ورقة بحثية عن خضوع الدولة للقانون.
لقد أصبحت مسألة خضوع الدولة للقانون خاصية تتميز بها الدولة الحديثة ومبدأ من المبادئ الدستورية التي تجتهد كل الدول في تطبيقها واحترامها، ويعني هذا المبدأ بصفة عامة خضوع الحكام وكافة أجهزة ومؤسسات الدولة الممارسة للسلطة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) للقانون، أي أن تتقيد جميع قرارات وأعمال السلطات العامة بالقانون الموضوع سلفا مثلها مثل الأفراد، إلى أن يعدل أو يلغى ذلك القانون طبقا لإجراءات وطرق معروفة ومحددة مسبقا، ويعرف هذا المبدأ بمبدأ الشرعية. ومنه فالدولة ليست لها حرية مطلقة في وضع القانون وتعديله بل هناك ضوابط وشروط محددة يجب التقيد بها.
الفرع الأول: النظريات المفسرة لخضوع الدولة للقانون.
أهم هذه النظريات تتمثل فيما يلي:
أولا: نظرية القانون الطبيعي.
ترى هذه النظرية أن هناك قانون طبيعي يسمو على الجميع وهو يعني مجموعة المبادئ الخالدة التي يجب أن تحكم السلوك البشري، لأنها منبثقة عن طبيعة الإنسان باعتباره كائنا عاقلا واجتماعيا، هذا القانون يعد سابقا في وجوده للدولة ولذلك فهو قيد على الحكام الذين عليهم الالتزام به.
تنتقد هذه النظرية بسبب غموضها، حيث يمكن للحكام أن يضعوا ما يشاءون من القوانين والادعاء بأنها مطابقة أو مستخلصة من القواعد الطبيعية. الأمر الثاني إن القانون متغير ومتطور حسب تطور المجتمع في حين تكون القوانين الطبيعية ثابتة.
ثانيا: نظرية الحقوق الفردية.
مفادها أن للفرد حقوقه الطبيعية التي تولد معه ولذا فهي سابقة للدولة للجماعة نفسها، وأن الفرد لا يتنازل عنها بانضمامه إلى أي تنظيم سياسي كالدولة بل إن الدولة تنشأ من أجل حماية ودعم تلك الحقوق التي تشكل علة وجودها.
ثالثا: نظرية التقييد الذاتي.
الدولة بحكم سيادتها لا يصح لها أن تخضع للقانون الذي تضعه بنفسها خضوعا مطلقا، أو أن يكون هناك من يجبرها على احترامه لأن ذلك يفقدها الحرية من أجل أداء مهامها، غير أن الدولة مضطرة لأن تحترم القانون وتطبقه من أجل القيام بوظيفتها وتحقيق العدالة والأمن ومن أجل ضمان طاعة المحكومين لها.
أهم انتقاد وجه لهذه النظرية جاء من الفقيه الفرنسي ليون دوجي الذي خلص إلى أنه لا خضوع إذا كان الخضوع مصدره محض الإرادة الذاتية للخاضع، أن القيد الذي ينشأ ويعدل ويلغى بإرادة من يتقيد به ليس قيدا على الإطلاق، فهذه النظرية تبقي الباب مفتوحا على عدم الالتزام بالقانون من قبل الحكام، لأن من يضع القانون يستطيع التحلل منه بمجرد تعديله أو إلغائه.
رابعا: نظرية التضامن الاجتماعي.
دعا إليها ليون دوجي، والذي يرى بأن الدولة مقيدة بقواعد القانون الوضعي الذي يفرضه التضامن الاجتماعي باعتباره حقيقة وضرورة اجتماعية وهو الذي أدى إلى نشأة الدولة ويفسر أساس مشروعية السلطة وعليه فالتضامن الاجتماعي هو الذي يحد من سلطة الحاكم ويعتبر قيدا عليها.
لقد انتقدت هذه النظرية، لأن الصفة الوضعية للقاعدة القانونية لا تكتسب إلا بواسطة الدولة وهي التي تحدد مضمون القاعدة وهي مصدرها وليس اعتناق الأفراد لها.
هذه هي النظريات التي حاولت إيجاد أساس لتفسير التزام السلطة بالقواعد القانونية عندما تمارس مهامها، وتعد نظرية التقييد الذاتي للإرادة أقرب النظريات للواقع.
الفرع الثاني: الوسائل العملية الكفيلة بخضوع الدولة للقانون.
أهم ما يميز الدولة القانونية عن غيرها من الدول هو كونها خاضعة للقواعد القانونية في جميع نشاطاتها، ولكي تستطيع تجسيد دولة القانون حقيقة يجب أن تتوفر على ضمانات أساسية من أهمها ما يلي:
أولا: وجود دستور للدولة، أي أن يكون الدستور مكتوبا وغير قابل للتعديل إلا وفق شروط وإجراءات خاصة ومعقدة أحيانا، مما يلزم الحكام باحترامه وعدم تغيير القوانين بحسب أهوائهم فهو المحدد لسلطات الدولة وحقوق وحريات الأفراد.
ثانيا: تدرج القواعد القانونية، ويقصد به وجوب خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى شكلا ومضمونا فيكون الدستور على رأس هذه القوانين التي يجب أن تصدرها السلطة من خلال إتباع إجراءات محددة، فيكون هذا التسلسل على النحو التالي الدستور ثم المعاهدات الدولية بعد توقيع وتصديق الدولة عليها، ثم القوانين العضوية فالقوانين العادية وأخيرا اللوائح والقرارات التنظيمية التي تشكل قاعدة هذا الهرم.
ثالثا: مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث يجب على كل سلطة من السلطات العامة في الدولة أن تحترم القواعد التي وضعها الدستور لممارسة اختصاصاتها بحيث لا تخرج عن حدود هذه الاختصاصات أو تتعدى على اختصاصات سلطة أخرى، وهذا يلزم تخصص السلطة التشريعية في سن القوانين والسلطة التنفيذية في تنفيذ تلك القوانين والسلطة القضائية في تطبيق القوانين على المنازعات التي تنشأ أثناء التنفيذ. وهكذا يمكن لكل سلطة أن توقف الأخرى إذا تعدت اختصاصاتها وهذا ما عبر عنه مونتسكيو في مؤلفه الشهير روح القوانين(L’épris des lois ) بأن (السلطة توقف السلطة) ومنه يصبح هذا المبدأ ضمانة أساسية لدولة القانون.
رابعا: سيادة القانون أي أن على الجميع احترام القوانين بحيث تتحقق من خلال مبدأ المساواة بين أفراد الشعب أمام النصوص القانونية.
خامسا: الاعتراف بالحقوق والحريات العامة، حيث يفترض نظام الدولة القانونية كفالة مبدأ المساواة وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم في مواجهة سلطة الدولة ولا يطلب من الدولة مجرد احترام تلك الحقوق بل يفرض عليها كفالتها وضمان ممارستها.
سادسا: تنظيم رقابة قضائية واستقلاليتها، حيث تعتبر الرقابة القضائية وسيلة ناجعة لحماية الفرد من تعسف السلطة بمختلف أشكاله وهذا لا يسود إلا بالتأكيد على استقلال القضاء وعدم تبعيته لأي سلطة.
اترك تعليقاً