بحث قانوني هام عن جرائم إبادة الجنس البشري في منظور القانون الدولي والقانون الجنائي
محمد إبراهيم خليفة الرميحي
ملخص رسالة الماجستير في القانون الجنائي
حقـوق / القاهـرة
“رغم أن “” الجريمة ضد الإنسانية “” تعتبر جريمة مستحدثة في القانون الدولي الجنائي، حيث لم تظهر هذه الجريمة بصفة رسمية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن فكرة هذه الجريمة تمتد بأصولها إلى زمن بعيد، ومن الجدير بالذكر أن فكرة التدخل لصالح الإنسانية طبقت بالفعل في الممارسات الدولية، حيث تدخلت الدول الأوروبية عسكريا 1860 بحجة قيام الدروز بقتل ستة آلاف مسيحي بالاشتراك مع السلطات العثمانية، كما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1902 لدى حكومة رومانيا لصالح اليهود ولم تكن هده الجريمة تحظى باهتمام فهي حديثة العهد في القانون الدولي الجنائي حتى أخذت الحرب أعلى الساحة الدولية.
ألقت الحرب العالمية الثانية بظلال مآسيها على الساحة الدولية، فاجمع جمع كبير من المجتمع الدولي على ضرورة معاقبة مرتكبي هده الجرائم وتنبه الرأي العام الدولي لأهمية هذه الجريمة بسبب فظائع الألمان ضد اليهود أعمالا لنظرية تفوق الجنس الألماني فكانت اتفاقية لندن 1945 ومحاكمتا “” نورمبرغ “” وطوكيو نتاجا لها أما على الصعيد الأممي فقد تقدمت كل من كوبا والهند وبناما باقتراح إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة غايته لفت نظر المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى دراسة (إبادة الجنس البشري) باعتبارها جريمة دولية فخلصت اللجنة القانونية للجمعية العامة في ديسمبر 1946 في قرارها رقم 96 بأن جوهر هذه الجريمة هو «إنكار حق البقاء لمجموعات بشرية بأجمعها نظرا لما تنطوي عليه من مجافاة الضمير العام ومن إصابة الإنسانية كلها بأضرار بالغة سواء من الناحية الثقافية أو غيرها من النواحي التي قد تساهم بها هده المجموعات فضلا عن مجافاتها للأخلاق ومبادئ الأمم المتحدة» والدافع لهذا المشروع وجود أمثلة حية في ذلك الوقت كما هو في وقتنا الحاضر من جماعات أبيدت بصفة كلية أو جزئية – لصفتها الدينية أو الاثينية أو العنصرية أو السياسية فخلص هذا المشروع بأن هذه الجريمة ذات صفة دولية يوجب معاقبة مرتكبيها سواء كانوا أصليين أو مساهمين كما يوجب التعاون الدولي لمعاقبة مرتكبيها.
من الملفت للنظر في هذا المجال أن تعريف الإبادة الجماعية المدرج في الأسانيد الدولية الثلاثة – النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998 في مادته السادسة والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية ليوغسلافيا المؤقتة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا المؤقتة -مطابقا تماما للتعريف ذاته المقرر في المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9/12/1848 بأنها: أي من الأفعال آلاتية: المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثينية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه:
1. قتل أفراد الجماعة
2. إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
3. إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها كليا أو جزئيا.
4. فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
5. نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
أما أول ظهور لمصطلح “” الإبادة الجماعية “” في أدبيات القانون الدولي وفي الفكر الإنساني فكانت هذه الصفة مضـمنة في التصريـحات مـثل تصريـحات سـان (جميس بالاس) و(مستر ايدان 1942) و(كرو 1945)، وعام 1944 جاء من خلال تصريح لـ Rephael lemkin الذي كان مستشارا لوزارة الحرب التابعة للولايات المتحدة الأمريكية البولوني الأصل وأحد ضحايا النازية، من أجل توضيح خصوصية الجرائم المرتكبة من النازيين، وقد كان Lemkin ذاته قد اقترح وصف الأفعال الهادفة لتدمير الجماعات العرقية أو الاجتماعية أو الدينية بأنها “” جريمة من جرائم قانون الشعوب “” Delicto juris gentium “”.
تهدف جريمة إبادة الجنس البشري إلى قتل الجماعات أو المجموعات البشرية بوسائل مختلفة وتعتبر من الأعمال الخطيرة التي تهدد أمن وسلامة المجتمع لأنها تؤدي إلى إبادة أو اضطهاد كائنات إنسانية كليا أو جزئيا بسبب طبيعتهم الوطنية أو العرقية أو السلالية أو الدينية، وهي ترتكب بصورة عمدية ولا تنحصر آثارها على الوضع الداخلي للدولة التي تقع في نطاق حدودها الإقليمية وإنما تمتد حتى إلى الأسرة الدولية بسبب آثارها الشاملة، وهي ليست من الجرائم السياسية وإنما تعد من الجرائم العمدية العادية حتى وإن ارتكبت بباعث سياسي.
ويعود التطور التاريخي لهذه الجريمة إلى العصور البابلية وجرى ارتكابها أثناء الحرب العالمية الأولى حين استعمل الألمان الغازات السامة في فرنسا وكذلك في الحرب العالمية الثانية وما بعدها ضد الشعب الفلسطيني وضد الشعب الكردي مما يؤكد أهمية وخطورة هذه الجريمة وكونها من الجرائم الماسة بحقوق الإنسان.
ومن هنا بدأ النظر إلى إبادة الجنس البشري باعتبارها عملا يهدد الكيان الإنساني والبشرية في مجموعها حيث يلزم التخفيف من شرورها، وقد انطلقت هذه النظرة من خلال المنتظم الدولي الذي دعا إلى المبادئ الإنسانية النبيلة، كما دعت الأديان السماوية إلى ذلك وعلى رأسها الإسلام. وقد تمحور هذا التوجه في ضرورة مراعاة الاعتبارات الإنسانية عند وقوع الحرب.
وقد لا نكون أتينا بجديد، إذا قلنا إن تاريخ البشرية هو أقرب لأن يكون تاريخ حروب وصراعات وإبادات أكثر من كونه تاريخ سلام وتعاون بين الدول، إذ كانت الفكرة الدائمة عن الحروب هي “”أن القانون هو إرادة المنتصر”” وكان يعبر عن غياب القانون في الحروب الماضية بـ “”إذا تكلمت الأسلحة صمتت القوانين””، بمعنى آخر أن هذه الحروب والإبادات الجماعية لم تكن في بادئ الأمر تخضع لغير إرادة من له الغلبة فيها، وكثيرا ما كان المنتصر يستبيح كل مخطر له من أعمال منافية للإنسانية لا تقتضيها ضرورات الحرب ذاتها، الأمر الذي جعل الأفكار تتجه شيئا فشيئا إلى التلطيف من قسوة الحرب تحت تأثير الدين وما كان يأمر به من الرفق والرحمة والشهامة وما تقتضيه من المروءة والشرف في معاملة العدو، وتبع ذلك أن بدأت تتكون قواعد مختلفة أخذت الدول تسير على مقتضاها متى قام نزاع ما.
وهذا يبين أنه “”إذا كانت الإبادة الجماعية للجنس البشري نزعة بشرية منذ بدء حياة الإنسان على الأرض، فإن الأديان السماوية أفردت لها من القواعد ما يحد منها ويحد من غلوائها، فلا يلجأ الإنسان للقتال إلا للدفاع عن النفس، ولا ينبغي الاستمرار في القتال إذا لاحت بوادر السلام، فإذا دارت رحى الحرب فلا تنتزع من القلوب الرحمة والإنسانية””.
ومع أن حاجة المجتمع الدولي إلى تنظيم قانوني يخضع له، حاجة قديمة قدم المجتمع الدولي ذاته، وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي كان في أمس الحاجة في العقود الأخيرة المنصرمة إلى التمسك بذلك النظام القانوني، فإن البشرية كانت خلال القرن الماضي من فضائح وانتهاكات لحقوق الإنسان كالشعب الفلسطيني والشعب الكردي سواء كردستان العراق أم في مناطق العراق الأخرى كما حصل ضد الأكراد الفيلية من جرائم التهجير والاختفاء القسري والإعدامات خارج نطاق القضاء وكذلك ضد الشيعة في وسط وجنوب العراق في أوقات مختلفة وقصف الشعب العراقي في حرب الخليج الثانية باليورانيوم المنظب، هذه الجرائم لم يشهدها العالم من قبل ولقد عزا كثيرون تكرار حدوث مثل تلك الانتهاكات إلى ضعف النظام الجزائي الدولي وافتقاره إلى الآلية التي يمكن بها ملاحقة المسؤولين عن تلك الجرائم وتقديمهم إلى المسألة القانونية وإيقاع العقاب بهم.
فعلى الرغم من وجود كثير من المواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية التي تحرم تلك الممارسات والانتهاكات، وعلى الرغم من تحديد تلك المواثيق لأنماط التصرفات التي تشكل جرائم دولية وعلى رأسها إبادة الجنس البشري يعاقب عليها القانون الدولي، وعلى الرغم من قيام معظم الدول بالتوقيع على تلك المواثيق الدولية أو الانضمام إليها، فإن إبادة الجنس البشري المحرمة دوليا استمرت في الوقوع مما يثبت أن أوجه القصور في النظام الدولي والقادر على معاقبة مرتكبي الجرائم الدولية لا تكمن من الناحية التشريعية وإنما يكمن عزوها إلى افتقار ذلك النظام إلى الآلية المناسبة والفاعلة لتنفيذ ما ورد في تلك المواثيق من مبادئ تحرم ارتكاب طوائف معينة من الجرائم كإبادة الجنس البشري.
وتجدر الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية لا تقر الحرب كضرورة مفروضة وتحرم إبادة الجنس البشري، وإن كانت تسعى إلى نشر الدين في أهل الأرض كافة لتجعلهم أخوة في الدين فلا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض أو أسود، فهم موحدون جميعا في الحقوق والواجبات، داخل مجتمع واحد كبير وهو المجتمع الإسلامي الواحد وبذلك يقضي على الخصومات السابقة والحروب العقيمة التي كانت تتقاسم حياتهم وتسممها وتدمر حرثهم ونسلهم، لكن إذا بلغتهم يكونون أحرارا في أن أسلموا أو أن يبقوا على ديانة آبائهم، فلا إكراه في الدين وليس عليهم إلا أن يدفعوا الجزية.
وإذا وضعنا هذا الفكر في الإطار العالمي الذي يحيط به، وجدناه فكرا إنسانيا تقدميا وهو شيء جديد لما قررتها عدد شرائع سبقته، وانطلاقا من ذلك يظهر جليا أهمية هذا الموضوع خاصة في هذه الحقبة التاريخية من حياة الشعوب فلا يمكن إنكار الحقيقة التاريخية بوجود قواعد إنسانية، وإن كانت تختلف طبعا عن القواعد المعمول بها في عصرنا الحالي، إلا أنها لا تقل أهمية في جوهرها عن أحدث ما توصلت به الأعراف والقوانين المعاصرة، وإن كانت معاملة الأعداء في القديم تتسم بالقسوة والشدة فلا يعني ذلك أن الرحمة والشفقة هما وليدتا العصور الحديثة ومفهومان جديدان في تاريخ البشرية، بل إن ثمة قواعد ومفاهيم قديمة ذات أبعاد إنسانية راقية على بساطتها وضيقها، وبما أن معظم الأمم والحضارات عرفت الحرب ومارستها فإنها تعاملت مع أقدم ظاهرة وأخطرها في حياة المجتمعات وهي إبادة الجنس البشري سواء بنشوب الحروب بين القبائل أو الدول أو الأديان والعقائد فإنها فرضت على أطراف النزاع سلوكا يختلف عما تكون عليه الحال في زمن السلم. وبما أن دراستنا هذه تتمحور حول إبادة الجنس البشري فإننا نجد من المناسب بل ومن الضروري تناول الموضوع من خلال ثلاثة أبواب منفصلة، نوضح في الأول الدلالة الذاتية لجرائم إبادة الجنس البشري من خلال تقديم تعريف لهذه الجريمة والتفرقة بينها وبين ما يشابهها من جرائم أخرى. ونتطرق في الباب الثاني إلى مساهمة الشريعة الإسلامية الغراء من هذه الجريمة ونطاق حماية الإنسان في الشريعة الإسلامية في الأخير (الباب الثالث) نعالج إشكالية الاختصاص بالمحكمة سواء الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية في مجال إبادة الجنس البشري.
• الباب الأول: الدلالة الذاتية لجرائم إبادة الجنس البشري
• الباب الثاني: موقف الشريعة الغراء من جرائم إبادة الجنس البشري
• الباب الثالث: الاختصاص بالمحكمة في مجال جرائم إبادة الجنس البشري.
وتخلص الدراسة إلى أهمية الالتزام باتفاقية روما التي تعني بمحاكمة مجرمي الحرب الذين يقترفون جرائم الإبادة الجماعية للبشر.
ثم تدعو الدراسة إلى أهمية النظر في الأحكام الجنائية الإسلامية العسكرية لتتلاءم مع التطور الذي طرأ على الساحة الدولية والذي كان وما زال مصدرا من مصادرهم مثال على ذلك في معاملة الأسرى والجرحى وغير المقاتلين، وكون الأحكام في هذا الباب خاضع للاجتهاد في معظمة، والدعوة هنا ليس فيما هو قاطع الدلالة بل فيما هو ظني الدلالة
كما تدعو الرسالة إلى تقنين الأحكام الجنائية الإسلامية العسكرية وتعميمها كون أساسها من المصدر الإلهي وليس بشريا وبثوابت نبوية فهي أولى للتطبيق على الدول الإسلامية من تطبيق اجتهادات بشرية ليس لها ثوابت أو أساس رباني.”
اترك تعليقاً