بحث قانوني عن الرضا في العقود والعيوب الطارئة عليه

بسم الله الرحمن الرحيم

الرضا في العقود والعيوب الطارئة عليه
بحث علمي قانوني لنيل لقب أستاذ في المحاماة
مقدم من المحامي نبيل طوغلي
الأستاذ المدرب الأستاذ المشرف
المحامي عزام السباعي المحامي عزت ملص

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
قرآن كريم
صدق الله العظيم

باب تمهيدي: أهمية العقود في حياتنا:

الواقع أنّ حياة الأفراد إنّما هي مزيج من التعاملات اليومية المختلفة فيما بينهم، وهذه التعاملات إنّما تنتج آثاراً بين المتعاملين، كما ترتب موجبات على عاتق كل فريق تجاه الآخر.
وهذه الموجبات تنشأ إمّا عن القانون أو عن الأعمال غير المباحة كالجرم وشبه الجرم أو عن الكسب غير المشروع أو عن الأعمال القانونية.
والعمل القانوني إمّا أن يكون صادراً عن إرادة منفردة أي عن جانب فريقٍ واحد فيسمى عملاً إفرادياً، وإمّا أن يكون صادراً عن إرادتين أو أكثر، أي عن جانب فريقين أو أكثر ويسمى التعامل حينها عقداً.
وما زال شأن العقود كمصدر من مصادر الالتزام يتعاظم يوماً بعد يوم نتيجة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس ، الأمر الذي تطلب تنظيم التعامل فيما بينهم بالعقود لتوفير الثقة والاطمئنان واستقرار التعامل.
فالتزايد المستمر لحاجات الناس وتشابك علاقاتهم وتداخلها تبعاً لتطور المجتمع استلزم تنظيم التعامل فيما بينهم بالعقود، وذلك لتوفير الثقة بينهم .

والعقد هو ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول شرعاً (1)
فالعقد هو كل التئام بين مشيئة وأخرى لإنتاج مفاعيل قانونية، فإذا كان الاتفاق يرمي إلى إنشاء علاقات إلزامية سمِّي عقداً.
والمشيئة الواحدة وإن تكن معلنة بوضوح وبشكلٍ رسمي هي عاجزة في الأساس عن إنشاء علاقات إلزامية ما دامت لم تقترن بمشيئةٍ أخرى تتمثل بها مصالح مستقلة أو مخالفة.
ولكن يجوز على وجه الاستثناء وفي أحوالٍ محصورة نص عليها القانون أن تتولد الموجبات عن مشيئة الفرد الواحد كما في حالة عرض التعاقد أو التعاقد لمصلحة الغير أو الوعد بمكافأة أو الفضول.

تقسيمات العقود :

وتقسم العقود إلى أقسام متعددة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

1. العقود المتبادلة والعقود غير المتبادلة.
2. العقود ذات العوض والعقود المجانية.
3. عقود الرضا والعقود الرسمية.
4. عقود التراضي وعقود الموافقة.
5. عقود الأفراد وعقود الجماعة.
6. عقود الحيازة وعقود التأمين.
7. العقود المسماة والعقود غير المسماة.

العقود المتبادلة والعقود غير المتبادلة:

العقد المتبادل أو الملزم للفريقين، وهو الذي يكون فيه كل فريق ملتزماً تجاه الفريق الآخر على وجه التبادل بمقتضى الاتفاق المعقود بينهما، كعقد البيع والإيجار مثلاً.
أمّا العقد غير المتبادل فهو الذي ُيلزم فريقاً تجاه فريـقٍ آخر دون أن يكون ثمّة تبادل في الإلزام كعقد الهبة وعقد الكفالة والوكالة دون أجر.

العقود ذات العوض والعقود المجانية:

العقد ذي العوض هو ما كان معقوداً لمصلحة جميع أطرافه بحيث يكون لكلٍّ منهم منافع متعادلة على وجهٍ محسوس كالبيع والإيجار والمقايضة ….
أمّا العقد المجانيّ أو عقد التبرع فهو ما كان معقوداً لمصلحة فريقٍ دون أن ينال الآخر نفعاً مقابل ذلك كما في الهبة والإقراض بدون فائدة، حيث يقوم العقد هنا على قصد التبرع.

العقود الرضائية والعقود الرسمية:

العقد الرضائي أو عقد الرضا هو عقد غير مقيّد بشكلٍ معين، أمّا العقد الرسمي فهو ما أوجب القانون له شكلاً خاصّاً لزيادة الضمانات أو لممارسة الرقابة على أعمال الناس.
ومن العقود الرسمية أو الشكلية عقد بيع العقار وعقد الوصية.

عقود التراضي وعقود الموافقة:

عقد التراضي هو ما كان موضوعاً بحرية بين المتعاقدين وذلك بعد المناقشة والمساومة … ، كما في البيع أو الإيجار .
أمّا عقد الموافقة أو عقد الإذعان فهو ما كان مفروضاً تقريباً على الطرف الآخر في العقد، والذي يقتصر موقفه على قبول الشروط المعروضة عليه دون أن يكون له حق المناقشة في مضمونها، كما في عقد الاشتراك في الماء والكهرباء أو عقد النقل في الطائرات…
وقد نفى بعض فقهاء القانون صفة التعاقد رضاءً في عقود الإذعان لأنّ إرادة الفريق الأقوى تتحكم بإرادة الفريق الأضعف الذي لا يكون أمامه سوى قبول التعاقد أو الرفض وليس له تعديل شروط العقد المطبوعة والمعدة سلفاً.

عقود الأفراد وعقود الجماعة:

عقد الأفراد هو ما كان يخص عدداً من الأشخاص ويستلزم موافقتهم عليه.
أمّا عقد الجماعة فهو ما تفرضه أكثرية على أقلية بحيث يكون سارياً على الجميع حتى على من لم يقبله كعقد العمل الجماعي الذي ينظم شروط العمل ويحدد بعض المنافع بين أرباب العمل والعمال.

عقود الحيازة وعقود التأمين:

عقد الحيازة هو ما كان يقصد به إدخال قيمة جديدة إلى ذمة المتعاقدين، إدخال المبيع في ذمة المشتري والثمن في ذمة البائع في عقد البيع (مثلاً ).
أمّا عقد التأمين فهو ما يقصد به المحافظة على مجموع الذمم المالية للمتعاقدين كالتأمين والرهن .

العقود المسماة والعقود غير المسماة:

تكون العقود مسماة إذا أقر لها القانون تسمية خاصة أو شكلاً معيَّناً ونظّم أحكامها كعقد البيع وعقد الإجارة.
أمّا العقد غير المسمى فهو ما بقي بدون تسمية من قبل المشرِّع وبدون تنظيم أحكام خاصة به، (عقود ترعى تعاملات الناس المختلفة ) كعقد لتقديم بعض الخدمات مثلاً.
ولا شكّ أنّ هناك تقسيمات أخرى للعقود لأنّ التقسيمات آنفة الذكر إنّما أوردناها على سبيل المثال لا الحصر وبالفعل هناك العقود المدنية والعقود التجارية والعقود الأصلية والعقود التبعية والعقود المؤقتة والعقود المستمرة أو المتتابعة التنفيذ … .
قلنا أنّ العمل القانوني إمّا أن يكون صادراً عن إرادة منفردة فيسمّى عملاً إفرادياً ، وإمّا أن يكون صادراً عن إرادتين أو أكثر فيسمّى العمل حينها اتفاقاً أو عقداً .
والسؤال الذي يطرح هنا يتعلّق بماهية الإرادة الصالحة لإنشاء العقد؟
والواقع أنّ الإجابة على هذا السؤال إنّما تشكل موضوع بحثنا.
نشير فوراً إلى أنّ العقد إنّما يقوم على ثلاثة أركان رئيسية إلى جانب بعض الشروط الخاصة التي يفرضها القانون لكل عقد على حِدا.

والأركان الثلاثة الرئيسية هي:

  • – الرضا.
  • – الموضوع.
  • – السبب.

فالعقد يقوم على هذه الأركان الثلاثة (أي إرادة صحيحة صادرة من ذي أهلية وخالية من العيوب تقع على محلٍ مستوفٍ لشروطه وتتجه لتحقيق سبب مشروع).
وما يهمنا في هذا المجال هو البحث في معنى الرضا وماهيته كركن من أركان العقد إضافة للبحث في العيوب التي يمكن أن تعيب الإرادة في العقود والنتائج المترتبة على ذلك.
ذلك أنّ موضوع البحث هو الرضا في العقود والعيوب الطارئة عليه.

البـاب الأول: الـرضـا

المبحث الأول: الإرادة الصالحة لإنشاء الموجب:

نص القانون المدني السوري في الباب الأول (مصادر الالتزام) الفصل الأول (العقد) في المادة /92/ منه وفي معرض الحديث عن أركان العقد على أنّه “يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين، مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد”

إذاً بموجب القانون المدني السوري إنّ العقد هو مصدر من مصادر الالتزام، والالتزام كما نعلم يرتب أعباءً على الأطراف، لذلك كان لا بدّ لمن كان طرفاً في العقد من أن يكون حراً بصورة كاملة (ضمن حدود القانون) عند إلزام نفسه بالموجبات التي يرتبها عليه العقد الذي هو طرف فيه.
لذلك يجب أن تكون إرادته حرة واعية مدركة للعمل الذي يقدم عليه ولنتائجه، غير معيبة بعيب ينقص منها أو يعدمها.
والإرادة إنّما تتمثل بالرضا الذي يظهره المتعاقد عند إبرام العقد، وذلك يتطلب في الكثير من الأحيان عمليات أخذٍ ورد وإيجابٍ وقبول للتوصل إلى الشروط التي تلقى القبول من قبل أطراف العقد.

وتصدر الإرادة عن العقل والفكر وُتثبت عزم الإنسان على القيام بأمرٍ ما.
فالإرادة في حقل الروابط القانونية تتجه لإحداث أثر قانوني معين، أي إلى إنشاء موجب يُلزم صاحب هذه الإرادة، بناءً عليه لا عبرة للإرادة التي لم تتجه لإحداث أثر قانوني، فالمهم في العقد أن تتجه الإرادة لإحداث أثر قانوني فإذا لم يكن المراد إحداث هذا الأثر فلا يكون هناك عقد وبالتالي رِضاً وإرادة، ولهذا السبب لا يعتد بإرادة من يعمل على سبيل الهزل ولا بإرادة من يسعى إلى تحقيق مجاملات اجتماعية، فقد يدعو شخص شخصاً آخر إلى وليمة فيقبل المدعو بذلك دون أن يكون القصد من إرادتيهما أو من اتفاقهما أن ُيلزما نفسيهما بذلك، وقد يُقْدم أحد الأشخاص على توجيه وعد لصديقه بمرافقته إلى المدينة لمساعدته على حمل المشتريات، فهذا الوعد غير ُملزم لمن صدر عنه إلاّ إذا ثبت أنّ من وجّه الوعد كان يقصد إلزام نفسه بما وعد به.
كذلك لا يعتد بإرادة الهازل ولا بالإرادة في حالة الاضطراب الفكري (كما في حالة الجنون والسكر والغيبوبة والتنويم المغناطيسي لأنّ الإرادة هنا تكون معدومة ) ولا بأيِّ إرادةٍ يثبت أنّ صاحبها لم يقصد بها إحداث أثر قانوني بصورة جدية.
ونتيجة لتأثير المبادئ الفلسفية علا شأن الإرادة في مجال التعاقد وتكرّس المبدأ المسمى بمبدأ سلطان الإرادة وذلك باشتراط الإرادة الحرة كمصدر من مصادر الالتزام وتولُّد الحقوق، كحق الملكية وحقوق الأسرة الناشئة عن الزواج…
وعليه لا يجوز تعديل الإرادة إلاّ برِضى صاحبها، ولكن إذا كان مبدأ سلطان الإرادة هو السائد إلاّ أنّ هذا المبـدأ ما زال مقيّداً من بعض النواحي بما لهذا القيد من علاقة بالنظام العام والآداب العامة حفاظاً على مصالح عليا في المجتمع (مصلحة الأسرة ، المصلحة العامة …)

إذاً إنّ العقد شريعة المتعاقدين وللأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون بشرط مراعاة مقتضى النظام العام والآداب العامة والأحكام القانونية التي لها صفة الإلزام .

عناصر الرضا:

الرِّضا أمرٌ خفي يناط بقرائن منها الإيجاب والقبول( ).
ويتم الرِّضا بالإيجاب والقبول أي بتعبير كل طرف في العقد عن إرادته على الصورة التي ذكرناها (إحداث الأثر القانوني). عودة للصفحة الثامنة
والتعبير عن الإرادة كما نصت عليه المادة /93/ من القانون المدني السوري يمكن أن يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفاً، أو باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود.
كما ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنياً إذا لم ينص القانون أو يتفق الطرفان على أن يكون صريحاً .
وفي هذا المجال يرى بعض الفقه أنّه يجب التمييز بين الإرادة الكامنة في النفس “نفس المتعاقد” والمظهر الخارجي للتعبير عن هذه الإرادة

– فالإرادة الكامنة في النفس هي عمل نفسي يتمثل بالعزيمة على القيام بنشاط معين.
– أمّا المظهر الخارجي للإرادة فهو العنصر المادي المحسوس ويتمثل باتخاذ موقف يعبِّر عن الإرادة الكامنة بحيث لا تبق خفية ويعلم بها الناس.

والتعبير عن الإرادة أو المظهر الخارجي لها، يمكن أن يكون صريحاً أو ضمنياً وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري كما رأينا في المادة /93/ منه.
ومن أمثلة التعبير الصريح عن الإرادة ( التعبير اللفظي أو الكتابي ) كالقول مثلاً في عقود الزواج وبصورة مجردة طبعاً ” زوجتك نفسي ” أو كتابة هذه الجملة من قبل صاحب العلاقة.

كذلك يكون التعبير الصريح عن الإرادة بكل موقف يفهم منه (وحسب ما هو شائع ومألوف بين الناس) التعبير عن الإرادة كهز الرأس مثلاً بصورة عاموديه الذي يفيد القبول حسب ما هو متعارف عليه بين الناس، وهز الكتف الذي يفيد الرفض.
أيضاً يكون التعبير الصريح عن الإرادة باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود، ومن أمثلة ذلك عرض البائع لبضاعته مع بيان أثمانها، إذْ يشكّل ذلك إيجاباً صريحاً.
أمّا التعبير الضمني عن الإرادة فيتم باتخاذ موقف ليس في ذاته موضوعاً للكشف عن الإرادة إلاّ أنّ هذا الموقف لا يمكن تفسيره دون أن يفترض وجود هذه الإرادة.

بصورة عامة يمكن القول أنّ التعبير الصريح عن الإرادة يتمثل في اتباع الأسلوب المألوف في الإفصاح عنها، أمّا التعبير الضمني فهو يتمثل في اتباع أسلوب غير مألوف في الإفصاح عن الإرادة.
ولكن متى تمّ التعبير عن الإرادة سواءً بصورةٍ صريحة أو ضمنية فقد وُجدت الإرادة ، فإذا التقت هذه الإرادة بإرادة أخرى مطابقة لها فقد وجد التراضي وتم العقد، وهذا ما يستفاد من نص المادة /92/ من القانون المدني السوري ” يتم العقد بمجرد التعبير عن إرادتين متطابقتين، مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد “.
رأينا أن الإرادة يجب أن تتجه لإحداث أثر قانوني لكي يعتد بها في العقود، وأنّه متى التقت إرادتان متطابقتان فقد تمّ العقد إذا روعيت الشروط المفروضة قانوناً وحصل الرِّضا الذي يقوم على عنصرين:

• الإيجاب .
• القبول.
فلا بد لتمام العقد من صدور إيجاب من قبل أحد المتعاقدين يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر.

أولاً – الإيجاب:

الإيجاب في العقود هو العرض، أي عرض التعاقد كأن يقول شخص لآخر أبيعك منزلي بمبلغ مليون ليرة سورية، أو أقلك من دمشق إلى حمص لقاء مبلغ ألف ليرة سورية.

ثانياً – القبول:

القبول في العقود هو الإرادة وإظهار الرغبة في قبول ما عرضه الطرف الآخر. حيث يُعرض عليّ شراء المنزل لقاء مليون ليرة سورية فأقبل بذلك.
والواقع أنّ كِلا العنصرين، الإيجاب والقبول إنّما يثيران بعض المسائل التي لا بُدّ من دراستها، ذلك أنّ الإيجاب لا يصدر دائماً بصورة باتَّة قطعية بل تسبقه مفاوضات ومناقشات وأخذ ورد تفرضها الحياة العملية ومصلحة الأطراف، لذلك لا بدّ من التطرق إلى مسألة مطابقة القبول للإيجاب، والقوة الملزمة للإيجاب، والنتائج المترتبة للعودة عنه.

الفصل الأول: مطابقة القبول للإيجاب

رأينا أنّ القانون المدني السوري وفي المادة /92/ منه نص على أنّ ” العقد يتم بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين، ……… ” أي بمجرد مطابقة القبول للإيجاب، طبعاً مع مراعاة الأوضاع القانونية المشروطة لكل عقد.
إلاّ أنّ الإيجاب والقبول كما رأينا لا يصدران عن الأطراف عادة إلاّ بعد مفاوضات قد تطول وتتعدد فيها التنازلات والعروض يتوصل بعدها الأطراف إلى الاتفاق النهائي على جميع المسائل الجوهرية في العقد.
أمّا ” إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد، واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا أنّ العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها، أعتبر العقد قد تمّ، وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها ، فإنّ المحكمة تقضي فيها طبقاً لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة “، وهذا في الواقع ما نص عليه القانون المدني السوري في المادة /96/ منه.

نشير فوراً إلى أنّه وللوهلة الأولى قد يتصور أنّ هذا الحكم يتعارض مع المبدأ القائل أن المرء يلزم بما قَبِلَ به فقط، ولكن يُردُّ على ذلك أنّه طالما أنّ المتعاقدان أرادا للعقد أن يبرم ولو لم يتفقا على المسائل غير الجوهرية (المتروكة لاتفاقٍ لاحق) فإنّ ذلك يستتبع أنّهما أرادا أن يحل القاضي محلهما ليبت فيما اختلفا فيه، وهذا الحكم تستدعيه وجوب الملائمة بين ما اتفق عليه الأطراف من إبرام العقد ، وما اختلفا فيه من المسائل غير الجوهرية المرجأة، ذلك أنّ إرادة الأطراف في الأساس تمحورت (حول إبرام العقد) حتى لو لم يتم الاتفاق فيما بينهما لاحقاً على المسائل غير الجوهرية.
خلاصة القول أنّ القبول يجب أن يكون مطابقاً للإيجاب حتى يتم العقد، أمّا إذا كان غير مطابق له بل اختلف عنه زيادةً أو نقصاً أو تعديلاً فإنّ العقد لا يعتبر تاماً ويعتبر القبول في هذه الحالة رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً، وفي هذه الحالة تنقلب الصفة في الواقع بحيث يصبح من وجه إليه الإيجاب سابقاً موجباً في هذه الحالة وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة /97/ منه والتي نصت على ما يلي “إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه، اعتبر رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً “.

الفصل الثاني: القوة الملزمة للإيجاب

لا بُدَّ للإيجاب كي يعتد به أن يصدر عن الموجب بصـورة باتة نهائية لا تدع مجالاً للشك في إرادته.
وفي معرض بحث القوة الملزمة للإيجاب يجب التمييز بين ما إذا كان الإيجاب قد صدر عن الموجب في مجلس واحد يضمه مع من وجه إليه الإيجاب، وبين ما إذا كان الإيجاب قد صدر عن الموجب دون أن يجمعه مع الطرف الآخر مجلس واحد ، ذلك أنّ لكلٍّ من هاتين الحالتين أحكام خاصة بها.

ولكن في البداية لا بد لنا من تعريف مجلس العقد.
الواقع أنّ الفقه قد تصدَ لهذا الأمر فخاض غماره وكثرت الآراء حول ذلك ولعلّ الرأي الجدير بالإشارة إليه ذاك الرأي القائل بوجوب اتحاد المجلس الحقيقي، أي أن يضم أطراف العقد مجلس حقيقي، وفي هذا المجلس يجب أن يصدر الإيجاب يتبعه القبول الذي يفضي إلى تمام العقد وإلاّ فلا تمام للعقد، مثال ذلك (لو كان طرفا العقد واقفان فأوجب أحدهما وسار الآخر قبل القبول أو سارا معاً ثم قبل الآخر فلا ينعقد البيع لأنّ مجلس العقد قد تبدل قبل القبول ، أمّا لو تبايعا وهما واقفان فقد تمّ العقد لاتحاد المجلس).
ومجلس العقد هو المكان الذي يضم المتعاقدين، وليس الملحوظ فيه المعنى المادي للمكان، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلان بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر.

فإذا اجتمع شخصان في مجلس واحد وأصدر أحدهما إيجاباً للآخر فليس من الضروري أن يكون القبول فوراً بل يجوز أن يبقى الموجب له يتدبر الأمر شيئاً من الوقت حتى إذا عقد العزم على القبول فعل ذلك، ويكون قبوله صحيحاً بشرطين:
1. أن يبقى كلاً من المتعاقدان منشغلاً بالتعاقد، فإذا انصرف أحدهما إلى شيء آخر أعتبر المجلس قد انفض .
2. أن يبقى الموجب على إيجابه فلا يرجع عنه أثناء المدة التي يبقى فيها المجلس قائماً.

أولاً – المتعاقدان في مجلس واحد:

هي الحالة التي تفترض التعاقد بين حاضرين سواء بالنفس أو بالنيابة (الوكيل) وقد نصت المادة /95/ من القانون المدني السوري على ما يلي “إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد، دون أن يعين ميعاد للقبول، فإنّ الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التلفون أو بأي طريق مماثل …
– ومع ذلك يتم العقد ، ولو لم يصدر القبول فوراً، إذا لم يوجد ما يدل على أنّ الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد ”
نشير فوراً إلى أنّ هذا النص يثير مسألتين، مسألة ما إذا كان الموجب قد حدد ميعاداً للقبول ، أو لم يحدد مثل هذا الميعاد.

1-تحديد ميعاد للقبول: إنّ الإيجاب المقرون بميعاد للقبول هو إيجاب ملزم لمن صدر عنه، ولا يستطيع الرجوع عنه طيلة مدة الميعاد وهذا ما نص عليه القانون المدني السوري في المادة /94/ منه فقرة أولى ” إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد “.

والفترة الزمنية في هذه الحالة يجب أن تحدد بصورة صريحة.
إلاّ أنّ هناك حالات يمكن أن يستخلص منها هذا التحديد بصورة ضمنية، وذلك بالنظر لظروف الحال أو طبيعة المعاملة، وفي هذه الحالة يترك أمر تقدير الميعاد في حال النزاع لتقدير القاضي، وهذا ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة /94/ ق م س ” قد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة ”
والمثال على هذه الحالة ( إذا عرض صاحب آلة أن يبيعها تحت شرط التجربة فمن الميسور أن يستفاد من ذلك أنّه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة ) .
ويتحلل الموجب من التزامه بانقضاء الفترة المحددة دون صدور القبول ، أو بإظهار الإرادة المخالفة للإيجاب من قبل من وجه إليه الإيجاب، ولو قبل انقضاء الميعاد المحدد للقبول.

2-عدم تحديد ميعاد للقبول : المبدأ هنا هو أنّ الإيجاب لا يلزم صاحبه الذي يبقى له بعد إعلان إيجابه أن يعدل عنه إذا ما طرأت عليه عوامل أو ظروف ثابتة ( طبعاً الحالة التي نتصدى لها تفترض تجريد المسألة أي صدور الإيجاب دون التعرض لمسألة القبول ) .
وقد أخذ القانون المدني السوري بهذا الحكم في المادة /95/ منه ( إشارة إلى مجلس العقد ) عودة إلى الصفحة 16
وللأهمية نورد نص المادة /179/ من قانون الموجبات والعقود اللبناني (القانون المدني اللبناني) إذ تنص على ما يلي ” إنّ الإيجاب الصريح أو الضمني لا يلزم في الأساس صاحبه، بمعنى أنّه يستطيع إذا شاء الرجوع عنه، ووفاته أو فقدانه الأهلية الشرعية يجعلان الإيجاب لغواً، ويكون الأمر على خلاف ذلك عندما يتحصل من ماهية الإيجاب، أو من الظروف التي صدر فيها، أو نص القانون، أنّ صاحب الإيجاب كان ينوي إلزام نفسه، فيجب حينئذٍ استمرار الإيجاب في المدة المعينة من صاحبه، أو المستمدة من العرف أو القانون ،بالرغم من حدوث وفاته أو فقدانه الأهلية الشرعية.
كذلك يكون الأمر ولا سيما:

• إذا كان الإيجاب مقرون بمهلة على وجهٍ صريح.
• إذا كان في أمورٍ تجارية.
• إذا كان الإيجاب بالمراسلة.
• إذا كان وعداً بمكافئة. ”

ثانياً – المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد:

هي حالة التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد، ويتم ذلك بالمراسلة، بأيٍّ من طرقها المختلفة: البريد – البرق – رسول خاص دون أن يكون وكيلاً …. .
والواقع أنّ معيار التمييز بين ما إذا كان المتعاقدان يجمعهما مجلس واحد أم لا، إنّما يتمثل بالفترة الزمنية التي تفصل ما بين صدور القبول وعلم الموجب به، وهذه الفترة من الزمن لا يتصور وجودها في التعاقد ما بين حاضرين، أي في الحالة التي يضم المتعاقدين فيها مجلسُ واحد، أماّ في التعاقد ما بين غائبين فإنّ القبول يصدر ثم تمضي فترة زمنية هي المدة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب، ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به من قبل الموجب.
إذاً في التعاقد ما بين غائبين لا عبرة لما إذا كان يجمع المتعاقدين مكان واحد بحيث يرى أحدهما الآخر أم لا، إنّما العبرة للفترة الزمنية الفاصلة ما بين صدور القبول وعلم الموجب به.

والذي يؤكد ذلك القول أنّنا نستطيع تصور تعاقداً ما بين أشخاص لا يجمعهما مجلس واحد ورغم ذلك لا يوجد زمن يفصل ما بين صدور القبول من أحدهما والعلم به من الآخر (التعاقد بالتلفون) وفي هذه الحالة تطبق قواعد التعاقد بين الحاضرين، وهذا ما أخذت به المادة /95/ ق م س فقرة أولى المذكورة سابقاً.

إذاً العبرة هنا هي لاختلاف زمن القبول عن وقت العلم به من قبل الموجب.
نشير فوراً إلى أنّه في التعاقد ما بين غائبين من المتعذر العثور على وقت واحد يعلم فيه المتعاقدان معاً بتلاقي إرادتيهما، فلا يكفي أن يعلم الموجب بصدور القبول، بل يجب أيضاً أن يعلم القابل بهذا العلم وهكذا …
والواقع أنّ التعاقد بين غائبين يطرح مسألة زمن أو وقت تمام العقد وهي من الأهمية بمكان ، ذلك أنّ الكثير من الأحكام تبنى على زمان ومكان تمام العقد.

ومسألة الوقت الذي يتم فيه العقد في التعاقد ما بين غائبين إنّما كانت ميداناً واسعاً خاض غماره الفقه وتصدت له القوانين.
فمن قائل أنّ العقد يتم بمجرد صدور القبول حتى قبل العلم به من قبل الموجب، وهذا هو مذهب إعلان القبول .
رأي آخر يرى أنّه لا يكفِ لتمام العقد مجرد صدور القبول بل يجب إرسال القبول إلى الموجب بحيث لا يتمكن القابل من الرجوع عنه حتى ولو لم يعلم به الموجب بعد، وهذا هو مذهب تصدير القبول.

فقه آخر يرى أنّ العقد لا يتم إلاّ إذا علم الموجب بالقبول بعد صدوره عن القابل وهذا هو مذهب العلم بالقبول.
وقد أخذ القانون الألماني بمذهب العلم بالقبول إضافة للقانون التجاري الإيطالي والقانون المدني المصري.
أمّا قانون الالتزامات السويسري فيأخذ بمذهب تصدير القبول.

في حين أنّ القانون المدني السوري قد أخذ شأنه شأن قانون الموجبات والعقود اللبناني بمذهب إعلان القبول فقد نصت المادة /98/ ق م س على ما يلي ” يعتبر التعاقد ما بين غائبين قد تمّ في المكان والزمان اللذين صدر فيهما القبول ، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك “.

وعلى الرغم من أنّ الأخذ بهذا المذهب يؤدي للخروج عن المبدأ الأساسي القائل أن الإرادة لا تنتج أثرها إلا في الوقت الذي تتصل فيه بعلم من وجهت إليه، أي بعلم الموجب.

وعلى الرغم من أنّ الأخذ بمبدأ إعلان القبول هو أبعد ما يكون عن رعاية مصلحة الموجب ، ذلك أن الموجب هو الذي يبدأ التعاقد، فمن الطبيعي والحال هذه أن يتولى هو تحديد زمان ومكان تمام العقد، خاصة وأن مكان وزمان تمام العقد هو من المعايير المهمة التي يؤخذ بها بالنسبة لتحديد القانون الواجب التطبيق على الشروط الشكلية للعقد وعلى الالتزامات العقدية، إضافة إلى بعض العقود التي يعد الزمن فيها عاملاً مهماً، فهناك مواعيد تسري من وقت تمام العقد كمواعيد التقادم بالنسبة للالتزامات المنجزة التي تنشأ عن العقد، فتسري هذه المواعيد من وقت إعلان القبول عند الأخذ بهذا المذهب، وفي ذلك عدم عدالة وعدم مساواة في الوضعيات بين الموجب والقابل.

ولتوضيح ذلك نورد نص المادة /20/ من القانون المدني السوري “يسري على الالتزامات التعاقدية، قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً، فإن اختلفا موطناً سرى قانون الدولة التي تم فيها العقد …”
ونص المادة /21/ من نفس القانون والتي تنص على ما يلي “العقود ما بين الأحياء تخضع في شكلها لقانون البلد الذي تمت فيه ….”

ومثل هذه الإشكاليات العملية يمكن أن تثار.
ولتوضيح ذلك نثير المثال الآتي : ( صدر إيجاب من أحد الأشخاص لشخصٍ آخر بالمراسلة ومن ثم صدر القبول ممن وجه إليه الإيجاب، ولم يصل علم صدور القبول إلى الموجب بعد، في هذه الحالة وفق القانون السوري الذي أخذ بمبدأ إعلان القبول فإنّ العقد قد تمَّ منذ صدور القبول عن القابل، حتى ولو لم يعلم الموجب بذلك، أي أن العقد قد تمَّ دون أن يعلم الموجب بذلك، فهناك فترة زمنية يكون فيها العقد تامّاً مُلزماً دون أن يعلم الموجب بتمامه، فمن الممكن والحال هذه أن نتصور إمكانية صدور نشاط عن الموجب يُفيد العدول عن الإيجاب طالما أنه لم يعلم بعد بتمام العقد.)
ولنفترض أيضاً أن أحد الأشخاص صدر عنه إيجاب لشخص آخر، وكان الموجب مقيم في دمشق ومن وجه إليه الإيجاب مقيم في القاهرة، في هذه الحالة ينظر إلى مكان تمام العقد لتحديد القانون الواجب التطبيق وفق نص المادة /20/و/21/ من القانون المدني السوري فإذا صدر القبول في القاهرة ُعدّ العقد تاماً فيها وهكذا فإن قانون تمام العقد هو الواجب التطبيق أي القانون المصري.

ومثل ذلك إذا كان العقد واقعاً على عقار غير مبني مثلاً (قطعة أرض) بالنسبة للثمار وملكية هذه الثمار لا بدّ من النظر إلى وقت تمام العقد فإذا صدر القبول وتمَّ العقد أصبحت الثمار ملك المشتري حتى ولو لم يعلم المالك (الموجب) بذلك، فيمكن أن يعمد الموجب إلى قطف تلك الثمار وتبديدها دون أن يعلم أنها لم تعد ملكاً له.
إلاّ أن ما يسترعي إهمال هذه الثغرات والأخذ بمذهب إعلان القبول في التعاقد ما بين غائبين إنّما يتلخص بما ورد في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري عند الحديث عن العقود بالمراسلة من أن قواعدها أخذت من قانون الموجبات والعقود اللبناني فأصبح العقد بالمراسلة يتم بمجرد إعلان القبول وفي مكان إعلانه وذلك لكثرة المعاملات الجارية بين سورية ولبنان بحيث تقضي المصلحة بتوحيد النصوص التشريعية في هذا الموضوع بين البلدين لئلاّ يقع تنازع بين قانونيهما يؤدي إلى الإضرار بحقوق ذوي العلاقة ( المذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري ص /11/ ).
والسؤال الذي يطرح في هذا المجال يتعلق بمدى التزام الموجب بإيجابه في العقود التي لا يجمع فيها الأطراف مجلس واحد للعقد؟

للإجابة على هذا السؤال يجب التمييز بين ما إذا كان الموجب قد حدد موعداً لمن وجه إليه الإيجاب لإظهار رغبته بالتعاقد ، أم لم يحدد له مثل هذا الموعد.
الموجب حدد موعداً لإظهار القبول: في هذه الحالة يظل الموجب ملتزماً بإيجابه طيلة الفترة الممنوحة لمن وُجِّه إليه الإيجاب لإظهار رغبته بالتعاقد، ولا يحق للموجِب العودة عن إيجابه طيلة الفترة الممنوحة وإلاّ كان عُرضة لطلب التنفيذ العيني أو التعويض في حال النزاع.
الموجب لم يحدد موعداً لإظهار القبول: في هذه الحالة من المفيد العودة إلى نص المادة /98/ ق م س ونص المادة /179/ من قانون الموجبات والعقود اللبناني، القانون المدني اللبناني، إضافة للمذكرة الإيضاحية للقانون المدني السوري التي تظهر قصد المشرع السوري ورغبته في تبني نصوص القانون اللبناني في مجال التعاقد بالمراسلة (أي بين غائبين )، وإذا عدنا إلى نص المادة /179/ من قانون الموجبات والعقود اللبناني نراها تعتبر أنّ الإيجاب في الأساس لا يكون مُلزماً لصاحبه إلا ضمن شروط وظروف معينة ورد منها :
1. … … … …
2. … … … …
3. إذا كان الإيجاب بالمراسلة.
وفي هذه الحالة يبقى الموجِب ملزماً بإيجابه طيلة الوقت الذي يتسع عادة لوصول قبول يكون قد صدر عمّن وجِّه إليه الإيجاب في وقت مناسب وبالطريق المعتاد.
وعلى كُلٍّ وفي جميع الظروف فإن الموجِب يتحلل من إيجابه والإيجاب يسقط فيما لو تمّ رفض الإيجاب ممن وجه إليه، أو فيما لو اقترن قبوله بما (يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه) وفي هذه الحالة الأخيرة يعتبر الأمر بمثابة رفض يتضمن إيجاباً جديداً ،حيث تُستبدل صفة الأشخاص فيمسي من وُجِّه إليه الإيجاب سابقاً هو الموجِب حالياً، والموجِب هو من وجه إليه الإيجاب.

البـاب الثـانـي: صحة التراضي

ذكرنا أن العقد إنما يقوم على أركان أهمها الرضا فبدونه ينعدم العقد لانعدام الإرادة، فالعقد كما رأينا إنما هو التئام بين مشيئة وأخرى لإنتاج مفاعيل قانونية، ويتم العقد بمجرد التعبير عن إرادتين متطابقتين.
فإذا عطفنا نص المادة /92/ ق م س على نص المادة /110/ وما بعدها من نفس القانون ، وإذا استدللنا مجرد الاستدلال بنص المادة /176/ موجبات وعقود لبناني التي تنص في معرض تعداد أركان العقد على أنه ” لا مندوحة ( أي غنى )
1- عن وجود الرضا فعلاً
2-… … …
3-… … …
4- عن خلوه من بعض العيوب ”
فإذا اتضح لنا من خلال المواد القانونية المذكورة أن الرضا إنما هو ركن من أركان العقد لا يتمّ العقد بدونه فإننا نسارع إلى القول أن هذا الركن لا يستقيم ما لم يكن الرضا صحيحاً وخالياً من أيِّ عيبٍ يشوبه، والعيب هو حالة نفسية أو عارض متصل بالإرادة يؤثر فيها بحيث تنحرف عن الغرض المقصود فتفقد حرية التقدير والتقرير.
ومردُّ ذلك أن العقد يرتب التزامات قانونية على عاتق كل فريق تجاه الآخر ، وهذه الالتزامات مهما بلغ مقدارها هي مرهقة على من وقعت على عاتقه، لذلك يجب أن يكون الشخص المقدم على التعاقد عالماً بترتب التزامات معينة على عاتقه بمجرد قبوله بالعقد، وهذا يستدعي بالضرورة أن يكون إقدامه على التعاقد عن وعْيٍ وإدراك، خالٍ من أيّ ضغطٍ أو عيبٍ أو إكراه، إذاً يجب أن يكون رضى المقدم على التعاقد صحيحاً، والرضا لا يكون صحيحاً ما لم يصدر عن ذي أهلية، دون أن تكون إرادة أحد المتعاقدين في العقد مشوبة بعيب من عيوب الإرادة، وعيوب الإرادة هي: الغلط ، التدليس ، الإكراه والاستغلال، إضافة للتعيب بنقص الأهلية.
ولقد نصت المادة /110/ ق م س على أن كل شخص أهل للتعاقد ما لم تُسلبْ أهليته أو يُحدّ منها بحكم القانون.
ونبحث فيما يلي:
– ماهية الأهلية.
– حالات نقص الأهلية أو انعدامها.
ليصار بعد ذلك إلى دراسة كل عيب من عيوب الإرادة على حدا.

الفصل الأول: ماهية الأهلية

الأهلية هي صلاحية الشخص لإنفاذ أعماله في ماله الخاص .
وأهلية الشخص هي صلاحيته لوجوب الحقوق الشرعية له أو عليه (1)
والواقع أن مناط الأهلية هو التمييز لأنّ الإرادة لا تصدر إلا عن التمييز، فمتى كان التمييز كاملاً كانت الأهلية كاملة، ومن نقص تمييزه نقصت أهليته، ومن انعدم تمييزه انعدمت أهليته، وهذا في الواقع ما يستفاد من نص المادة /47/ قانون مدني سوري ” لا يكون أهلاً لممارسة حقوقه المدنية من كان فاقداً التمييز لصغرٍ في السن أو عتهٍ أو جنون.
– وكل من لم يبلغ السابعة يعتبر فاقد التمييز. ”

وفي معرض الحديث عن الأهلية نميز بين الأهلية، والولاية على المال.
– فالولاية على المال هي نفاذ الأعمال القانونية في مال الغير ( مثل القيم ووكيل الغائب والولي).
– أمّا الأهلية فهي كما ذكرنا صلاحية الشخص لإنفاذ أعماله في ماله الخاص.
لذلك لا نقول أن للقيم أو الولي أهلية التصرف في مال الصغير أو المحجور عليه ، ولكن نقول أن له ولاية التصرف في هذا المال.
كذلك يجب التمييز بين عدم الأهلية والمنع من التصرف، فقد يكون الشخص كامل التمييز، إلا أن القانون يمنعه من التصرف بماله، وهذا المنع روعيت فيه مصالح مشروعة كما في حالة منع المريض مرض الموت من التصرف بأمواله إلاّ في حدود معينة.
لذلك في هذه الحالة لا نقول أن الشخص الممنوع من التصرف غير ذي أهلية وإنما نقول أن هناك مصلحة تجعل تصرفات هذا الشخص غير نافذة إلاّ في حدود معينة.

في النهاية يجب التمييز بين عدم الأهلية وبين عدم قابلية المال نفسه للتصرف به ، مثال ذلك من وقف ماله فإنه لا يستطيع التصرف به ولا يرجع ذلك لعدم أهليته وإنما يرجع لعدم قابلية المال الموقوف ذاته للتصرف به.
وبالعودة لنص المادة /110/ ق م س يتضح أن الأصل هو توافر الأهلية لدى الأشخاص فهناك قرينة قانونية على توافر الأهلية لدى المتعاقدين، إلا أن هذه القرينة ليست مطلقة بل هي بسيطة تقبل إثبات العكس، وعلى من يدعي عدم الأهلية إثبات ذلك، مع عدم الإخلال بإمكانية المطالبة بالتعويض في حال اتباع أساليب احتيالية من قبل ناقص الأهلية أو فاقدها لإخفاء وضعه عن الطرف الآخر في العقد.

وأحكام الأهلية هي من النظام العام، وهي، أي الأهلية، على نوعين كما قسمها الفقهاء:
1- أهلية الوجوب.
2- أهلية الأداء.
أما أهلية الوجوب فهي صلاحية الشخص لوجوب الحقوق له أو عليه، وهي تلازمه من ولادته حتى وفاته، بل وتثبت للجنين قبل أن يُولد وللميت حتى تصفية تركته وسداد ديونه، فهي ليست في الواقع إلاّ القابلية لامتلاك الحقوق وتحمُّل الواجبات، فإذا انعدمت أهلية الوجوب انعدمت الشخصية معها (كالجنين يولد ميتاً).

في حين أن أهلية الأداء تعني صلاحية الشخص لاستعمال الحقوق المقررة له.
والواقع أن ما يهمنا في بحث الأهلية وكون نقصها أو انعدامها هو عيب من عيوب الرضا هو الحديث عن أهلية الأداء.
وتقسم العقود في رأي الفقه من حيث الأهلية إلى أربعة أقسام:
1- عقود اغتناء: وهي عقود النفع المحض، إذ يغتني من يباشرها دون أن يدفع عِوضاً لذلك،كالهبة بالنسبة للموهوب له.
2- عقود تبرع: وهي التي يتم فيها التصرف بالشيء دون عوض،كالهبة بالنسبة للواهب.
3- عقود إدارة: تتعلق باستغلال الشيء، كالإيجار بالنسبة للمؤجر.
4- عقود تصرف: هي عقود ترد على الشيء للتصرف به بعوض، كعقد البيع بالنسبة لكل من البائع والمشتري .
فمن توافرت لديه الأهلية كاملة كان له مباشرة جميع هذه العقود، ومن نقصت أهليته كان له مباشرة بعض هذه العقود دون سواها، أما من انعدمت أهليته فهو لا يصلح لمباشرة أي قسم من هذه الأقسام الأربعة.

الفصل الثاني: حالات نقص الأهلية أو انعدامها

نصت المادة /111/ قانون مدني سوري على أنه ” ليس للصغير غير المميز حق التصرف في ماله، وتكون جميع تصرفاته باطلة “.
أما المادة /112/ قانون مدني سوري فنصت على ما يلي “إذا كان الصبي مميزاً كانت تصرفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة نفعاً محضاً، وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً.
أمّا التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر، فتكون قابلة للإبطال لمصلحة القاصر ……..”
ولكن متى يكون الصبي مميزاً ؟

سن التمييز:

الواقع أن الفقه قد تعرض لهذه المسألة حيث اعتبر أن سن التمييز تقدر بسبع سنوات ، وبذلك أخذ القانون المدني السوري في الفقرة الثانية من المادة /47/ التي ذكرناها سابقاً، وكل من لم يبلغ السابعة من عمره يعتبر فاقد التمييز معدوم الإرادة بصورة مطلقة ( أهلية الأداء طبعاً ) ووفقاً للقانون السوري تكون تصرفاته جميعها باطلة ولا يستطيع أن يباشر أي عقد بنفسه.
وبالعودة لقانون الأحوال الشخصية السوري فإن للولي أو الوصي مباشرة الأعمال عن الصغير وذلك ضمن الحدود التي رسمها القانون، فالولي والوصي هم الأشخاص الذين تثبت لهم الولاية على مال الصغير غير المميز.
وقد اعتبر القانون أن ولي الصغير هو والده ثم الجد الصحيح أو الشخص الذي يعيِّنه أبوه وصياً على ماله فإن لم يفعل تعين المحكمة وصياً، ويجب التمييز هنا بين ولاية الولي وولاية الوصي.

– فللولي أن يباشر عن الصغير أهلية الاغتناء وأهلية التصرف وأهلية الإدارة، أمّا أهلية التبرع فلا يستطيع مباشرتها عن الصغير إلا بإذن المحكمة .
– أما ولاية الوصي سواء اختاره الأب أو عينته المحكمة فهي أضيق من ولاية الولي، فهو لا يستطيع أن يباشر عن الصغير أهلية الإدارة والتصرف والاغتناء إلا بموافقة القاضي، أما ممارسته لأهلية التبرع فلا يجوز له ذلك حتى بإذن القضاء .
ذكرنا أن سن التمييز هو بلوغ الشخص السابعة من عمره، في حين أن القانون المدني السوري اعتبر أن سن الرشد يتحقق ببلوغ الشخص الثامنة عشرة من عمره حيث نصت المادة /46/ منه على ما يلي ” كل شخص بلغ سن الرشد متمتعاً بقواه العقلية ، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.
– وسن الرشد هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة “.
فإذا بلغ الشخص السابعة من عمره دون أن يبلغ سن الرشد كان مميزاً دون أن يكون راشداً ، وهو في هذه الحالة شخص ناقص الأهلية ليس عديمها وليس كامل الأهلية، وهذا ما يستفاد من نص المادة /112/ قانون مدني سوري المذكورة سابقاً، ويتبين من نص هذه المادة أن الصبي المميز له أهلية الاغتناء لأنها نافعة له نفعاً محضاً، وليس له أهلية التبرع لأنها ضارة به ضرراً محضاً، أمّا أهلية التصرف وأهلية الإدارة وهي المتعلقة بالأعمال التي تتمحور حول النفع والضرر فهي تقع صحيحة لكنها تكون قابلة للإبطال لمصلحة القاصر.

تحرير القاصر :

نصت المادة /113/ قانون مدني سوري على ما يلي ” إذا بلغ الصبي المميز الخامسة عشرة من عمره وأذن له في تسلم أمواله لإدارتها، أو تسلمها بحكم القانون، كانت أعمال الإدارة الصادرة منه صحيحة في الحدود التي رسمها القانون”.
واستناداً إلى هذا النص نجد أن المشرع السوري قد اعتمد النظرية الفقهية القائلة بتحرير القاصر، وتحرير القاصر معناه إعطاؤه الإذن من القاضي بفك الحجر عنه مما يجعله متمتعاً بقسط من الأهلية.
والحجر في اللغة مطلق المنع ، وفي الاصطلاح منع نفاذ تصرف قولي لا فعلي لصغرٍ ورق وجنون (1)
في حين أن الإذن في اللغة هو الإعلام ، وفي الشرع هو فك الحجر وإطلاق التصرف لمن كان ممنوعاً شرعاً (2)
والقاصر المحرَّر أي المأذون يصبح أهلاً للقيام بنفسه بأعمال الإدارة الصرفة كالإجارة، وأعمال الحفظ والاستغلال وبصورة عامة له كامل الأهلية فيما أذن به وفي التقاضي فيه.

وبالاستناد لنص المادة /113/ قانون مدني سوري المذكورة نجد أن لتحرير القاصر شروط هي التالية :

  • 1_ بلوغ الصبي المميز الخامسة عشرة من عمره.
  • 2_ صدور إذن من الجهة صاحبة الاختصاص بتحرير القاصر.
  • 3_ أهلية القاصر أو نفاذ أعماله ضمن حدود استعمال أهلية الإدارة.

فإذا ما عطفنا نص المادة /113/ المذكورة على نص الفقرة الثانية من المادة /667/ من نفس القانون نجد أنه يدخل ضمن أعمال الإدارة الإيجار إذا لم تزِد مدته على ثلاث سنوات، وأعمال الحفظ والصيانة واستيفاء الحقوق ووفاء الديون، وكل عمل من أعمال التصرف تقتضيه الإدارة كبيع المحصول وبيع البضاعة أو المنقول الذي يسرع إليه التلف ، فإذا استهدينا أيضاً بنص المادة /668/ قانون مدني سوري نجد أن كُلاًّ من البيع والرهن والتبرعات والصلح والإقرار ليست من أعمال الإدارة.
في النهاية نشير إلى أن تحرير القاصر غالباً ما يُخصص لنوع من الأعمال فقط، وإذا ظهر أن القاصر غير جدير للقيام بالأعمال التي أُذن بِها فلوليِّه أن يطلب إبطال الإذن، أو الحد منه.

سن الرشد:

نصت المادة /947/ من المجلة على أن الراشد هو الذي يتقيد بحفظ ماله ويجتنب الإسراف والتبذير .
والرُّشْد والرَّشَد والرشاد نقيض الغيّْ (1) ، والرشد حسن التصرف في الأمر (2)
وقد ذكرنا سابقاً أن القانون المدني السوري ، قد حدد سن الرشد ببلوغ الشخص الثامنة عشرة من عمره ، المادة /46/ منه.
فكل شخص بلغ الثامنة عشرة من عمره وكان متمتعاً بقواه العقلية هو شخص راشد بنظر القانون السوري، متمتع بالأهلية لمباشرة حقوقه على اختلافها.
ومتى بلغ القاصر سن الثامنة عشرة ولم يكن مجنوناً أو معتوهاً أو محكوماً عليه باستمرار الوصاية لجنونٍ أو عتهٍ أو غفلة أصبح أهلاً لجميع الحقوق يباشرها بنفسه ضمن حدود القانون، فيكون بذلك متمتعاً بأهلية الاغتناء والتصرف والإدارة والتبرع، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) ( ) أي ارفعوا الحجر عنهم.
وفي تنزيلٍ آخر (ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) قال الزجاج : بلوغه أشده أن يُؤنس منه الرشد مع أن يكون بالغاً ، وقال بعضهم حتى يبلغ أشده حتى يبلغ ثمانيَ عشرة سنة ، قال أبو إسحاق :لست أعرف ما وجه ذلك لأنه إن أدرك قبل ثمانيَ عشرة سنة وقد أونس منه الرشد فطلب دفع ماله إليه وجب له ذلك، وقال الأزهري : هذا صحيح وهو قول الشافعي وقول أكثر أهل العلم ، وفي الصحاح حتى يبلغ أشده أي قوته وهو ما بين ثمانِيَ عشرة إلى ثلاثين (2)
ولكن مهما اختلف الفقهاء حول ذلك فالقانون السوري كان واضحاً في المادة /46/ منه ( قانون مدني سوري ) ” كل شخص بلغ سن الرشد متمتعاً بقواه العقلية ، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.
– وسن الرشد هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة ”

الفصل الثالث: عوارض الأهلية

قد يبلغ القاصر سن الرشد ولكن أهليته تتأثر بعد ذلك بعارض يرجع إلى التمييز، أو قد يكون مصاباً حتى قبل بلوغه سن الثامنة عشرة من عمره بعارض من عوارض الأهلية ويرافقه هذا العارض حتى بعد بلوغه سن الثامنة عشرة.
والعوارض كما يُستدل عليها من نص المادة /114/ قانون مدني سوري أربعة : الجنون والعته والسفه والغفلة ” فالمجنون والمعتوه وذو الغفلة والسفيه تحجر عليهم المحكمة وترفع عنهم الحجر وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في القانون “.
وهذه العوارض هي من أسباب فقد الأهلية لدى الشخص.

وبالعودة إلى مجلة الأحكام العدلية نجد أن أسباب فقد الأهلية هي:
– القصر. – الدين أو الإفلاس.
– الجنون والعته. – مرض الموت.
– السفه والغفلة. – عقوبة الأشغال الشاقة.
وقد تطرقنا إلى مسألة القصر كعيب من عيوب الأهلية وفقدها.
وفيما يلي نبحث في هذه العوارض كلاًّ على حِدا .

أولاً – الجنون:

نصت المادة /115/ قانون مدني سوري على أنه ” يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه ، إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر.
– أما إذا صدر التصرف قبل شهر قرار الحجر فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بيِّنةٍ منها.”
والجنون هو اختلاط العقل بحيث يمنع وقوع الأفعال والأقوال على النهج المستقيم( ).
والجنون نوعان :

1- جنون مطبق: هو ما لازم الشخص في جميع الأوقات.
2- جنون غير مطبق: هو ما كان يلازم الشخص في أوقات متقطعة يتخللها أوقات استفاقة.
وهذا ما أخذت به المجلة في المادة /944/ منها حيث اعتبرت أن “المجنون على قسمين : أحدهما المجنون المطبق وهو الذي يستوعب جنونه جميع أوقاته ، والثاني هو المجنون غير المطبق وهو الذي يجن في بعض الأوقات ويفيق في بعضها” بالنسبة لتصرفات من أصابه جنون مطبق فهي باطلة بحكم القانون شأنها في ذلك شأن تصرفات الصبي غير المميز.
أما بالنسبة لمن أصابه جنون غير مطبق فهي باطلة إذا صدرت أثناء دخوله في حالة الجنون، وهي تصرفات صحيحة إذا وقعت أثناء فترات الإفاقة، ذلك أنّ التمييز موجودٌ لديه عند الإقدام على التصرف، ويرى الفقه والاجتهاد ومجلة الأحكام العدلية المادة /957/ منها أن المجنون محجور عليه لذاته وأن قرار الحجر لا يعدو كونه ناشراً للحجر وليس منشئً له، ” قرار الحجر معلن للجنون والعته ” (الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية –قرار رقم /19/ لعام 1983).

ثانياً – العته:

العته عبارة عن آفة ناشئة عن الذات توجب خللاً في العقل فيصير صاحبه مختلط العقل فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين (1)
“والمعتوه هو من اختل شعوره وأصبح فهمه قليلاً وكلامه مختلطاً وتدبيره فاسِداً ” مادة /945/ من المجلة ، أي أنه شخص في حالة إفاقة ولكنه غير كامل الوعي والإدراك.
والمعتوه هو الناقص العقل، وقد عُته فهو معتوه.(2)
ومن الملاحظ أن القانون المدني السوري قد اعتبر المعتوه في حكم المجنون تماماً وذلك في المادة / 115 / منه التي نصت على أنه يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه …… .
فهي بذلك قد ساوت بين حالة الجنون وحالة العته، رغم أن الفقه يرى أن العته وإن كان يقارب الجنون فهو ليس جنونا.
فالعته هو نقص عقل من غير جنون(3)
ففي حين أن الجنون يرتبط بحالة عدم التمييز المطلقة، فإنّ المعتوه يمكن أن يكون غير مميز فتنعدم أهليته كالمجنون تماماً، ولكن قد نكون أمام حالات يكون فيها المعتوه متمتعاً ببعض التمييز ، فتكون له في هذه الحالة أهلية الصبي المميز على نفس الأحكام المذكورة سابقا.
وعلى كل فالقانون السوري كما ذكرنا يساوي بين المجنون والمعتوه، في الوضعيات لناحية الأهلية، وقد ورد في القرار رقم /1107/ لعام 1996 الصادر عن محكمة النقض الغرفة المدنية الثانية ما يلي ” إن العته يعدم إرادة من يصاب به، فتقع تصرفاته باطلة من وقت ثبوته، وهذا البطلان لا يكون نتيجة لانسحاب أثر قرار الحجر على الماضي، وإنما لثبوت حالة العته المعدم لإرادة المعتوه وقت صدور التصرف منه “.
وبالتالي فإن قرار الحجر هنا هو إعلاني وليس إنشائي أي أنه يعلن عن حالة العته ولا ينشئها، شأنه في ذلك شأن قرار الحجر الصادر في حالة الجنون.
وهذا ما كانت قد نصت عليه المادة /957/من المجلة حيث اعتبرت أن المجنون والمعتوه والصغير هم محجورون لذاتهم .

ثالثاً – الغفلة والسفه:

نصت المادة / 116 / ق م س على أنه ” إذا صدر تصرف من ذي الغفلة أو السفيه بعد شهر قرار الحجر، سرى على هذا التصرف ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام.
أما التصرف الصادر قبل شهر قرار الحجر فلا يكون باطلاً أو قابلاً للإبطال، إلا إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ”، ونصت المادة /117/ من نفس القانون على أنه” يكون تصرف المحجور عليه لسفه أو غفلة بالوقف أو بالوصية صحيحاً، متى أذنته المحكمة في ذلك.
وتكون أعمال الإدارة الصادرة من المحجور عليه لسفه، المأذون له بتسلم أمواله صحيحة في الحدود التي رسمها القانون .”
ويرى الفقه أن السفه هو تبذير المال وتضييعه خلافاً للشرع والعقل، ولو كان في سبيل الخير، والسفه ضد الحلم وأصله الخِفّة( )، والسفه غاية الجهل، وهو مركب من عدم علم الشخص لما ُيصلح معاشه ومعاده وإرادته( )، وقد عرفت المجلة السفيه في المادة /946/ بمن ينفق ماله في غير موضعه ويبذر في نفقاته ويضيع أمواله ويتلفها بالإسراف.
وتطلق كلمة السفيه على المبذر والمسرف والمغفل.
أما ذو الغفلة فهو من كان سليم القلب لا يهتدي إلى التصرفات الرابحة ويغبن في المبايعات بسبب بلاهته وبساطته.
والحكمة من الحجر على السفيه والمغفل هي أن تصرفاتهما تؤدي إلى سوء العاقبة فتجعل صاحبها عالة على غيره بعد أن كان ذا مال كثير، والى ذلك تشير الآية الكريمة (لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) وفي تنزيل آخر (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) صدق الله العظيم( ).
وبالعودة إلى نصوص القانون المدني نجد أن السفيه وذو الغفلة يعتبران بحكم القاصر المميز أي ناقص الأهلية إذا صدرت تصرفاتهما بعد شهر قرار الحجر بحقهما ، ويطبق على تصرفاتهما ما يطبق على تصرفات القاصر المميز من أحكام سبق الإشارة إليها.
أما التصرفات التي تصدر عن السفيه والمغفل قبل صدور قرار الحجر بحقهما فهي صحيحة ولا تقبل البطلان أو الإبطال إلا إذا كانت نتيجة استغلال أو تواطؤ، والواقع أن سبب البطلان هنا ليس مرده السفه أو الغفلة، إنما هو الاستغلال أو التواطؤ كما نصت المادة 116ق م س.
وبهذا تكون هذه المادة قد اعتمدت ما توصل إليه الفقه والاجتهاد سابقاً من أن قرار الحجر بالنسبة للسفيه وذو الغفلة هو إنشائي وليس إعلاني، ومتى كان قرار الحجر مسجلاً فلا يحق للغير أن يحتج بعدم علمه بذلك إلا إذا ثبت الاستغلال والتواطؤ كما سبق وذكرنا.
إذاً رأينا أن تصرفات السفيه وذو الغفلة يطبق عليها الأحكام التي تخضع لها
تصرفات الصبي المميز غير الراشد إذا صدرت التصرفات بعد شهر قرار الحجر وبذلك تثبت لهم أهلية الاغتناء وتنعدم أهلية التبرع وتقيد أهلية الإدارة وأهلية التصرف بالقيود المذكورة سابقاً عند بحث تصرفات الصبي المميز .
إلا أن القانون السوري قد استثنى من هذا الحكم التصرفات الصادرة- من(السفيه وذو الغفلة المحجور عليه) – في الوقف والوصية متى أذنته المحكمة في ذلك.
وتكون أهلية الإدارة متوفرة والأعمال المتراوحة ضمن نطاق الإدارة صحيحة متى صدرت هذه الأعمال من السفيه وذو الغفلة المأذون له بتسلم أمواله، وذلك في الحدود التي رسمها القانون .
خلاصة القول أنّ تصرفات السفيه وذو الغفلة -بعد شهر قرار الحجر – بالوقف والوصية والأعمال المتعلقة بالإدارة ضمن حدود الإذن الممنوح له هي صحيحة متى أذنته المحكمة بذلك.
ذكرنا أن القانون المدني السوري قد اعتبر أن الجنون والعته والسفه والغفلة إنما هي عيوب تؤدي إلى نقص أهلية من أصيب بها، ونقص الأهلية هنا مردُّه إلى نقص التمييز أو انعدامه مما ينعدم معه إمكانية التعبير عن الإرادة على الوجه الذي رأيناه سابقاً في بحث الإرادة.

نشير فوراً إلى أن هناك حالات ذكرها القانون المدني السوري وذكرتها مجلة الأحكام العدلية، وان كانت لا تتعلق ألبتّه بالتمييز، إلا أنها تؤدي إلى التضييق على من وقع فيها بحيث تصبح تصرفاته قابلة للإبطال.
وفيما يلي نبحث في:
1-تصرفات من أصيب بعاهة.
2-تصرفات المدين أو المفلس.
3-تصرفات المريض في مرض الموت.
4-تصرفات من حكم بعقوبة الأشغال الشاقة.

1- تصرفات من أصيب بعاهة:

نصت المادة/ 118/ ق م س على ما يلي “إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقضي مصلحته فيها ذلك.
-ويكون قابلاً للإبطال كل تصرف من التصرفات التي تقررت المساعدة القضائية فيها متى صدر من الشخص الذي تقررت مساعدته قضائياً بغير معاونة المساعد، إذا صدر التصرف بعد شهر قرار المساعدة “.
يتبين من هذا النص القانوني أن المساعدة القضائية إنما تتقرر بسبب اجتماع عاهتين من العاهات الثلاث المذكورة (الصم والبكم والعمى) .
والواقع أن المساعدة هنا إنما تقررت ليس لنقص في أهلية من أصيب بمثل هذه العاهات ذلك أن التمييز الكامل متوفر لديه ولكن السبب يرجع إلى عجز ذلك الشخص، الطبيعي، عن التعبير عن إرادته بنفسه.
ويتم تعيين المساعد القضائي من قبل المحكمة.
وقد رتبت المادة / 118/ ق م س فقرة 2 على التصرفات الصادرة عن من أصيب بالعاهات المذكورة ، دون مساعدة من المساعد القضائي بعد شهر قرار المساعدة إمكانية الإبطال لمصلحة من تقررت له المساعدة.

2- تصرفات المدين المفلس:

في الديون التجارية يكون لحكم الإفلاس الصادر بحق التاجر المدين، المتوقف عن دفع ديونه التجارية، مفاعيل هامة تتجسد بكف يد المدين عن إدارة أمواله والتصرف بها، وهذا ما يعرف بمبدأ التخلي أو مبدأ كف اليد، وهذا المبدأ يجب أن لا يختلط مع عدم الأهلية، ذلك أن كف اليد مقرر لمصلحة جماعة الدائنين حماية لحقوقهم بخلاف عدم الأهلية المقرر لحماية ناقص الأهلية أو فاقدهـا بالذات.
وبناءً على أحكام قانون التجارة فان الحكم بإعلان الإفلاس ينتج حتماً منذ صدوره تخلي المفلس لوكيل التفليسة عن إدارة جميع أمواله حتى التي يحرزها في مدة الإفلاس.
وتطبيقاً لذلك لا يجوز للمفلس أن يبيع شيئاً مـن أمواله كما لا يحق له القيام بأيِّ إيفاءٍ أو قبض، ولا يمكنه أن يعاقد أو يداعي أمـام القضاء إلا بصفة فريق متدخل في الدعاوى التي يتابعها وكيل التفليسة.

3- مرض الموت:

إن مرض الموت هو ما يغلب فيه خوف الموت، ويعجز صاحبه عن رؤية مصالحه خارج داره، إن كان من الذكور وداخل داره إن كان من الإناث، ويموت وهو على ذلك الحال قبل مرور سنة سواء كان صاحب فراش أم لا.
ويجب أن يترك أمر تقدير مرض الموت إلى العرف وتطور الطب وهذا أقرب إلى المنطق والعدالة، لأن مرضاً كان يعد مرض موت في القديم كالسل مثلاً، لا يعد مرض موت اليوم.
وفي رأي الفقه، فان مرض الموت وان كان لا يعد نقصاً في الأهلية، إلا أنه مؤثرٌ في الإدراك، لذلك يدخل في أسباب الحجر بحيث يكون مقيداً للأهلية بقدر ما يتعلق به أمر صيانة حقوق الوارث والدائن، فهو مفروض ليس لمصلحة المريض بل لمصلحة الغير.
وللإفادة في هذا الموضع نورد بعض ما جاء في كتاب إعلام الموقعين حيث ورد ما يلي : ( ومن الحيل الباطلة المحرمة التي يلجأ إليها المريض مرض الموت أنه إذا أراد أن يخُصَّ بعض ورثته ببعض الميراث وقد عُلم أن الوصية لا تجوز ، وأن عطيته في مرضه وصية ، فالحيلة أن يقول كنت وهبته كذا وكذا في صحتي أو يُقر له بدين ، وهذا باطل فالإقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور بل أنّ مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة وقوله هو الصحيح ،وكما أن المريض مرض الموت لا يملك إنشاء عقد التبرع فهو لا يملك الإقرار به ) . (1)
ولا ترى معظم القوانين الأجنبية في مرض الموت عارضاً من شأنه التعديل في الأهلية ، وإن كانت تشير إليه أحياناً كظرف خاص يمكن أن يؤثر في صحة العمل، كما في تحرير هبة من قبل المريض إلى طبيبه المعالج (محكمة: استئناف باريس (18/2/1956).
وقد تحدث القانون المدني السوري في المادة /445/منه عن مرض الموت وأحالت المادة المذكورة في الفقرة 3منها إلى المادة /877/ من نفس القانون.
وبالعودة لهاتين المادتين نجد أن القانون السوري لم يعتبر مرض الموت نقصاً في الأهلية وإنما تعرّض فقط لتصرف المريض أثناء مرضه وأعتبر أن هذا التصرف إنما هو تصرف مضاف إلى ما بعد الموت تسري عليه أحكام الوصية إذا كان المقصود بالتصرف أعمال التبرع.
والواقع أن الفقرة الثانية من المادة /877/ المذكورة اعتبرت أن مجرد إثبات أنّ التصرف صدر في مرض الموت فإننا نكون أمام حالة يعتبر فيها التصرف صادراً على سبيل التبرع ويمكن إثبات أن التصرف قد صدر في مرض الموت بكافة طرق الإثبات.
استناداً إلى ما ذكر يمكن لنا أن نلاحظ أن القانون السوري قد احتفظ للمريض مرض الموت بأهلية الأداء والتصرف والإدارة فهو يتمتع بها بصورة كاملة، أما أهلية التبرع فقد قيدها القانون إلى حدٍّ ما، بحيث أن التصرف الصادر عن المريض في مرض الموت والمقصود به التبرع لا يسري بحق الورثة بما يزيد عن ثلث التركة إلا إذا أجازه الورثة، أما التصرف المقصود به التبرع والصادر عن المريض في مرض الموت والذي لا يزيد عن مقدار ثلث تركته فهو صحيح سواء أجازه الورثة أم لا، مالم يكن قد تمَّ لمصلحة أحد الورثة، وفي هذه الحالة لا يسري ما لم يجزه بقية الورثة.

مهمة:

جاء في اجتهاد لمحكمة النقض القاعدة (2025) من التقنين المدني السوري الجزء الخامس للأستاذ طعمة القول (لا يشترط في مرض الموت أن يفقد المريض ملكاته العقلية أو أن يلزم الفراش ويمكن إثبات مرض الموت بشهادة الشهود، ولا يعتد بإقرار البائع المريض مرض الموت في عقد البيع أنه قبض الثمن، ولا يجوز للمشتري التمسك بهذا الإقرار).
كما جاء في اجتهاد آخر لمحكمة النقض القاعدة (2034) من التقنين المدني السوري أثناء الحديث عن الضوابط المقررة في تحديد مرض الموت
1-أن يكون المرض مما يغلب فيه الهلاك .
2-أن يشعر المريض بدنو أجله .
أن ينتهي بالوفاة ( أي المرض ) .
وبصورة عامة أن تتولد لدى المريض حالة نفسية يشعر استناداً إليها أنه مقبل على الوفاة .
4- المحكوم عليه بعقوبة جنائية:
نشير في هذا المجال إلى أن المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال لمدة معينة يبقى في حالة عجز عن تسيير أموره بنفسه طيلة مدة تنفيذ عقوبته، لذلك تُنقل صلاحية ممارسة حقوقه على أمواله إلى وصيٍّ يعين وفقاً لنظام الأحوال الشخصية.
ونشير أيضاً إلى مسألة هامة تتعلق بالمتهم الفار من وجه العدالة والذي بمجرد صدور قرار عن القضاء باعتباره فاراً من وجه العدالة فان أمواله توضع تحت إدارة الدولة ويفقد حقه في هذه الحالة بالتصرف بهذه الأملاك.

الفصل الرابع: حكم التصرفات الصادرة في حال نقص الأهلية أو عدمها

نميز في هذا المجال بين إبطال العقد وبطلانه، لا لناحية آثارهما ولكن لناحية صاحب الحق في التمسك بأيٍّ منهما، فالمادة /143/ ق م س واضحة في هذا المجال إذ نصت على ما يلي ” في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد …… “.
فالبطلان يفترض أن التصرف قد صدر باطلاً منذ نشوئه، فهو باطل بطلاناً مطلقاً ولكل ذي مصلحة أن يتمسك بالبطلان، وللمحكمة أن تقضي به عفواً من تلقاء نفسها دون طلب من الخصوم، ولا يجوز تأييد العقد الباطل بطلاناً مطلقاً، ومثال ذلك التصرف الصادر من قبل القاصر غير المميز وكذلك التصرف الصادر من قبل المجنون في حالة الجنون المطبق .
أما الإبطال فهو يفترض أن التصرف تم صحيحاً، لكنه قابل للإبطال لمصلحة أحد أطراف العقد، وهو من تعيبت إرادته بنقص الأهلية، وفي هذه الحالة، حالة الإبطال، لا يجوز التمسك بالإبطال إلا من قبل من تعيبت إرادته، ولا يجوز ذلك للطرف الآخر في العقد، كذلك لا يجوز للمحكمة أن تقضي بالإبطال إلا بناءً على طلب ناقص الأهلية، ويمكن لمن كان له حق طلب الإبطال تأييد العقد بعد زوال عارض الأهلية الذي أصابه، ومثال ذلك القاصر المميز والسفيه وذو الغفلة – اللّذين شُهِر قرار حجرهما – ولعلَّ الفرق بين الإبطال والبطلان إنما يظهر أيضاً في الوقت الذي يحق لمن منح هاتين المؤسستين القانونيتين التمسك فيه بهما.
فبالنسبة لدعوى الإبطال: يسقط الحق بإقامتها إذا لم يتمسك به صاحبه خلال سنة واحدة، ويبدأ سريان هذه المدة في حالة نقص الأهلية من اليوم الذي يزول فيه هذا السبب. وهذا ما نصت عليه المادة /141/ ق م س ” يسقط الحق في إبطال العقد إذا لم يتمسك به صاحبه خلال سنة واحدة “.

أما بالنسبة لدعوى البطلان: فيسقط الحق بإقامتها بمرور خمسة عشرة سنة من تمام العقد الباطل، مادة /142/قانون مدني سوري ، وهذا موضع انتقاد فالبطلان المطلق يجب أن لا يزول بالتقادم لأن العقد الباطل معدوم والعدم لا ينقلب وجوداً مهما طال عليه الأمد، وإذا أخذنا برأي القانون السوري القائل بسقوط دعوى البطلان بمرور خمسة عشرة سنة على تمام العمل الباطل، فإننا نفسر ذلك بالقول أن هناك أوضاعاً قد استقرت منذ العقد الباطل وبقيت دهراً طويلاً على هذا الاستقرار، لذلك يجب احترامها عن طريق عدم سماع دعوى البطلان، ولكن هذا لا يعني أن العقد الباطل ذاته قد انقلب صحيحاً فهو لا يزال باطلاً ولكن الدعوى ببطلانه لا تسمع لسقوطها بالتقادم.

والعقد الباطل لا تلحقه الإجازة لأنه معدوم والعدم لا يصير وجوداً ولو أجيز.
خلاصة القول أن العقد الباطل ليس له وجود قانوني، فهو معدوم في الأساس لذلك لا حاجة لصدور حكم بالبطلان والواقع أن من وضع البطلان لمصلحته لا يسلك في العادة دعوى البطلان وإنما يعمد إلى طريق الدفع بالبطلان،(مثال ذلك بائع لم يسلم المبيع إلى المشتري في عقد باطل، فانه في الغالب لا يعمد إلى إقامة دعوى البطلان ولكن يعمد إلى التصرف بملكه كأنَّ العقد لم يكن، وعند مواجهته من قبل الطرف الآخر بالعقد فانه يعمد إلى الدفع ببطلان العقد، والدفع بالبطلان لا يسقط مهما طال الزمن، أما بالنسبة للعقد القابل للإبطال فهو في الأساس ذو وجودٍ قانوني إلى أن يتقرر بطلانه قضاءً أو رضاءً.

أثر تقرير البطلان:

نصت المادة/ 143/ق م س على ما يلي ” في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، فإذا كان هذا مستحيلاً جاز الحكم بتعويض عادل.
– ومع ذلك لا يلزم ناقص الأهلية إذا أبطل العقد لنقص أهليته، أن يرد غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد”.
فإذا تقرر بطلان العقد زال كل أثر له وأرجع كل شيء إلى أصله، فإذا كان العقد بيعاً وتقرر إبطاله، ردَّ المشتري المبيع إلى البائع وردَّ البائع الثمن إلى المشتري ويكون ذلك على أساس استرداد ما دفع دون حق.

أما إذا تقرر إبطال العقد لنقص الأهلية، فان ناقص الأهلية يسترد ما قدمه قبل العقد، لكنه لا يُلزم بردّ إلا ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد، هذا إذا كان بالإمكان الإعادة إلى الحالة التي كان عليها الطرفان وقت التعاقد، أما إذا كان ذلك مستحيلاً بأن هلك المبيع مثلاً في يد المشتري وبخطأ منه حكم القاضي بتعويض عادل، فيُلزم المشتري برد قيمة المبيع وقت الهلاك طبقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية لا على أساس العقد الذي تقرر بطلانه، وأُلزِم البائع برد الثمن على أساس دفع غير المستحق.

البـــاب الثـالـث: عيـوب الإرادة

ذكرنا سابقاً أن عيوب الإرادة هي عدم الأهلية، الغلط، التدليس، الإكراه والاستغلال.
وقد سبق الحديث عن الأهلية وعوارضها كأسباب تُعيب الإرادة، لذلك نبحث الآن في الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال.
ولكن بدايتاً لا بد من التمييز بين إرادة معيبة وإرادة غير موجودة في الأساس.
فالإرادة المعيبة هي إرادة موجودة لكنها صدرت من شخص غير حر في توجيهها ، أو صدرت منه وهو على غير بينة من أمره، وهي لم تكن لتصدر عنه لو كان حراً أو على بينةٍ من أمره، لذا فهي إرادة معيبة.
أما الإرادة غير الموجودة فهي تقوم على نشاط يوهم بأنها موجودة، لكن واقع الأمر وحقيقة الحال أن هذا النشاط لا يُعدُّ إرادة لأنه صدر عن شخص لا يميِّز ما يفعل، كنشاط المجنون والصغير غير المميز والسكران.
يترتب على هذا التمييز الجوهري أن العقد الذي يُبنى على إرادة غير موجودة لا يكون له وجودٌ في الأساس وهو عقد باطل، أما العقد الذي يقوم على إرادة معيبة فهو موجود في الواقع ، لأن الإرادة موجودة، على رغم العيب الذي شابها، وفي هذه الحالة ينشأ العقد صحيحاً لكنه مشوب بعيب يجعله قابلاً للإبطال لمصلحة من تعيبت إرادته.

الفصـل الأول: الغـلط

تعريف الغلط:

يمكن تعريف الغلط بأنه حالة نفسية تحمل على توهم غير الواقع، وتؤدي إلى الاعتقاد بصحة واقعة غير صحيحة أو بعدم صحة واقعة صحيحة، فهو عدم انطباق القصد على ظاهر التعهد.
والغلط أن تعيا بالشيء فلا تعرف وجه الصواب فيه ، قال الليث : الغلط كل شيء يعيا الإنسان عن جهة صوابه من غير تعمد (1)
وقد تبنّى القانون المدني السوري نظرية الغلط حيث نصت المادة / 121/ قانون مدني سوري على ما يلي “إذا وقع المتعاقد في غلط جوهري جاز له أن يطلب إبطال العقد إذا كان المتعاقد الآخر وقع مثله في هذا الغلط، أو كان على علم به أو كان من السهل عليه أن يتبيّنهُ”.
واستناداً إلى هذه المادة ، وبهدف استقرار التعامل بين المتعاقدين، يجب في الغلط، أي لتوفر عيب الغلط أن لا يستقل به المتعاقد الذي وقع فيه، بل أن يتصل الغلط أيضاً بالمتعاقد الآخر على وجه من الوجوه، وأن يكون جوهرياً.
ونبحث فيما يلي:
– ماهية الغلط المفسد للإرادة.
– اشتراك أطراف العقد في الوقوع بالغلط.
ليصار بعد ذلك للبحث في الغلط في القانون .

أولاً: ماهية الغلط المفسد للإرادة:

هو الغلط الذي يقع وقت تكوُّن الإرادة .
وقد رأينا أن القانون المدني السوري اشترط لكي يعتد بالغلط كعيب مفسد للرضا أن يكون جوهرياً، لذلك يخرج من نطاق الغلط المفسد للإرادة مجرد الغلط في الحساب أو غلطات القلم، وهذا ما يدرج تحت نطاق الغلط وقت نقل الإرادة، وعلى هذا نص القانون المدني السوري في المادة /124/ منه ” لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط في الحساب، ولا غلطات القلم، ولكن يجب تصحيح الغلط “.

والسؤال الذي يطرح في هذا المجال يتعلق بالمعيار الواجب اتباعه كي يعتبر الغلط جوهرياً ؟
للإجابة على السؤال نستعرض نص المادة /122/قانون مدني سوري التي نصت على ” أن الغلط يكون جوهرياً إذا بلغ حداً من الجسامة بحيث يمتنع معه المتعاقد عن إبرام العقد لو لم يقع في هذا الغلط.
– ويعتبر الغلط جوهرياً على الأخص:
أ‌. إذا وقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين، أو يجب اعتبارها كذلك لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية.
ب‌. إذا وقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته وكانت تلك الذات أو هذه الصفة السبب الرئيسي في التعاقد. ”
واستناداً إلى هذا النص نجد أن القانون السوري قد اعتمد معياراً ذاتياً في التعرف على الغلط الجوهري المفسد للرضا، فالغلط يكون جوهرياً إذا بلغ حداً من الجسامة يدفع المتعاقد الذي وقع فيه إلى عدم الإقدام على التعاقد لو علم به قبل التعاقد، مثال (أصيب شخص بجرح حدد فيـه الطبيب التعطيل عن العمل بـ 10 أيام فأسقط حقه على هذا الأساس، ثم اتضح أن للجرح نتائج خطيرة غابت عن الطبيب مما أفسد تقديره، وحمل الجريح على توهم واقعة غير صحيحة دفعته إلى عقد المصالحة والإسقاط).
وهنا في هذه الحالة ينظر إلى ذات المتعاقد الذي وقع في الغلط وليس إلى أي أمر آخر، وذلك لتقييم الغلط، وهو حكم فضفاض، إذ يكفي أن يكون المتعاقد الذي وقع في الغلط لم يكن ليقدم على التعاقد لو لم يقع به، أي بالغلط، ليكون الغلط جوهرياً، بغض النظر عن أي شئ آخر، وقد استدركت الفقرة الثانية من المادة122 قانون مدني سوري فاعتبرت أن الغلط يكون جوهرياً على الأخص:
1- إذا وقع في صفة للشيء … … … إلخ
2- إذا وقع في ذات المتعاقد … … … إلخ

1- الغلط في صفة جوهرية في الشيء :

في هذه الحالة يجب أن تكون صفة الشيء في نظر المتعاقدين جوهرية، فإذا وقع الغلط في هذه الصفة الجوهرية كان مُعيباً للإرادة، وهي حالة من يشتري قطعة من الفضة على أساس أن لها أثر تاريخي ثم يتبين أنها من النيكال ولا قيمة أثرية لها أو من يشتري لوحه على أساس أنها أصلية ثم يتبين أنها مقلدة.
وقد استطردت المادة /122/ ق م س فأوجبت أن تكون الصفة التي وقع فيها الغلط جوهرية في اعتبار المتعاقدين أو يجب اعتبارها كذلك لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية.
ففي مثالنا الذي طرحناه يجب أن يكون كل من البائع والمشتري يعتقد أن اللوحة من صنع رسامٍ مشهور حتى يجوز للمشتري الاعتداد بالغلط وطلب إبطال العقد لغلطٍ في صفة جوهرية للشيء المبيع، أما إذا كان المشتري وحده يعتقد أن اللوحة هي من رسم فنان مشهور ففي هذه الحالة ينظر ما إذا كان من السهل على الطرف الآخر أن يتبين الغلط الذي وقع فيه الطرف الأول، وأنه هو الدافع إلى التعاقد ، فإذا كان الأمر كذلك أمكن للمشتري في مثالنا طلب إبطال العقد وفقاً للمادة /122/ق م س المذكورة.
والواقع أنه يمكن الاستدلال فيما إذا كان الطرف الآخر في العقد عالماً بالغلط الذي وقع فيه الطرف الأول أم لا، وذلك وفق ما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية، فإذا عمد شخص إلى شراء قطعة من الفضة على أساس أن لها أثر تاريخي من تاجر للتحف ثم اتَّضح أن القطعة ليست أثرية، ففي هذه الحالة هناك قرينة على أن التاجر اشترك في الخطأ مع المشتري، وذلك لأنه في الأساس ممن يبيع القطع الأثرية، كذلك الأمر لو اشترى شخص من آخر غير تاجر قطعة من الفضة معتقداً أنها أثرية بمبلغ يزيد أضعافاً عن سعرها الحقيقي ففي هذه الحالة يمكن للمشتري أن يطلب إبطال العقد لغلط في صفة جوهرية في المبيع حتى ولو لم يشترك البائع في الغلط، ومردُّ ذلك أنه وفق ملابسات وظروف البيع كان من السهل على البائع أن يعلم بالغلط الذي وقع فيه المشتري نظراً لارتفاع قيمة الثمن المدفوع وبشكل لا يتناسب بتاتاً مع قيمة الشيء المبيع.

2_ الغلط الواقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته:

في هذه الحالة فان الغلط الواقع في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته لا يكون سبباً لإبطال العقد إلاّ إذا كانت تلك الذات أو الصفة هي الدافع إلى التعاقد.
والواقع أننا أمام حالة يكون فيها شخص المتعاقد محل اعتبار في التعاقد.
ونحن هنا أمام غلط يقع إما في ذاتية الشخص الطبيعية (قرابة) أو في هويته (مهندس مشهور) ومن أمثلة ذلك:
– بالنسبة للغلط الواقع في ذات المتعاقد، أن يتعاقد شخص مع مهندس، بناءً على اسمه اللامع في عالم المقاولات، وذلك من أجل إقامة منشأة سياحية ضخمة، ثم يتضح له بعد ذلك أن الشخص الذي تعاقد معه هو مهندس مبتدِئ يحمل نفس اسم المهندس المشهور.
– بالنسبة للغلط الواقع في صفة جوهرية من صفات المتعاقد معه، أن يتبرع شخص إلى آخر بمبلغ من المال على أساس أن هناك رابطة قرابة تجمعه به، ثم يتضح له خلاف ذلك.
نشير فوراً أنه للاعتداد بالغلط في الأحوال المذكورة لا بد من توفر الشروط التالية:
1_ أن يكون الغلط هو الدافع الرئيسي والقاطع في إجراء العقد، بحيث لولا الوقوع في الغلط لما أقدم المتعاقد على التعاقد.
وتقدير ما إذا كانت شخصية المتعاقد أو صفته كانت هي محل الاعتبار، وهي التي دفعت إلى التعاقد، مسألة واقع ، حيث ينظر القاضي إلى ظروف الدعوى مما يمكن أن يستدل به على نية المتعاقدين، فمن المنطقي في أمثلتنا المطروحة سابقاً التساؤل التالي: لماذا يمنحني شخص ما هذا المبلغ الكبير من المال إلا إذا كان هناك سبب ؟
2_ أن يكون الغلط الواقع في صفات الشيء الجوهرية مشتركاً بين الفريقين وداخلاً في الاشتراك، حيث يقوم الغلط في ذهن المتعاقدين معاً، بحيث يكون كل منهما واقفاً على ما عوَّل عليه الفريق الآخر من خصائص وميزات في الشيء أو الشخص.
ومردُّ ذلك – أنّ اعتبار الأمر على نحو ما ذُكر – أدعى إلى استقرار التعامل وإيجاد الثقة والطمأنينة بين المتعاملين .

ثانياً : الغلط في القانون :

نصت المادة /123/ ق م س على ما يلي: ” يكون العقد قابلاً للإبطال لغلطٍ في القانون إذا توافرت فيه شروط الغلط في الواقع طبقاً للمادتين السابقتين، هذا ما لم يقضي القانون بغيره “.
يلاحظ من هذا النص أن القانون المدني السوري يعتدّ بالغلط في القانون كما يعتدّ بالغلط في الواقع، ذلك أن جهل حقيقة القانون كجهل حقيقة الواقع، عاملٌ يؤثر في إرادة العاقد التي يجب أن تكون حرة واعية مدركة لما تقدم عليه.
نشير فوراً إلى أن هناك شروط لا بد من توفرها للاعتداد بالغلط في القانون، وهي نفس شروط الغلط في الواقع المعددة سابقاً.
لذلك لا بد للاعتداد بالغلط في القانون من توفر الشروط التالية:
1-الخطأ في تقدير وجود الأحكام القانونية أو في تفسيرها: ويقصد بذلك الخطأ في تقدير وجود القاعدة القانونية الثابتة بنصٍ صريح أو اجتهادٍ مستمر، ولا عِبرة للغلط في القانون بالنسبة للمسائل المختلف عليها قضاءً واجتهاداً، وعلى ذلك نكون أمام حالة وقوع بالغلط في القانون، عندما يعتقد شخص خطأً بوجود نص قانوني يحكم مسألة معينة، أو في تفسيره على غير ما قصد المشرع، أو إذا اعتقد بعدم وجوب تطبيقه في حين أنه لا يزال ساري المفعول.
من أمثلة ذلك أن يعمد المالك إلى تخفيض بدل الإيجار للمستأجر معتقداً أن القانون يُلزمه بذلك، في حين أن إجارة المستأجر لا تخضع لهذا القانون الذي نصّ على التخفيض.
2-بلوغ الخطأ حداً حمل العاقد على إجراء العقد ولولا هذا الخطأ لما أقدم على التعاقد : وهذا يعني أن الخطأ في فهم القانون كان هو السبب للتعاقد ولولا الفهم الخاطئ للقانون لما أقدم المتعاقد على التعاقد.
3-اشتراك الطرفين في الوقوع بالغلط.
نشير في النهاية إلى أنّ المادة /123/ ق م س أردفت حين نصت على إمكانية إبطال العقد لغلط في القانون بالقول ” هذا ما لم يقضي القانون بغيره ” أي بغير البطلان، فالأصل إمكانية إبطال العقد لغلط في القانون وفق الشروط المعددة سابقاً ، إلاّ أن للأصل استثناؤه الذي يمكن أن ينص عليه القانون، ومن الحالات التي لا يعتد فيها بالغلط في القانون كسبب لإبطال العقد ما جاء في المادة /524/ ق م س ” لا يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في القانون “.
في حين أنه يجوز الطعن في الصلح بسبب غلط في الواقع.

الفصل الثانـي: التـدليـس

نصت المادة /126/ ق م س على ما يلي ” يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين أو نائب عنه من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد.
– ويعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة “.
وعليه فالتدليس كما يتضح هو عيب من عيوب الرضا، فهو يفسد الرضا متى توفرت شروطه.
ويسمى التدليس بالخداع أو الغش في القانون اللبناني، ويسمى التغرير في الشرع الإسلامي.
والتدليس هو عملٌ يأتيه أحد الناس بحق الغير، مصوراً له أمراً على غير وجهه الحقيقي، بحيث يؤدي ذلك إلى تضليله، مما يؤثر على إرادته ويحمله على التعاقد.
والدَلَسُ بالتحريك الظلمة وفلانٌ لا يدالس أي لا يخادع ، ودلس في البيع وفي كلِّ شيء إذا لم يُبيِّن عيبهُ (1)
وبكل الأحوال فالتدليس هو أسلوبٌ في التعامل يتنافى مع الأدب والشرف والاستقامة مما يُحدث الغلط في نفس الشخص الذي وُجِّه ضده.
ويلاحظ أن التدليس هو حالة نفسية تختلف من شخص لآخر، لذلك قيل أنّ للتدليس وجهان، وجه الغلط الذي يقع فيه المدلَس عليه، ووجه الخداع والتدليس الذي يصدر عن المدلس.

أولاً – عناصر التدليس :

لتحديد عناصر التدليس لا بد من الإشارة إلى نص المادة /127/ ق م س
” إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلَس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا التدليس “.
فإذا ما عطفنا نص المادة المذكورة على نص المادة /126/ من نفس القانون والمذكورة سابقاً، أصبح بإمكاننا تحديد عناصر التدليس المفسد للرضا، وهذه العناصر هي:
1- عنصر موضوعي : يتمثل بنشاط صادر عن المدلس أو الغير.
2- عنصر نفسي: وهو يتعلق بالمدلس عليه، ويتمثل بالكمن الشعوري الذي يدفع المتعاقد إلى التعاقد نتيجة للمظهر الذي صوره له المدلس، ولولا ذلك لما أقدم على التعاقد.

1_ العنصر الموضوعي: أو استعمال الطرق الاحتيالية، ويتم بوجهتين:
– وجهة مادية تستعمل للتأثير على إرادة الغير.
– وجهة معنوية، هي نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع.
فالذي يفسد الرضا ليس الطرق الاحتيالية المستخدمة، وإنما ما تحدثه هذه الطرق في نفس العاقد من التضليل والوهم.
فإذا ما توافر التدليس كان لا بد من توفُّر شروط معينة للاعتداد به كعيب مفسد للرضا، وكسبب مبطل للعقد.

ثانياً – الشروط الواجب توفرها في التدليس المفسد للرضا:

1_ استعمال وسائل احتيالية : وتتخذ الوسائل الاحتيالية أشكالاً مختلفة، تقوم على اختلاق الكذب وإلباسه ثوب الحقيقة، كاستعمال أوراق مزورة أو الاستعانة بشهادة أشخاص كاذبين، أو الاعتماد على مظاهر مادية خادعة، الإعلانات مثلاً، كأن يقوم شخص بالدعاية في الصحف مظهراً رغبة الدولة بتنفيذ مشروع سياحي في منطقة معينة، قاصداً بذلك بيع أراضي يملكها في تلك المنطقة، والغير مرغوبة في الأساس، هنا في حال البيع يمكن أن يثبت للمحكمة أن المشتري لولا الدعاية الكاذبة للمشروع لما رغب بشراء الأرض ، على أنه لا يكفي للاعتداد بالتدليس مجرد المبالغة في القول ولو وصلت المبالغة إلى حدِّ الكذب ما دام ذلك مألوف في التعامل، كالتاجر الذي يروِّج لبضاعته، فيصفها بأحسن الأوصاف.
وقد تختلف الوسائل المستخدمة في الاحتيال، ذلك أن بعض الأشخاص هم من الوعي بحيث لا يمكن خداعهم بسهولة، لذلك يستخدم المدلس طرق معقدة في الاحتيال، كذلك فإن بعض الأشخاص هم من السذاجة بحيث يمكن خداعهم بمجرد الكذب، نشير أيضاً إلى أن التدليس يمكن أن يكون عملاً سلبياً محضاً وهذا ما أخذت به محكمة النقض السورية قرار/2126/ تاريخ 26/7/2000 الصادر عن الغرفة المدنية الثالثة (لا يشترط في التدليس القيام بمناورات احتيالية وإنما يكفي السكوت عمداً عن واقعة ما كان الطرف الآخر ليبرم العقد لو علم بها ) إذاً المهم في النشاط الصادر عن المدلس أن يكون هو السبب في دفع الطرف الآخر للتعاقد، ومهما كان الثوب الذي يرتديه هذا النشاط.

2_ نسبة الخداع أو التدليس إلى أحد طرفي العقد بحيث يصدر عن أحدهما أو عن شخص ثالث: وهذه الحالة يحكمها نص المادة /127/ ق م س المذكورة سابقاً وفيها يقرر البطلان في حالتين:

– صدور الخداع أو التدليس عن أحد طرفي العقد أو نائبه.
– صدور التدليس عن شخص ثالث، بشرط أن يكون المستفيد من التدليس عالماً به أو كان من المفروض حتماً أن يعلم به وفق ظروف الحال ، لأن العلم بالتدليس والسكوت عنه ينزل منزلة الاشتراك فيه ويدل على سوء النية.
3_ نية التضليل: كما ذكرنا فإن التدليس يقوم على عنصرين أحدهما مادي يتمثل بالوسائل التي يستعملها الخادع، والثاني معنوي يتكون من نية التضليل المتجهة إلى بث الوهم في ذهن المخدوع – المدلس عليه – للوصول إلى النتيجة المرغوبة وهي حمله على التعاقد، ولا يتحقق الركن المعنوي ما لم يكن الخادع قد قصد الإيقاع بالمخدوع والإضرار به، وهذا يعني أن نية التضليل لا تكون متوفرة إذا عمد صاحب العرض إلى مجرد الإطراء بمحاسن الشيء موضوع التعاقد، لأن ذلك نوع من أنواع الدعاية والترويج كما ذكرنا سابقاً.
4_ اعتبار الخداع والتدليس هو الدافع إلى العقد: لكي يشكل التدليس عيباً من عيوب الرضا يجب أن يكون مؤثراً وفاعلاً في توجيه الإرادة إلى التعاقد، وحمل صاحبها على قبول العقد.
ولتقدير فاعلية التدليس وتأثيره يعتمد القاضي معياراً شخصياً يستخلصه من ظروف العقد ومركز المدلس عليه وحالته.
في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن التدليس كعيب مفسد للرضا يقترب في الكثير من الأحيان من الغلط كعيب مفسد للرضا، ذلك أن التدليس إذا لم يوقع الغلط في نفس المتعاقد الذي وجه إليه التدليس فلا أثر له على صحة العقد، لذلك لا يمكن أن نتصور عقداً لا يمكن إبطاله للغلط ويبطل رغم ذلك للتدليس، لذلك قيل أن للتدليس وجهان وجه الغلط الذي يقع فيه المدلس عليه ، ووجه الغش الصادر عن المدلس.

الفصـل الثالـث: الإكـراه

الإكراه هو الضغط غير المشروع الذي يوجه إلى إرادة شخص بغية حمله على التعاقد، وهو بذلك عيب مفسد للرضا.
والإكراه هو حمل الغير على ما يكره بالوعيد الشديد (9)
والواقع أن ما يفسد الرضا ليست الوسائل المستعملة في الإكراه، وإنما هي الرهبة التي تقع في نفس العاقد مما يحمله على التعاقد.
إذاً ما يفسد الرضا ليس الوسيلة المستخدمة ، إنما النتيجة المحققة، وهي الرهبة التي تقع في نفس العاقد مما يحمله على التعاقد مرغماً.
ويميِّز البعض بين الإكراه الذي يُفسد الرضا، والإكراه الذي يعدم الرضا.
ونكون أمام إكراهٍ يُفسد الرضا، في الحالة التي يكون فيها الُمكرَه في الخيار بين العقد وبين وقوع ما يخشاه.
بينما نكون أمام إكراهٍ يعدم الرضا، في الحالة التي يُنتزع فيها الرضا انتزاعاً، كأن يُمسِك المكرِه يد المكرَه ثم يجري القلم في يده بالتوقيع على الالتزام.

ولقد أخذ القانون المدني السوري بالإكراه كسبب يعيب الإرادة ويؤدي إلى إمكانية إبطال العقد وذلك في المواد /128و129/ منه حيث نصت المادة /128/ على ما يلي ” يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثـها المتعاقد الآخر في نفسه دون حق ، وكانت قائمة على أساس.
-وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذي يدعيها أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف أو المال.
-ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامة الإكراه “.
والمادة /129/ تنص على ما يلي ” إذا صدر الإكراه من غير المتعاقدين، فليس للمتعاقد المكرَه أن يطلب إبطال العقد، ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان من المفروض حتماً أن يعلم بهذا الإكراه “.
من هذه النصوص القانونية يستخلص أن الإكراه كعيب من عيوب الرضا يقوم على عنصرين، عنصر مادي وآخر معنوي نفسي، إضافة إلى وجوب توفر شروط للاعتداد بالإكراه كعيب مفسد للرضا.

أولاً – عناصر الإكراه:

1- العنصر المادي: يتكون من الوسائل والأساليب التي يستعملها فريق للتأثير على إرادة الفريق الآخر في العقد .
2- العنصر المعنوي – النفسي: يتمثل بالرهبة والخوف الذي يقع في نفس المتعاقد مما يحمله على التعاقد، وذلك نتيجة وسائل الإكراه المستعملة.

ثانياً – شروط الاعتداد بالإكراه:

أمّا الشروط الواجب توفرها للاعتداد بالإكراه كعيب مفسد للرضا فهي:

1- استعمال وسائل الضغط والإكراه: وهذا يعني استعمال الوسائل التي تؤلف العنصر المادي للإكراه، وهذه هي المرحلة الأولى التي يباشرها من يسعى إلى العقد، متوخياً من ورائها ( أي الوسائل) الحصول على نتائج لا يصل إليها دون اللجوء إلى تلك الوسائل.
والواقع أن وسائل الإكراه إما أن توجه إلى أشياء الإنسان المادية كالجسد والمال، وهذا ما يعرف بالإكراه الحسي، الضرب مثلاً، وإما أن توجه كوسيلة للتهديد بإيقاع الأذى دون إيقاعه بالفعل، أو توجيهها لإحداث ألم نفسي وهذا ما يسمى بالإكراه النفسي ، ذلك أنه يوقع في النفس رهبة أو ألماً.
والواقع أن وسائل الضغط والإكراه المستعملة تؤدي إلى فساد الإرادة، وبالتالي إمكانية إبطال العقد للإكراه، طالما أن من وُجِّهت إليه فسدت إرادته نتيجة شعوره بخطر جسيمٍ محدق، سواءً بنفسه أو بماله أو بشرفه، أو بجسم أو شرف أو مال الغير، وهذا ما أخذت به الفقرة الثانية من المادة /128/ ق م س حيث تكون الرهبة في هذه الحالة قائمة على أساس.
وإنما امتنعت عقود المُكره من النفوذ لعدم الرضا الذي هو مصحح العقد ، فإن المُكره محمول على ما أُكرِه عليه غير مختار له ، (1) والرضا شرطٌ في صحة العقد والإكراه ينافي الرضا (2)
والسؤال الذي يطرح في هذا المجال يتعلق بالمعيار الواجب اتباعه للقول أن الشخص إنما كان يشعر فعلاً بالخطر لذلك تعيَّبت إرادته، وبعبارة أخرى هل أن جسامة الوسائل المستخدمة في الإكراه هي الدليل على وقوع حالة الخوف لدى المكره مما أفسد رضاه ؟
الواقع أن المعيار الواجب اتباعه يُستخلص من نص الفقرة الثالثة من المادة /128/ قانون مدني سوري “حيث يراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثِّر في جسامة الإكراه .”
ويتضح من ذلك أن المعيار المتبع هو معيار ذاتي ، فالأنثى تختلف عن الذكر، والشاب غير الهرم والمتعلم ليس كالجاهل، والمريض يختلف عن المعافى، ومن كان في جماعة من الناس يختلف عمّن وُجِد وحيداً في موقفٍ معين، وقد يخشى الشخص نفسه في الليل من شيءٍ لا يخشاه في النهار، فالمكان والزمان وغيرهما من الظروف والملابسات تؤثر في تكييف جسامة الخطر الذي شعر به المتعاقد.
وتقدير ما إذا كانت الرهبة هي التي دفعت فعلاً إلى التعاقد هو مسألة واقع لا رقابة لمحكمة النقض عليه، ولكن وجوب الاعتداد بهذه العوامل أو عدم الاعتداد بها هي من مسائل القانون التي تراقبها محكمة النقض.

2- عدم مشروعية وسائل الإكراه: الواقع أن الإكراه كعيب يفسد الرضا لا يقع ما لم تكن وسائله غير مشروعة، وغير محمية قانوناً، كما لو خطف شخص ولداً مهدِّداً والده بقتله إن لم يتنازل له عن أرضه ففعل.
فالإكراه يتحقق عادة باستعمال وسائل غير مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع، ومثل ذلك استعمال وسائل مشروعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
أما لو كانت الوسائل مشروعة واستخدمت للوصول إلى غرض مشروع فلا نكون أمام حالة إكراه مفسد للرضا، كما لو هدد الدائن مدينه باللجوء إلى القضاء لشهر إفلاسه إن لم يدفع له دينه المستحق.

3- نسبة وسائل الإكراه إلى أحد المتعاقدين أو الغير: ذكرنا سابقاً أن ما يعيب الإرادة وما يفسدها ليس الوسائل المستخدمة للضغط على المتعاقد الآخر، وإنما هي النتيجة المتأتية من هذا الضغط، وهي الرهبة التي تقع في نفس المتعاقد الآخر مما يفسد الرضا الصادر عنه.
واستناداً لذلك نقول أنه لا فرق بين أن يصدر الإكراه عن أحد أطراف العقد أو عن شخص ثالث غريب عن العقد، طالما أن نتيجة هذا الإكراه هو تحقق الرهبة والخوف في نفس المتعاقد مما دفعه إلى التعاقد.
وإلى هذا أشار القانون المدني السوري في المادة /129/ منه والمذكورة سابقاً، ولكن هذه المادة اشترطت لإبطال العقد نتيجة إكراه صادر عن شخص ثالث غريب عن العقد أن يثبت علم الطرف المستفيد في العقد بوقوع الإكراه، أو أن يثبت أنه كان من المفروض حتماً أن يعلم بوقوع الإكراه.

والسؤال الذي يطرح هنا يتعلق بمصير العقد الذي يعقد نتيجة ممارسة إكراه صادر عن شخص ثالث غريب عن العقد دون أن يكون الطرف المستفيد عالماً بهذا الإكراه أو دون أن يكون من المفروض حتماً أن يعلم به ؟
الواقع أن العقد في هذه الحالة يبقى صحيحاً وذلك لحسن نية الطرف الآخر، ويكون للطرف المكرَه أن يعود على الشخص الثالث – المكرِه – لمطالبته بالتعويض عما أصابه من ضرر نتيجة العقد الموقع تحت الضغط الصادر عنه، وفي ذلك موازنة لمصالح أطراف العقد جميعاً، إضافة لاستقرار التعامل بين المتعاقدين.

في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن مجرد الشوكة أو النفوذ الأدبي الذي قد يكون لشخص على آخر نتيجة زواج – قرابة – صداقة متينة – رابطة عمل …، لا يكفي ليشكل وسيلة إكراه يمكن بالاستناد إليها إبطال العقد للإكراه.
ويرى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه الوسيط أن الشوكة والنفوذ الأدبي لا يكفي ليشكل وسيلة إكراه، ما دام القصد من ورائها الوصول إلى غرض مشروع. أما إذا كان الهدف من استخدام هذه الوسائل (وهي وسائل يمكن أن تكون ضاغطة إلى حد بعيد – مثلاً الوالد تجاه ولده الذي يحترمه ولا يرفض له طلباً، أو ما لرجل الدين من هيبة تجاه ابن رعيته الذي يُوقِّره ويُجِلّه ولا يرفض له أي طلب …) أما إذا كان الهدف من استخدام هذه الوسائل (الشوكة والنفوذ الأدبي )، الوصول إلى غرض غير مشروع كعقد التزام باهظ يثقل كاهل الملتزم به الذي ما كان ليقبل به لولا احترامه وموقفه ممن يتعاقد معه، فإن العقد في هذه الحالة يمكن إبطاله للإكراه.

الفصل الرابع: الاستغلال

نصت المادة /130/ قانون مدني سوري. على ما يلي “إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر، وتبين أن المتعاقد المغبون لم يُبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً، جاز للقاضي بناءً على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد أو يُنقص التزامات هذا المتعاقد.
– ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد، وإلا كانت غير مقبولة.
– ويجوز في عقود المعاوضة أن يتوقى الطرف الآخر دعوى الإبطال، إذا عرض ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن. ”
استناداً لهذا النص نجد أن المشرع السوري قد أخذ بنظرية الغبن كسبب معيب للإرادة يُبنى عليه إمكانية إبطال العقد.
والواقع أن الغبن هو المظهر المادي للاستغلال.

ويمكن تعريف الغبن بأنه عدم التوازن بين ما يعطيه المتعاقد من حقوق أو أموال أو خدمات وما يأخذ من الفريق الآخر مقابل ذلك .
وغبنه في البيع أي خدعه، وقد غُبن فهو مغبون( ).
والعدل في التعامل وسطٌ بين رذيلتيّ – الغبن والتغابن – والغبن أن يأخذ الشخص ما ليس له، والتغابن أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمدٌ ولا أجر( )
وقد جاء تعريف الغبن في المادة /213/ من قانون الموجبات والعقود اللبناني كما يلي ” الغبن هو التفاوت وانتفاء التوازن بين الموجبات التي توضع لمصلحة فريق والموجبات التي تفرض على الفريق الآخر في العقود ذات العوض ”
وبالعودة لنص المادة /130/ ق م س نجد أن للاستغلال عنصران:
1 – عنصر موضوعي: هو اختلال التعادل اختلالاً فادحاً في الموجبات المتبادلة.
2 – عنصر نفسي: يتمثل باستغلال ضعف أو طيش في نفس المتعاقد الآخر.
نشير فوراً إلى أن الغبن في الأساس لا يفسد رضى المغبون ، ويكون الأمر على خلاف ذلك ، ويصبح العقد قابلاً للإبطال، إذا كان الغبن مترافق بعدم تعادل بات بين المتعاقدين في الموجبات، وذلك نتيجة استغلال أحد المتعاقدين لطيشٍ بيِّنٍ أو هوىً جامحٍ سيطر على نفس المتعاقد الآخر.

أولاً – عناصر الاستغلال:

1_ العنصر الموضوعي: يتمثل باختلال التعادل اختلالاً فادحاً في الموجبات التي ينشئها العقد ويرتبها على عاتق أطرافه تجاه بعضهم البعض.
واختلال التعادل المذكور هو ما يشكل الغبن الشاذ الخارج عن نطاق المألوف، وقد ذكرنا سابقاً أن الغبن هو المظهر المادي للاستغلال.
والواقع أن هناك بعض القوانين التي ميَّزت في الغبن بين أن يكون واقعاً بحق القاصر أو بحق الراشد، ومن هذه القوانين القانون اللبناني، حيث نصت المادة /214/ من قانون الموجبات والعقود اللبناني على ما يلي “إن الغبن لا يفسد في الأساس رضى المغبون، ويكون الأمر على خلاف ذلك، ويصبح العقد قابلاً للبطلان في الأحوال التالية :
1- إذا كان المغبون قاصراً .
2- إذا كان المغبون راشداً، وكان للغبن خاصتان
• أن يكون فاحشاً وشاذاً عن المألوف.
• أن يكون المستفيد قد أراد استثمار ضيق أو طيش أو عدم خبرة في المغبون .”
أمّا القانون السوري فلم يميز في الغبن بين القاصر والراشد، ولعلّ مردّ ذلك أن العقد يمكن إبطاله لمصلحة القاصر سواءً كان مشوباً بالغبن أم لا.
كذلك فإن القانون السوري لم يأخذ بمعيار متمثل برقم ثابت للقول بتوفر الاستغلال والغبن في العقد ، وإنما ترك ذلك للقضاء حيث يتحرَّى القاضي البدائي جميع ظروف القضية وعناصرها للقول فيما إذا كان الاختلال في التعادل فادحاً يبنى عليه قيام الغبن والاستغلال أم لا، ذلك لأن القانون السوري لم يحدد نصاباً معيناً للغبن.
ومن أهم ما يعتمد عليه القاضي عند البحث في توافر الغبن والاستغلال أم لا، هو مسألة العرض والطلب فالعبرة عند تقدير قيمة الشيء لقيمته كما ينظر إليها المتعاقد ، لا بقيمته في ذاته، فقد يكون ثمن منزل ما عشرة آلاف ولكن يوجد شخص مستعد لشرائه بخمسة عشرة ألف ليرة ، لأن قيمة المنزل في نظره تبلغ هذا الحد.
2_ العنصر النفسي:لم يكتف القانون السوري بالعنصر الموضوعي لقيام الاستغلال والغبن، بل اشترط أيضاً أن يتصل الغبن بناحية نفسية تؤثر على إرادة المغبون، أي أن يقوم العاقد باستغلال وضع المتعاقد الآخر المغبون، وهذا ما يستفاد من نص المادة /130/ ق م س “وتبين أن المتعاقد المغبون لم يبرم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً”.
فالعنصر النفسي إذاً إنما يتمثل في أن أحد المتعاقدين يستغل في المتعاقد الآخر طيشاً بيناً أو هوى جامحاً .
ومن أمثلة ذلك ( أن يتزوج رجل عجوز من امرأة شابة جميلة فتعمد هذه الزوجة إلى استغلال زوجها وتدفعه إلى استكتابها ما تشاء من العقود لمصلحتها معتمدة على ميله وهواه تجاهها.

نشير فوراً أنه لا بدَّ لقيام الاستغلال كعيب يبنى عليه إمكانية إبطال العقد من توفر العنصرين معاً، الموضوعي والنفسي، إضافة إلى وجوب أن يكون هذا الاستغلال هو الذي دفع المتعاقد المغبون إلى التعاقد وليس شيئاً آخر.
فالعنصر النفسي للاستغلال يقتضي أمرين:

أ‌. _ إرادة غير مشروعة صادرة عن المستغل “هي إرادة استغلال الطيش والهوى الجامح ”
ب‌. _ إرادة معيبة صادرة عن المغبون “معيبة بالطيش البيِّن أو بالهوى الجامح”.

وهذا ما يدفعنا للتساؤل هل أن الاستغلال الذي يبنى عليه إبطال العقد، هو عيب في العقد أم هو عيب في الرضا ؟
بالعودة لنص المادة /130/ ق م س فقرة أولى السطر الأخير “جاز للقاضي بناءً على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد …”
بالعودة إلى هذا النص نجد أن المشرع السوري قد اعتبر الاستغلال والغبن عيب من عيوب الإرادة التي يبنى عليها إمكانية إبطال العقد، بناءً على طلب المتعاقد المغبون، فالعقد في الأساس قائم ولكنه قابل للإبطال بناء على طلب الفريق المغبون.
فلو كان الاستغلال عيب في العقد، لكان العقد باطلاً في الأساس بطلاناً مطلقاً، ولما كان الإبطال جوازياً بناءً على طلب المغبون.
ومتى توفرت شروط قيام الاستغلال جاز للقاضي بناءً على طلب المتعاقد المغبون أن يبطل العقد ، أو أن ينقص التزامات هذا المتعاقد….

واستناداً لنص الفقرة الثانية من المادة /130/ ق م س المذكورة سابقاً نجد وجوب رفع دعوى الإبطال أو الإنقاص ضمن مهلة سنة من تاريخ العقد، وإلا كانت غير مقبولة، أي لا تسمع الدعوى بمرور سنة على قيام العقد المشوب بالاستغلال .
والواقع أن السنة هنا هي ميعاد لرفع الدعوى لا مدة للتقادم، فالسنة هنا هي ميعاد إسقاط لا ميعاد تقادم، والفرق في ذلك، أن ميعاد الإسقاط لا ينقطع ولا يوقف، بخلاف ميعاد التقادم الذي يرِد عليه الانقطاع والوقف، وتبدأ السنة من وقت تمام العقد.
والواقع أن المتعاقد المغبون في الخيار بين أن يسلك دعوى الإبطال أو يعمد إلى دعوى الإنقاص، فإذا اختار دعوى الإبطال جاز للقاضي أن يجيبه إلى طلبه فيبطل العقد إذا رأى أن الاستغلال قد عاب رضى المتعاقد المغبون إلى حدٍ فسد معه هذا الرضاء، وأن المتعاقد المغبون ما كان ليبرم العقد في الأصل لولا هذا الاستغلال،

أما إذا رأى القاضي أن الاستغلال لم يفسد رضى المتعاقد إلى هذا الحد، وأن المتعاقد المغبون كان لِيُبرم العقد لو أن التزاماته لم تكن باهظة، (أي حتى في حالة عدم وجود الاستغلال كان لِيُبرم العقد)،كان للقاضي في هذه الحالة أن يرفض إبطال العقد سواءً كان العقد عقد معاوضة أو تبرع، وأن يقتصر في حكمه على إنقاص الالتزامات الباهظة، ومن أجل ذلك يسترشد القاضي بملابسات القضية وظروفها، فالمسألة مسألة واقع لا معقب عليها من قبل محكمة النقض .

ويجري على دعوى الإبطال للاستغلال ما يجري على دعاوى الإبطال الأخرى، لكنها تتميز عن سائر دعاوى الإبطال في أن الطرف المستغِل يحق له أن يتوقَّى الحكم بالإبطال في عقود المعاوضة ، إذا هو عرض على المتعاقد المغبون ما يراه القاضي كافياً لرفع الغبن، وهذا ما نص عليه القانون المدني السوري في الفقرة الثالثة من المادة /130/ منه، فإذا كان العقد بيعاً وطلب البائع المغبون إبطاله جاز للمشتري أن يعرض زيادة في الثمن تكفي لرفع الغبن، ويعود أمر تقدير هذه الزيادة للقاضي ولا يشترط أن تكون الزيادة نافية للغبن، وإنما يكفي أن تجعل من الغبن غير فاحش.
أما إذا اختار المتعاقد المغبون في الأساس دعوى الإنقاص (لإنقاص التزاماته الباهظة) ففي هذه الحالة يقوم القاضي بإنقاص هذه الالتزامات إلى الحد الذي يجعلها فيه غير باهظة، وهذا الأمر عائد لتقدير القاضي ينظر فيه وفق ملابسات كل قضية وظروفها.

تتمة البحث السابق

البـــاب الرابع: الأحكام التي تبنى على قيام العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال

نشير فوراً إلى أن هذا المبحث متعلق فقط بالأحكام التي تُبنى على قيام العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال استناداً إلى إحدى عيوب أو عوارض الرضا.
وننطلق في هذا المبحث من السؤال التالي: ما هي حكم التصرفات الصادرة إذا كانت إرادة أحد أطراف العقد معيبة بعيب من عيوب الرضا “نقص الأهلية، الاستغلال ، الغلط …” وما أثر ذلك على الأطراف في العقد، وعلى الشخص الثالث الغريب عن العقد ؟
بصورة عامة فإن نص المادة /143/ ق م س كان واضحاً في هذا المجال حين نص على ما يلي ” في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، فإذا كان هذا مستحيلاً جاز الحكم بتعويضٍ عادل.
– ومع ذلك لا ُيلزم ناقص الأهلية، إذا أُبطل العقد لنقص أهليته، أن يردّ غير ما عاد عليه من منفعة بسبب تنفيذ العقد ”
واستناداً لنصوص المواد /111/ و /112/ و /113/ و /115/ و /116/ و /117/ و /118/ و /120/ و /121/ و /123/ و /126/ و /128/ و /130/ من القانون المدني السوري والمذكورة سابقاً، نقول أن التصرفات الصادرة والمعيبة بإحدى العيوب المنصوص عنها في تلك المواد تنشأ إمّا باطلة أو قابلة للإبطال.

فالأهلية كما رأينا تتعيب أو تنعدم في حال التصاقها بعارض من عوارضها، أو بانعدام التمييز .
فإذا انعدم التمييز كان العقد باطلاً في الأساس، ويُعدّ كأن لم يكن، ويحق لكل ذي مصلحة أن يثير مسألة البطلان، كما ويحق للمحكمة أن تقضي بالبطلان عفواً من تلقاء نفسها، دون طلب من الخصوم (في معرض النظر بنزاع معين)، فالبطلان هنا هو بطلان مطلق يتعلق بالنظام العام وبالتالي لا يجوز تأييد أو إجازة مثل هذا العقد الباطل من قبل من انعدم تمييزه حتى بعد بلوغه سن التمييز والرشد، لأن العقد هنا معدوم في الأساس، والعدم لا يصير وجوداً ولو أجيز.

ونفس الأحكام تطبق في حالة الجنون والعته الشائع وتسقط دعوى البطلان بمرور خمسة عشرة سنة من وقت العقد.
ونشير هنا إلى مسألة هامة ذكرها الدكتور السنهوري في كتابه الوسيط وقد سبق الإشارة إليها تتلخص: في التمييز بين دعوى البطلان، وبين الدفع بالبطلان.

ففي حين رتَّب القانون عدم سماع دعوى البطلان بمضي خمسة عشرة سنة على العقد الباطل ، فإنه لا شيء في القانون يمنع من التمسك بالدفع بالبطلان مهما طال الزمن على العقد الباطل.
مثال على ذلك:

شخص باع شيئاً ما وكان البيع باطلاً بطلاناً مطلقاً، ومضت خمسة عشرة سنة على وقت صدور البيع، وبذلك فإن البائع لا يستطيع هنا إقامة دعوى بطلان البيع لسقوطها بالتقادم ، ولكن نحن نكون هنا أمام حالتين، حالة تسليم المبيع إلى المشتري بعد العقد الباطل، وحالة بقاء المبيع في يد البائع، في حالة بقاء المبيع في يد البائع، فلا شيء يدعو البائع لإقامة دعوى البطلان، حتى إذا أقام المشتري الدعوى عليه بهدف تسليمه المبيع، دفع البائع ببطلان البيع رغم انقضاء الخمسة عشرة سنة، ذلك أن الدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم.

أما في حالة تسليم البائع، المبيع إلى المشتري ومرور خمسة عشرة سنة على صدور البيع ، فإن البائع يستطيع أن يسترد المبيع من المشتري، لا بإقامة دعوى البطلان التي لم تعد مسموعة لمرور الزمن، وإنما بإقامة دعوى استحقاق، وهي دعوى لا تسقط بمرور الزمن، فإذا تمسك المشتري في دعوى الاستحقاق بالبيع الباطل، كان للبائع أن يدفع ببطلان (العقد) والدفع بالبطلان لا يسقط بالتقادم.

أما إذا كان نقص الأهلية لم يعدم التمييز كالقاصر المميز مثلاً ففي هذه الحالة يكون التصرف قابل للإبطال، فالبطلان هنا بطلان نسبي، يجوز بالتالي تأييد العقد أي إجازته من قبل من وضع البطلان لمصلحته وذلك بعد زوال سبب الإبطال، كأن بلغ القاصر المميز راشداً، والواقع أن دعوى إبطال العقد لا تُسمع إلا مِمّن وضع البطلان لمصلحته.
وهذه الأحكام تطبق أيضاً على إبطال العقد للإكراه والغلط والاستغلال والخداع والتدليس.
والواقع أن العقد القابل للإبطال هو في الأساس ذو وجودٍ قانوني ، لذلك لا بُدّ من مراجعة القضاء لتقرير البطلان، أو التقاء إرادتي أطراف العقد على ذلك.

ووفقاً للمادة /141/ ق م س يسقط الحق في إبطال العقد، إذا لم يتمسك به صاحبه خلال سنة واحدة، وهذا ما أخذت به محكمة النقض في قرارها رقم /165/الصادر بتاريخ 5/5/1963 منشور في مجلة المحامون صفحة 1297 لعام 2000.
ويبدأ سريان مهلة السنة في حالة نقص الأهلية من اليوم الذي يزول فيه هذا السبب، وفي حالة الغلط أو التدليس من اليوم الذي ينكشف فيه، وفي حالة الإكراه من يوم انقطاعه، وفي حالة الاستغلال من يوم العقد.

وفي كل حال لا يجوز التمسك بحق الإبطال لغلط أو تدليس أو إكراه، إذا انقضت خمسة عشرة سنة من وقت تمام العقد.
فإذا انقضت هذه المدد دون اللجوء لدعوى الإبطال، لم تعد هذه الدعوى مسموعة وانقلب العقد صحيحاً، وذلك بخلاف العقد الباطل أصلاً، الذي لا ينقلب صحيحاً بمرور الزمن، وإنما لا تسمع الدعوى به فقط كما أشرنا سابقاً.
واستناداً لنص المادة /143/ ق م س المذكورة سابقاً فإنه في حالتي إبطال العقد وبطلانه فإن كل أثر للعقد يزول ويعاد كل شيء إلى أصله، فيعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد على قدر الإمكان، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية التعويض في حال استحالة ذلك.

فإذا كان العقد بيعاً مثلاً وحكم بإبطال البيع أو بطلانه، ففي هذه الحالة على المشتري أن يردّ المبيع إلى البائع، وعلى البائع أن يردّ الثمن الذي قبضه إلى المشتري، وإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل التعاقد والذي تبعه استرداد كل متعاقد لما سلمه للطرف الآخر، إنما يكون على أساس استرداد ما دفع دون حق.

هذا إذا كان بالإمكان إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل التعاقد، أما إذا كان الأمر مستحيلاً بأن هلك المبيع مثلاً بخطأ المشتري، فإن للقاضي أن يحكم بالتعويض في هذه الحالة ويلزم المشتري برد قيمة المبيع وقت الهلاك، وذلك طبقاً لقواعد المسؤولية التقصيرية لا على أساس العقد، أي ليس على أساس المسؤولية العقدية، لأن العقد حال إبطاله أو الحكم ببطلانه يُعدّ كأن لم يكن كما ذكرنا سابقاً، ويزول كل أثر له.
والواقع أن هذه الأحكام إنّما تطبق فيما بين المتعاقدين، ولكن ما هو أثر تقرير البطلان أو الإبطال على الغير ممن تلقوا حقوقاً على الشيء موضوع العقد الذي تقرر إبطاله أو بطلانه ؟
نشير فوراً إلى أن هذه مسألة غالباً ما نجدها في الحياة العملية، ولتبسيط ذلك نورد المثال الآتي:
شخص اشترى منزلاً من شخصٍ آخر، ثم قام المشتري ببيع المنزل لشخصٍ ثالث، بعد فترة صدر حكم ببطلان البيع الأول، في هذه الحالة واستناداً لنص المادة /143/ ق م س المذكورة سابقاً يعاد ( المتعاقدان ) إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، إلا أن هذا الغير ليس من المتعاقدان إنما هو شخص ثالث غريب في الأصل عن العقد الأول الذي حكم ببطلانه، في هذه الحالة هل يمكن لنا إعمال القاعدة القائلة أن ما بني على باطل فهو باطل ؟

أم هل أن انتقال المبيع إلى شخص آخر غريب عن العقد الباطل، إنما يدخل ضمن الاستحالة (أي استحالة إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد الباطل) والتي تحدثت عنها المادة /143/قانون مدني سوري المذكورة ؟
الواقع أننا إذا أعملنا قاعدة ما بني على باطل فهو باطل، فإننا نعرض بذلك التعامل بين الناس لعدم الاستقرار،كما أننا نُهمل بذلك مؤسسة حسن النية، وهي في الأصل مؤسسة قانونية وضعت لحماية مصالح الأشخاص حسني النية.
وكما رأينا فإن دعوى البطلان والإبطال، هي دعاوى في كثير من الأحيان مسموعة إلى ما يصل لخمسة عشرة سنة من وقت تمام العقد، وهي فترة طويلة جداً يمكن أن ينتقل فيها الحق موضوع العقد الباطل إلى أكثر من حائز، فهل يمكن أن نبني على بطلان العقد الأول نزع حيازة سلسلة من هؤلاء الأشخاص حسني النية في غالب الأحيان ؟
الواقع أنه لا يمكن لنا أن نتصور أن نية المشرع كانت ترمي إلى ذلك.
لذلك فإننا في هذا المبحث يجب أن نميز بين الأشخاص حسني النية، وبين الأشخاص سيئي النية.
– بالنسبة لسيئي النية فإننا نقول أنه استناداً للقواعد العامة ولمبادئ ونظم العدالة في المجتمع ، والتي تجمع على أنه لا يمكن أن يفاد شخص من سوء نيته، ففي هذه الحالة يمكن إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد الباطل، وفسخ العقد اللاّحق للعقد الذي قُضي (ببطلانه أو إبطاله) والقائم في الأساس على سوء النية.

– أما في حالة حسن نية الشخص الثالث، ففي هذه الحالة، إن العقد اللاحق للعقد الباطل هو عقد قائم بصورة مشروعة، ولا يؤدي بطلان العقد الأول إلى فسخ العقد اللاحق به والقائم على حسن نية الشخص الآخر، وما على المتعاقد الذي حكم ببطلان العقد لمصلحته إلا أن يعود على المتعاقد الثاني بطلب التعويض، وفق نص المادة /143/ ق م س.
ومسألة سوء النية وعدمه هو مسألة واقع يمكن إثباته بكافة طرق الإثبات.

ونشير هنا إلى مسألة مهمة تتعلق بقواعد الشهر، ومنها الشهر العقاري، حيث أن السجل العقاري في سوريا يقوم على نظام الشهر، فنقول أن للسجل العقاري وقيوده القائمة على الشهر حجية كاملة لا يمكن دحضها إلا بالتزوير، فإذا استند شخص في شرائه لعقارٍ ما إلى قيود السجل العقاري التي تُظهر براءة العقار وخلوه من أيِّ نزاعٍ أو دعوى، فهو في هذه الحالة حسن النية حتى ولو كان هناك بيع أو نزاع سابق يطال العقار المبيع، طالما أن أطراف النزاع لم يسعوا إلى حماية حقوقهم بوضع إشارة الدعوى على صحيفة العقار المذكور، ففي هذه الحالة إن العقد الثاني هو عقد قائم بصورة مشروعة ولا يمكن فسخه حتى ولو قُضيَ ببطلان أو إبطال العقد الأول، إذْ العبرة في تلمس حُسن النية هنا، هو لقيود السجل العقاري القائمة على نظام الشهر، وما على الطرف الذي أُبطل العقد لمصلحته إلا أن يعود على الطرف الثاني في العقد الباطل بطلب التعويض، إذْ أنَّ هناك استحالة في العودة إلى الحالة التي كان عليها المتعاقدان قبل العقد الباطل.

في النهاية نشير أن العقد إذا نشأ صحيحاً غير معيب بإحدى عيوب الإرادة فإنه يؤتي آثاره بصورة كاملة، حيث يُلزم المتعاقدين به تجاه بعضهم البعض ويُلزمان ببنوده، فهو القانون الذي يحكم علاقة أطرافه، ومن الطبيعي أن يُلزم الشخص بإرادته، ولا يمكن للمتعاقد أن يتحلَّل منه أو يُعدِّل في بنوده بصورة منفردة، دون اقتران إرادته بإرادة الشخص الآخر في العقد، ولذلك قيل أن العقد هو المجال الذي يُشرِّع فيه المتعاقدان بأنفسهم لأنفسهم.
لا يمكن أن تنحل الإرادة العقدية إلا بإرادة مماثلة ( نقض – غرفة مدنية ثانية -قرار رقم /11/ لعام 1998).

هذا بحثي أضعه بين أيديكم أرجو أن ينال القبول
والله من وراء القصد
تم بعونه تعالى

المراجع

– القرآن الكريم .
– القانون المدني السوري.
– الوسيط في شرح القانون المدني الجديد ، الدكتور عبد الرزاق السنهوري.
– قانون الموجبات والعقود (مجموعة محاضرات للدكتور عدنان ضناوي) أستاذ أصيل في الجامعة اللبنانية.
– مجلة المحامون.
التعاريف الواردة من الكتب التالية:
– مجلة الأحكام العدلية
– التوقيف على مهمات التعاريف، العلامة محمد بن عبد الرؤوف المناوي، تحقيق الدكتور محمد رضوان.
– مختار الصحاح، العلامة محمد بن أبـي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق الأستاذ محمود خاطر.
– التعريفات، للعلامة علي بن محمد بن علي الجرجاني ، تحقيق الأستاذ إبراهيم الأبياري.
– لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري .
– الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ،تحقيق الدكتور محمد جميل غازي
– إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ، تحقيق الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد

– فهرس البحث

الموضوع الصفحة
• باب تمهيدي : 3
– أهمية العقود في حياتنا 3
– تقسيمات بعض أنواع العقود 4
• الباب الأول : _ الرضا
– المبحث الأول : الإرادة الصالحة لإنشاء الموجب 8
– المبحث الثاني : عناصر الرضا 10
– أولاً : الإيجاب 12
– ثانياً : القبول 12
الفصل الأول: مطابقة القبول للإيجاب 13
الفصل الثاني: القوة الملزمة للإيجاب 15
– أولاً : المتعاقدان يجمعهما مجلس واحد 16
– ثانياً : المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد 18
1_ الموجب حدد موعداً لإظهار القبول 22
2_ الموجب لم يحدد موعداً لإظهار القبول 23
• الباب الثاني _ صحة التراضي : 24
الفصل الأول : ماهية الأهلية 26
الفصل الثاني : حالات نقص الأهلية 29
– 1_ سن التمييز 29
– 2_ سن الرشد 32
الفصل الثالث : عوارض الأهلية 34
– أولاً : الجنون 34
– ثانياً العته 36
– ثالثاً السفه والغفلة 37
– تصرفات من أصيب بعاهة 40
– تصرفات المدين المفلس 41
– تصرفات المريض مرض الموت 42
– تصرفات المحكوم بعقوبة الأشغال الشاقة 44
الفصل الثالث : حكم التصرفات الصادرة في حال نقص الأهلية أو انعدامها
– دعوى البطلان 45
– دعوى الإبطال 45
– أثر تقرير البطلان والإبطال 47
• الباب الثالث _ عيوب الإرادة : 48

الفصل الأول : الغلط 49
الفصل الثاني : التدليس 56
الفصل الثالث : الإكراه 61
الفصل الرابع : الاستغلال 67
• الباب الرابع :
الأحكام التي تبنى على قيام العقد باطلاً أو قابلاً للإبطال 73
• المراجع 80

شارك المقالة

1 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.