكن البحث حول مدى انطباق هذا النوع من اللجوء على الشخص المتهم بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، فهل يستفاد هذا الشخص من هذا الحق؟
الحقيقة انه ومن خلال ما أشارت إليه الاتفاقيات الدولية السابقة ، وتعاريف بعض الكتاب فانه في غير حالات الكوارث الطبيعية ، فالشخص مؤهلاً لان يكون لاجئاً لا بد من توافر عنصر الإخلال في العلاقة بينه وبين السلطة في بلده الأصلي ، ولكن عدم الاتفاق في الرأي مع السلطة أو مخالفته لها في الرأي ليست كافية ، فلا بد من توافر عنصر المخاطرة في احتمال تعرضه للخطر نتيجة لما هو قائم من أحداث سياسية تعرفه للاضطهاد ، وحتى يتحقق الاضطهاد لا بد من توافر عنصرين أو شرطين: 1- أن العمل أو الأعمال التي تؤدي إلى الاضطهاد ، لا بد وان تكون متخذة من قبل السلطة في الدولة، أو من قبل جهة دون تدخل الدولة لحماية هذا الشخص الذي يشعر بالمضايقة والقلق ، 2- لا بد من أن يكون هذا العمل أو الأعمال تمثل تهديدا قد يقع على حياة الشخص أو على حريته بسبب عرقه أو جنسيته أو دينه أو لكونه ينتمي إلى مجموعة اجتماعية أو نتيجة لآرائه السياسية([101]).
وعند تحقق ذلك يكون الشخص مضطَهداً ويستطيع استخدام حق اللجوء المقرر في الاتفاقيات الدولية ، ولكن هذا الوصف لا ينطبق على المتهم بارتكاب جرائم دولية وانتهاكات حقوق الإنسان ، لان المتهم بارتكاب هذه الانتهاكات هو أصلاً (مُضطهِد) وليس (مضطهَد)، حتى يستفاد من حق اللجوء فهو المرتكب لجرائم انتهكت حقوق أشخاص وحرمهم من حريتهم، فكيف يستفاد من حق اللجوء، كما أن الإقرار له بهذا الحق يعني السماح له بالإفلات من العقاب، ومكافأة على ارتكابه لهذه الجرائم.
لذلك اصبح مبدأ عدم جواز منح الملجأ لشخص متهم بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، من المبادئ الرئيسة للقانون الدولي الجنائي، وتم تأكيده من الكثير من المواثيق والاتفاقيات الدولية([102]).
فالاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951 نصت المادة الأولى الفقرة (و) منها على (لا تنطبق أحكام هذه الاتفاقية على أي شخص تتوفر أسباب جدية للاعتقاد بأنه ، أ-ارتكب جريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، بالمعنى المستخدم في الصكوك الدولية الموضوعة للنص على أحكامها بشأنها).
ثم تأكد عدم جواز المنح في إعلان الجمعية العامة بشان الملجأ الإقليمي ، بموجب قرار الجمعية العامة رقم 2312 في 14/12/1967، إذ أشارت المادة (1) الفقرة (2) في هذا الإعلان إلى انه (لا يجوز الاحتجاج بالحق في التماس ملجأ أو التمتع به لأي شخص تقوم دوافع جدية للظن بارتكاب جريمة ضد السلم أو جريمة ضد الإنسانية، بالمعنى الذي عرفت به هذه الجرائم…)([103]).
وعندما اعتمدت الجمعية العامة (مبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية بموجب قرارها (3074) و (28) في 3/12/1973 ([104]) أكدت في المادة (7) في الإعلان على انه (عملاً بأحكام المادة (1) في إعلان اللجوء الإقليمي، لا يجوز للدول منح ملجأ لأي شخص ، توجد دواع جدية للظن بارتكابه جريمة ضد السلم أو جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية).
كما أشار السيد (جوانيه) في تقريره إلى هذا المبدأ، واعتبر انه (لا يجوز للدول أن توفر مركزاً من هذا القبيل (مركز اللجوء) بما في ذلك (مركز اللجوء الدبلوماسي) للأشخاص الذين توجد أسباب جدية تحمل على الاعتقاد بأنهم ارتكبوا جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي).([105])
ومن خلال النصوص السابقة يمكن استنتاج أمرين :
1- إن عدم جواز منح الملجأ للمتهم بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان، هو التزام دولي يقع على عاتق الدول في المجتمع الدولي، فإذا ما منحت إحدى الدول هذا الحق، لشخص مرتكب هذه الانتهاكات يعني ذلك أنها خرقت التزاماً دولياً، مما يترتب عليها مسؤولية دولية.
2- انه لا يشترط أن تكون الدولة متأكدة من ارتكاب الشخص طالب اللجوء لإحدى الجرائم الخطيرة التي تنتهك حقوق الإنسان، بل إذا ظنت الدولة أو اعتقدت بارتكاب هذه الجرائم، تستطيع حرمانه من حق اللجوء، ولكن السؤال الذي يثار هنا، هل هذا الظن والاعتقاد راجع لتقدير الدولة ، أي لا تستند إلى عوامل أخرى تعزز بها هذا الظن والاعتقاد؟ الواضح من الاتفاقيات والإعلانات والوثائق السابقة أنها مجمعة على أن يكون الظن والاعتقاد يستند إلى (أسباب جدية) أو على حد تعبير هذه الاتفاقيات (دواع أو دوافع جدية) تحمل على الاعتقاد بان الشخص المذكور ارتكب هذه الجرائم، فعلى سبيل المثال اندلاع نزاع مسلح في دولة معينة، على أثره يطلب شخص كان في موقع قيادي في أحد أطراف النزاع، اللجوء إلى دولة مجاورة، فعند رفض الدولة لطلبه يمكن القول أنها استندت إلى أسباب جدية لرفض الطلب، لان هذا الشخص يمكن أن يكون قد ارتكب انتهاكات لحقوق الإنسان، حيث أن النزاعات الداخلية غالبا ما تشهد مثل هذه الانتهاكات.
المطلب الثالث
مبدأ عدم جواز منح العفو لمرتكبي جرائم انتهاك حقوق الإنسان
(منذ بداية البشرية حتى الحقبة المعاصرة وتاريخ الإفلات من العقاب تاريخ صراع دائم ومفارقة عجيبة ، صراع بين الظالم والمظلوم ، بين المجتمع المدني والدولة ، بين الضمير البشري والهمجية)([80]).
من ضمن الوسائل المتبعة لتطبيق (سياسة الإفلات من العقاب) عن الجرائم الدولية الخاضعة للقانون الدولي الجنائي التي تنتهك حقوق الإنسان ، هو منح عفو (عام أو خاص) إلى الأشخاص المتهمين بارتكابها .
والواقع إن فكرة (العفو عن الجرائم الدولية) فكرة ليست حديثة ، بل هي فكرة قديمة ، كان يجري النص عليها عادة في معاهدات الصلح التي تعقب الحروب ، وقد دافع عن هذه الفكرة الفقيه (جروسيوس) وافترض أنها موجودة في كل معاهدة صلح – حتى إذا لم يرد النص عليها صراحة – وفي رأيه أن الصلح يجّب الماضي ويمحوه ، وبالتالي لا يجوز ترك الأحقاد تستمر .. لان الأحقاد إذا تركت فإنها تهيئ لحرب جديدة([81]).
وفي مرحلة لاحقة اصبح العفو عن الجرائم الدولية جزءاً من سياسة الإفلات من العقاب التي سادت عدة مناطق من العالم خلال القرن العشرين ، والتي ساهمت في تشجيع ارتكاب انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان ، وقد كان لذلك دور كبير في زيادة المطالب لمواجهة هذه السياسة وبالفعل تحرك المجتمع الدولي نحو مكافحة هذه الظاهرة ، وكانت المرحلة الأولى عن طريق اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الاقليات التابعة للجنة حقوق الإنسان في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة ، إذ قامت بدراسة هذه الظاهرة من خلال عدة دورات بدءاً من الدورة (38) لعام 1985 حيث قدم السيد (جوانيه) المقرر الخاص المعني بمسألة العفو تقريراً بعنوان (دراسة بشأن قوانين العفو ودورها في حماية حقوق الإنسان وتعزيزها) وانتهاءاً بالدورة (48) عام 1996 حيث طلبت اللجنة من السيد جوانيه أعداد تقرير حول (مسألة إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان السياسية والمدنية من العقاب) بموجب قرار اللجنة 1996/119 وقدم السيد (جوانيه)تقريره حول هذا الموضوع عام 1997([82]).
وقد عرف السيد (جوانيه) ظاهرة الإفلات من العقاب بأنه (عدم التمكن قانوناً أو فعلاً من الإلقاء بالمسؤولية على لما مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في الدعاوى (سواء أكانت المسؤولية جنائية أو مدنية أو إدارية أو تأديبية الطابع) نظرا إلى إفلات الأشخاص في كل تحقيق يسمح بتوجيه التهمة إليهم وبتوقيفهم ومحاكمتهم والحكم عليهم بعقوبات مناسبة إذا اثبت التهمة عليهم، بما في ذلك الحكم عليهم بحبر الضرر الذي يهدد بضحاياهم)([83]).
وقد قسم السيد (جوانية) مراحل الإفلات من العقاب إلى أربع مراحل من التطور([84]).
واعتبر من التدابير التقيدية التي تبررها مكافحة الإفلات من العقاب هو عدم جواز منح (العفو) عن جرائم (الحرب وضد الإنسانية والإبادة الجماعية) إذ تضمن التقرير ما يأتي(لا يجوز أن يشمل العفو مرتكبي الانتهاكات ما لم يحصل الضحايا على حكم عادل بواسطة تظلم فعال، وليس للعفو اثر قانوني على دعاوى الضحايا المتصلة بالحق في التعويض)([85]).
ويمكن القول انه اصبح من المبادئ الراسخة في القانون الدولي الجنائي أن منح العفو للمتهمين باقتراف الجرائم الخاضعة لهذا القانون يؤدي إلى الإخلال بواجب الدول بمقتضى القانون التعاهدي والقانون العرفي، ومضمونه واجب قيام الدولة بإقامة الدعوى ومعاقبة المذنبين، ويظهر التعارض بين التزامات الدولة بموجب القانون الدولي وما تمنعه من عفو خاصة إذا كانت هذه الإعفاءات ذات طبيعة عامة ومفتوحة([86]).
وقد أشارت لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، إلى تعارض (العفو) مع التزامات الدولة وذلك عند تعليقها على المادة (7) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تحظر التعذيب بقولها (إن إعلان العفو لا يتوافق بصفة عامة مع واجب الدولة بالتحقيق في تلك الأفعال، ولا يجوز أن يحرم الأفراد في الحق بالحصول على التعويضات المناسبة)([87]).
وقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة عام 1999 أن (العفو) عن الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي لا يكون ملزما على المستوى الدولي، فقد اصدر تعليماته إلى ممثله الخاص بالتوقيع على اتفاقية السلام في (سيراليون) بأن يتمسك بشرط صريح يعلن فيه عن التزام الأمم المتحدة رسميا بعدم تطبيق (العفو) المنصوص عليه في المادة (9) من اتفاق السلام على الجرائم الدولية الخطيرة، كالإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني([88])وقد أكد مجلس الأمن هذا الالتزام في قراره الصادر عنه الذي يدعو فيه الأمين العام إلى صياغة نظام أساسي للمحكمة([89]). وبالفعل ادرج في النظام الأساسي للمحكمة نص عدم جواز منح (العفو) عن الجرائم الخطيرة الوارد ذكرها في النظام الأساسي، إذ تنص المادة (10) على (لا يودي العفو الممنوح لأي شخص يخضع للولاية القضائية للمحكمة الخاصة، فيما يتعلق بالجرائم المشار إليها بالمواد (2-4) من القانون الحالي إسقاط الدعوى)([90]).
ولكن قد يسال البعض إذا كانت القاعدة العامة انه لا يجوز منح العفو عن الجرائم الخطيرة بما فيها بالطبع جرائم الحرب، لماذا اذاً نصت الفقرة (5) من المادة (6) من البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 على (تسعى السلطات الحاكمة – لدى انتهاء الأعمال العدائية – لمنح العفو الشامل على أوسع نطاق ممكن للأشخاص من الذين شاركوا في النزاع المسلح، أو الذين قيدت حريتهم لأسباب تتعلق بالنزاع المسلح سواء أكانوا معتقلين أم محتجزين).
يذهب اتجاه في الفقه الدولي الجنائي إلى القول، انه رغم إثارة هذا النص للجدل لكن لابد من التأكيد هنا (إن هذا الحكم يسعى بصفة خاصة إلى التشجيع على إطلاق سراح الأفراد الذين يخضعون للإجراءات الجنائية أو غيرها من الإجراءات بموجب القانون المحلي، نتيجة لمشاركتهم في الأعمال العدائية، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال تأويل هذا الحكم على انه عفو مؤيد لجرائم الحرب، أو غيرها من الجرائم الدولية المرتكبة في النزاعات المسلحة الداخلية)([91]).
ورغم تأييدنا لهذا الرأي إلا إننا نعتقد أن المادة (6 الفقرة 5) قد جاءت بصيغة عامة يمكن معها أن تؤول بأنها تشمل جرائم حرب والأشخاص المتهمين بها لأنها نصت على أن العفو يمنح لكل أطراف النزاع، لذلك اقترح بان يكون هناك تعديل للنص بحيث أن يرد فيها استثناء الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم حرب.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك نوعاً أخر من الإعفاءات قد يمنح لبعض الأشخاص، وهي الإعفاءات الممنوحة من قبل (لجان المصالحة الوطنية)، وهذه اللجان هي جزء من عملية التحول من نظام قاسٍ إلى نظام حكم اكثر انفتاحا، وتتولى هذه اللجان التحري عن الخروقات الشديدة لحقوق الإنسان، وعادة يكون لها سلطة منح إعفاءات على أساس كل حالة على حدة، وهي عادة تطلب من الأفراد المتورطين بارتكاب جرائم الاعتراف بذنبهم وطلب العفو من اجل أن ينالوا هذا العفو.
ويقول الأستاذ (Peter Burhs) إلى انه لابد من التمييز بين نوعين من أنواع العفو الممنوح من قبل هذه اللجان، ويركز في رأيه على اتفاقية منح التعذيب لعام 1984 النافذة عام 1987. النوع الأول : إذا ما تم تشكيل هذه اللجان مع عدم إعطائها صلاحية منح الإعفاءات، فهذا يعني إن منحها للعفو للمتهمين بارتكاب التعذيب يتنافى مع المادة (7) من الاتفاقية، حيث أن الأمر يتطلب هنا أن تتم المقاضاة بالنسبة للمتهمين بارتكاب التعذيب، بنفس الطريقة في الجرائم الاعتيادية أي المقاضاة الجنائية.
النوع الثاني: إذا كان تشكيل هذه اللجان قد تم مع إعطائها سلطة الأمر بالمقاضاة والإعفاء عن أي حالة تنفيذا لإرادة الدولة، فيمكن اعتبار عملها هذا جزءا من الإجراءات الجنائية القضائية ، والتحقيق العادي لتلك الدولة، لفترة عمل تلك اللجنة، فإذا تم التعامل من قبل اللجنة مع هذه الحالات (حالات التعذيب) بنفس التعامل مع السلوك الجنائي فان هكذا إعفاء وبهذا الشكل لاتعد خرقا للاتفاقية خاصة إذا ما وجد في قرار الإعفاء ما يضمن تعويض الضحايا([92]). وباعتقادي إن عمل هذه اللجان هو إجراء غير سليم لأنها قد تؤدي إلى إفلات المتهمين بارتكاب جرائم خطيرة من العقاب بحجة ما يوصف باسم (المصالحة الوطنية)، لذلك يجب استثناء الأشخاص المتهمين بارتكاب الجرائم الخطيرة من إجراءات هذه اللجان وضرورة خضوعهم للمحاكم الوطنية([93]).
وبذلك ننتهي إلى القول بان (العفو) يعتبر مانعاً من موانع العقاب على حد تعبير الدكتور (محمود شريف بسيوني) إذ انه يقسم موانع العقاب إلى نوعين (مانع العقاب بحكم الواقع ومانع العقاب بحكم القانون، فيكون بحكم الواقع عندما يتم إفشال التحقيقات والادعاء عمدا من قبل الدولة بعد انتهاء النزاع، وهذا يتعارض مع مسؤولية الدولة ومع أهداف المجتمع الدولي في إقرار المسؤولية الجنائية وتحقيق العدالة، ويكون بحكم القانون عندما يتم تفضيل منح (العفو) وما شابه من إجراءات على أي عدد ملائم من وسائل المسؤولية، وهذه الإجراءات قد تضم غطاء من الإعفاءات تشمل فترة زمنية محددة أو تطبق على مجموعة من الأشخاص أو شخص محدد بذاته([94]).
المطلب الرابع
مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة للإفلات من العقاب عن الجرائم التي تنتهك حقوق الإنسان
الحصانة (Impunity) أو (Immunity) ويقابلها في الفرنسية (Immunite) يقصد بها إعفاء بعض الناس أو بعض الأموال، أو بعض الحالات من تطبيق القواعد العامة عليهم في المسائل القضائية والمالية، وفي القانون الدولي يقصد بالحصانة الدبلوماسية، مجموع الامتيازات التي تتعلق بحرية الممثلين السياسيين الأجانب، ومفادها انهم لا يخضعون مبدئيا لقضاء البلاد الذين يقيمون فيها، بل يظلون خاضعين لحكوماتهم وقضاء وطنهم.([106]) والحصانة نظام دولي تقليدي يتم من خلاله تحصين أشخاص معينين وهم (رؤساء الدول والحكومات والوزراء والكادر الدبلوماسي الموجود في الدولة المضيفة) من المقاضاة أمام المحاكم الأجنبية([107]). ويقرر التشريع الوطني إعفاء هؤلاء من الخضوع للقضاء الجنائي عن الأفعال التي يرتكبونها، رغم توافر الصفة الجرمية لما يأتونه من الأفعال([108]).
ولكن إذا كانت الحصانة يمكن الاحتجاج بها في نطاق الجرائم الداخلية ، فان الأمر يختلف إذا ما تعلق الأمر بجريمة دولية خاضعة لأحكام القانون الدولي الجنائي ، يترتب عليها فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان([109]). فالقانون الدولي الجنائي، لا يعتد بالحصانة ولا يقر بها كوسيلة للإفلات من العقاب، فمرتكب فظائع وانتهاكات حقوق الإنسان، يجب أن يعاقب مهما كانت صفته حتى أولئك الذين يتمتعون بحصانة بموجب قواعد دولية أو داخلية، حتى لا يكون هناك تهرب من المساءلة عن هذه الانتهاكات تحت ستار الحصانة، و ما شهده نهاية القرن العشرين من انتهاكات لحقوق الإنسان، قد عمل على ترسيخ وتقوية العزم والتصميم على إحياء فكرة إنهاء ما كان يعرف في الأدبيات القانونية بالحصانة([110]).
ولا شك أن الحصانة التي كان يتمتع بها مرتكبو الجرائم الدولية، التي كانت تحول دون تقديمهم للمسالة الجنائية، تعد سببا مباشرا أدى إلى الانتقاص بشكل كبير من فاعلية القواعد الدولية المعنية بالوقاية من تلك الجرائم (إذ انه إلى هذه النقطة بالذات يمكن أن يعزى جانبا كبيرا من الأسباب التي أدت إلى إخفاق النظام القانوني الدولي في التصدي للجرائم)([111]).
ويقول الدكتور (شريف بسيوني)، ان الحصانة التي تؤدي إلى إفلات الشخص من المساءلة القانونية هو نتاج للتعارض بين السياسات والممارسات المادية والعملية، التي تسعى الدول من خلالها الوصول إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وبين متطلبات العدالة الدولية التي تعني إقرار المسؤولية الجنائية والتي تهدف إلى تحقيق غرض عقابي ووقائي في ذات الوقت، ولكن الإنجاز الحقيقي كما يقول الدكتور بيسوني ، (يتمثل في تجاوز (الحصانة) التي كانت تشكل ستارا حديديا مفروضا حول فكرة العدالة الجنائية الدولية، فلقد أصبحت تلك الفكرة جزءا من قيم المجتمع الدولي وفكرة قابلة للتحقيق وان ظلت في صراع مع اعتبارات ومتطلبات السياسة العملية).([112])
ويمكن القول كذلك إن الحصانة ، عقبة حقيقية أمام المسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية الخطيرة ، فالتمسك بها يعني عدم إمكانية تطبيق هذه المسؤولية ، ولذلك لا بد من رفع هذه الحصانة وعدم قبولها، وبغير هذا الرفع لا يمكن تصور وجود حقيقي للمسؤولية الدولية الفردية، وخاصة للرؤساء والقادة السياسيين، فمن النادر أن ينسب إلى شخص عادي في دولة ما ارتكابه جريمة دولية إذ انه في الغالب يتم ارتكاب الجريمة الدولية بصورة غير مباشرة من الرؤساء والقادة السياسيين([113]).
وقد تم التأكيد على مبدأ عدم الاعتداد بالحصانة كسبب للإفلات من المسالة عن الجرائم الدولية في مختلف المواثيق الدولية،فقد صاغت لجنة القانون الدولي هذا المبدأ ضمن مبادئ نورمبرغ على النحو الأتي (إن ارتكاب الفاعل لجريمة دولية بوصفه رئيسا للدولة أو حاكما لا يعفيه من المسؤولية في القانون الدولي)، وهذا المبدأ مرتبط بالمبدأ الذي سبق أن شرحناه وهو سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الداخلي، فالحصانة التي يتمتع بها رئيس الدولة أو الحكومة إنما تكون وفقا لأحكام القانون الداخلي وليس لأحكام هذا القانون أن تعترض سبيل تطبيق قواعد القانون الدولي الجنائي إذا ما قرر المسؤولية الدولية الجنائية على فعل يترتب على ارتكابه جريمة دولية، كما أن الأخذ بهذا المبدأ ينسجم مع قواعد المنطق والعدالة لأنه ليس من المنطق أو العدل، أن يعاقب المرؤوسون الذين ينفذون أوامر غير مشروعة يصدرها رئيس الدولة وأعوانه، ويعفى الرئيس الذي دبر وأمر بارتكاب هذه الجرائم الذي يعتبر في رأي بعض الكتاب (رئيس عصابة من المجرمين وليس رئيس دولة تحترم القانون)([114]).
ولكن صياغة لجنة القانون الدولي لهذا المبدأ بهذا الشكل قد انتقده البعض إنتقادين:
الانتقاد الأول- إن هذا المبدأ أشار إلى عدم جواز التذرع بالحصانة من قبل شخص سواء أكان رئيس دولة أو حاكم، فإذا لم يكن هناك صعوبة في تحديد شخصية رئيس الدولة، إلا أن شخصية (الحاكم) تثير بعض الجدل ، (فهل المقصود به عضو الحكومة حصرا أم عضواً سابقاً في الحكومة، أم هو موظف من رتبة عالية جدا في إحدى السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية).([115])
يقول د. محمد محي الدين عوض انه (يعتبر حاكما كل شخص ليس له رئيس أعلى منه في سلمة الدرجات).([116]) ونحن نؤيد الرأي القائل، بأن مبدأ عدم التذرع بالحصانة يجب أن يؤخذ على إطلاقه ، فلا يضيق أو يقيد بشخص رئيس الدولة والحاكم الذي ليس له رئيس أعلى منه في سلم الدرجات(3)، لان الحصانة تشمل إضافة إلى هذا وذاك شخصيات أخرى، والقول بخلاف ذلك يعني أن الشخصيات الأخرى المتمتعة بالحصانة وليست هي الرئيس الأعلى أو هي موظف له رئيس أعلى منه في سلم الدرجات لها أن تتمسك بالحصانة للتهرب من المسؤولية عن الجرائم الدولية، أما الانتقاد الثاني – فقد قيل إن هذا المبدأ اغفل الإشارة إلى أن(الحصانة) لا يمكن أن تكون سببا لتخفيف العقوبة ايضاً، وهذا يعني أن لجنة القانون الدولي، قد تركت للمحكمة المختصة حرية تقدير العقوبة وتفريدها وإيجاد عذر للمتهم وتخفيف العقوبة ، وقد كان ذلك محل انتقاد الوفد البلجيكي في اللجنة الذي اعتبر أن اللجنة أخطأت في هذا التساهل(
المطلب الخامس
مبدأ عدم قبول الدفع بأمر الرئيس الأعلى للإعفاء من المسؤولية عن جرائم انتهاك حقوق الإنسان
من القواعد المعروفة في نطاق القانون الجنائي الداخلي، أن أمر الرئيس الأعلى يعتبر سبباً من أسباب الإباحة متى ما توافرت شروط معينة، وهذا هو اتجاه المشرع العراقي في المادة (40) من قانون العقوبات التي نصت على (لا جريمة إذا وقع الفعل من موظف أو شخص مكلف بخدمة عامة في الحالات الآتية (1- إذا قام بسلامة نية بفعل تنفيذا لما أمرت به القوانين أو اعتقد إن إجراءه من اختصاصه 2- إذا وقع الفعل منه تنفيذا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه طاعته أو اعتقد أن طاعته واجبة عليه، ويجب في الحالتين أن يثبت أن اعتقاد الفاعل كان مبنيا على أسباب معقولة له، وانه لم يرتكبه إلا بعد اتخاذ الحيطة المناسبة، ومع ذلك فلا عقاب في الحالة الثانية، إذا كان القانون لا يسمح للموظف بمناقشة الأمر الصادر إليه). وإذا كان الأخذ بهذه القاعدة لا يترتب عليه أي خلاف في نطاق القانون الجنائي الداخلي، إلا أن تطبيقه في نطاق القانون الدولي الجنائي كان محل خلاف في نطاق القانون الدولي الجنائي، ولذلك ثار السؤال الأتي، هل يجوز لمرتكب إحدى الجرائم الخاضعة لهذا القانون والتي تنتهك حقوق الإنسان، أن يدفع بان ارتكابه للفعل أو الأفعال المكونة للجريمة، كان تنفيذا لأوامر صادرة إليه في رئيسه الأعلى، فيكون ذلك سبب إباحة كما هو الحال في القانون الجنائي الداخلي؟
لقد انقسم الفقه الدولي الجنائي إلى اتجاهين حول هذه المسالة([128])
الاتجاه الأول- يعتبر أن تنفيذ الأمر الصادر من الرئيس الأعلى يعد سبب إباحة كما هو الحال في القانون الداخلي، ويعتبر سببا لتجريد الفعل المكون للجريمة من صفته غير المشروعة، ويستند هذا الاتجاه في عرض وجهة نظره إلى ضرورات النظام العسكري، إذ لا يمكن تصور قيام هذا النظام بدون طاعة كاملة يدين بها المرؤوسون للرؤساء، وهو ما عبر عنه الجنرال مونتغمري إذ يخاطب الجيش البريطاني عام 1946 (إذا كان كنه الديمقراطية هو الحرية، فان كنه الجيش هو الانضباط، ليس للجندي أن يقول شيئا، من واجب الجندي الطاعة، بدون طرح أسئلة لكل الأوامر الموجهة إليه من الجيش، أي من الأمة).([129])
ويقول أنصار هذا الرأي، إن الأخذ به لا يعني تقويض بنيان القانون الدولي، لان المسؤولية الجنائية تظل قائمة على عاتق الرئيس الذي اصدر الأمر غير المشروع ويكفل توقيع العقاب عليه تحقيق أهداف القانون الدولي في ردع الجرائم الدولية.([130])
إما الاتجاه الثاني- فان يرفض أن يكون أمر الرئيس الأعلى سببا لإباحة فعل المرؤوس، إذ لا يمكن تطبيق نظام قانوني داخلي على الصعيد الدولي، حيث يجب الأخذ في الحسابان الاختلاف بين النظامين (الدولي والداخلي) فالقانون الدولي لا يمكن تقيده بهذا الحكم ، إذ من حقه أن يرى أن فعل المروؤس يشكل عدوانا على المصالح التي يحميها، وبالتالي يسبغ على هذا الفعل الصفة غير المشروعة دون التقييد في ذلك بما قررته قواعد القانون الداخلي واستنادا إلى (سيادة القانون الدولي الجنائي على القانون الجنائي الداخلي)،إما ما يقال عن الضرورات العسكرية فإنها لا تبرر ارتكاب عمل جرمي، وهذا ما عبر عنه (سيرهارتلي شوركورس) ممثل الادعاء العام للملكة المتحدة عام 1945 بقوله (إن الولاء السياسي والطاعة العسكرية شيئان رائعان، لكنهما لا يتطلبان ولا يبرران ارتكاب أعمال ذات طابع غير مبرر واضح، هناك وقت يجب أن يرفض فيه الكائن البشري طاعة قائدة إذ ما كان عليه طاعة ضميره ايضاً، حتى الجندي البسيط يجب أن يخدم في صفوف الجيش ليس عليه أن يطيع أوامر غير مشروعة).([131])
كما أن اعتبار أمر الرئيس الأعلى سببا لإباحة فعل المرؤوس يعني الإفلات من العقاب والقضاء على الحماية الدولية الجنائية التي يضفيها القانون الدولي الجنائي على حقوق الإنسان وقد يكون ذلك سببا مباشرا يدعو إلى التشجيع نحو ارتكاب أعمال اكثر وحشية، ما دام هناك فرصة للتهرب من العقاب بحجة تنفيذ أمر الرئيس الأعلى.
ويرد أصحاب هذا الرأي على حجة إن إعفاء المرؤوس لا يعني إعفاء الرئيس الذي اصدر الأمر غير المشروع، بالقول إنها حجة ضعيفة لان الرئيس بدوره أيضا سوف يدفع بأنه كان ينفذ الأمر الصادر إليه من رئيسه ويدفع هذا الأخير بذلك أيضا، وهكذا تدور المسألة في حلقه مفرغة يصعب معها تحديد المسؤول عن الفعل غير المشروع الذي أدى إلى الجريمة الدولية([132]). وقد سارت الوثائق الدولية على الرأي الثاني، ولم تعتبر أمر الرئيس الأعلى مانعا من المسؤولية وان كان يمكن أن يكون سببا للتخفيف من العقوبة إذا اقتضت العدالة ذلك.
فعندما قامت لجنة القانون الدولي بصياغة مبادئ نورمبرغ، تبنت الرأي الثاني وان كان أعضاء اللجنة قد انقسموا إلى اتجاهين حول كيفية صياغة المبدأ([133]) الاتجاه الأول يرى ضرورة التخفيف من الشدة الناجمة عن تطبيق هذا المبدأ لأنه يعني هدم حرية الاختيار لدى الفرد الذي يكون مجبرا على تنفيذ الأوامر، والاتجاه الثاني، الذي اعتبر انه لا بد من تبني المبدأ بالصيغة التي وردت في محاكمات نورمبرغ بان (ما يقوم به المتهم من وفقا لتعليمات حكومته أو رئيسه الوظيفي لايخلصه من المسؤولية ولكن يمكن أن يعتبر ذلك سببا لتخفيف العقوبة إن وجدت المحكمة أن العدالة تقتضي ذلك كما استند أصحاب هذا الاتجاه على ما ورد في المادة (400) مكرر التي أوردته لجنة الصليب الأحمر عام 1949 والتي مفاده( انه لا يمكن اعتبار أمر الرئيس عذرا قانونيا معفيا بل إذا كانت الظروف في صالح المتهم فان العقوبة يمكن تخفيفها)([134]) وقد أخذت اللجنة في صياغتها بالاتجاه الثاني ولم تعتبر أمر الرئيس الأعلى عذرا مانعا من المسؤولية الجنائية، ويقول البعض انه بالرغم من إهمال لجنة القانون الدولي الإشارة في صياغتها إلى أن (أمر الحكومة أو الرئيس الأعلى، يمكن أن يعتبر سببا لتخفيف العقوبة) إلا انه يمكن الإقرار للمحكمة المختصة بتقدير ظروف كل حالة مع منحها الحق في تخفيف العقوبة إذا رأت محلا لذلك([135]).
– وقد تم النص على هذا المبدأ في الوثائق الدولية الحديثة، إذ تم النص عليها في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا وكذلك محكمة رواندا، إذ نصت المادة (7/4) من نظام محكمة يوغسلافيا على أنه ( لا يعفي المتهم من المسؤولية الجنائية أوامر السلطة العليا سواء من حكومته أو رئيس أعلى، على أن للمحكمة الدولية أن تنظر في تخفيف العقوبة، إذا رأت ذلك استيفاء للعدالة) وورد هذا المبدأ بنفس الصياغة في النظام الأساسي لمحكمة رواندا، ثم في مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها لعام 1996 إذ نصت المادة (4) منها على (لا يعفى الفرد المتهم بجريمة مخلة بسلم الإنسانية أمنها من المسؤولية الجنائية لكونه تصرف بناء على أمر صادر من حكومته أو من رئيس أعلى، ولكن يجوز النظر في تخفيف العقوبة إذا اقتضت العدالة ذلك).
– أمر الرئيس الأعلى في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية :
نصت المادة (33) من النظام الأساسي للمحكمة على ما يأتي (1- في حالة ارتكاب أي شخص لجريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد تم امتثالا لأمر حكومة أو رئيس عسكريا كان أم مدنياً عدا الحالات الآتية :- أ- إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني ب- إذا لم يكن الشخص على علم بان الأمر غير مشروع ج- إذا لم تكن مشروعيه الأمر ظاهرة. 2- لأغراض هذه المادة تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب جريمة الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية).
إن تحليل المادة (33) من النظام الأساسي يوضح أن المحكمة في الفقرة الأولى قد انتهجت نهجا مغايرا تماما لما جاءت به الوثائق الدولية السابقة من ناحية، كما أن فقرتها الثانية حصرت ظاهرية عدم مشروعية الأمر الصادر من الرئيس الأعلى في نطاق ارتكاب جريمتين فقط هما الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية من ناحية أخرى.([136]) لذلك فان هذه المادة منتقدة بفقرتيها وذلك للأسباب الآتية:-
1- فيما يخص الفقرة الأولى : فإنها خالفت الوثائق الدولية السابقة والتي اجتمعت بدءاً من مبادئ نورمبرغ ومحاكمات يوغسلافيا وراوندا، ثم مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها على انه (أمر الرئيس) الأعلى لا يمكن أن يعفي من المسؤولية بل يمكن اعتباره مخففا للعقوبة، ولكن اتجاه المحكمة هنا يقر بأنه يمكن اعتبار أمر الرئيس سبباً للإعفاء من المسؤولية، وفي إتجاهها هذا توسيع لدائرة الإفلات من العقاب، وهذا يتعارض عزم الدول الموقعة على نظامها الأساسي على وضع حد لإفلات مرتكبي الجرائم الدولية ويجب إلا تمر بدون عقاب.([137])
فالفقرة الأولى، اعتبرت الظروف العسكرية سببا لإباحة فعل المرؤوس، اذاً مرتكب الجريمة الدولية يستطيع الإفلات من العقوبة بحجة أن عليه واجباً أو التزاماً قانونياً بتنفيذ الأمر الصادر إليه، وسبق أن قلنا أن الظروف العسكرية لا يمكن أن تكون سببا لإباحة الفعل غير المشروع، لان ذلك سيؤدي إلى ارتكاب المزيد من الجرائم الخطيرة.
حتى الحلفاء أنفسهم في محاكمات نورمبرغ لم يعَدوا أمر الرئيس مانعا للمسؤولية ، إذ قالت المحكمة في قضية (Keitel)، عندما دفع الأخير بأنه غير مسؤول لأنه مجرد جندي ينفذ أوامر الرئيس الأعلى (الأمر الذي يتلقاه عسكري بالقتل أو الإرهاب بالمخالفة للقانون الدولي الخاص بالحرب لا يمكن أن ينظر إليه كمبرر لفعل المخالفة، وإنما يمكن الانتفاع به في الحصول على تخفيف العقوبة طبقا لنصوص لائحة المحكمة).([138])
لذلك فمن الراجح إذا كان بالإمكان الأخذ بقاعدة (أمر الرئيس الأعلى) كمانع للمسؤولية في كل الحالات إلا انه لا يمكن ابداً تطبيقه بالنسبة للجرائم الدولية، وخاصة فيما يتعلق بالأوامر التي لها طابع إجرامي بيّن. فالادعاء المزعوم بالمصالح الحيوية للدولة لتبرير الأفعال الإجرامية يجب أن لا يكون سببا للإفلات من العقوبة، ويجب غلبه الاعتبارات الإنسانية على كل ضرورات العمل السياسي والعسكري).([139]) فهي حجة لا يمكن الاعتداد بها كمانع للمسؤولية الجنائية.([140])
فضلا عن أن المرؤوس هو إنسان لديه ملكات الوعي والإدراك و عليةواجب أن يفحص الأمر الصادر إليه ولا يقدم على تنفيذه إلا إذا ثبت له اتفاقه مع قواعد القانون، وهذا ما اتفق عليه الفقه واجتمعت عليه القوانين العسكرية.
فعلى صعيد الفقه الدولي الجنائي، ظهرت ثلاثة اتجاهات حول مسالة إمكانية رفض المرؤوس العسكري تنفيذ الأمر الصادر إليه من رئيسه يترتب عليه جريمة دولية، وهي نظرية الطاعة العمياء، ونظرية الطاعة النسبية، ونظرية الوسط.([141])
1- نظرية الطاعة العمياء: ومؤدى هذه النظرية، أن العسكري عليه واجب طاعة رئيسه طاعة عمياء، ولا يجوز له التردد في تنفيذ الأمر، أو الحق في التأكد من مشروعيه الأمر الصادر إليه، ويجب عليه تنفيذها، حتى إذا كانت مخالفة للقوانين واللوائح.
2- نظرية الطاعة النسبية: وبموجب هذه النظرية يحق للمرؤوسين مراقبة مشروعية الأوامر المتلقاة من رؤسائهم، وان العسكريين ليسوا أدوات عمياء ولا آلات صماء، بل هم محاربون وعقلاء مميزون، يقومون بأداء واجبهم لتحقيق العدالة والحرية للجميع، فأنتقدت هذه النظرية لعدم قدرة العسكري على أن يمارس مراقبة مشروعية الأمر.
3- النظرية الوسط : ويقول أصحاب هذه النظرية، انه يجب التمييز بين الأوامر المشروعة والأوامر غير المشروعة، فإذا كان الأمر غير مشروع وعدم المشروعية واضحة ويترتب عليه جريمة جنائية فان للمرؤوس المنفذ حق رفض طاعته، إما الأوامر المشروعة فعليه تنفيذها، وهذه النظرية اكثر قبولا لأنها تعطي للمرؤوس حق عدم تنفيذ الأوامر غير المشروعة التي يترتب على تنفيذها جريمة دولية، وهي اقرب إلى المنطق والعدالة لأنه لا يجوز الإقرار بشرعية أوامر هي غير مشروعه أصلا، فهنا لا ينبغي التسليم بطاعة الرئيس لأنه لا طاعة للرئيس بمعصية القانون والنظام.([142])
أما على صعيد القوانين العسكرية، فإنها أشارت إلى حق المرؤوسين في رفض الأوامر غير المشروعة، فالمادة (5) من القانون العسكري البلجيكي الصادر في 16/6/1993 تنص على (1- لا يمكن لمنفعة ما تجبى ولا لضرورة عسكرية أو سياسية أو وطنية أن تبرر حتى وان يكن على سبيل الاقتصاص المخالفات المنصوص عليها في المواد000 2- لا يخلي مسؤولية المتهم كونه تصرف بناء على أمر من حكومته أو من أحد رؤسائه، إذا تبين في ضوء الظروف المحيطة أن الأمر الصادر قد يؤدي إلى ارتكاب مخالفة جسيمة للاتفاقيات الدولية)، كما نصت لائحة الانضباط العامة للقوات المسلحة الفرنسية لعام 1966 بشكل صريح على أن (من حق وواجب المروؤس رفض بعض الأوامر).([143])
وأوجبت التعديلات اللاحقة على قانون عام (1966) ، بموجب مرسومي عام 1978 و 1982 على المرؤوسين عدم تنفيذ أمر مخالف لقواعد القانون الدولي المطبق في النزاعات المسلحة في الاتفاقيات الدولية المصادقة أو الموافقة عليها، كما نص البند الثاني في الفصل الثالث من قانون الأحكام العسكرية البريطاني الصادر عام 1914 والمعدل في عام 1929 على (يعد جريمة، عدم إطاعة الأمر القانوني الصادر من شخص الضابط الأعلى أثناء قيامه بواجبه) ونص البند العاشر من الفصل الثالث من هذا القانون على انه (إن الأمر القانوني يقصد به الأمر الذي يبيحه القانون)، كما نصت المادة (29) من القانون الخاص بالقوات المسلحة الأمريكية المرقم 600/20 على ما يأتي (إن الطاعة تكون للأوامر الشرعية وكل الأفراد الموجودين في الخدمة العسكرية مطالبون بالطاعة الكاملة، ولكن حينما يبدو الأمر غير شرعي، فانه لا يكون للمرؤوس أن يحتمي خلفه وينفذه ، ويكون عليه واجب بعدم إطاعته)([144]).
كما أن التوجه على الصعيد الدولي في الوقت الحاضر هو نحو التوسيع من فكرة (قدرة المرؤوس على رفض الأوامر العليا التي لها طابع إجرامي بينّ) والتي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم الدولية ، وقد كان ذلك واضحاً في المؤتمر الرابع عشر للجمعية الدولية للقانون العسكري وقانون الحرب المنعقد في أثينا في أيار (1997) ، الذي انتهى إلى إصدار التوصية آلاتية (يجب أن توفر اللوائح التأديبية منهجاً يكفل للمرؤوسين دون الإضرار بأنفسهم أو المساس بالانضباط ، أن يمارسوا حقهم وواجبهم في رفض أوامر يفضي تنفيذها بداهة إلى اقتراف جريمة حرب)([145]).
هذا إلى جانب وجود سوابق قضائية دولية ، تؤكد إمكانية رفض تنفيذ أمر الرئيس الأعلى ، متى ما كان الأمر يتضمن نصاً صريحاً بارتكاب جرائم دولية مخالفة لقوانين وعادات الحرب (تتمثل هذه السابقة في قيام الجنرال رومل قائد الفيالق الأفريقية ، بحرق الأمر الصادر إليه من هتلر الذي يأمره فيه بمخالفة عادات وقوانين الحرب)([146]).
ونحن نؤيد فكرة قدرة المرؤوس على الامتناع عن تنفيذ الأوامر غير المشروعة وإذا قام بتنفيذ الأمر غير المشروع فإنه يتحمل المسؤولية الجنائية،والقول بغير ذلك أمر يتناقض مع طبيعة القاعدة القانونية باعتبارها قاعدة مجردة تسري دون استثناء على طائفة معينة من الأفعال دون تفرقة بين أشخاص مرتكبيها ، لان الفعل سيعد مشروعاً إذا نفذ وفقاً لأمر الرئيس، بينما سيعد الفعل نفسه غير مشروع إذا لم يكن تنفيذه مستنداً إلى أمر الرئيس الأعلى، وهذا ما لا يتفق مع المنطق القانوني الذي يقضي بان الفعل الواحد يجب أن يكون له نفس الحكم أمام القاعدة القانونية .
ولما كان من حق المرؤوس عدم تنفيذ الأمر الذي فيه ارتكاب الجريمة الدولية ، ولما كان له الإدراك والوعي لتفحص هذا الأمر ، فإذا كان غير شرعي يمتنع عن تنفيذه ، فإننا لا نرى أي مبرر لاعتبار (أمر الرئيس الأعلى) سبباً مانعاً من المسؤولية ، لذلك اعتقد بضرورة تعديل الفقرة (1) من المادة (33) بحيث يتوافق مع المواثيق الدولية السابقة ، ويكون أمر الرئيس الأعلى سبباً في تخفيف العقوبة إذا رأت المحكمة أن العدالة تقتضي ذلك ، وليس استبعادها وان يتحمل المرؤوس المسؤولية الجنائية ، إلى جانب مسؤولية الرئيس الأعلى الذي اصدر الأمر غير المشروع استناداً إلى المادة (28) من النظام الأساسي .
2- وفيما يخص الفقرة (2) من المادة (33) ،التي اعتبرت أن عدم مشروعية الأمر الصادر من الرئيس الأعلى تكون ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب (جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية) وهذا يعني تحديد ظاهرية الأمر غير المشروع بجريمتين فقط من الجرائم الخاضعة لاختصاص المحكمة([147]).
ونعتقد إن هذه الفقرة فيها نوع من الغرابة ، ولا يمكن تفهم سبب تحديد هذه الفقرة ظاهرية عدم مشروعية الأمر في جريمتي الإبادة وضد الإنسانية فقط.
وماذا بالنسبة للجريمتين الأخريين (جرائم الحرب وجريمة العدوان) أليس الأوامر الصادرة بارتكابها عدم مشروعيتها ظاهرة ، وبالأخص جرائم الحرب ، فالأوامر الصادرة بارتكاب أفعال تتنافى مع قوانين وعادات الحرب تكون فيها عدم المشروعية ظاهرة جداً ، وهذا ما قد سبق وان أشارت إليه محكمة الحلفاء في نورمبرغ بقولها (إن الذي يخالف قوانين الحرب لا يمكن أن يحمي نفسه وراء حجة القيام بتنفيذ أعمال بأمر من الدولة ، لا سيما إذا كانت الدولة قد تجاوزت الحدود التي رسمها القانون الدولي)([148]).
فالفقرة (2) من المادة (33) تتناقض مع المنطق القانوني في تحديد ظاهرية عدم المشروعية للأوامر في نطاق جريمتي (الإبادة وضد الإنسانية) والكل يعرف ما يرتكب من أفعال وجرائم مخالفة لقواعد وعادات الحرب في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية ، وهذه الجرائم بالطبع ترتكب تنفيذاً لأوامر الرئيس الأعلى ، فكيف نعطي الحق لمرتكب هذه الجرائم الفرصة للإفلات من العقاب بحجة تنفيذه لأوامر الرئيس الأعلى وان عدم مشروعية هذه الأوامر لم تكن ظاهرة ، لذلك أرى أن هذا التحديد ليس له أي مبرر أو تفسير (اللهم) إلا لتبرير الجرائم المرتكبة من قبل (الجنود) الذين ينتمون إلى دول عدوانية عارضت منذ البداية إنشاء المحكمة الدولية الجنائية (الولايات المتحدة وإسرائيل) ودول أخرى ، بحيث لا يمتد اختصاص المحكمة إلى هذه الأفعال ، ويكون هناك فرصة للإفلات من العقاب بحجة أن الأمر الصادر من الرئيس الأعلى عدم المشروعية فيها لم يكن ظاهراً ، حيث لوحظ في مؤتمر (روما) أن الدول ذات المصالح الاستعمارية التي تمارس احتلالاً عسكرياً لأجزاء من أقاليم دول أخرى كالكيان الصهيوني والولايات المتحدة التي تتواجد قواتها البرية والبحرية والجوية بشكل واسع في بقاع عديدة في العالم وتمارس العدوان وترتكب جرائم الحرب تحت مختلف الأغطية المتهرئة قد أبدت تحفظات عديدة إزاء أحكام النص المتقدم ، ومحاولة منها لتضييق نطاقه إلى أقصى حد ممكن يضمن مصالحها)([149]).
لذلك أرى ضرورة تعديل الفقرة (2) من المادة (33) بحيث يكون عدم مشروعية الأمر الصادر من الرئيس الأعلى ظاهرة في كل الجرائم الخاضعة لاختصاص المحكمة ، بحيث لا يمكن التمسك بهذا الدفع للإفلات من العقوبة عن ارتكاب جرائم الحرب أو العدوان بحجة عدم ظاهرية الأمر غير المشروع ، وخصوصاً جرائم الحرب بعد التطور الذي حصل في نطاق القانون الدولي الإنساني وقواعد الحرب ، من معاهدات جنيف 1949 والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977بحيث أصبحت أحكامها معروفة للجميع ، هذا فضلاً عن وجود التزام على الدول بموجب هذه الاتفاقيات بان تمنع قواتها من مخالفة هذه الأحكام ، ولا يعفيها من المسؤولية القانونية كون القادة العسكريين يجهلون هذه القواعد ، فعلى الدولة أن تبلغ قادتها بعدم المخالفة ، وعلى القادة إبلاغ ذلك إلى الأشخاص الذي يعملون تحت إمرتهم([150]).
وهذا يعني أن الدولة لا تستطيع أن تتنصل من التزاماتها بان القادة لا يعرفون قواعد القانون الدولي الإنساني ، ولا يستطيع القادة والأشخاص الذين تحت إمرتهم التهرب من المسؤولية بحجة عدم معرفتهم بهذه القواعد([151]).
المطلب السادس
مبدأ المحاكمة العادلة لمرتكبي جرائم انتهاك حقوق الإنسان
لقد وضع المجتمع الدولي مجموعة متنوعة ومتكاملة من النصوص الإلزامية التي تضمن المعايير الضرورية لضمان المحكمة العادلة وذلك بهدف حماية حقوق المضنون فيه ، وذلك منذ تاريخ إيقافه إلى مرحلة المحاكمة وحتى نهاية استنفاذ وسائل الطعن.
وحتى توصف المحاكمة التي يخضع لها شخص متهم بارتكاب جريمة معينة بأنها محاكمة عادلة يجب توافر شرطين :
1- أن تخضع إجراءات المحاكمة لمعايير المحاكمة العادلة التي وضعها المجتمع الدولي .
2- أن تقوم بالمحاكمة وتنفيذ المواثيق الدولية سلطة قضائية مستقلة ومحايدة([152]).
ومبدأ المحاكمة العادلة من الحقوق الأساسية لكل إنسان متهم بارتكاب جريمة ، وهو حق مكفول بموجب المواثيق الدولية ، وتتمثل بمجموعة من الضمانات الممنوحة للمتهم على شكل إجراءات قضائية منصوص عليها وعلى المحكمة مراعاتها([153]).
فحق المحاكمة العادلة مصدرها دولي اذاً ، فقد ورد هذا الحق في المادة (10) من الإعلان العالمي لعام 1948 والتي نصت على (أن لكل إنسان الحق على قدم المساواة مع الآخرين، في أن تنظر في قضيته أمام محكمة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوق والتزامات ، وأي تهمة توجه إليه) ، كما جاءت الحماية الدولية لهذا الحق بصورة تفصيلية من خلال العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وعن طريق نصوص واضحة تشير إلى مبدأ المحاكمة العادلة (م14/1و3)([154]) .
ومبدأ المحاكمة العادلة له أهمية كبيرة للوصول إلى الحقيقة ، فعندما يتم اتهام الإنسان بارتكاب جريمة يبدأ النزاع بين قرينتين ، قرينة قانونية على براءة المتهم ، وقرينة واقعية على ارتكاب الجريمة ، وكل من هاتين القرينتين تحمي مصلحة أساسية في المجتمع ، الأولى تحمي الحرية الشخصية للمتهم ، والثانية تحمي المصلحة العامة وتتمثل هنا بان الجرائم الدولية تشكل تهديداً لحقوق الإنسان التي تمثل مصلحة مشتركة للمجتمع الدولي بأسره ، ومن هنا كان على المحكمة بموجب المحاكمة العادلة أن ترجع إحدى هاتين القرينتين على الأخرى وذلك استناداً إلى الوقائع الثابتة والمستخلصة من الأدلة ومن خلال الإجراءات القانونية السليمة([155]).
وتشكل (مبدأ المحاكمة العادلة) أحد المبادئ الرئيسة للقانون الدولي الجنائي ، فرغم أن شخص ما قد يتهم بارتكاب جرائم دولية خطيرة تمس القيم العليا للمجتمع الدولي وتنتهك حقوق الإنسان ، إلا إن هذا لا يعني تجريد وحرمان هذا الشخص من مبدأ (المحاكمة العادلة) لذلك جاءت الوثائق الدولية الجنائية لتؤكد هذا المبدأ ، فقد صاغت لجنة القانون الدولي هذا المبدأ بعد محاكمات نورمبرغ على النحو الأتي (كل شخص متهم بارتكاب جريمة من جرائم القانون الدولي له حق في محاكمة عادلة ، سواء بالنسبة للوقائع ، أم بالنسبة للقانون) .
كما أن ضمانات المحاكمة العادلة تم تأكيدها في النظام الأساسي للمحكمتين الدوليتين الجنائيتين ليوغسلافيا عام 1993 ورواندا عام 1994([156]). وكذلك في مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية أمنها لعام 1996([157]).
كذلك ضمن السيد (جوانيه) تقريره الذي قدمه إلى اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الاقليات عام 1997 حول مسألة إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان المدنية والسياسية من العقاب ، الضمانات القضائية المتاحة للأشخاص المتهمين بارتكاب الانتهاكات([158]).
– ضمانات المحاكمة العادلة في النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية الدائمة:
يتضمن نظام روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ، الضمانات الأساسية للحق في محاكمة عادلة معترفة بها للمتهم بارتكاب الجرائم الخطيرة الخاضعة لاختصاص المحكمة ، إذ يتمتع عند الفصل في التهمة المنسوبة إليه بالحق في محاكمة عادلة تجري في إطار النزاهة،والضمانات المكفولة في النظام الأساسي توفر قدراً اكبر من الحماية مما توفره الصكوك الدولية الأخرى للمتهم ، وقد انتهت اللجنة التحضيرية في (30/6/2000) من عملها في إعداد مسودة القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات ، وقد تم صياغة هذه القواعد على نحو يكفل تنفيذ الضمانات المكفولة في النظام الأساسي ، والضمانات المقررة للمتهم في النظام الأساسي يمكن تقسيمها إلى قسمين : أ- ضمانات المتهم بعد القبض عليه وأثناء التحقيق . ب- ضمانات المتهم أثناء المحاكمة([159]).
1- ضمانات المتهم بعد القبض عليه وأثناء التحقيق :
أكدت المادة (59/1) بضرورة عرض المتهم على وجه السرعة على محكمة مختصة في الدولة التي تم القبض عليه فيها ، وتحدد تلك المحكمة ما إذا كانت حقوق المتهم قد احترمت أم لا ، ويجوز للمتهم أن يتلمس من المحكمة الوطنية الإفراج عنه إلى حين تقديمه للمحاكمة بموجب المادة (59/4) أو إلى الدائرة التمهيدية بموجب المادة (60/2) وعلى الدائرة التمهيدية مراجعة أي أمر بالإفراج أو الاحتجاز بصورة دورية ، أو كلما طلب المتهم أو المدعي العام ذلك (م 60/3) .
وخلال التحقيق لا يجوز إرغام أي شخص على أن يجرم نفسه أو أن يعترف بذنب أو يخضع لأي شكل من أشكال الإكراه أو التهديد أو التعذيب أو سوء المعاملة أو أن يقبض عليه أو يحتجز تعسفاً (م55) وله عند استجوابه أثناء التحقيق الحق في الحصول على مساعدة مجانية من مترجم كفء عند الحاجة والحصول على الترجمات التحريرية اللازمة ، وإذا ما اشتبه أثناء التحقيق أن الشخص المستجوب قد ارتكب جريمة ما فيجب على السلطات الوطنية والمدعي العام أخطاره قبل استجوابه بأنه مشتبه في ارتكابه لجريمة ، وقبل الاستجواب يتعين على السلطات أخطاره بحقوقه آلاتية : التزام الصمت دون أن يؤخذ هذا الصمت في الاعتبار عند تقدير البراءة أو الذنب ، وان يدافع عنه محام يختاره ، وفي حالة عدم وجود محامي للدفاع عنه ، ينتدب محامٍ للدفاع عنه ، وان يتم الاستجواب في حضور المحامي .
ب-ضمانات المتهم أثناء المحاكمة:لكي تكون المحاكمة عادلة على المحكمة مراعاة ما يأتي:
1- أن يكون للمتهم الحق في الحصول على الوقت الكافي والتسهيلات الكافية للاستعداد للمحاكمة ، وان تكون له حرية الاتصال بمحاميه م (67/1/ب) ، وإبلاغه فوراً وتفصيلاً بطبيعة التهمة الموجهة إليه وسببها ومضمونها ، وذلك بلغة يفهمها أو يتكلمها م (67/1/أ) ، وان يحاكم دون أي تأخير لا مبرر له م (67/1/جـ) كذلك تقضي المادة (67/1/د) بإبلاغ المتهم بحقه في أن يتولى الدفاع عن نفسه أو من خلال محام يختاره ، وان يوفر له محام كلما اقتضت العدالة ذلك ، وكذلك حق المتهم في أن يستجوب الشهود بنفسه أو بواسطة أخر ين وان يؤمن له حضور شهود النفي بنفس الشروط المتعلقة بشهود الإثبات م (67/1/هـ) ، وان يدلي المتهم ببيان للدفاع عن نفسه دون أن يحلف اليمين م (67/1/ح) ، وعلى المدعي العام الكشف عن الأدلة التي في حوزته في اقرب وقت التي قد تظهر أو تميل إلى إظهار براءة المتهم أو تخفف من ذنبه أو التي قد تؤثر في مصداقية أدلة الادعاء م (67/2) . أما إذا كان قد تم الحصول على الأدلة بأسلوب غير قانوني فعلى المحكمة عدم قبول هذه الأدلة ، وذلك لاعتبار مثل الإجراء انتهاكاً للنظام الأساسي وحقوق الإنسان المعترف بها عالمياً إذا كان الانتهاك يثير شكاً كبيراً في موثوقية الأدلة أو إذا كان قبولها يمس نزاهة الإجراءات ويلحق ضرراً بإلغاء م (69/7) ، وإذا اقر المتهم بارتكابه لإحدى الجرائم أي إقراره بالتهمة المنسوبة إليه ، فان على المحكمة بل هي ملزمة بان تتجاهل الاعتراف بالذنب أو الإقرار به إذا لم تطمئن إلى أن هذا الاعتراف أو الإقرار قد صدر طواعية بعد تشاور كاف بينه وبين محاميه ، أو أن المتهم يفهم طبيعة هذا الاعتراف والنتائج المترتبة عليه (م 65 / أ و ب) .
2- تطبيق مبدأ الشرعية بصورها الثلاث ، وهي انه لاجريمة بلا نص ، ومعنى ذلك أن الشخص لا يكون مسؤولاً جنائياً عن فعله الذي لايشكل وقت ارتكابه جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ، وإذا ما تم تفسير جريمة معينة ، فان تفسير ذلك يكون بطريقة ضيقة ، مع استبعاد القياس ، ومراعاة تفسير الغموض لمصلحة الشخص محل المحاكمة (م22) ، ثم مبدأ لا عقوبة إلا بنص، وهذا يعني عدم جواز توقيع عقوبات غير تلك المنصوص عليها في النظام الأساسي (م23) ، وأخيراً عدم رجعية الأثر على الأشخاص ، وهذا يعني عدم جواز مساءلة الشخص عن سلوك سابق على سريان النظام الأساسي للمحكمة (م24) .
3- ضرورة احترام قرينة البراءة ، من المعروف أن مبدأ الشرعية الجنائية له وجهان : الوجه الخاص بالتجريم والعقاب أي لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، والوجه الخاص بالإجراءات الجنائية ، الذي يفترض براءة المتهم حتى يحوز الحكم الصادر بإدانته قوة الشيء المحكوم فيه ، وقرينة البراءة تشكل حقاً من حقوق الإنسان ، تعني حق كل إنسان متهم بارتكاب جريمة جنائية في أن تفترض براءته حتى تثبت إدانته قانوناً([160]). وانطلاقاً من ذلك ، جاء النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية لتؤكد قرينة البراءة تعزيزاً للمبدأ الرئيسي (المحاكمة العادلة) ، لذلك نصت المادة (66 / 1) إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته أمام المحكمة الدولية ، والمادة (66/3) نصت صراحةً على انه لكي تدين المحكمة المتهم يجب أن تقتنع بأنه مذنب بدون أي مجال للشك ، كما أن المادة (66/2) تضع عبء الإثبات في جميع مراحل الدعوى على المدعي العام بما يتماشى مع مبدأ افتراض البراءة ، بينما تنص المادة (67/3/ط) على انه لا يجوز أن يفرض على المتهم عبء الإثبات أو واجب الدحض على أي نحو ، وهذا يعني افتراض البراءة .
4- مراعاة حق الاستئناف ، تجيز المادة (81) للأشخاص الذين تدينهم المحكمة الدولية الجنائية ، أن يستأنفوا الأحكام الصادرة ضدهم أمام دائرة الاستئناف بناءً على وجود أخطاء في الإجراءات أو الوقائع أو القوانين أو أي سبب أخر يمس العدالة أو موثوقية الإجراءات أو القرارات التي اتخذت خلال المحاكمة ، وإذا قبل الاستئناف يحق للمستأنف أن يطلب تعويضاً إذا ظهرت وقائع جديدة أو مكتشفة حديثاً تؤكد بصورة قاطعة خطأ في تطبيق العدالة .
5- إما في حالة اكتشاف أدلة بعد الاستئناف ، إما إذا تم اكتشاف أدلة جديدة بعد انقضاء مدة الاستئناف ، فانه يجوز للمتهم أن يستأنف بموجب المادة (84) أمام دائرة الاستئناف من اجل مراجعة حكم الإدانة أو العقوبة المقررة بشأنه ما لم تكن تلك الأدلة متاحة وقت المحاكمة ، أو عدم تقديمها كان نتيجة لخطأ المتهم ، شرط أن يكون اكتشاف ذلك الدليل وقت المحاكمة كان سيترتب عليه صدور حكم مختلف .
واخيراً يمكن القول ايضاً انه يجب على المحكمة ان تراعي مبدأ اخر وهو (مبدأ شخصية العقوبة) والمقصود به ان لا تصدر الاحكام الجزائية إلا ضد الشخص الذي انتهك القاعدة القانونية الدولية ، وفي حالة انتهاك هذا المبدأ من القاضي الدولي الجنائي فأننا لا نكون بصدد قاعدة جزائية قائمة قانوناً حيث توصم هذه القاعدة الجزائية بعدم المشروعية (البطلان). لان القاضي الدولي يكون بفعله هذا قد انتهك مبدأ من مبادئ العليا في المجتمع الدولي (شخصية العقوبة) ومن حق الشخص الذي اصابه الضرر من هذا الانتهاك ان يطالب بالتعويض ، ولا شك ان اتساق القاعدة الجزائية مع ضابط الشخصية يضمن لها – أي القاعدة القانونية الجزائية – الفعالية Efficace ([161]).
اترك تعليقاً