المؤلف : الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب
بحث
مدى حق الخيار المخول للمدعي المدني
في قانون الإجراءات الجنائية
للسيد الأستاذ صلاح الدين عبد الوهاب وكيل نيابة الدرب الأحمر
أولاً: نطاق تطبيق المادة (264) من قانون الإجراءات الجنائية
(1)
موضوع البحث:
يتناول هذا البحث تفصيل ما اتجه إليه المشرع في قانون الإجراءات الجنائية نحو الإبقاء أو طرح المبدأ الذي استقر من قديم في الفقه والقضاء وهو سقوط حق الخيار المخول للمدعي المدني إذا لجأ إلى الطريق المدني.
تمهيد:
كانت المادة (52) من قانون تحقيق الجنايات الملغى تنص على ما يلي (يجوز للمدعي بالحقوق المدنية في مواد المخالفات والجنح أن يرفع دعواه إلى المحكمة المختصة بها مع تكليف خصمه مباشرةً بالحضور أمامها بشرط أن يرسل أوراقه إلى النيابة العمومية قبل انعقاد الجلسة بثلاثة أيام).
وكانت المادة (54) من نفس القانون تنص على أنه (يجوز لكل من ادعى بحصول ضرر له من جناية أو جنحة أو مخالفة أن يقدم شكواه بهذا الشأن ويقيم نفسه مدعيًا بحقوق مدينة في أي حالة كانت عليها الدعوى الجنائية حتى تتم المرافعة).
ورفع الدعوى المدنية حق لكل شخص طبيعي أو اعتباري أصابه ضرر من الجريمة – ولا يجوز له رفعها إلا إذا أصابه الضرر شخصيًا وكان أهلاً للتقاضي [(1)].
وحق المضرور من الجريمة لا يتعلق بمباشرة الدعوى المدنية فقط بل إنه وهو مالكها يستطيع التصرف فيها بالتنازل عنها أو التصالح بشأنها أو تركها بعد رفعها إلى المحكمة [(1)]، وذلك بصريح نص المادة (55) من قانون تحقيق الجنايات الملغى والمقابلة لنص المادة (262) إجراءات جنائية.
وتوزيع الاختصاص بين المحاكم الجنائية وبين المحاكم المدنية يجعل الأولى بحسب الأصل مختصة بنظر الدعوى العمومية والثانية تختص بنظر الدعاوى الخاصة التي ترفع فيما بين الأفراد أو بينهم وبين الهيئات العامة والخاصة.
ولما كانت الجريمة تنشأ عنها دعويان: الدعوى العمومية التي تتولى رفعها النيابة العامة عن الهيئة الاجتماعية والدعوى المدنية بتعويض الضرر الناشئ عن الجريمة ويختص برفعها المضرور من الجريمة، لما كان ذلك كان يجب أن يقتصر اختصاص المحاكم الجنائية على نظر النوع الأول من الدعاوى وأن تختص المحاكم المدنية وحدها بنظر دعاوى التعويض الناشئة عن الجريمة بوصفها فعلاً ضارًا – ولكن رُئي أن تختص كذلك المحاكم الجنائية استثنائيًا بالفصل في الدعوى المدنية التي يرفعها من ناله ضرر من الجريمة إلى جانب الدعوى العمومية لتصدر فيهما معًا حكمًا واحدًا لأنه غالبًا ما تصلح أدلة الجريمة لإثبات مبدأ استحقاق التعويضات وتعيين مقدارها وهما موضوع الدعوى المدنية.
وبذا يكون للمضرور من الجريمة طريقان: الطريق الجنائي أي أن يرفع دعواه المدنية أمام المحكمة الجنائية تبعًا للدعوى العمومية المدنية المرفوعة من النيابة العامة أو من قاضي التحقيق والطريق المدني أي أن يلجأ إلى المحكمة المدنية يطلب إليها الحكم له بتعويض ما ناله من ضرر من الجريمة وهنا يتقيد القاضي المدني بما فصل فيه القاضي الجنائي، فإذا لم تكن الدعوى العمومية قد فصل فيها وقت رفع الدعوى المدنية أوقفت هذه الأخيرة حتى يفصل في الأولى عملاً بالقاعدة المعروفة (الجنائي يوقف المدني)Le Crimirel tient le civil en ètat.
والدعوى العمومية قد تُرفع إلى المحكمة الجنائية من النيابة العامة وهي الأمينة على تلك الدعوى المتعلقة بالمجتمع – وقد يرفعها المضرور إلى المحكمة الجنائية بالطريق المباشر – وهنا يترتب على رفع الدعوى المدنية صحيحة أن تتحرك الدعوى العمومية لتسير الأولى بجانبها.
ولما كان للمدعي المدني دائمًا هذان الطريقان – الطريق الجنائي والطريق المدني وكان يمكنه الالتجاء إلى أيهما وأن يختار بينهما حسب ما يتبين من وجود مصلحة له فقد ولدت من هنا القاعدة الرومانية القديمة التي تقضي بأن (اختيار أحد الطريقين يمنع من الرجوع إلى الطريق الآخر) electa una via nen datur recursus ad alteram – هذه القاعدة التي سادت في القانون الفرنسي القديم (بنص الأمر الصادر سنة 1670) ثم عند صدور القانون الفرنسي الحالي لم يتضمن نصًا يقنن هذه القاعدة مما دعا بعض الشراح إلى التشكك فيما إذا كانت لا تزال واجبة الاتباع
فرأى فريق منهم وجوب تطبيق هذا المبدأ لأنه لا يجوز عدلاً أن يظل المتهم تحت رحمة المدعي ينقله من اختصاص إلى آخر كلما رأى من مصلحته ذلك –
وذهب فريق آخر إلى أنه لا يمكن تطبيق هذا المبدأ إلا بنص صريح فلا محل لتطبيقه ما دام لم يرد بشأنه نص –
ورأى فريق ثالث وجوب التفرقة بين ما إذا كان المدعي المدني قد رفع دعواه أولاً إلى المحكمة المدنية أو إلى المحكمة الجنائية ففي الحالة الأولى لا يجوز له الالتجاء إلى الطريق الجنائي بعد سلوكه الطريق المدني لأنه بذلك يجعل حالة المتهم أسوأ من ذي قبل – إذ الأفضل للمتهم أن يدافع عن نفسه أمام المحكمة المدنية من أن يجبر على الدفاع عنها أمام المحكمة الجنائية – ولأن اختصاص القاضي الجنائي بنظر الدعوى المدنية اختصاص استثنائي ويفترض أن المدعي المدني بلجوئه أولاً إلى المحكمة المدنية قد تنازل عن ذلك الاختصاص الاستثنائي الذي خوله إياه القانون إلى الاختصاص العام compétence de droit commun وكذلك لأنه ليس من العدل أن يترك المدعي المحكمة التي لجأ إليها بمحض اختياره لمجرد اعتقاده أنها قد لا تحقق مصلحته مع ما في ذلك من الضرر على المتهم، أما في الحالة الثانية أي إذا رفع المدعي المدني دعواه أولاً إلى المحكمة الجنائية فيكون له أن يتركها ويرفعها من جديد أمام المحكمة المدنية لأنه ليس للمتهم أن يتظلم من تنازل المدعي عن الدعوى الأشد ليرفع الدعوى الأخف [(2)].
وقد جرى القضاء الفرنسي على الأخذ بهذه التفرقة:
ويبرر الفقيه الفرنسي دونديو دي فاير [(3)] مبدأ أن اختيار أحد الطريقين يمنع من الرجوع إلى الآخر بأن ذلك في مصلحة المدعى عليه بتوفير الإجراءات والمصاريف التي تترتب على السماح للمدعي المدني برفع دعويين متتابعتين.
(On l’applique par l’ interêt de la personne poursuivie. Il s’agit d’epargner à celle – ci l’accumulation de formalités et de frais qu’enrtaîne la participation à deux instances Suecessives).
وقد قنن قانون تحقيق الجنايات الملغى هذا المبدأ فنص في المادة (239) منه على ما يلي:
(إذا رفع أحد طلبه إلى المحكمة مدنية أو تجارية لا يجوز له أن يرفعها إلى محكمة جنائية بصفة مدعٍ بحقوق مدنية).
وكان مقتضى هذا النص الصريح أن المدعي المدني إذا استعمل حق الخيار ولجأ إلى المحكمة المدنية امتنع عليه بعد ذلك العود لرفع دعواه المباشرة أمام المحكمة الجنائية أو الادعاء مدنيًا في الدعوى العمومية التي ترفعها النيابة العامة بعد ذلك – لأنه كان أمامه دائمًا الطريق الجنائي يستطيع اللجوء إليه عن طريق الدعوى المباشرة.
ودعا هذا النص أيضًا بعض الشراح [(4)] إلى القول بأنه يدل بطريق مفهوم المخالفة على أن المدعي المدني إذا لجأ أولاً إلى المحكمة الجنائية فليس ثمة ما يمنعه من ترك دعواه المدنية أمامها وأن يعود لرفعها أمام المحكمة المدنية – ويتفق هذا النظر مع الرأي الذي ساد في الفقه والقضاء الفرنسيين من التفرقة في الحكم بين الالتجاء أولاً إلى المحكمة الجنائية أو إلى المحكمة المدنية.
قانون الإجراءات الجنائية:
صدر مشروع قانون الإجراءات الجنائية معدلاً في بعض المبادئ المعمول بها في قانون تحقيق الجنايات الملغى فأوجب الفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق وعهد بالسلطة الأولى إلى النيابة العامة وخول الثانية لقضاة يعينون خصيصًا لذلك – وسلب المدعي بالحقوق المدنية حقه التقليدي في رفع الدعوى المباشرة – وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع ما يلي (وعولج في باب الدعوى المدنية موضوع تحريك المدعي المدني للدعوى الجنائية على أساس ما استقر عليه التشريع الجنائي الحديث من أن الدعوى الجنائية عمومية فليست للأفراد حق تحريكها وللنيابة العمومية وحدها الحق في رفع الدعوى وفي حفظ أي بلاغ يقدم لها إذ لم ترَ محلاً للتحقيق أو رفع الدعوى – وفرض على النيابة إذا ما أصدرت أمرًا بحفظ شكوى بها مدعٍ بحقوق مدنية أن تعلنه بذلك وله أن يتظلم منه إلى غرفة المشورة (غرفة الاتهام بعد صدور القانون) في الثلاثة الأيام التالية لإعلانه فإذا مضت ثلاثة أشهر على تقديم الشكوى ولم تتخذ النيابة قرارًا فيها كان ذلك بمثابة أمر حفظ منها وللمدعي المدني أن يتظلم منه أيضًا).
وجاء بتقرير لجنة قانون الإجراءات الجنائية بمجلس الشيوخ في 24 يوليو سنة 1950 عن التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على مشروع القانون ما يلي (كان المشروع كما قدم من الحكومة خلوًا من الحق المخول للمدعي بالحقوق المدنية من رفع دعواه المباشرة أمام المحكمة الجزئية – وقد وافق مجلس الشيوخ على ذلك لأن رأي المدعي المدني وحده ليس فيه الضمان الكافي لصحة الاتهام، ولكن مجلس النواب رأى الإبقاء على هذا الحق).
وكان تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب يتضمن ما يلي وذلك قبل أن يقرر هذا المجلس في جلسته الأخيرة إعطاء حق رفع الجنحة مباشرةً إلى المدعي المدني كما كان الحال في القانون القديم – (ولم يكن قانون تحقيق الجنايات الحالي – وقد قدم به العهد وطال عليه الزمان موفقًا في تحقيق هذين الفرضين (وهما ألا يفلت المجرم من العقاب وألا يتعرض البريء لما يتعرض له المدان) بل كان على الاتهام أحرص وإلى الإدانة أقرب… ويسمح للمدعي المدني بالدخول إلى حرم الدعوى الجنائية وهو مستفز أو كائد ليخلط بين حقه الشخصي الخاص به وحق المجتمع – فيضيع على المحاكم الوقت بلا طائل ويتناول بالتجريح سمعة خصمه – ولا سلطان له عليها ولا مصلحة له فيها).
كانت هذه هي وجهة المشروع والتي وافق عليها مجلس الشيوخ وكاد مجلس النواب أن يوافق عليها إلى أن عدل عنها في جلسته الأخيرة وأعاد حق المدعي المدني في تحريك الدعوى الجنائية مباشرةً ثم وافقه مجلس الشيوخ على ذلك التعديل دون مناقشة فعدلت المواد (235)، (336) من المشروع إلى (232)، (233) من القانون بما يحمل هذا المعنى.
وكان طبيعي أن يترتب على حرمان المدعي المدني من حق رفع الدعوى الجنائية مباشرةً (في المشروع) أن حريته في الالتجاء إلى المحكمة الجنائية أو إلى المحكمة المدنية قد أصبحت مقيدة برفع الدعوى العمومية من النيابة العامة أو قاضي التحقيق – وما دام أن الطريق الجنائي أمامه قد أُغلق بإنكار حقه في تحريك الدعوى الجنائية بالطريق المباشر وتوقف حقه في الالتجاء إلى المحكمة الجنائية على تصرف النيابة العامة برفع الدعوى فإنه لن يجد أمامه إذا ما حفظت النيابة الدعوى ولم ترفعها أو إذا تأخرت في رفعها إلا أن يلجأ إلى المحكمة المدنية مطالبًا بالتعويض – فإذا أقيمت الدعوى الجنائية بعد ذلك أثناء نظر الدعوى المدنية كان للمدعي أن يترك هذه الدعوى الأخيرة ويعود للادعاء مدنيًا أمام المحكمة الجنائية إذا رأى من مصلحته ذلك لأن حق الخيار يكون قد تولد منذ ذلك الوقت فقط – وهذا ما اقتضى المشرع أن ينص في المادة (264) إجراءات على أنه (إذا رفع من ناله ضرر من الجريمة دعواه بطلب التعويض إلى المحكمة المدنية ثم رفعت الدعوى الجنائية – جاز له إذا ترك دعواه أمام المحكمة المدنية أن يرفعها إلى المحكمة الجنائية مع الدعوى الجنائية).
ودعا هذا النص الجديد بعض الشراح إلى القول بأن القانون الحالي قد عدل عن قاعدة سقوط حق المدعي المدني في الالتجاء للقضاء الجنائي متى رفع دعواه أمام المحكمة المدنية – وقرر في هذه المادة عدم سقوط حق المدعي المدني في هذا الشأن فله الحق في ترك الخصومة أمام المحكمة المدنية ورفع دعواه أمام المحكمة الجنائية التي رفعت لها الدعوى الجنائية [(5)].
فهل يفهم حقيقة من هذا النص أن المشرع في قانون الإجراءات الجنائية قد عدل عن ذلك المبدأ القديم المستقر فأباح للمدعي المدني أن ينتقل من اختصاص إلى آخر طالما تنازل عن دعواه التي رفعها أولاً ؟ وهل يستفاد أنه تغاضى عن كل التبريرات الجنائية التي قيلت بشأن هذا المبدأ وطرحها جانبًا ؟
ظاهر النص يوحي بهذا التفسير وهو أن المشرع لم يأخذ في قانون الإجراءات الجنائية بالمبدأ الذي سبق أن تضمنه نص المادة (239) تحقيق جنايات.
ولكن المتعمق في النص لا يلبث أن يتبين غير ذلك – إذ نرى أن نصوص القانون يجب تفسيرها بوصفها كلاً لا يتجزأ وبحيث يسند بعضها البعض – والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا – والعلة في تشريع هذا النص كما استبان لنا من المذكرة الإيضاحية وتقريري مجلسي الشيوخ والنواب أن المدعي المدني في مشروع القانون لم يكن له حق رفع الدعوى المباشرة – وبالتالي لم يكن له في الحقيقة حق الخيار – وما دامت أن هذه العلة قد زالت في القانون بتخويل المدعي المدني حق الالتجاء مباشرةً إلى المحكمة الجنائية مع ما يترتب على ذلك من وجود الخيار لديه في الالتجاء إلى أي من الطريقين الجنائي أو المدني – فإنه يجب القول بعدم الحاجة إلى هذا النص ووجوب طرحه وعدم إعماله خاصةً وأن المشرع لم ينوه صراحةً أو ضمنًا في مذكرة القانون الإيضاحية أو في أي من تقارير المجلسين ما يفيد عدوله عن الأخذ بذلك المبدأ القديم وهو أن الالتجاء إلى الطريق المدني يمنع من العود إلى الطريق الجنائي اللهم إلا هذا النص (المادة 264 إجراءات) الذي نحن بصدد بحثه وتفسيره [(6)].
وهذا النظر الذي نذهب إليه يعززه ما جاء بتقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب في 20 فبراير سنة 1950 والذي جاء به (عدلت المادة 266 (264 من القانون) بما يبرز المعنى المفهوم من أن المدعي المدني لا يملك تحريك الدعوى الجنائية فلا يرفع دعواه المدنية إلا تبعًا للدعوى الجنائية أي لا يرفعها مباشرةً ويكون المقصود هو أن التجاء المدعي المدني إلى المحاكم المدنية لا يسقط حقه في الالتجاء إلى المحاكم الجنائية مدعيًا مدنيًا إذا رفعت الدعوى الجنائية).
وعبارات النص نفسها تؤيد هذا الرأي إذ أن نص المادة (264) إجراءات لم يرد عامًا بحيث يسمح بالقول إن عباراته تقطع في انطباق حكمه على حالة رفع المدعي المدني دعواه مباشرةً أمام المحكمة الجنائية – إذ أن عبارة – (ثم رفعت الدعوى الجنائية) الواردة في سياق المادة وقد وردت مبنية للمجهول تشعر بأن رفع الدعوى العمومية إنما يأتي من طريق خارج عن إرادة المدعي المدني وعبارة (جاز له إذا ترك دعواه أمام المحكمة المدنية أن يرفعها إلى المحكمة الجنائية مع الدعوى الجنائية) هذه العبارة أيضًا تشعر بوضوح أن الدعوى الجنائية المقصودة هنا تكون قد رفعت قبل ترك المدعي المدني لدعواه المدنية التي كان قد رفعها أمام المحكمة المدنية – وتشير إلى وجود دعويين الدعوى الجنائية والدعوى المدنية التي يرفعها المدعي المدني معها – وكل هذا لا يتمشى مع حالة رفع الدعوى المباشرة إذ في هذه الحالة لا يكون هناك إلا دعوى واحدة رفعت دفعة واحدة وإن كانت ذات شقين مدني وجنائي – هذا كله فوق أن النبذة التي أشرنا إليها آنفًا في تقرير لجنة الشؤون التشريعية بمجلس النواب تؤكد الرأي الذي نذهب إليه وتدعمه.
أما كيف لم يلغَ هذا النص لو كان مراد الشارع قد تعلق بالإبقاء على مبدأ سقوط حق الخيار بالتجاء المدعي المدني إلى القضاء المدني فهو مجرد سهو من الشارع وعدم توقع ما يترتب على الإبقاء على هذا النص من نتائج تتضارب مع ما استقر عليه الفقه والقضاء إذ أن التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على المشروع كما أقره مجلس الشيوخ ووافق عليها المجلس الأخير دون مناقشة ومن هذه التعديلات إقرار حق المدعي في رفع الدعوى المباشرة في الجنح والمخالفات (مادة 232 إجراءات) ولم يلتفت أي من المجلسين إلى المواد التي كانت قد قننت في المشروع ترتيبًا على سلبه ذلك الحق.
هذا هو رأينا – أنه بالرغم من وجود نص المادة (264) إجراءات فإنه يجب تفسيره بالرجوع إلى المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون وإلى تقارير مجلسي الشيوخ والنواب وبذا يحق للمتهم في رأينا أن يدفع دائمًا بعدم قبول الدعوى المباشرة المرفوعة من المدعي المدني أو الادعاء مدنيًا في الدعوى الجنائية التي ترفعها النيابة العامة بعد سابقة التجائه للقضاء المدني وأن يستفيد من ذلك إذا ما توافرت شروط هذا الدفع والتي ستتكلم عنها في بحث قادم إن شاء الله – وبذلك يجب قصر مجال أعمال هذا النص على الجنايات فقط حيث يكون باب الاختيار مغلقًا أمام المدعي المدني أي حيث لا يملك تحريك الدعوى مباشرةً – بل عليه الانتظار حتى تحيل النيابة العامة الدعوى إلى غرفة الاتهام التي تتولى بدورها إحالتها إلى محكمة الجنايات – فإذا كان قد لجأ قبل ذلك إلى المحكمة المدنية بطلب تعويض عن الجريمة فإنه يجوز له بعد ذلك الادعاء مدنيًا في الدعوى أمام محكمة الجنايات إذا ترك دعواه أمام المحكمة المدنية – ولا شك أن هذا النظر الأخير مفهوم ضمنًا وليس بالمشرع حاجة إلى النص عليه – لذلك تكون المادة (264) إجراءات لا نطاق لها في التطبيق عملاً.
ويبدو أن هذا الرأي يتسق مع ما استقر عليه الفقه والقضاء في فرنسا ومصر والذي لا يظهر أن المشرع في قانون الإجراءات الجنائية قد قصد مخالفته صراحةً أو ضمنًا.
الدفع بسقوط حق خيار المدعي المدني
(2)
أوردت في بحثي المنشور في العدد السابق من مجلة المحاماة أن المشرع في قانون الإجراءات الجنائية لم يتعلق مراده بالخروج عن المبدأ المستقر من قديم وهو أن اختيار أحد الطريقين يمنع من الرجوع إلى الآخر – هذا المبدأ الذي يقضي بسقوط حق الخيار المخول للمدعي بالحق المدني إذ كان قد لجأ إلى المحكمة المدنية أولاً كما نصت المادة (239) من قانون تحقيق الجنايات الملغى – وقلنا إنه رغم ما يبدو من صراحة نص المادة (264) إجراءات جنائية في أن المشرع طرح ذلك المبدأ القديم – فإنه يجب تفسير هذا النص طبقًا للعلة التي دعت إلى إقراره وهي ما كان مشروع القانون قد تضمنه من نصوص تقضي بحرمان المدعي المدني من حقه التقليدي في تحريك الدعوى أمام المحاكم الجنائية بالطريق المباشر – وبذا يحق للمتهم أن يدفع بسقوط حق الخيار المخول للمدعي المدني إذا ما توافرت شروط هذا الدفع والذي يترتب على الأخذ به الحكم بعدم قبول الدعوى المدنية أمام القاضي الجنائي.
ويجب لقبول هذا الدفع أن تتوافر شروط هي:
1 – أن يكون المدعي قد سبق أن رفع دعواه أمام المحكمة المدنية:
هذا الشرط مفهوم بداهةً إذ أن علة سقوط حق المدعي المدني في الالتجاء للطريق الجنائي سبق اختياره الطريق المدني – ولكن يشترط أن يكون لجوءه إلى المحكمة المدنية بصفة أصلية [(7)] أي أن يمثل مدعيًا لا أن يدخل في الدعوى مدعى عليه، فإذا رفعت دعوى مدنية بطلب تنفيذ عقد معين فأنكر المدعى عليه توقيعه على السند أو العقد المتمسك به ضده كان ذلك منه دفاعًا وليس رفعًا لدعوى مدنية – فيحق له بعد ذلك أن يلجأ إلى المحكمة الجنائية مدعيًا مدنيًا في الدعوى التي ترفعها النيابة عن تزوير هذا السند – أو أن يرفع دعواه المباشرة بتزويره.
وتعتبر الدعوى مرفوعة إلى القضاء المدني بمجرد إعلان صحيفة افتتاحها للمدعى عليه وتكليفه بالحضور في اليوم المحدد للجلسة التي ستنظر فيها الدعوى ولو لم تقيد بعد ذلك – إذ أن نص المادة (69) مرافعات يجرى على أنه (ترفع الدعوى إلى المحكمة بناءً على طلب المدعي بصحيفة تُعلن للمدعى عليه على يد أحد المحضرين ما لم يقضِ القانون بغير ذلك) فإعلان صحيفة الدعوى إلى المدعى عليه هو الوسيلة القانونية لإخباره بالطلبات الموجهة إليه – وبغير هذا الإعلان لا يمكن أن تنشأ خصومة [(8)].
وقد قضى بأن أداء رسوم الدعوى لا يعني أنها قد رُفعت بالفعل إذ يجب لاعتبار الدعوى مرفوعة أن تعلن إلى الخصم في الميعاد الذي نص عليه القانون [(9)] وحكم كذلك بأنه لا يعد رفعًا للدعوى الدخول في تفليسة المتهم للمطالبة بالدين [(10)] وكذلك لا يعد رفعًا للدعوى حصول المدعي المدني على قرار من لجنة المساعدة القضائية بمعافاته من رسوم الدعوى التي يريد رفعها أمام القضاء المدني فمتى اعتبرت الدعوى مرفوعة طبقًا لما تقدم لا يحق للمدعي بعد ذلك – ولو لم تقيد – أن يتركها ويلجأ للقضاء الجنائي مدعيًا مدنيًا.
2 – وجوب توافر وحدة الدعوى خصومًا وسببًا وموضوعًا:
ويعبر عن ذلك الشراح بوجوب أن تكون الدعويان ناشئتين عن فعل واحد maissant du même fall.
وفي هذا تقول محكمة النقض إن (الدفع بعدم قبول الدعوى المباشرة لسبق اختيار المدعي المدني الطريق المدني قبل رفعه الدعوى المباشرة هو كالدفع بعدم جواز نظر الدعوى المباشرة لسبق الفصل فيها نهائيًا في الدعوى المدنية من حيث إنه يشترط لقبول أيهما أن تكون الدعوى التي سبق رفعها هي عين الدعوى التي رفعت بعد ذلك – ولا تتحقق هذه العينية إلا إذا اتحدت الدعويان من حيث الموضوع والسبب والأخصام) [(11)] – وقضي كذلك بأن (المادة (239) تحقيق جنايات لا تجيز لمن رفع دعواه إلى محكمة مدنية أو تجارية أن يرفع هذه الدعوى إلى محكمة جنائية بصفته مدعيًا بحقوق مدنية فإذا رفع شخص دعوى أمام المحاكم المختلطة طالبًا إلزام المدعى عليه بتعويض ما لحقه من الضرر بسبب تصرفه معه واستعماله الطريق الاحتيالية والتدليسية معه فرفضت هذه الدعوى فلا يجوز له أن يلتجئ إلى المحكمة الجنائية ليدعى أمامها مدنيًا عن هذا التصرف عينه) [(12)] – وقضي كذلك بأنه (متى كان الطلب المرفوع أولاً إلى المحكمة المدنية هو طلب رد وبطلان الورقة المدعى بتزويرها وكان الطلب المرفوع بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية هو طلب التعويض عن التزوير – فالطلبان مختلفان لاختلاف موضوعهما ولا يمكن في هذه الحالة الاحتجاج بحكم المادة (239) من قانون تحقيق الجنايات [(13)]).
وموضوع الدعوى هو ما يطلبه المدعي فيها أو ما يسعى لتحقيقه بطرح النزاع على القضاء، والمراد جوهر الحق المتنازع عليه والسبب هو الدعامة التي يرتكز عليها المدعي في تأييد مدعاه، وهو الفعل المعتبر في القانون أساسًا لاكتساب الحق في المطالبة بالشيء المراد الحصول عليه، وقد قضي بأنه يتحد السبب متى كان الأساس أو العلاقة القانونية في الدعوى التي نظرها أو قضى فيها القاضي هي بعينها التي يطلب إلى القاضي الثاني الحكم فيها من جديد [(14)].
أما الخصوم فهم الأشخاص الذين مثلوا في الدعوى بأنفسهم أو بغيرهم وكان لهم دور إيجابي فيها فإذا رفع المدعي المدني دعواه ضد الفاعل الأصلي أمام المحكمة المدنية فإن ذلك لا يمنعه من الدخول ضد الشريك في الدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية لاختلاف الأشخاص.
وقد قضت محكمة النقض إن النص الفرنسي للمادة (239) من قانون تحقيق الجنايات يفهم منه أن الواقعة التي وقعت بسببها دعوى أمام المحكمة المدنية لا يصح أن تقدم بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية ولو بطلب مخالف لما طلب أمام المحكمة المدنية أي أن الممنوع هو نقل تحقيق واقعة بعينها إلى القضاء الجنائي بعد أن سبق عرضها على القضاء المدني مهما اختلف الطلب في الجهتين ولكن هذا النظر يرد عليه:
أولاً: إن نص المادة (239) ليس في الحقيقة سوى قيد للحق العام المنصوص عليه في المادتين (52) و(54) من قانون تحقيق الجنايات والذي يجوز بمقتضاه للمدعي بالحق المدني أن يرفع دعواه المدنية بتعويض الضرر الناشئ من الواقعة الجنائية إلى المحكمة الجنائية المختصة بنظر تلك الواقعة بدلاً من رفعها إلى القضاء المدني المختص في الأصل بنظر الدعاوى المدنية، وما دام نص المادة (239) قيدًا لعموم نص المادتين المذكورتين وجب تضييق مداه وقصره على نوع الحق الذي أتى بالحد من طرق استعماله والأخذ به كما هو الشأن في القيود والاستثناءات، وبما أن المادتين (52) و(54) لا تتكلمان إلا على حق التعويض المترتب على الضرر الناشئ عن جريمة، وجب للحد من حق المجني عليه ومنه من الطريق الجنائي المقرر بالمادتين المذكورتين أن يكون المرفوع أولاً إلى المحكمة المدنية هو نفس طلب التعويض عن الجريمة حتى يمنع طلبه بعد ذلك أمام المحكمة الجنائية.
ثانيًا: إن النص العربي للمادة (239) يقتضي أن يكون المرفوع إلى المحكمة الجنائية هو عين الطلب الذي سبق تقديمه إلى المحكمة المدنية – ولا تتصور وحدة في الدعويين إلا بوحدة الموضوع – والطلب الوحيد الذي يمكن أن يتصور إمكان تنقله بين المدني والجنائي هو طلب التعويض، وإذن فهو وحده المقصود بحكم المادة (239) – والنص الفرنسي للمادة المذكورة لا يختلف – أو يجب ألا يختلف – في مؤداه عن النص العربي الذي تظهر فيه على ما سلف بيانه – حكمة التشريع بجلاء لا محل معه للتشكك في غرض الشارع – ويجب أن يلاحظ إلى جانب ذلك أن المعنى المستفاد من النص العربي هو الذي انعقد عليه إجماع الفقه والقضاء الفرنسيين في تفسير قاعدة اختيار أحد الطريقين uva via electa بل إن مسألة الادعاء بحق مدني أمام المحكمة الجنائية في قضية تزوير بعد الطعن بالتزوير طعنًا فرعيًا لدى المحكمة المدنية – هذه المسألة بخصوصها (وهي مدار البحث في الطعن الحالي) قد نص عليها قانون المرافعات الفرنسي بالمادة (250) وأجازها وانتهى رأي الفقهاء هناك بأن تلك المادة متمشية مع قاعدة اختيار أحد الطريقين – وإذن فالواجب عندنا أن يرد النص الفرنسي إلى حدود النص العربي وأن يصرف النظر عن مدلوله الحرفي من توسع لا حكمة له أما القول بأن هذا التوسع يصح أن يحمل على أن الشارع المصري أراد أن يرجع بالقاعدة إلى المعنى القديم الذي كانت تفهم به في فرنسا قبل الإجماع الأخير فقول يرد عليه:
أولاً: إن النص العربي ظاهر المعنى في غير لبس ولا إبهام ولا قصور فالواجب الأخذ به وتقديمه على النص الفرنسي الذي ليس له في التشريع المصري قيمة النص العربي ولا يصح الرجوع إليه والعدول به عن النص العربي إلا إذا شاب هذا الأخير غموض أو نقص يقصر به عن مسايرة القواعد القانونية العامة أو عن أداء المعنى المقصود منه – فإن لم يكن به شيء من ذلك فهو أولى بالاعتبار بلا مراء والنص العربي للمادة (239) واضح الدلالة وأكثر مماشاةً للقواعد العامة المجمع عليها.
ثانيًا: إن النص الفرنسي ورد هكذا (من رفع دعوى أمام محكمة مدنية أو تجارية فلا يجوز له بسبب نفس الواقعة الادعاء بحق مدني أمام المحكمة الجنائية) وظاهر هذا النص أن أي واقعة جنائية تحصل كنصب أو تزوير أو خيانة أمانة مثلاً فيرفع المجني عليه فيها دعوى إلى المحكمة المدنية يطلب فيها رد الشيء الذي أخذ بطريق النصب أو بطلان المحرر المزور أو رد الشيء الذي أخذ خيانة فتقضي له المحكمة برد الشيء المأخوذ نصبًا أو خيانة أو ببطلان المحرر المزور مثل هذا المجني عليه لا يستطيع أن يطلب مباشرةً إلى المحكمة الجنائية عقاب النصاب أو الخائن أو المزور وتعويضه عن الضرر الذي لحقه من الجريمة التي وقعت عليه بل ولا يستطيع أن يدخل خصمًا في الدعوى العمومية التي ترفعها النيابة ليطالب بتعويضه عن ذلك الضرر – وبدهي أن وجه الحكمة في ذلك خافٍ كل الخفاء
وأن المنطق السليم والعدل يأبيان ذلك إباءً تامًا ويهديان إلى أن هذا لا يصح أن يكون مرادًا للشارع فإن عقوبة المجرم حق وتعويض المضرور حق ولجوء المضرور للمحكمة الجنائية يطلب تعويضه الذي لم يطلبه من قبل أمام المحكمة المدنية حق أيضًا ومتى كان الأمر كذلك وجب أما إهمال النص الفرنسي اكتفاءً بالنص العربي الواضح الدلالة في معناه الذي ترتفع معه تلك الريب التشريعية – وأما تخريجه على وجه يتلاءم مع النص العربي والتخريج ممكن فإن أصل مراد الشارع عدم نقل الطلب موضوع الدعوى من محكمة إلى أخرى – وعلى هذا الأصل يكون قول المادة (لا يجوز له بسبب نفس الواقعة الادعاء بحق مدني أمام المحكمة الجنائية) أي لا يجوز له نقل دعواه التي قدمها للمحكمة المدنية تأسيسًا على واقعة ما جنائية إلى المحكمة الجنائية تأسيسًا على نفس الواقعة.
وبما أن الجائز المطالبة به أمام المحكمة الجنائية هو التعويض لزم أن تكون الدعوى التي ينقلها من المحكمة المدنية هي بعينها دعوى التعويض، ومهما يكن في هذا التخريج من التكلف إلا أنه هو الممكن أن يكون وعلى كل حال فوجود النص العربي وصراحته مغنٍ كما سلف عن النص الفرنسي.
ومتى كان الطلب المرفوع أولاً إلى المحكمة المدنية هو طلب رد وبطلان الورقة المدعى بتزويرها، وكان الطلب المرفوع بعد ذلك إلى المحكمة الجنائية هو طلب التعويض عن التزوير فالطالبان مختلفان لاختلاف موضوعهما ولا يمكن في هذه الحالة الاحتجاج بحكم المادة (239) [(15)].
وحكم بأنه إذا حملت الزوجة سفاحًا كان للزوج الحق في نفس نسب المولود بدعوى اللعان والحصول على تعويض نظير الزنا بالدعوى المدنية – ودعوى اللعان أمام المحاكم الشرعية لا تمنع من رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية لاختلاف الدعويين في الموضوع [(16)]، وقضي كذلك بأن دعوى البنوة ودعوى التعويض عن الأضرار المترتبة على شهادة الزور فيها (في دعوى البنوة) هما دعويان تختلفان طلبًا وسببًا وأخصامًا وأنه وإن كان البحث في دعوى شهادة الزور سيدور حتمًا على الطعن في الشهود واستنكار شهادتهم وإثبات عدم صحتها على نحو ما دار عليه بين المدعي المدني وخصمه أمام المحكمة الشرعية إلا أن ذلك لا يقيم بين الدعويين إلا وحدة المسألة المبحوثة idantité de la question debattue مع بقاء موضوعيهما متغايرين – ولا ينبغي الخلط بين وحدة الموضوع ووحدة المسألة البحوث فيها [(17)]
وإذا بدد أحد الشريكين بعض أموال الشركة كان للشريك الآخر أن يطلب فسخ الشركة والحصول على تعويض مقابل نصيبه فيما تبدد – ودعوى الفسخ أمام المحاكم المدنية لا تمنع دعوى التعويض أمام المحاكم الجنائية – وإذا رفع شخص دعوى أمام المحكمة المدنية يطلب مبلغ بموجب سند ثم ظهر له أن المدين غشه وأعطاه سندًا مزورًا ولكنه رغم ذلك أمكنه أن يثبت صحة الدين وحكم له به، فلا يمنعه ذلك من رفع دعوى مدنية مباشرة أمام محكمة الجنح بسبب النصب عليه بإعطائه ذلك السند المزور لأن موضوع الدعوى الأولى هو المطالبة بالدين وموضوع الدعوى الثانية هو تعويض الضرر الذي لحق المدعي بسبب تزوير السند [(18)].
3 – أن يكون المدعي المدني قد رفع دعواه إلى المحكمة المدنية وهو عالم بحصول الجريمة:
أي أنه يشترط أن يكون المدعي المدني حين رفع دعواه إلى القضاء المدني عالمًا بحصول الجريمة وتمامها إذ أنه يفهم من التجائه للقضاء المدني مع علمه بذلك اختياره هذا الطريق وتنازله عن الطريق الجنائي – أما إذا كان يجهل أن الجريمة قد وقعت فإن علمه بوقوعها بعد التجائه للمحكمة المدنية يجيز له ترك دعواه التي رفعها أمامها ليرفعها من جديد أمام القضاء الجنائي، فالمودع إذا طالب المودع لديه برد الوديعة أمام المحكمة المدنية ثم ظهر له أنها تبددت يجوز له ترك دعواه وأن يرفعها ثانيةً أمام المحكمة الجنائية، لأنه وقت رفع الدعوى الأولى كان يجهل حصول التبديد ومن جهة أخرى فقد تغير سبب الدعوى لأن الدعوى الأولى سببها الوديعة والثانية سببها التبديد [(19)].
وظاهر أن جهل المدعي المدني بحصول الجريمة أمر يخالف جهله بأن في العمل الذي أتاه المدعى عليه جريمة – إذ أن هذا الأمر الأخير جهل بالقانون ولا يعذر أحد لجهله بالقانون – فالمقصود إذن الجهل بالوقائع أي عدم العلم بحقيقة الحال.
4 – أن تُرفع الدعوى إلى محكمة مدنية مختصة:
ومعنى ذلك أن منع المدعي المدني من العود إلى رفع دعواه أمام المحاكم الجنائية مشروط بأن تكون الدعوى التي رفعها أولاً إلى المحكمة المدنية قد رفعت إلى محكمة مختصة – فإذا حكمت المحكمة بعدم اختصاصها رجع المدعي إلى الحالة التي كان عليها قبل رفع الدعوى وأصبح في حل من أن يرفع الدعوى إلى المحاكم الجنائية إذ أن خطأه في اختيار المحكمة لا يجوز أن يترتب عليه حرمانه من اللجوء للقضاء الجنائي.
وعلى هذا الرأي أغلب الشراح – وقد قضت به محكمة النقض المصرية في حكم لها جاء فيه (أنه وإن كان صحيحًا أن المدعي المدني اختار في مبدأ الأمر الطريق المدني إلا أنه من الصحيح أيضًا أن الحكم الصادر من المحكمة المدنية بعدم اختصاصها بنظر الدعوى قد أزال هذه الدعوى وجعلها كأن لم تكن – وعاد للمدعي المدني بمقتضى هذا الحكم كامل الحق الذي كان له من قبل في اختيار الطريق الذي يريده لدعواه وقد اختار فعلاً الطريق الجنائي ولم يكن من حق الطاعن (المتهم) التمسك أمام محكمة الجنح بعدم قبول الدعوى المدنية [(20)].
وأرى – مع احترامي لقضاء محكمتنا العليا ومع التسليم بما في هذا الرأي من وجاهة واعتبار – أنه لا يجوز للمدعي بعد الحكم في دعواه المدنية بعدم الاختصاص – أن يعود فيرفعها إلى المحكمة الجنائية لأن العلة التي دعت إلى إقرار قاعدة سقوط حق خيار المدعي المدني إذا لجأ للقضاء المدني أولاً – ألا وهي افتراض تنازله عن الطريق الجنائي الاستثنائي – هذه العلة متوافرة في حالتنا هذه فلا شيء يدعونا إلى تغيير الحكم لأن العلة تدور معه وجودًا وعدمًا فما دام أن المدعي المدني لجأ أولاً إلى المحكمة المدنية فقد اختار الطريق المدني والحكم بعدم الاختصاص لا ينفي هذا الاختيار وما عليه إلا أن يمضي في الطريق المدني الذي اختاره وأن يرفع دعواه مرة أخرى إلى المحكمة المدنية المختصة وذلك دون تفريق بين اختصاص متعلق بالنظام العام وآخر غير متعلق به.
5 – أن يدفع المتهم بعدم قبول الدعوى المدنية:
يقر القضاء والفقه أن الدفع بسقوط حق خيار المدعي المدني ليس من النظام العام لأنه لا يمس مصلحة عامة بل يتعلق بصالح المتهم الخاص – ولذا يجب على المتهم أن يدفع به ولا يجوز للمحكمة أن تقضي بعدم قبول الدعوى لسقوط حق الخيار من تلقاء نفسها – وحكم بأن (عدم تمسك المتهم لدى المحكمة الاستئنافية بالدفع بعدم قبول الدعوى لسبق نظرها والفصل فيها من المحكمة المدنية – ذلك الدفع الذي أبداه أمام المحكمة الجزئية ورفضته يسقط حقه في التمسك به لدى محكمة النقض [(21)].
La règle, Electa, ne s’applique que si le defendeur l’a invoqué. La ministeie publique ni les juridictions repressives ne pewvent suppléas d’afftce les moyens de nullité qui en resulte) [(22)]
وقد اتفق بعض الشراح على أنه لكي يُقبل هذا الدفع يجب أن يبديه المتهم أمام محكمة أول درجة وقبل التكلم في الموضوع وإلا سقط الحق فيه [(23)].
وأرى غير هذا الرأي إذ أن الدفع بسقوط حق خيار المدعي المدني لسبق التجائه للمحكمة المدنية يترتب على الأخذ به من المحكمة الجنائية الحكم بعدم قبول الدعوى المدنية المرفوعة أمامها – فهو من الدفع بعدم القبول Fins de nov procéder فليس دفعًا شكليًا إذ أن الدفوع الشكلية منصوص عليها على سبيل الحصر في المادة (132) مرافعات وليس دفعًا موضوعيًا وهو الذي يوجه إلى ذات الحق المدعى به – وذلك على عكس الدفوع بعدم القبول فهي التي ترمي إلى إنكار سلطة المدعي في استعمال الدعوى لعدم توافر أحد الشروط التي يتطلبها القانون لقبولها سواء أكانت هذه الشروط من الشروط العامة التي يتعين توافرها لسماع الدعوى أو من الشروط الخاصة بالدعوى المقدم بشأنها الدفع [(24)] – وعلى ذلك فالدفع بسقوط حق خيار المدعي المدني دفع بعدم القبول ومن ثم يتعين القول بجواز إبدائه في أية حالة تكون عليها الدعوى ولو في الاستئناف (مادة 142 مرافعات) ومن الواضح أنه يرجع إلى نصوص قانون المرافعات بوصفه القانون ذا الاختصاص العام في التطبيق عند عدم وجود نصوص خاصة – فلأن قانون الإجراءات الجنائية لم ينظم الدفوع الجائز إبداؤها أمام المحاكم الجنائية وجب الرجوع إلى التنظيم المنصوص عليه في قانون المرافعات ولأن الدفع لا تختلف طبيعته بحسب إذا ما أُبدي أمام القاضي المدني أو القاضي الجنائي – هذا مع القول بأن الدفع لا يتعلق بالنظام العام فلا يجوز إبداؤه لأول مرة أمام محكمة النقض ولا يجوز أن تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها.
6 – وبقي أخيرًا أن ننوه أنه (لا يجوز الجمع بين الدفع بقوة الشيء المحكوم فيه والدفع باختيار
أحد الطرفين للتنافي المنطقي والقانوني بينهما إذ أن أساس الدفع الأول صدور حكم في الدعوى الأولى يمنع من رفع دعوى تالية، بينما يشترط في الدفع الثاني أن ينتقل المدعي من القضاء المدني لرفع دعواه أمام القضاء الجنائي أو بالعكس وذلك كله قبل صدور حكم في الدعوى الأولى [(25)].
وقضي بأنه (يشترط لقبول الدفع بسقوط حق خيار المدعي المدني أن لا يكون قد فصل في الدعوى المدنية نهائيًا وإلا فلا محل إلا للدفع بقوة الشيء المحكوم فيه [(26)].
والدفع بسبق الفصل في المواد الجنائية متعلق بالنظام العام على عكس الدفع بسقوط حق الخيار فهو غير متعلق بالنظام العام كما سلف القول.
اترك تعليقاً