بحث قانوني ودراسة عن شرط العمومية في تطبيق نظرية الظروف الطارئة “دراسة مقارنة”
للقاضي فواز عطية
رئيس محكمة بداية اريحا
المقدمـــــــة
إن أي عقد ينعقد بين أطرافه بإرتبط الإيجاب بالقبول، ليرتب الأثر في المعقود عليه، وليتحقق ذلك فإنه يشترط توافر أركان العقد وشروطه حتى لا يستطيع أحد العاقدين الرجوع عنه بإرادته المنفردة، وبما أن القوة الملزمة للعقود ملزمة للأطراف ويجب عليهم الوفاء بالإلتزامات المترتبه عليهم، فإنه بدهيا ألا يستطيع أي منهم بإرادته المنفردة نقضه أو تعديله إلا بالإتفاق على ذلك أو سندا لنص في القانون، وهو ما يعبر عنه الفقه بأن الإلتزام الذي ينشئه العقد يساوي الإلتزام الذي يفرضه القانون
.
وبما أنه لا يجوز الخلاص من الإلتزام المفروض بقوة العقد أو بحكم القانون، فإن تنفيذه يشمل إلى كل ما يعتبر من مستلزماته، وبما يتماشى مع القانون أو العرف أو العدالة وطبقا لطبيعة العقد، وحيث أنه من المفترض كذلك تنفيذ العقد عند حلول الأجل، إلا أن تراخيا في التنفيذ قد يحدث لسبب غير متوقع فيصبح تنفيذ الإلتزام على النحو المتفق عليه مرهقا.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن ظروفا غير متوقعة تؤدي إلى تغيير الظروف الإقتصادية التي كانت تقوم على التوازن للعقد عند تكوينه، بأن تغيُرا مفاجئا لم يكن في الحسبان ولم يتوقع له، أدى إلى الإخلال في التوازن الإقتصادي بين العاقدين، بحيث يصبح تنفيذ العقد من جانب المدين مرهقا يؤدي إلى تهديده بخسارة فادحة تتجاوز الحد المألوف، وطبقا لهذا الظرف فإن التزام المدين لا ينقض لأن الظرف الطارئ ليس بقوة قاهرة، وإنما يجب إزالة الإرهاق أو تخفيضه إلى الحد المعقول عن المدين
.
ومثال هذه الحالة أن يتعهد شخص بتوريد سلعة بثمن معين ثم تنشب حرب مفاجأة، تؤدي إلى تعذر استيراد السلعة من الخارج ويرتفع ثمنها على المدين الملزم بتوريدها للدائن بأضغاف الثمن المتفق عليه، بحيث يبلغ قدرا معينا يؤدي إلى تهديد المدين بخسارة فادحة تتجاوز الحد المألوف، سيما عندما تكون الأجواء غير مواتية للحرب ولم يكن شائعا أن حربا ستنشب في منطقة تنفيذ العقد، أوظرفا خاصا بالمدين يحول دون استمرار تنفيذ العقد لسبب ما، وبالتالي تثور اسئلة تطرح على هذه الواقعة، أيجوز للقاضي المدني أن يتدخل في مثل هكذا ظروف بناء على قواعد موضوعية تتمثل بأن المشقة تجلب التيسير؟ وهل يجوز للقاضي المدني أن يزيل الإرهاق أو تخفيفه إلى الحد المعقول في حال وجود اتفاق مسبق بين الطرفين؟ أم يجبر المدين بتنفيذ التزامه مهما بلغت خسارته؟ وهل يجوز للقاضي المدني أن يعدل في شروط العقد على نحو يخالف القاعدة العامة في العقود بأن “العقد شريعة المتعاقدين” استنادا للعدالة أم أن التعديل في العقد أساسه توفر الظرف الطارئ العام ؟ وما هو أثر التعديل في الحاضر والمستقبل؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقتضي دراسة الإشكالية بالوصف التحليلي المقارن بتقسيم البحث الى مبحثين لكل منهما مطلبان على النحو الآتي:
المبحث الاول : مفهوم نظرية الظروف الطارئة .
المطلب الأول :الأساس القانوني الذي تقوم عليه نظرية الظروف الطارئة .
المطلب الثاني: العقود التي تنطبق عليها نظرية الظروف الطارئة .
المبحث الثاني : شرائط تطبيق نظرية الظروف الطارئة .
المطلب الاول :شرط العمومية في القانون وحكم العقد.
المطلب الثاني : آثار تطبيق نظرية الظروف الطارئة على العقد الاصلي .
الخاتمة
وبموجب هذا التقسيم يمكن أن نخلُص إلى أن التمسك بحرفية العقود في ظل الظروف التي تواكب الحياة العصرية وما يلحقها من أزمات على البشرية بفعل الإنسان، كنتيجة للمشاحنات والإضطرابات والنزاعات أو لأسباب خارجة عن إرادة المتعاقد المدين، حتما سيؤدي إلى الإخلال بالإلتزامات بين المتعاقدين، وبالتالي هذه الظروف الخارجة عن إرادة المتعاقدين عند تنفيذ العقود لا يجوز لأحدهما أن يتمسك بإلغاء العقد، سيما إذا كانت العقود هي من العقود المستمرة أو من العقود دورية التنفيذ، وإنما للقاضي أن يتدخل لتعديل آثار العقد حتى انحصار الظرف الطارئ وزواله وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ليكون حكم العقد محلاً للتطبيق كما اتفق عليه العاقدان، وإن التعديل ليس إلا استثناء عن الأصل اقتضته ضرورة حماية المدين من الظرف الطارئ على اساس أن الضرورة تقدر بقدرها .
المبحث الاول
مفهوم نظرية الظروف الطارئة
نص القانون المدني المصري في المادة 147/2 ” ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الإلتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الإلتزام المرهق إلى الحد المقبول ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ” ونصت المادة 148/2 من القانون المدني السوري على ذات النص دون تغيير أو تحريف أو إضافة، أما المادة 205 من القانون المدني الأردني فقد نصت ” إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الإلتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للمحكمة تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن ترد الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول إذا اقتضت العدالة ذلك، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك .
وبموجب النصوص القانونية آنفت الذكر، يستدعي منا وقبل التعرض لمفهوم ضرورة توفر شرط العمومية في نظرية الظروف الطارئة من عدمه الوقوف على التطور التاريخي لهذه النظرية ليتحدد مفهومها.
إذ يرجع أصل هذه النظرية إلى القانون الكنسي ، حيث كان رجال الدين المسيحي يُحرمون الغبن في العقود سواء أكان ذلك عند تكوين العقد أو عند تنفيذه، كما تبنى رجال الفقه الإسلامي نظرية الظروف الطارئة في بعض العقود وعلى وجه التحديد في عقود الإجارة
.
وبناء على مانشره رجال الدين المسيحي من تحريم الغبن لأنه ضرب من الربا المحرم، أخذ الفقه الفرنسي المطالبة بتطبيق نظرية الظروف الطارئة في العقود المدنية محاولا التأثير على القانون ذاته الذي أخذ بمبدأ سلطان الإرادة وبالقوة الملزمة للعقد، ولإقناع القضاء المدني الفرنسي للقبول بهذه النظرية إما على أساس الغبن أو الإثراء دون سبب أو التعسف في استعمال الحق أو لمقتضيات العادلة، إلا أن هذه النظرية لم تلق قبولا لدى القضاء المدني الفرنسي، بحيث رأى في هذه النظرية ما يهدد استقرار المعاملات المدنية، وهو ما تبناه القضاء الفرنسي لعدم وجود نص تشريعي تقوم عليه النظرية في القانون المدني
.
ورغم رفض القضاء المدني الفرنسي الأخذ بهذه النظرية، تبنى القضاء الإداري الفرنسي هذه النظرية من خلال مجلس الدولة الفرنسي بحكم صدر في 30/6/1916 واستمر في ذلك، وأول هذه التطبيقات، سمح القضاء الإداري لشركة الكهرباء المطالبة برفع سعر توريد التيار الكهربائي، والسبب في الأخذ بهذه النظرية يعود لأمرين :
الأول: القضايا والمنازعات التي تعرض على القضاء الإداري متصلة بالمصلحة العامة، ويجب مراعاة والتوفيق ما بين القواعد القانونية والمصلحة العامة، فإذا كان الأمر يتعلق بمرفق عام يجب مراعاة عدم تعرضه للخسارة الفادحة كي يتسنى له تقديم الخدمة والمواصلة على ذلك وليس على مقتضيات العدالة، وإلا لأنتهى الأمر إلى تعطيل سير المرفق العام وبالتالي يحرم الجمهور من تلقي الخدمة.
ثانيا: القضاء الإداري ليس مقيدا بنصوص تشريعية، فهو يتمتع بحرية لا يكون فيها مقيدا كما الحال في القضاء المدني، مما يجعل من مراعاة الظروف ومواكبة التطورات أمرا ملحا على القضاء الإداري التعامل بها.
إذن نلاحظ مما سبق، أن التطور التاريخي لهذه النظرية جعلها مزدهرة في القانون العام، وعلى وجه التحديد في القانون الإداري، ثم انتقلت إلى القانون الخاص في بعض الدول كما هو الحال في التشريعات المدنية العربية التي وجدت في المُحصلة النهائية أن العقود الملزمة للجانبين قد تتعرض أثناء تنفيذها أوعند حلول الأجل إلى نكسات لا يمكن توقعها، مما يجعل من هذه العقود مرهقه بحق أحد أطرافها دون الوصول إلى حد الإستحالة، الأمرالذي جعل من تبني هذه النظرية في بعض التشريعات المدنية العربية يقوم على إحدى الأسس التالية : إما استنادا لشروط العقد أو لحكم القانون أو تحقيقا للعدالة ما بين اطراف العقد، وهذا ما يحاول الأخذ به المشرع المدني الفرنسي في مشروع القانون المدني لعام 2008، مما يستدعي معرفة هذه الأُسس التي تقوم عليها نظرية الظروف الطارئة في بعض المدونات العربية والتطبيقات القضائية على ذلك.
المطلب الأول
الأساس القانوني الذي تقوم عليه نظرية الظروف الطارئة
بالإستناد إلى نصوص المواد 147/2 مدني مصري و 148/2مدني سوري والمادة 205 من القانون المدني الأردني التي نصت الأخيرة صراحة على أنه ” إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الإلتزام التعاقدي وإن لم يصبح مستحيلا صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للمحكمة تبعا للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن ترد الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول إذا اقتضت العدالة ذلك، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك “.
فنجد من خلال النص الأردني والنصين المصري والسوري أن إختلافا في الأُسس المعتمدة لتطبيق نظرية الظروف الطارئة، بحيث يعتمد النص في القانون المدني الأردني لرد الإلتزام المرهق على المدين إلى الحد المعقول بتوفر الحادث الإستثنائي العام، مع إمكانية تطبيق هذه النظرية في حال ورود شرط المشقة كإستثناء عن شرط العمومية ، أو أن يحصل حادثا إستثنائيا غير متوقع
ولو كان خاصا بالمدين كما هوالحال في أحكام المجلة العدلية المطبقة في فلسطين التي أخذت بالظرف الطارئ كحدث استثنائي دون ضرورة لتوفر شرط العمومية في عقد الإيجار، وهذا ما نصت عليه المادتان 575 و576 من القانون المدني السوري عندما تجاوز المشرع السوري شرط العمومية لتطبيق نظرية الظروف الطارئة لأنه اكتفى بأن يكون الحادث استثنائيا غير متوقع وإن كان خاصا بالمدين ، أو أن العدالة تقتضي ذلك كما ورد في حكم المادة 205 من القانون المدني الأردني، بحيث خلا النصان السوري والمصري من هذه الفقرة، وفي جميع الحالات يجب أن يكون الإلتزام مرهقا بحق المدين يهدده بخسارة فادحة بعد الموازنة بين الطرفين، مما يدل على إيراد الفقرة المشار إليها في القانون المدني الأردني يعد من باب التأكيد على أن العدالة هي الأساس في قيام هذه النظرية، ورغم أن الأساس القانوني لهذه النظرية محل اختلاف بين الفقهاء ، إذ يرى البعض أنها تقوم على أساس ضرورة التعادل الإقتصادي بين الإلتزامات المتقابلة في العقود الملزمة للجانبين، إلا أن هذا الرأي لم يلق الإستحسان كون القانون المدني المصري والقانوني المدني السوري لم يشترطا التعادل الإقتصادي في الإلتزامات المتقابلة، وحجتهم في ذلك أن اختلال التعادل غير كاف لتطبيق نظرية الإستغلال التي تقوم على الطيش والهوى في أمر من الأمور ، ليستغل أحد المتعاقدين هذه الفرصة نتيجة طيش وهوى المتعاقد الآخر، وبالتالي ليحصل على مزايا دون مقابل، بينما اعتبر البعض الآخر ، أن أساس هذه النظرية لا تقوم على النية المفترضة عند المتعاقدين في استمرار بقاء التعادل الشخصي، وإنما في الواقع أن اساسها يقوم على مبدأ العدالة
.
المطلب الثاني
العقود التي تنطبق عليها نظرية الظروف الطارئة
بعد أن عرفنا ماهو الأساس القانوني التي تقوم عليه هذه النظرية في المطلب السابق، نجد المشرع المدني في مختلف التشريعات المدنية تبنى هذه النظرية على العقود الواجب تطبيقها على نظرية الظروف الطارئة استناداً لتوفر مذهبين:
المذهب الأول: يحصر تطبيق نظرية الظروف الطارئة على عقود المدة (العقود الزمنية)، ومما يلاحظ أن أنصار هذا المذهب أخذوا بالتلاشي لعدم وجود تأييد لهم كثيرا، وهو ما يطلق عليه بالمذهب الضيق.
أما المذهب الثاني: وهو ما يطلق على أنصاره بالمذهب الموسع، فهم لا يقتصرون تطبيق نظرية الظروف الطارئة على العقود الزمنية، وإنما يرى انصار هذا المذهب أن نظرية الظروف الطارئة تشمل العقود الفورية كذلك، إذا أُرجئ تنفيذها إلى المستقبل .
وهذا ما نص عليه صراحة كل من القانون المدني البولوني والقانون المدني الإيطالي الذي نص الأخير في المادة 1467 على أنه ” في العقود ذات التنفيذ المستمر أو التنفيذ الدوري أو التنفيذ المؤجل إذا أصبح التزام أحد المتعاقدين مرهقا على إثر ظروف استثنائية جاز للمتعاقد المدين بهذا الإلتزام أن يطلب فسخ العقود، وللمتعاقد الآخر أن يدرأ طلب الفسخ بأن يعرض تعديلا لشروط العقد بما يتفق مع العدالة”، وبإستقراء نص القانون المدني المصري المادة 147/2 ونص القانون المدني السوري المادة 148/2 ونص المادة 205 من القانون المدني الأردني، لم يشترط أي من القوانين المذكورة لإنطباق نظرية الظروف الطارئة نوعا معينا من العقود، وعليه فلا مجال للتحديد من غير محدد، الأمر الذي يُبنى على ذلك أن هذه النظرية تنطبق على العقود الفورية مؤجلة التنفيذ وعلى عقود المدة أي العقود الزمنية، وهذا ما جرى عليه قضاء بعض الدول العربية في كل من مصر وسوريا والأردن ، حيث جاء في قرار لمحكمة النقض السورية بتاريخ 20/3/1972 ” أن توصيف عقد البيع أنه من العقود الفورية وليس من العقود الزمنية بإعتبار أن الزمن ليس بعنصر جوهري، إذ يبقى الزمن في البيع المؤجل التنفيذ أمرا عارضا فإنه يجوز أن يكون العقد رغم ذلك متراخيا إذا كان التسليم للمبيع مؤجلا، إذ ليس من الضروري أن تنصرف العقود المتراخية في حدود نظرية الحوادث الطارئة إلى العقود الزمنية فقط، وإن كانت هذه الأخيرة هي المجال الطبيعي لهذه النظرية.
المبحث الثاني
شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة
سبق وأن أشرنا أنه قد يحدث عند حلول الأجل في تنفيذ العقد المتراخي ظروفا بسبب حادث غير متوقع، ليصبح تنفيذ الإلتزام على المدين مرهقاً، على نحو يهدده بخسارة فادحه، على أن يراعى التمييز بين الحادث أو الظرف الطارىء والقوة القاهرة، إذ أنهما يتلاقيا في أن كل منهما أمر غير متوقع الحدث عند التعاقد، ولا يمكن دفعه، بينما يفترقان من حيث الأثر، إذ في الحادث الطارىء يتم تعديل الإلتزام الذي أصبح مرهقا، في حين أثر القوة القاهرة هو انقضاء الإلتزام ، وبالتالي لا يجوز الإتفاق مقدما على استبعاد حدوث الظرف الطارئ، لأنه أمر يتعلق بالنظام العام بخلاف القوة القاهرة التي يجوز أن يتفق على أن يتحمل تبعتها المدين، ومن هذا المنطلق، يجب أن تتوافر شروط موضوعية لتطبيق هذه النظرية بالإضافة لشرط العمومية، وهذا ما سنتعرف عليه من خلال المطلب التالية
.
المطلب الاول
شـرط العموميـة في القانون وحكم العقد
أولا: شرط العمومية
أجمع الفقه على أن شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة تتمثل بأربعة شروط ، رغم عدم أخذ أي من القوانين المدنية المصري والسوري والأردني للشرط الأول، وهذه الشروط على النحو الآتي :
أولا: أن يكون العقد الذي تطبق عليه هذه النظرية متراخيا، بمعنى أن تكون هناك فترة زمنية تفصل ما بين انعقاد العقد وتنفيذه، والمجال الطبيعي لتطبيق هذه النظرية تنصب على العقود ذات التنفيذ المستمرة كالإجارة مثلا، والعقود ذات التنفيذ الدوري كعقد التوريد، وفيما عدا ذلك فإن النظرية تشمل العقود الفورية كالبيع اذ أُجل تنفيذها باتفاق بين المتعاقدين.
ثانياً : ألا يكون العقد من زمرة العقود الإحتمالية كعقد التأمين أو كعقد المضاربة في البورصة، وذلك أن هذه العقود بطبيعتها قد تعرض أحد العاقدين لربح كبير أو خسارة كبيرة.
ثالثاً : أن يطرأ حادثا استثنائيا عاما لم يكن في الوسع توقعه كقيام حرب أو ثورة أو فرض تسعيرة جبرية أو استيلاء إداري مما يقتضي استبعاد الحوادث المألوفة، ويجب كذلك مراعاة الزمان والمكان، إذ ما يكون استثنائيا في بلد قد يكون عاديا في بلد آخر،
وما يكون استثنائيا في زمن ما قد يكون عاديا في زمن آخر، فهطول الثلج في اوروبا لا يعد حادثا استثنائيا بينما هطول الثلج في دول الخليج يعد حادثا استثنائيا، وأن يكون عاما لإخراج الحادث الاستثنائي الخاص الذي يقتصر على المدين وحده، إذ لا يعتبر مرض المدين أو إفلاسه أو هلاك بضاعته معذرة بمقتضى هذه النظرية، كما ولا يشترط الحادث أن يكون عاما على جميع الناس، وإنما يكفي ليكون شاملا لطائفة منهم فان تلف محاصيل زراعية في منطقة ما سبب جراد غير مألوف، ويجب أن يكون الحادث عدم متوقع الحدوث، ومعيار التوقع في القانون هو معيار موضوعي، أي أن يكون الإنسان العادي في مثل الظروف التي حصلت مع المدين بحيث لا يستطيع توقعها، ويرى البعض أن هناك شرطا منطقيا وإن لم يصرح به القانون، وهو ألا يكون في وسع المدين دفع تأثيره من نفسه، فإن توانى المدين عن بذل الجهد اللازم لدفع تأثير الحادث الطارئ العام عندما يكون ذلك ممكنا، لا يحق له التمسك بنظرية الظروف الطارئة إذ يقرب مثالا على ذلك انقطاع المواصلات انقطاعا عارضا يمكن التغلب عليه باستعمال طرق اخرى للنقل غير تلك التي انقطعت.
رابعاً: أن يصبح هذا الظرف أو الحادث الاستثنائي العام مرهقا في تنفيد الإلتزام بحيث يؤدي إلى خسارة فادحة تتجاوز الحد المعقول ، إذ يقوم الإرهاق على الإختلال في التوازن الاقتصادي بين الإلتزامات المتقابلة، وعلى القاضي تقديره بشكل موضوعي، وفق نوع العقد لا بشكل ذاتي وفق شخص المدين، إذ يُعد الإرهاق حاصلاً حتى تجاوزت الخسارة المحدودة المعقولة والمألوفة، بغض النظر فيما إذا كان المدين ثرياً أم لا
.
ثانيـا: حكم العقـد
كثيرا من العقود تتضمن بنودا بين المتعاقدين تحدد القوة الملزمة لها بما ورد فيها من شروط واجبة التنفيذ عند حلول الأجل، وفي العادة تتضمن العقود ذات التنفيذ المستمر أو التنفيذ الدوري أو التنفيذ المؤجل شرطا يطلق عليه شرط المشقةhardship clause ، وهو مبدأ أصيل في العقد جاء نتيجة لضرورات عملية واقتصادية فرضت ذاتها على العقود، بحيث يتفق المتعاقدان على أنه في حالة حدوث ظرف غير متوقع لم يكن في الحسبان، كالحوادث السياسية أو الإقتصادية التي تؤدي لزيادة كلفة تنفيذ العقد، حتما سيؤدي لإختلال ميزان العقد إختلالا جسيما، وبالتالي تنفيذ العقد سيكون عسيرا ومرهقا، وبسبب هذا الإختلال يرى المتعاقدان للحفاظ على استمرارية العقد وتنفيذه بحسن نية أن يتضمن العقد شرط المشقة ، بحيث إذا تحقق الشرط يصار لتعديل العقد إما اتفاقا أو قضاء ليتم إزالة الإرهاق عن المدين المهدد بخسارة فادحة بما لايؤدي كذلك للإضرار بالدائن، كما أنه في عقود الإجارة الأصل أن يتم تنفيذها حتى انتهاء المدة المتفق عليها، إلا أنه جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل
انقضاء المدة إذا وجدت ظروفا غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإجارة مرهقا ، وبتوفر هذه الشروط المتوفرة في العقد يصبح لزاما على القضاء تطبيق نظرية الظروف الطارئة لمعالجة شروط العقد وتنفيذ ما اتفق عليه المتعاقدان بحكم الشروط وليس على أساس القانون الذي اشترط العمومية في تطبيق تلك النظرية.
المطلب الثاني
آثار تطبيق نظرية الظروف الطارئة
إذا توافرت شروط نظرية الظروف الطارئة على النحو السابق الذكر، جاز للقاضي أو المحكمة تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الإلتزام المرهق للحد المعقول ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك .
وما تجدر الإشارة إليه أن سلطة القاضي هنا استثنائية، كون هذه الحادثة تتجاوز مسألة تفسير العقد إلى تعديله، إذ يُرد الإلتزام المرهق للحد المعقول، وبالتالي لا يتم تحويل الخسارة من المدين إلى الدائن، وإنما يتم تعديل العقد، إذ يصبح القسم الزائد من الخسارة عن الحد المألوف موزعاً بين الطرفين، لذا القاضي ليس مطلق اليدين في معالجة الموقف الذي يواجهه، حيث جرى أن الظروف لا تقتضي إنقاص الإلتزام المرهق ولا زيادة الإلتزام المقابل، بل وقف تنفيذ العقد حتى يزول الحادث الطارئ، إذ يجري زيادة الالتزام المقابل أو إنقاص الالتزام المرهق.
وبناءً على ما تقدم، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في حالتي إنقاص الإلتزام المرهق أو زيادة الإلتزام المقابل، على القاضي أن يرد الإلتزام إلى الحد المعقول في حدود الزمن الحاضر، إذ لا شأن له بالمستقبل لأنه غير معروف، فقد يزول أثر الحادث الطارئ، ويرجع العقد إلى ما كان عليه قبل التعديل وتعود له قوته الملزمة كما كان في الأصل، وإذا كان للقاضي كذلك أن يوقف الإلتزام المرهق أو ينقص منه أو يزيد في الإلتزام المتقابل، فإنه لا يجوز له فسخ العقد استناداً للنصوص آنفت الذكر، وعلى القاضي أن يرد الإلتزام المرهق للحد المعقول، بحيث تتوزع تبعة الظروف الطارئة بين الدائن والمدين.
وعليه نلاحظ في آثار تطبيق نظرية الظروف الطارئة أمرين:
الأول: رغم مرونة تطبيق هذه النظرية إلا أنها تعتبر من نظام العام، فلا يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على ما يخالف نصوص المواد أنفت الذكر، وهذا ما عبّر عنه المشرع في كل من مصر وسوريا والأردن ” ويقع باطلاً كل اتفاق خلاف ذلك ” .
الثاني: أن مهمة القاضي لا تقتصر على تفسير العقد بل تتجاوز ذلك إلى تعديله، بموجب الإتفاق أو بحكم القانون.
الخاتمــــة
مما لا يختلف عليه اثنان من القانونين، أن عند إبرام العقد وعندما يحل أجل تنفيذه يشترط توافر حسن النية، إلا أن ظروفا قد تطرأ لا علاقة لإرادة المتعاقدين في أحداثها يؤدي إلى التراخي في التنفيذ، مما يلحق بأحد الأطراف إرهاقاً يخرج عن الحد المألوف نتيجة أمرٍ غير متوقع الحدوث، لا يمكن دفعه، إما عند التعاقد أو عند التنفيذ، وبما أنه لا يجوز لأحد أطراف العقد أن يستغل الظرف لنقض العقد أو تعديله، كما ولا يجوز للقاضي إنشاء العقد نيابة عن المتعاقدين، وإنما يقتصر عمله على تفسير مضمون العقد بعد الرجوع إلى ما رمت إليه نية المتعاقدان، استثناءً وعندما يتوفر هذا الظرف، أجازت بعض التشريعات كالتشريع المدني الإيطالي والبولوني والمصري والسوري والأردني وكل من حذا حذوها عند حدوث طارئ غير متوقع بتعديل العقود.
ومما يلاحظ أن مجال تطبيق نظرية الظروف الطارئة عند حلول الحدث أو الظرف طارئ، حتما سيؤدي الإخلال في تنفيذ العقد بشكل شاق ومرهق إلى حد التهديد بخسارة فادحة للمدين، الأمر الذي يستدعي من قضائنا الفلسطيني وبموجب حكم المواد 17 و19و20 و31 و 82 و83 من أحكام المجلة، والتي جميعا تدور في فلك المشقة تجلب التيسير ورفع الضرر وضرورة مراعاة شروط العقد المعلقة، التدخل بتعديل العقد المرهق بالمدين المهدد بخسارة فادحة، حتى ولو لم ينص العقد على شرط المشقة أو تغيير القيمة، مادم أن النصوص المذكورة أعلاه تسمح بتدخل القاضي استنادا لحكم المواد المشار إليها أعلاه وتطبيقا للعدالة.
أما التشريعات العربية التي أخذت بنظرية الظروف الطارئة، وعلى وجه التحديد القانون المدني الأردني، فمن وجهة نظري أنه ليس من الضروري أن تنص المادة 205 من ذلك القانون على شرط العمومية لتطبيق تلك النظرية، طالما أن المادة المذكورة تضمنت على” فكرة العدالة” نصا لتطبيقها، ومادام أن القضاء الأردني أخذ بالإتفاق لتطبيق أثر النظرية على المادة 205 دون اشتراط العمومية، إذ من الممكن أن يكون الحدث والحالة هذه شخصياً بوجود اتفاق لتطبيق شرط المشقة.
لكل ما سبق نرى على ضوء ذلك، أن المشرع الأردني في حال إلغائه لشرط العمومية سيكون تشريعه من أفضل التشريعات المدنية قاطبة في تطبيق نظرية الظروف الطارئة.
قائمة المصادر والمراجع
أولا: المصادر
1- مجلة الأحكام العدلية.
القانون المدني السوري.
القانون المدني المصري.
القانون المدني الأردني.
ثانيا: المراجع
د.إسماعيل غانم ،النظرية العامة للالتزام ،القاهرة ،1969.
د . توفيق حسن فرج ، نظرية الإستغلال في القانون المصري ، رسالة دكتوراه ،القاهرة ، 1958 .
د. حامد زكي ، رسالة دكتوراه “الحوادث الطارئة في القانون الإنكليزي ” 1930.
د.عبد الرزاق السنهوري، نظرية الإلتزام بوجه عام مصادر الإلتزام الوسيط في شرح القانون المدني المصري الجديد،الكتاب الأول، دار احياء التراث العربي- بيروت.
د . عبد السلام ترمانيني ،” نظرية الظروف الطارئة ، دراسة تاريخية ، دار الفكر، دمشق، 1971.
د . عبد القادر الفار ” مصادر الالتزام، مكتبة دار الثقافة للنشر ، جامعة فيلادلفيا. 1996.
محمد وحيد الدين سوار ، شرح القانون المدني السوري ، ” النظرية العامة للالتزام ” ، ج1 ، ط/7 منشورات جامعة دمشق ، 1992 .
محمد عبد الجواد محمد ” شرط الأرهاق في تطبيق نظرية الظروف الطارئة ،جامعةالقاهرة،1963.
قرارات قضائية مقارنة.
اترك تعليقاً