بحث ودراسة تناقش موضوع قضاء غير المسلم
مولانا/ حافظ الشيخ الزاكي رئيس القضاء السابق وأستاذ القانون بجامعة الخرطوم
نص البحث:
يشترط الفقهاء لتولي القضاء شرط الإسلام ، ويعللون ذلك بعدة أسباب أهمها:
1- أن القضاء من الولايات العامة وأن غير المسلم لا تكون له ولاية على المسلم ، ويحتجون لذلك بقوله تعالى [ ولن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاُ ] الآية (141) من سورة النساء.
2- أن غير المسلم لا تتوفر فيه العدالة المطلوبة لأداء الشهادة وتولي القضاء.
3- أن غير المسلم ينقصه العلم بالأحكام الشرعية ، وهي المعرفة بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والفقهاء.
4- أن غير المسلم قد تحمله عداوته للإسلام على ظلم المسلمين ، لأنه يفتقد الوازع الأخلاقي الذي يعصمه من الظلم.
وسـوف نناقش فيما يلـي هـذه الأسباب وأدلتها لنرى مـدى قوة حجتهم:
أولاً : ولاية القضاء
قسم الفقهاء الولايات إلى أقسام مختلفة وذلك على النحو التالي:
1- ولاية عامة في الأعمال العامة : الوزراء
2- ولاية عامة في أعمال خاصة : أمراء الأقاليم.
3- ولاية خاصة في أعمال عامة : قاضي القضاة /نقيب الجيش /حامي الثغور.
4- ولاية خاصة في أعمال خاصة : قاضي البلد / نقيب الجيش / حامي ثغره / جابي صدقته([1]).
إن ولاية القاضي قد تكون ولاية عامة أو تكون ولاية خاصة . فإن كانت ولايته عامة فهي تتضمن النظر في أمور عشرة تجدها في كثير من عهود القضاة ، منها : الفصل في المنازعات ، واستيفاء الحقوق ، والولاية على الغير والمجنون ، والنظر في الأوقاف ، وبتنفيذ الوصايا ، وتزويج الأيامي ، وإقامة الحدود.
وأما ولاية القاضي الخاصة فتخصص بالنظر في قضية معينة ، أو في ناحية معينة من المدينة ، أو خلال مدة معينة من الزمن ، أو بين أشخاص محدودين ، أو وفقاً لمذهب معين ، فالتخصيص يكون بالزمان والمكان والمذهب ([2]).
يذكر الدكتور وهبة الزحيلي ([3]) نقلاً عن الإمام ابن القيم في الطرق الحكمية ([4]) أن القضاء ولاية عامة كالوزارة ، فلا يصلح للتعيين فيه إلا من كان مستكملاً أوصافاً معينة مستلهمة من صنيع الخلفاء الراشدين الذين كانوا يتشددون في اختيار القضاة وفقاُ لأهلية معينة ، وقد اشترط الفقهاء لتولي القضاء عدة شروط اتفقوا على بعضها واختلفوا في أخرى ، ومن الشروط المتفق عليها : العقل والبلوغ والحرية والإسلام وسلامة الحواس والعلم بالأحكام الشرعية.
الشروط المختلف فيها فهي :
العدالة والذكورة والاجتهاد.
وقد قسم الفقهاء الوزارات إلى وزارة التفويض ووزراء التنفيذ ، فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده ، فهي تشبه رئاسة الوزارة أو نائب الرئيس اليوم ، وهو أخطر منصب بعد الخلافة ، إذ يملك الوزير المفوض كل اختصاصات الخليفة ، كتعيين الحكام والنظر في المظالم ، وقيادة الجيش ، وتعيين القائد ، وتنفيذ الأمور التي يراها.
وأما وزارة التنفيذ فهي أقل مرتبة من وزارة التفويض ، لأن الوزير فيها ينفّـذ رأي الإمام وتدبيره ، وهو وسط بينه وبين الرعايا والولاة ، يؤدي عنه أوامره ، وينفذ آراءه ، ويمضي أحكامه ، ويبلغ من قلدهم الولاية أو تجهيز الجيوش ، ويعرض عليه ما ورد منهم وتجدَد من أحداث طارئة . فليس له سلطة الاستقلال بالتوجيه والرأي والاجتهاد.
ولا يشترط في وزير التنفيذ الحرية ولا الإسلام ولا العلم بالأحكام الشرعية ، أي الاجتهاد مما هو مطلوب في وزير التفويض.
وزارة التنفيذ هي التي لا يكون لصاحبها تدبير الأمور باجتهاده ، وإنما يكون عمله قاصراً على تنفيذ أوامر الخليفة والتزام آرائه ([5]).
لا يشترط الفقهاء في وزير التنفيذ أن يكون حراً ، ولا أن يكون عالماً ، ولكنهم اشترطوا فيه أن يكون رجلاً لضعف النساء وملازمتهن الحجاب . وأجازوا أن يكون من أهل الذمة ، واستوجبوا فيه من الصفات : الأمانة ، وصدق اللهجة ، وقلة الطمع ، والبعد عن الهوى ، والسلامة من عداوة الناس ، وحدة الذكاء ، وقوة الذاكرة ، ليصدق فيما يؤديه.
يرى أبن تيمية رحمه الله تعالى أن القاضي اجتمعت فيه ثلاث صفات: فهو من جهة الإثبات شاهد ، ومن جهة الأمر والنهي مفت ، ومن جهة الإلزام ذو سلطان ، ولذلك يشترط فيه ما يشترط في هؤلاء الثلاثة . فهو كشاهد تشترط فيه العدالة . وهو كمفتٍ يشترط فيه العلم والتقوى . وهذا العلم لا يُشترط أن يكون شاملاً ، بل يكفي أن يكون القاضي عالماً بموضوع اختصاصه فمن ولي قاضياً للجنايات يُشترط فيه العلم بالجنايات ، ولكن لا يُشترط فيه العلم بالمواريث.
وهو كسلطان تُشْتَرَط فيه القوة أو القدرة على تنفيذ الأحكام . وما يُشْتَرَط من الشروط في القضاة تجب مراعاته بحسب الإمكان ، وأما مع العجز فإنه يختار الأمثل فالأمثل ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها([6]).
حجية الفقهاء:
الدليل الأول:
لقد احتج بعض الفقهاء بعدم جواز ولاية غير المسلم يقول الله تعالى [ ولن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ] الآية (141) من سورة النساء. وبالرجوع إلى كتب التفسير المختلفة قديمها وحديثها نجد أنهم قد انتزعوا هذه الجملة من سياق الآية التي تبحث عن المنافقين وكيدهم وتصف موقفهم من المسلمين في الحرب والقتال ـ ونحن نورد فيما يلي أقوال المفسرين:
1- في ظلال القرآن / سيد قطب مجلد (2) ص 782:
[ الَّذِينَ يَتَرَبْصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مُنَ اللَه قَالُواْ ألَمْ نَكُن مُعَكُمْ وّإِن كَانَ للْكَافرِينَ نَصيبٌ قَالُواْ ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مُنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهَُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ] الآية (141) من سورة النساء.
الآية تتحدث عن المنافقين وكيدهم وتظاهرهم بالمودة حين يكون للمسلمين فتح ونعمة.
الآية تتحدث عن الموقعة: [ أَلمْ نَكُن مَّعَكُمْ ] يعنون في الموقعة.
أمر الله المؤمنين بالكف عن المنافقين: [ فَاللّهُ يَحْكُكمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ].
الآية وعد من الله قاطع للمؤمنين بالنصر إذا استقر الإيمان في نفوسهم وواقعهم ، فلا يسلّط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال ، وإن غلب المسلمون في بعض المعارك.
قد تعني الهزيمة الروح وكلال العزيمة ، فالهزيمة في المعركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً.
يشير القرآن إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر . وحين تواجه حقيقة الإيمان المتصلة بالقوة الكبرى حقيقة الكفـر المنعزلة المحدودة فإنها تقهرها ، أما حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ، لأن حقيقة أي شئ أقوى من مظهر أي شئ.
2- زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي ص9 ، 2 ، ج2:
قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة.
قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر ، فإن كان الفتح قالوا ألم نكن معكم فأعطونا من الغنيمة ، وإن كان للكافرين نصيب ، أي دولة على المسلمين ، قالوا للكفار ألم نستحوذ عليكم (بالمعونة والنصرة) ونمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم ، فاعرفوا.
3- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير/ للرازي ، مجلد 5 ، ص 495:
[ ] الآية (141) من سورة النساء.
فيه قولان:
القول الأول: وهو قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ، أن المراد به في القيامة ، بدليل أنه عطف على قوله [ فَاللَهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ].
القول الثاني: أن المراد به في الدنيا ، ولكنه مخصوص بالحجة ، والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل ، وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل.
4- تفسير المنار للإمام محمد عبده ، الجزء 5 ، ص 466:
( كلمة سبيل هنا نكرة في سياق النفيس تفيد العموم ، وقد أخطأ من خصها بالحجة ، وقال بعضهم: إن هذا خاص بالآخرة ، والصواب أنه عام ، فلا سبيل للكافرين على المؤمنين مطلقاً ، وما غلب الكافرون المسلمين في الحروب والسياسة وأسبابها العلمية والعملية من حيث هم كافرون ، بل من حيث إِنهم صاروا أعلم بسنن الله في خلقه ، وأحكم عملاً بها ، والمسلمون تركوا ذلك كما علمت ، فيعتبر بذلك المعتبرون).
وواضح مما سبق اتفاق المفسرين على أن الآية تتحدث عن المنافقين في ميدان الحرب والسياسة ، ولا علاقة لها بولاية القضاء.
الدليل الثاني: ويحتج بعض الفقهاء بقول الله تعالى : [ لاّ يَتْخِذِ الْمُؤْمِنِونَ الْكَافرِينَ أَولْيَاء مِن دُوْنِ الْمؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَئْ إِلأَ أَن تَتَقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ] آل عمران الآية (28).
وقد جاء في تفسير هذه الآية:
1- تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ، مجلد 2 ، ص 139.
نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عبادة : يا نبي الله إِنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فنزلت.
وقيل نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
[ إِلأَ أن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ] يعني إِلا أن تخافـوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم.
2- جامع البيان فـي تأويل القرآن – الإمام ابن جرير الطبري ، المجلد الرابع ، ص 374 ، طبعـة دار الفكر:
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالي ذكره نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أحل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أن من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين ، وإن الله ورسوله منه بريئان ).
3- الجامع لأحكام القرآن – للقرطبي ، المجلد الثاني ، ص 57.
[ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَئٍْ ] أي ( ليس من حزب الله ولا من أوليائه في شئ ) . وواضح مما سبق أن الولاية في كل هذه الآيات تعني النصرة في الحرب ، وأن المؤمـن ممنوعُُ من اتخاذ الكافر نصيراً وحليفاً بدلاً عن المؤمنين.
ثانياً : العدالة:
وهي شرط في الشهادة وقد جعلوها شرطاً في القضاء أيضاً ، فقالوا من لا تجوز شهادته لا تجوز ولايته.
العدالة عرفها الفيومي صاحب كتاب المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي ج 2 ، 606 ( الطبعة الثالثة عام 1912م) بقوله:
( العدالة صيغة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة ظاهراً ) ثم قال : ( فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهراً لاحتمال الغلط والنسيان والتأويل بخلاف ما إذا عرف منه ذلك وتكرر ، فيكون الظاهر الإخلال . ويعتبر عرف كل شخص وما يعتاده من لبسه وتعاطيه للبيع والشراء وحمل الأمتعة وغير ذلك ، فإذا فعل ما لا يليق به لغير ضرورة قدح وإلا فلا).
والعدالة في قول أبي حنيفة أن يكون ظاهر الإسلام ، وألا تعلم عنه جرحه
يقول ابن رشد: ” هي أن يكون المسلم ملتزماً لواجبات الشرع ومستحباته ، مجتنباً للمحرمات والمكروهات ” ([7]).
وقال الماوردي ([8]) : ” العدالة أن يكون صادق اللهجة ، ظاهر الأمانة ، عفيفاً عن المحارم ، متوخياً المآثم ، بعيداً عن الريب ، مأموناً في الرضا والغضب ، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه ، فإذا تكاملت فيه فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصبح ولايته ، وإن انخرم منها وصف منع الشهادة والولاية ، ولم يُسْمَع له قول ، ولم يُنَفَّذ له حكم “.
والعدالة شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة ، فلا يجوز تولية الفاسق ولا مرفوض الشهادة لسبب إقامة حد القذف عليه ([9]).
وللرد على هؤلاء الفقهاء يمكن أن يقال:
1- إن شرط العدالة لم يرد به قرآن ولا حديث ، وإنه شرط كمال استنبطه الفقهاء من سياسات الخلفاء الراشدين.
2- إن إنكار عدالة غير المسلم على الإطلاق أمر تأثر فيه الفقهاء بالظروف التي كانت سائدة وقتذاك في الدولة الإسلامية ، والمخاطر التي كانت تحيط بها ، ومكايد أهل الكتاب في الداخل . فنحن لا نستطيع الآن أن نعمم الحكم على جميع أهل الكتاب والنصارى الذين يشاركوننا العيش كمواطنين في الدولة ، وعلينا أن نعدل منهم من اتصف بالأمانة والاستقامة.
3- إن الله سبحانه وتعالى شهد لبعض أهل الكتاب – لا سيما النصارى – بالأمانة ، وذلك في قوله تعالى : [ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ] آل عمران ، الآية (75).
4- شهادة الواقع: إن الواقع يثبت أن من بين النصارى الذين عرفناهم المستقيم في سلوكه ، العفّ في لسانه ، الأمين على ما يوكل إليه من أمانات ويُعْهَد إليه من مسئوليات . ونورد فيما يلي أقوال المفسرين في هذه الآية:
1- الإمام الطبري:
وهذا الخبر من الله عز وجل أن من أهل الكتاب ( وهم اليهود من بني إسرائيل ) أهل أمانة ، يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته ، الفاجر في يمينه المستحيل.
2- ابن العربي (أحكام القرآن):
قيل نزلت في نصارى نجران ، وقيل نزلت في قوم من اليهود.
3- تفسير القرطبي:
ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافاً لمن ذهب إلى ذلك ، لأن فساق المسلمين فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ، ولا يكونون بذلك عدولاً . فطريق العدالة والشهادة ليس يجزي فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة . ألا ترى قولهم [ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمُيينَ سَبِيلَّ ] فكيف يعدّل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه ، ولو كان ذلك كافياً في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
4- تفسير غرائب القرآن – النيسابوري ، مجلد 2 ، ص 12:
قيل إنَّ الذين يؤدون الأمانة النصارى ، والذين لا يؤدونها اليهود.
5- في ظلال القرآن ، مجلد 1 ، ص 417 ، آل عمران الآية 75:
[ وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ].
إنها خطة الإنصاف ، وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك ، والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال . ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم ، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين ، كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم ، حتى في معرض الجدل والمواجهة . فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب أناساً أمناء ، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة ومغرية:
[ وَمِنْ أهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدُهِ إِلَيْكَ ].
ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين ، الذين لا يردون حقاً – وإن صَغُر – إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة ، ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم بالكذب على الله عن علم وقصد: [ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدَّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْه قَائِمَّا ذَلِك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمَّيَّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُم يَعْلَمُونَ ] آل عمران الآية (75).
وهذه بالذات صفة يهود – لأنهم كانوا يسمون العرب الأميين ، ويعنون كل من سوى اليهود . فلا حرج على اليهود في أكل أموالهم وغشَهم وخداعهم والتدليس عليهم واستغلالهم.
6- الأساس في التفسير – سعيد حوّي – المجلد الثاني ، ص 504 :
يخبر تعالى أن من أهل الكتاب الأمناء ، ومنهم الخونة ، فالأمينون منهم من ائتمنه بمال كثير أدّاه ، ومنهم من إن تأمنه بالمال القليل لا يؤده إِليك إِلا إِذا كنت قائماً على حقك بالمطالبة والملازمة والإلحاح لتستخلص حقك ، وقادراً على استخلاصه . وسبب خيانة هؤلاء تصورهم أنه ليس عليهم حرج في أكل أموال غير أبناء دينهم ، إذ يزعمون أن الله أحلّها لهم ولو كانت أمانات ، وهذا كذب على الله واختلاق ، فإن الله حرّم عليهم أكل الأموال إِلا بحقها.
7- تفسير الشعراوي ، مجلد 3 ، ص 1552:
إنه مطلق الإنصاف الإلهي ، فإِذا كان الحق قد كشف للرسول بعضاً من مكر أهل الكتاب ، فذلك لا يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم أهل سوء ، لا ، بل منهم من يتميّز بالأمانة . وهذا القول إِنما يؤكّد إِنصاف الإِله المنصف العدل.
قال بعض المفسرين: إِن القرآن يقصـد هنا من أهل الكتاب النصارى ، لأن منهم أصحاب ضمير حي . وفي هذا التفسير إِنصاف للنصارى ، فصفة الخير لهم لا ينكرها الله بل يثبتها في قرآنه الذي يتلى إِلى يوم الدين.
ثالثاً : العلــم:
يشترط الفقهاء في القاضي العلم بأحكام الشريعة ، وهو بلا شك شرط ضروري ، لأن القاضي إذا قضى بغير علم أضاع الحقوق فهلك وأهلك . وكانوا في بادئ الأمر يشترطون في القاضي أن يكون مجتهداً ، وعندما تعَذّر وجود المجتهدين اكتفوا بأن يكون قادراً على استخراج الأحكام من مظانها . وقد مرّ بنا قول الإمام ابن تيمية ( وهذا العلم لا يشترط أن يكون شاملاً ، بل يكفي أن يكون القاضي عالماً بموضوع اختصاصه ، فمن ولي قاضياً للجنايات يشترط فيه العلم بالجنايات ، ولكن لا يشترط فيه العلم بالمواريث.
ولا يحتاج القاضي في وقتنا هذا أن يرجع إلى أقوال المفسرين والفقهاء بعد أن صيغت الأحكام الفقهية في مدونات قانونية بلغة واضحة ، وفسرت السوابق القضائية تلك النصوص ، وشرحها الفقهاء في كتبهم وأبحاثهم.
ولا يستطيع أحد أن يزعم أن غير المسلمين من المسيحيين لا يفهمون هذه القوانين ، ولا يستطيعون تطبيقها على ما يعرض عليهم من وقائع ومنازعات حتى ولو كانت هذه القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية . وقد زاملت من هؤلاء المسيحيين في الدراسة عدداً فكان بعضهم يحرز في مادة الشريعة الإسلامية درجات عالية يتفوق فيها أحياناً على كثير من المسلمين.
لقد اشترط القانون للعمل بالقضاء أن يكون الشخص قد نال شهادة جامعية في القانون ، ويستكمل من التحق بالقضاء تأهيله بالتدريب والبحث والإطلاع . وإذا أخطأ القاضي غير المسلم في حكمه نتيجة لجهله ببعض أحكام الشريعة فهناك محاكم أعلى تراجع حكمه وتصححه ، وإذا اتضح أن جهله كان فاضحاً حوسب ونُبَّه حتى لا تتكرر تلك الأخطاء
رابعاً : العـداوة:
يحتج البعض على عدم أهلية غير المسلم لتولي القضاء بأن اختلاف الدين قد يحمله على عداوة المسلم فيظلمه ، لأنه خلافاً للمسلم يفتقد الوازع الأخلاقي الذي يمنعه من الظلم.
والحقيقة أن مجرد اختلاف الدين لا يدعو إلى العداوة ، ولكن إِحساس غير المسلم بالظلم هو الذي يؤدي إِلى العداوة . لقد كان هذا السبب وارداً عندما كانت الدولة الإسلامية في معارك وحروب مع جيرانها ، وكان غير المسلم من اليهود والنصارى يتآمرون مع العدو ويكونون له عيناً بالداخل.
الواضح اليوم في بلادنا غير ذلك ، إذ أن المسيحيين في السودان مواطنون أكثرهم مسالمون ولا يتآمرون على الدولة ، أو يتعاونون مع العدو . ويوجد من بين هؤلاء الأمناء الأكفياء الذين تتوفر فيهم شروط القضاء من علم واستقامة واحترام للقانون ونزاهة وولاء للوطن . وليس ثمة سبب يدعوننا للظن بأن اختلافهم في الدين مع المسلمين قد يحملهم على عداوتهم وظلمهم.
لقد كان المسلمون فيما مضى يعتمدون في تحقيق العدل على شخصية القاضي ، أما اليوم فإن تحقيق العدل لا يعتمد على شخصية القاضي فحسب ، بل هناك ضوابط وشروط موضوعية تراعى عند اختيار القضاة ، وهناك رقابة قضائية على أعماله وسلوكه ومجالس محاسبة إذا أخل بواجبات وظيفته ، وآداب يراعيها القاضي في مسلكه وأدائه.
الخلاصـة:
1- إن الولاية التي نص عليها الفقهاء أنها لا تكون لغير المسلم هي ولاية النصرة في الحرب والسياسة كما تدل عليها الآيات التي اعتمدوا عليها ، وليس لها علاقة بولاية القضاء.
2- إن القاضي عندما يلتزم بتطبيق أحكام الشريعة إنما يجعل الولاية للشريعة وليست لحكمة القابل للخطأ والصواب والمراجعة والتصحيح.
3- إن ولاية القضاء في زماننا هذا أشبه بوزارة التنفيذ التي أجاز الفقهاء تقليدها لغير المسلم ، لأن القاضي لم يعد يحكم بما يراه ، بل هو ملزم بنصوص قانونية محددة ومفسرة ، ولم يعد حكمه نهائياً بل قابلاً للاستئناف والطعن والمراجعة ، فهو يمضي أحكام القانون الشرعي ، وينفَّذ توجيهات المحاكم الأعلى ، ويلتزم بتفسيرها للنصوص.
4- إن شرط العدالة الذي اشترطه الفقهاء يمكن أن يتحقق في غير المسلم ، بحيث تتوفر فيه الاستقامة والأمانة ، والعفة عن المحارم ، والبعد عن الهوى ، والسلامة من عداوة الناس.
5- إن العلم المطلوب للقاضي يمكن أن يتوفر اليوم لغير المسلم بالدراسات الجامعية والتدريب والبحث ، وقد سبق للفقهاء أن قالوا بأنه لا يشترط أن يكون علم القاضي شاملاً بل يكفي أن يكون عالماً بموضوع اختصاصه . وأن هذه الشروط تجب مراعاتها بحسب الإمكان ، وأما مع العجز فإنه يختار الأمثل فالأمثل ، وأنه تجوز ولاية المفضول مع وجود الفاضل.
6- إن شهادة القرآن لبعض أهل الكتاب – لا سيما النصارى – بالأمانة ، فيها إنصاف لهم ، وعدم بخسٍ للمحسنين منهم ، ومثل هؤلاء يمكن أن يتم اختيار القضاة من بينهم.
7- اختلاف الدين الذي يحمل على العداوة والظلم يمكن أن يقع من أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين يخططون للقضاء على الإسلام ويكيدون للمسلمين كما هو الشأن الآن في إسرائيل وفي كثير من الدول الغربية ، وما يحدث من المتآمرين معهم والمتعاونين بالداخل ، وليس لمثل هؤلاء مكان في الوظيفة العامة فضلاً عن القضاء.
8- إن الواقع يشهد بأن كثيراً من المسيحيين السودانيين لديهم من الوازع الأخلاقي ما يعصمهم من الظلم ، ومن حسن الخلق وسماحة الصدر ما يمنعهم من العداوة للمسلمين أو محاباة أبناء ملتهم . بل إن ما عليهم من الرقابة لا يتيح لهم مجالاً لتحيّزٍ أو محاباة.
أقول هذا وأستغفر الله من الزلل والخطأ وأسأله التوفيق والسداد.
________________________________________
[1] عبد السلام العجلاني: عبقرية الإسلام في أصول الحكم – ص 346.
[2] وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته ، ص 3744 ابن القيم : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 238.
[3] وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته ص 728.
[4] المرجع السابق.
[5] عبد السلام العجلاني : المرجع السابق ص 166.
[6] محمد رواس قلعة جي ، موسوعة ابن تيمية.
[7] ابن رشد ، بداية المجتهد ، ص 463.
[8] الماوردي : الأحكام السلطانية.
[9] السرخسي ، المبسوط 16/295 ، ابن قدامه ، المغني 9/39.
اترك تعليقاً