بحث قانوني هام حول الأسس العامة للتنظيم الإداري
الأكاديمية العربية – الدانمارك
قسم القانون العام.
الأستاذ الدكتور عمار بوضياف
محاضرات لطلبة الدراسات العليا- مقياس القانون الإداري
السنة الجامعية 2009/2010
مقرر نظرية التنظيم الإداري
مما لا شك فيه أنّ التنظيم الإداري يتأثر في كل مجتمع بالظروف السياسية والاجتماعية المحيطة به. وإذا كان ما ميّز المجتمعات القديمة هو ظاهرة تركيز السلطة بجميع أنواعها و جوانبها في يد واحدة نتيجة معتقدات معينة (تأليه الملك) من جهة، ولضمان قوة الدولة وتأمينها من كل خطر قد يداهمها من جهة ثانية. فإن الصفة التي تميز الدول المعاصرة هو اعترافها لبعض الهيئات الإدارية بالشخصية المعنوية، وبالتالي الاستقلال الإداري و المالي عن الدولة و هذا بهدف مساعدتها (أي الدولة) في أداء مهامها. غير أنّ هذه الوحدات الإدارية المستقلة تم ربطها بالأجهزة المركزية بتطبيق نظام الوصاية.
و يجب أن لا يفهم من كل هذا أنّ نظام المركزية الإدارية نظام عرفته المجتمعات القديمة، ولم يعد له أي تطبيق في ظل الدولة المعاصرة، بل النظام المركزي لا زال يطبق في جوانب كثيرة نظرا لمحاسنه كما سيأتي البيان إلى جانب النظام اللامركزي.
وبناءا عليه فإنّ التنظيم الإداري في الدولة المعاصرة يأخذ وجهان المركزية الإدارية و اللامركزية الإدارية. نعرض فيما يأتي تعريف كل نظام وأركانه وصوره ومزاياه و عيوبه. ولقد رأينا معالجة الأسس العامة للتنظيم الإداري في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المركزية الإدارية.
المبحث الثاني: اللامركزية الإدارية.
المبحث الثالث: الجمع بين النظامين.
المبحث الأول: المركزية الإدارية.
• تعريفها:
يقصد بالمركزية الإدارية قصر الوظيفة الإدارية في الدولة على ممثلي الحكومة في العاصمة وهم وزراء دون مشاركة من هيئات أخرى. فهي بالتالي تقوم على توحيد الإدارة و جعلها تنبثق من مصدر واحد مقره العاصمة.
ففي ضوء النظام المركزي تباشر السلطة المركزية الشؤون الوطنية و المحلية عن طريق ممثليها في العاصمة. فهي إذن تقوم على استقطاب السلطات الإدارية وتجميعها في يد شخص واحد أو هيئة واحدة.
غير أنّه لا ينبغي أن يفهم من أنّ تركيز السلطة يعني عدم تقسيم أراضي الدولة إلى أقسام إدارية على أسس جغرافية أو اجتماعية أو تاريخية. ذلك أنّه لا يمكن تصور قيام الدولة بتسيير شؤون كل أجزاء الإقليم عن طريق جهازها المركزي وحده، بل لا مفر من توزيع العمل على إدارتها المختلفة.غاية ما في الأمر أن ّهذه الوحدات تباشر عملها تحت إشراف مباشر وكامل للسلطة المركزية وليس لها وجود ذاتي و قانوني مستقل.
• أركانها:
من المفهوم السابق ذكره نستنتج أنّ النظام المركزي يقوم على دعامتين هما: تركيز السلطة بين يدي الإدارة المركزية، وخضوع ممثلي الحكومة للسلطة الرئاسية.
أولا: تركيز السلطة الإدارية بين أيدي الإدارة المركزية.
طالما استأثرت الإدارة المركزية في العاصمة بكل السلطات المخولة لها إداريا، فإنّه يترتب على ذلك تجريد أعوان الإدارة في مختلف الأجهزة و النواحي من سلطة القرار و التفرد به. وهذا لا يعني أن يقوم الوزير المختص بكل صغيرة وكبيرة في إقليم الدولة لأن هذا الأمر من المحال تحقيقه في أرض الواقع العملي، بل القصد من ذلك أن يتولى الإشراف و الهيمنة على معاونيه مهما اختلفت مستوياتهم، وسواء وجدوا في العاصمة أو في بقية أجزاء الإقليم.
ثانيا: خضوع موظفي الحكومة المركزية لنظام السلم الإداري و السلطة الرئاسية.
طالما كانت مجموع الوحدات الإدارية و المرافق مرتبطة أشد الارتباط بالإدارة المركزية خاضعة لقرارها و سلطتها، فإن هذا الخضوع و السلطة يتجسد في سلم إداري يعلوه الوزير الذي يملك سلطة التعيين و يحتل فيه الموظف مرتبة المرؤوس أو التابع. وهذه السلطة الرئاسية من شأنها أن تجعل للرئيس هيمنة تامة على أعمال المرؤوس فيكون له حق المصادقة عليها أو إلغائها أو تعديلها أو استبدالها دون أن يكون للمرؤوس حق الاعتراض. كما يملك الرئيس الإداري أي الوزير سلطة إدارية على الشخص المرؤوس أو الموظف تبدأ بتعيينه وتتواصل طوال مساره الوظيفي لتمس سلطات أخرى كالنقل و الترقية و التأديب. وهو ما يجعل في النهاية المرؤوس خاضعا في شخصه وأعماله للرئيس الإداري. ونتيجة لهذه السلطة المزدوجة التي يمارسها الرئيس على المرؤوس استقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي على عدم قبول دعوى الإلغاء التي يرفعها المرؤوس ضد أعمال يقوم بها الرئيس الإداري واستثنى من ذلك القرارات التي تمس الجانب الوظيفي (التأديب، الحرمان من الترقية…).
ماذا يقصد بالسلطة الرئاسية؟
يقصد بالسلطة الرئاسية مجموعة من السلطات يتمتع بها كل رئيس في مواجهة مرؤوسيه من شأنها أن تجعل هؤلاء يرتبطون به برابطة التبعية والخضوع. وليست السلطة الرئاسية امتيازا أو حقا مطلقا للرئيس الإداري، وإنما هي اختصاص يمنحه القانون رعاية للمصلحة العامة و حسن سير المرافق العامة.
الأساس القانوني لفكرة السلطة الرئاسية:
عادة ما تعترف القوانين و اللوائح للرؤساء بممارسة اختصاصات على المرؤوسين وأعمالهم أيضا وذلك بغرض ضمان عمل إداري أفضل.
مثال من القانون الجزائري
إنّ قراءة عابرة لنص المادة 17 من الأمر رقم 66/133. المؤرخ في 02 جوان 1966 المتضمن القانون الأساسي للوظيفة العامة الجزائري تجعلنا أمام قناعة أنّ المشرّع الجزائري رسّخ فكرة السلطة الرئاسية على المستوى الوظيفي فجاء في المادة المذكورة ” إن كل تقصير في الواجبات المهنية وكل مس بالطاعة عن قصد وكل خطأ يرتكبه الموظف في ممارسة مهامه أو أثناءها يعرضه إلى عقوبة تأديبية دون الإخلال عند اللزوم بتطبيق قانون العقوبات”. وتمّ ترسيخ فكرة السلطة الرئاسية أيضا في المادة 19 من نفس القانون التي جاء فيها: ” كل موظف مهما تكن مرتبته في التسلسل الإداري مسؤول عن تنفيذ المهام التي تناط به “. وفي المادة 20: ” يجب على الموظف أن يحترم سلطة الدولة”.
وذات الروح تمّ تأكيدها في القانون الأساسي العام للعامل 1978 حيث جاء في المادة 27: ” ينبغي على العامل مهما كانت رتبته في التنظيم السلمي أن يقوم بجميع المهام المرتبطة بمنصبه بوعي و فعالية مع مراعاة القانون و الأحكام التنظيمية و الانضباط و التعليمات السلمية”.
وتكرس المبدأ في المادة 36 من القانون أعلاه ” ينفذ العامل بكل ما لديه من إمكانية مهنية جميع التعليمات المتعلّقة بالعمل الذي يتسلمه من الأشخاص المؤهلين سلميا “. وتكرر في (المادة 29، 31، 33..). ولم تحد أحكام المرسوم 85- 59 المؤرخ في 23 مارس 1985 المتضمن القانون الأساسي النموذجي لعمال المؤسسات و الإدارات العامة عن فكرة السلطة الرئاسية بل تضمنتها مواد عديدة (26، 28، 54، 112، 122).
ولمثل هذا التوجه ذهب المرسوم التنفيذي رقم 89 -224 المؤرخ في 5 ديسمبر المتضمّن القانون الأساسي الخاص المطبق على العمال المنتمين إلى الأسلاك المشتركة للمؤسسات و الإدارات العمومية المعدل و المتمّم. فأقرت المادة 16 منه بوضع المتصرف الإداري (كموظف إطار) تحت السلطة السلمية. وذهبت المادة 32 من نفس المرسوم بوضع المساعد الإداري تحت السلطة السلمية.
و تكرس ذات المبدأ (مبدأ السلطة الرئاسية) في مواد كثيرة من نفس المرسوم كالمادة 39 التي حددت مهام كتاب المديرية، و المادة 46 التي حددت مهام المعاونين الإداريين. و المادة 49 التي حددت مهام الأعوان الإداريين. والمادة 66 التي حددت مهام المترجمين، و المادة 76 التي حددت مهام المحاسبين، و المادة 96 التي حددت مهام المهندسين التطبيقيين. و المادة 109 التي بينت مهام التقنيين في الإحصاء و التقنين السامين.و المادة 116 التي وضحت مهام سلك المعاونين التقنيين. والمادة 119 التي ضبطت مهام سلك الأعوان التقنين والمادة 127 التي حددت مهام محللي الاقتصاد. و المادة 133 التي بينت مهام المهندسين في الإعلام الآلي و غيرها من النصوص كثير.
وأخيرا صدر الأمر رقم 06 – 03 المؤرخ 15 جويلية 2006 المتضمن القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية المنشور في الجريدة الرسمية رقم 46 بتاريخ 16 جويلية 2006 ليكرس مبدأ السلطة السلمية كآلية من آليات التنظيم الإداري. وهو ما يتجلى بوضوح في المادة 24 و المادة 40 و المادة 44 و47 و 48 ومواد أخرى كثيرة.
ومما لاشك أن القوانين الأساسية لقطاعات النشاط المختلفة التابعة للوظيفة العمومية و التي يجري حاليا التحضير لها لإعداد النصوص الخاصة بكل قطاع سوف لن تحيد عن إقرار مبدأ السلطة السلمية لربط الموظف تنظيما ورئاسيا بالجهاز الإداري التابع له.
ومن جميع هذه النصوص و غيرها نستنتج أنّه لا يمكن للإدارة العامة أن تمارس مهامها كتلة واحدة، بل في شكل تسلسل وظيفي يحتوي على رئيس ومرؤوس تتولى القوانين و التنظيمات تنظيم العلاقة بينهما. وذلك بالاعتراف للرئيس الإداري بممارسة صلاحيات معينة في مجال التعيين و التثبيت و الترقية والإحالة على الاستيداع و الانتداب و التأديب. وصلاحيات أخرى تخص الأعمال التي يقوم بها المرؤوس. ومنها يتضح أن لفكرة السلطة الرئاسية أساس قانوني إلى جانب أنّ لها أساسها فني و علمي و سياسي.
ملاحظة يمكن الاستشهاد بمواد أخرى من قوانين عربية مختلفة لكن في نفس الموضوع
مظاهر السلطة الرئاسية:
من التعريف السابق نستنتج أن السلطة الرئاسية تخول الرئيس جملة من الاختصاصات على أشخاص مرؤوسيه و البعض الآخر على أعمالهم.
– سلطة الرئيس على شخص المرؤوس: و تتجلى في سلطة الرئيس في تعيين المرؤوس و ترقيته و نقله و تأديبه، ولما كانت هذه السلطة ليست امتيازا للرئيس وإنما هي نوع من الاختصاص يمارسه في حدود القانون، فإنه من حق المرؤوس أن يتظلم إداريا من قرارات الرئيس الإداري وأن يطعن فيها قضائيا متى أصيبت بعيب إساءة استعمال السلطة.
– سلطات الرئيس على أعمال مرؤوسيه: إلى جانب ما يتمتع به الرئيس الإداري من سلطة على شخص المرؤوس يملك سلطة أخرى تتعلق بأعماله. وتأخذ هذه الاختصاصات مظهرين. فالبعض منها يمكن رده إلى سلطة الرئيس في توجيه مرؤوسيه، والبعض الآخر يعود إلى حقه في ممارسة الرقابة على هذه الأعمال.
أولا: سلطة التوجيه.
ويقصد بها ملاحظة جهود العاملين بغية توجيهها الوجهة السليمة عن طريق الأوامر و التعليمات و الإرشادات الشفهية و الكتابية. أو كما عرفها الدكتور عمار عوابدي ” عملية إدارية تتحقق عن طريق التدخل الدائم و المطرد لمراقبة وملاحظة أعمال العاملين العامين المرؤوسين من قبل رؤسائهم الإداريين وتوجيه جهودهم، ودفعهم نحو التزام الأساليب الصحيحة”.
ولا شك أنّ عملية التوجيه تلعب دورا بارزا في تقوية العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين، كما تمكن الطائفة الأولى من التحكم في القدرات البشرية للإدارة العامة، و السيطرة على جميع الجهود التي تتوافر عليها المنظمة الإدارية.
و الحديث عن سلطة التوجيه التي يتمتع بها الرؤساء الإداريين تسوقنا إلى ذكر واجب الطاعة ورسم حدوده القانونية.
– واجب الطاعة: سبق القول أنّ الرئيس الإداري يملك سلطة إصدار الأوامر والتوجيهات لمرؤوسيه، ولا يملك هؤلاء إلا تنفيذها. وتنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات يطرح إشكالا قانونيا في غاية من العمق يتمثل: هل يلزم المرؤوس وفي جميع الحالات بتقديم واجب الطاعة و تنفيذ أوامر الرئيس حتى ولو كانت في متنها وموضوعها مخالفة للقانون أو يلزم باحترام تنفيذ الأوامر القانونية دون غيرها؟
إن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي التمييز بين الأوامر المشروعة و الأوامر الغير مشروعة.
أ- أوامر الرئيس المشروعة: إذا كان الأمر صادر من الرئيس الإداري يتماشى في موضوعه مع مقتضيات القانون فلا شك أن طاعة المرؤوس له واجبة. غير أنّ ذلك لا يمنع المرؤوس من أن يناقش رئيسه الإداري و يراجعه بشأن مسألة معيّنة في حدود أخلاقيات الوظيفة، وهذا أمر أكده القضاء الإداري المصري. ففي حكم صادر عن مجلس الدولة المصري جاء فيه: ” لا تثريب على الموظف إن كان معتدا بنفسه واثقا من سلامة نظرة شجاعا في إبداء رأيه صريحا في ذلك أمام رئيسه لا يداور و لا يرائي مادام لم يجانب ما تقتضيه وظيفة من تحفظ ووقار وما تستوجبه علاقته برئيسه من التزام الأدب و اللياقة و حسن السلوك…”. ولقد رأى الفقهاء أنّ أفضل مرحلة لإبداء الرأي تكون من جانب المرؤوس قبل إصدار القرار أي مرحلة التمهيد أمّا إذا صدر القرار فإنّ تنفيذه واجب من جانب المرؤوس و ليس أن يعرقله وأن يقف ضد تنفيذه.
ب- أوامر الرئيس المخالفة للقانون: إذا كانت الفرضية الأولى (الأوامر المشروعة) لم تحدث إشكالا قانونيا كبيرا في الفقه، فإنه خلاف ذلك أثارت الأوامر الغير مشروعة جدلا على مستوى الفقهي نوجز هذا الخلاف فيما يلي:
الرأي الأول: الأوامر الغير مشروعة ليست ملزمة للمرؤوس. إذا بادر الرئيس الإداري إلى اتخاذ أوامر منافية في مضمونها للقانون فلا يلزم المرؤوس بتنفيذها لأنه إذا خالف الأول أي الرئيس القانون فليس للثاني أي المرؤوس أن يتبعه. وقد تبنى هذا الرأي الفقيه DUGUITواستثنى فقط طائفة الجنود فرأى أنّ من واجبهم تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من جانب رؤسائهم دون أن يكون لهم الحق في مناقشتها لأنّ الجندي هو آلة للإكراه محرومة من التفكير كما يقول ديجي.
ولقد تأثّر القضاء المصري بهذا الرأي بالنسبة لموظفي الجيش و الشرطة إذ ذهبت محكمة القضاء الإداري في حكم لها صدر في 10 جانفي 1955 أنّه ليس من الجائز في النظم العسكرية الامتناع من تنفيذ الأوامر متى كانت صادرة ممن يملكها، وإنما يتظلم منها بالطريق الذي رسمه القانون. إذ لو أبيح لكل من يصدر إليه أمر أن يناقش مشروعيته و سببه وأن يمتنع عن تنفيذه متى تراءى له ذلك لأختل النظام وشاعت الفوضى…
ولا خلاف أن العمل بهذا الرأي ينجم عنه المحافظة عن مبدأ المشروعية و السعي إلى إعدام وإبطال مفعول الأوامر التي تجانب القانون. غير أنّه يعاب عنه أن تجسيده في أرض الواقع يؤدي إلى تعطيل الجهاز الإداري و عرقلة سيره و تخويل المرؤوس سلطة فحص و تقدير أوامر الرئيس الإداري و الامتناع عن تنفيذها إذا ما اقتنع بعدم مشروعيتها. وهو ما يزعزع مبدأ السلطة الرئاسية و يخل بالتنظيم الإداري.
الرأي الثاني: الأوامر الغير مشروعة ملزمة للمرؤوس.
وذهب مناصروه إلى القول أنّ المرؤوس ملزم بتنفيذ الأوامر الصادرة عن رئيسه الإداري ولو كانت غير مشروعة فليس له أمر فحصها وتقديرها أو محاولة عرقلة تنفيذها. وقد تبنى هذا الرأي الفقيه موريس هوريو الّذي أعطى أولوية لعنصر الطاعة على مبدأ المشروعية. ووجه هذا الفقيه انتقادا كبيرا للرأي الأول و قال إنّ تطبيقه في الواقع العملي ينجز عنه انتشار ظاهرة الفوضى في المرافق والمؤسسات العامة. كما أنه يجعل المرؤوس بمثابة قاض للمشروعية يخول صلاحية فحص أوامر رئيسه.
الرأي الثالث: الأوامر الغير مشروعة ملزمة في حدود معينة.
ذهب اتجاه وسط تصدره القضاء الفرنسي و تبناه الفقه الألماني إلى محاولة التوفيق بين الرأي الأول و الثاني. فوضع مبدأ عاما يقضي بتنفيذ أوامر الرئيس متى كانت مكتوبة واضحة دقيقة محدّدة عندها يلزم بتنفيذها. على أن يتأكد من أن الأمر صادر عن سلطة مختصة وأن تنفيذه يدخل في نطاق اختصاصه. وتبعا لهذا الرأي فإن الأضرار التي تنجم عن تطبيق هذا الأمر يتحملها المرفق لا الموظف.
– موقف المشرّع الجزائري من الآراء الفقهية السابقة:
جاء في المادة 129 من القانون المدني (الأمر 75-58): ” لا يكون الموظفون و العمال العاملون مسئولين شخصيا عن أعمالهم التي أضرت بالغير إذا قاموا بها تنفيذا لأوامر صدرت إليهم من رئيس متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم “.
وجاء المادة ذاتها بعد التعديل المقرر بموجب القانون 10.05 المؤرخ في 20 جوان 2005: ” لا يكون الموظفون و الأعوان العموميون مسئولين شخصيا عن أفعالهم التي أضرت بالغير إذا قاموا بها تنفيذ لأوامر صدرت إليهم من رئيس متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم “. و عند المقابلة بين المادة القديمة و الجديدة يتبين لنا أن المشرّع في النص الجديد حذف مصطلح عامل لكونه مصطلحا مستعملا في نطاق قانون العمل مقتصرا في التعديل على مصطلح الموظف و العون العمومي لأن الأمر يتعلق بمسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها. بينما تخضع المسؤولية في القانون الخاص (مجال تطبيق قانون العمل) لأطر مخالفة تماما عن الأولى (مسؤولية المتبوع من عمل التابع).
ولقد سجل الدكتور عمار عوابدي على هذه المادة الاقتضاب الشديد الشيء الذي يصعب معه تحديد موقف المشرّع، ورغم ذلك ذهب القول: ” إن المشرّع يميل إلى ترجيح الخضوع و الطاعة لأوامر و تعلميات الرؤساء الإداريين و التقيّد بها وتنفيذها و تغليبها على واجب طاعة القانون و حماية شرعية العمل الإداري. أي أنه يعتنق مبدأ أولوية حب طاعة أوامر السلطة الرئاسية على واجب احترام القانون “.
واستدل الدكتور عوابدي بنص المادة 19 من القانون الأساسي للوظيفة العامة في صياغتها القديمة لسنة 1966.
وإن كنّا نؤيّد الدكتور عمار عوابدي و نسجل ما سجله على المادة 129 من غموض كبير و عدم وضوح، إلا أننا لا نؤيده في تحليلها خاصة وان عبارة “متى كانت إطاعة هذه الأوامر واجبة عليهم ” الواردة في النص، وكأنّ المشرّع وضعها لنستدل منها أنّ الموظف فقط يلزم بإطاعة الأوامر المشروعة لأن الأوامر غير المشروعة ليست ملزمة له، وليس من واجبه تنفيذها.
ومن ثمّ نصل إلى نتيجة مخالفة للّتي وصل إليها الدكتور عوابدي و هي أولوية تطبيق القانون على الأوامر الغير مشروعة.
ملاحظة يمكن الاستشهاد بمواد أخرى من قوانين عربية.
ثانيا: سلطة الرقابة و التعقيب.
وتتيح هذه السلطة للرئيس الإداري القيام بمجموعة صلاحيات فهو من يتولى إجازة عمل المرؤوس ويملك سلطة تعديله و إلغائه و سحبه. كما يملك سلطة في الحلول محله للقيام بأعمال معينة نفصل ذلك كله.
أ- سلطة الإجازة أو المصادقة:
وتتمثل في حق الرئيس الإداري في إجازة و إقرار أعمال مرؤوسه. وقد يكون الإقرار ضمنيا يستدل من خلال سكوت الرئيس بالتعبير عن إرادته صراحة خلال مدة زمنية معينة مما يدل على إقراره وإجازته للعمل بصفة ضمنية. كما قد يكون صريحا بصدور قرار أو مقرر من الرئيس يجيز فيه ويصادق على عمل المرؤوس.
ب- سلطة التعديل:
يملك الرئيس الإداري حق تعديل تصرفات وأعمال مرؤوسيه بهدف جعلها أكثر مسايرة للقانون، وحسب ما تستوجبه ظروف و طبيعة العمل الإداري. فيجوز للرئيس الإداري تغيير ما يراه مناسبا. وسلطة التعديل تنصرف لتمس الأعمال غير مشروعة و الأعمال المشروعة أيضا. وفي هذا النوع الثاني من الأعمال يفترض أن تبادر السلطة المركزية أولا إلى إلغاء الأعمال المشوبة بعيب في المشروعية.
ج- سلطة الإلغاء:
ويقصد بها قيام السلطة الإدارية المختصة بالقضاء على أثار القرارات الإدارية وإعدامها بأثر فوري بالنسبة للمستقبل فقط مع ترك أثارها الماضية قائمة. فالمركز السامي للسلطة الإدارية يفرض عليها أن تسارع إلى إعدام القرار الإداري إذا قدرت عدم مشروعيته و مخالفته للقوانين و الأنظمة، كما يجوز لها إلغاء الأعمال المشروعة أيضا لاعتبارات تمس جانب الملائمة و ظروف و معطيات العمل الإداري. لذلك ميز الفقه بين الإلغاء الإداري للقرارات الإدارية و الإلغاء القضائي، فالنوع الأول يشمل القرارات الغير مشروعة و القرارات المشروعة، بينما الإلغاء القضائي يقتصر على الأعمال و القرارات الغير مشروعة.
د- سلطة السحب: ويقصد بها إزالة وإنهاء الآثار القانونية للمقررات والتصرفات الإدارية و إعدامها بأثر رجعي بالقضاء على آثارها في الماضي والمستقبل. و نظرا لما للسلطة السحب من آثار بالغة الخطورة فقد قيدت ممارستها بتوافر شرطين:
1- من حيث الموضوع: يجب أن يشمل السحب فقط القرارات و الأعمال غير المشروعة لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تولد حقا وأن تنشئ مركزا قانونيا مكتسبا. و مثل ذلك أن يصدر القرار عن غير ذي مختص أو أن يحتوي على مخالفة صريحة للقانون أو التنظيم.
2- من حيث المدة: يجب أن تمارس سلطة السحب خلال مدة زمنية معينة، فإن تجاوزها اكتسب حصانة ضد السحب و المدة المقررة تختلف من تشريع لآخر.
هـ- سلطة الحلول: الأصل العام و طبقا لمبدأ توزيع الاختصاص يتولّى كل شخص إداري القيام بالمهام المنوطة به، غير أنه في مواضع وحالات معينة يملك الرؤساء الإداريين سلطة الحلول محل مرؤوسيهم بحكم مالهم من هيمنة على هؤلاء و أعمالهم كما بينا.
– صور المركزية الإدارية:
إنّ المركزية الإدارية تختلف صورتها أحيانا بين الحصر للسلطات بشكل مطلق وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالتركيز الإداري و بين تخويل بعض السلطات للممثلين على مستوى أجزاء الإقليم وهو ما يعبر عنه بعدم التركيز الإداري.
1- التركيز الإداري: و يسميه البعض بالتركيز المطلق أو المركزية الوحشية. ويقصد به أن تتركز السلطة الإدارية في جزئياتها و عمومياتها في يد الوزراء في العاصمة حيث يجرد كل ممثلي الأقاليم و الهيئات من سلطة القرار و يتحتم عليهم الرجوع للوزير المختص في كل شأن من شؤون الإقليم أو المرافق. ولاشك أنّ الأخذ بهذا النمط من التنظيم و الأسلوب الإداري من شأنه أن يحدث حالة من الاختناق نتيجة تراكم الملفات و انتظار الحسم فيها من قبل الوزير المعني، وما ستأخذه هذه العمليات من وقت طويل مما ينعكس سلبا على الجمهور المعني بالخدمة.
2- عدم التركيز الإداري: و يسميه البعض بالمركزية النسبية وقد ظهر هذا الأسلوب نتيجة مساوئ الصورة الأولى (المركزية المطلقة). وعدم تمكن الوزير على أرض الواقع من التحكم في كل صغيرة وكبيرة تحدث في كل جزء من إقليم الدولة. ومما زاد في حدة هذه المشكلة هو تطور الحياة و تعقدها و كثرة اتصال الجمهور بالإدارة لقضاء مصالحهم، مما استحال معه عرض كل الطلبات على الوزراء المعنيين نظرا لعدم تمتع ممثلي الأقاليم بسلطة القرار. لذا كان من اللازم أن يخول بعض الموظفين سواء في الوزارة نفسها أو داخل الإقليم صلاحية اتخاذ القرار دون حاجة للرجوع للوزير المختص. كما أنه قد تعهد الصلاحية نفسها للجنة يتم إحداثها لهذا الغرض.
غير أنّه لا ينبغي أن يفهم بأن تمتع ممثلي الأقاليم أو اللجنة الخاصة بسلطة القرار تعني الاستقلال و الانفصال التام عن السلطة المركزية، بل إنّ سائر ما يقوم به ممثل الحكومة على مستوى الإقليم أو ما تقوم به اللجنة يتم تحت إشراف الوزير المختص. لذا فإنّ هذا الأسلوب من التنظيم الإداري لا يخرج عن كونة تفويض اختصاص أي أن الوزير فوض أحد مرؤوسيه للقيام ببعض الصلاحيات المنوطة به تخفيفا من أعباء السلطة المركزية ومنعا لاختناق العمل الإداري.
فعدم التركيز الإداري كما يقول (charles Brun) قضية بين الدولة وعمالها أو موظفيها و هو يؤدي إلى اقتصاد في النفقات وإلى وضوح في العمل وتوحيد لنمطه و لا يترتب عليه أبدا الاعتراف باستقلال الوحدات الإدارية ولكن فقط ينقل موقع سلطة القرار. لذلك قال (Odillon Barrot)إننا دائما أمام نفس المطرقة التي تضرب و لكن مع تقصير في اليد الضاربة.
ولا جدال أن نظام عدم التركيز الإداري وإن بات يشكل ضرورة لازمة لتنظيم الدولة نظرا لما يترتب عنه من تخفيف لكثير من التعقيدات، وبما يحققه من تخفيف العبء على الوزراء في قيامهم بمهامهم، إلا أنه اتضح بعد طول تجربة أنه لم يحقق على المستوى العملي ديمقراطية الإدارة بصورة جيدة.
* تقدير المركزية الإدارية:
– مزايا النظام المركزي: للمركزية الإدارية جملة من المزايا يمكن حصرها فيما يلي:
أ- من الناحية السياسية: إن النظام المركزي يبعث على تقوية نفوذ السلطة المركزية و فرض هيمنتها على مختلف أجزاء الإقليم و المصالح و تحكمها في زمام الأمور.
ب- من الناحية الإدارية: يؤدي النظام المركزي إلى تحقيق المساواة بين الأفراد المتعاملين مع الإدارة على اختلاف مناطقهم، فالتحيّز لا يتصور أن يسود إذا ما طبق هذا النظام. لأن سلطة القرار تم تركيزها ومن ثمّ فلا مجال للتمييز من حيث الأصل بين المقيمين في العاصمة مثلا و غيرها من المناطق.
إنّ النظام المركزي هو أقرب إلى تحقيق العدالة من الزاوية الإدارية لأنه يضمن تجانسا في العمل بحكم تركيز السلطة، فشروط الانتفاع بخدمة ما وإجراءاتها تظل واحدة بالنسبة لجميع المتعاملين مع الإدارة، لذلك أشار Charles Brun أنّ عدم التركيز كصورة من صور المركزية يؤدي إلى وضوح في العمل و توحيد لنمطه…
ج- من الناحية المالية: إذا نظرنا للنظام المركزي من الناحية المالية نراه أفضل الأنظمة في مجال اقتصاد المال لأنّه يقلل إلى أبعد الحدود من ظاهرة تبديد النفقات العامة، خاصة وأنّه ثبت بالدليل القاطع أنّ الاستقلال المالي قد ينجم عنه ظاهرة الإفراط أو المبالغة في الصرف مما يؤثر سلبا على الوعاء المالي للدولة.
– عيوب النظام المركزي:
رغم ما يتمتّع به النظام المركزي من مزايا سبق ذكرها، إلا أنّه يعاب عليه خاصة:
أ- من الناحية السياسية: إنّ تفرد الوزراء بسلطة اتخاذ القرار، وإن كان يؤدي كما رأينا إلى تقوية نفوذ السلطة المركزية، وبسط هيمنتها على مختلف أجزاء الإقليم و بشأن كل صغيرة و كبيرة، إلا أن ذلك سيتبعه دون شك حرمان السلطة الشعبية أو المنتخبة من المشاركة في صنع القرار و تسيير الشؤون المحلية.
ب- من الناحية الإدارية: إن تطبيق النظام المركزي في الواقع العملي ينجز عنه حالة من الاختناق في الوسط الإداري بسبب الإجراءات و كثرة الملفات و تركيز السلطة بيد شخص واحد أو مجموعة أشخاص، الأمر الذي ينتج عنه انتشار ظاهرة البيروقراطية بالمفهوم السلبي. وفضلا عن ذلك فإن النظام المركزي يخلف حالة من التجاهل التام للحقائق و المعطيات المحلية، فالوزير حين يصدر قرار يخص منطقة معينة قد لا يكون عالما بكل شؤون هذه المنطقة المعنية بالقرار
المبحث الثاني: اللامركزية الإدارية.
– مفهومها:
بقصد باللامركزية الإدارية توزيع الوظائف الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة و بين هيئات محلية أو مصلحية مستقلة. ومن هنا يتبين لنا أن النظام المركزي يقابله تماما النظام اللامركزي، إذ الأول يعتمد على ظاهرة تركيز الوظيفة الإدارية و الثاني يقوم على توزيعها.
و للامركزية الإدارية جانبين: جانب سياسي يتمثل في تمكين الأجهزة المحلية المنتخبة من قبل الشعب و تسيير شؤونها بيدها مما يحقق مبدأ الديمقراطية الإدارية. أما الجانب القانوني فيتجسد في توزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين الأجهزة المركزية و الهيئات المستقلة ذات الطابع المرفقي أو المصلحي من جهة ثانية، وهو ما من شأنه أن يقرب الإدارة أكثر من الجمهور. وحتى يتسنى لنا تقريب مفهوم اللامركزية الإدارية بشكل جيد يقتضي الأمر منا تمييزها عن النظم المشابهة لها خاصة نظام عدم التركيز الإداري و النظام الفدرالي وهو ما سنوضحه فيما يأتي:
– اللامركزية الإدارية و عدم التركيز الإداري:
لعل اللبس قد يثور بين اللامركزية و عدم التركيز الإداري خاصة وأن كلاهما يعد أسلوبا من أساليب الوظيفة الإدارية. لذلك تعين علينا إبراز نقاط الاختلاف بين النظامين لتتضح بشكل أكثر وبصورة أعمق فكرة اللامركزية.
إن عدم التركيز الإداري يشكل صورة من صور النظام المركزي كما رأينا يخول بمقتضاه ممثل السلطة المركزية صلاحية القيام ببعض الأعمال وإصدار القرارات بتفويض منها.
وهذا الأسلوب المتطور و المرن لفكرة المركزية تم اعتماده عندما ثبت أنّه من المتعذر عمليا تطبيق النظام المركزي بالصورة المطلقة التي رأيناها (المركزية المتوحشة كما أطلق عليها)، لذا تعين على الإدارة المركزية تفويض و نقل جزء من صلاحيتها إلى ممثليها المنتشرين في كل الأقاليم.
وإذا كان ممثلو السلطة المركزية يتمتعون بشيء من الاستقلالية، إنما هو استقلال عارض فرضته عوامل فنية ومنطقية يمكن حصرها في صعوبة تحكم السلطة المركزية في كل صغيرة و كبيرة تحدث في كل جزء أجزاء الإقليم. كما أن ممثل السلطة المركزية يمارس مهامه تحت إشراف ورقابة الوزير بحكم السلطة الرئاسية التي تخوله ممارسة صلاحيات على أشخاص الموظفين وأعمالهم. وهذا خلافا لاستقلال الوحدات الإدارية و المحلية فهو استقلال أصيل لا تستطيع السلطة المركزية أن تنقص منه أو أن تفرض تبعية الهيئة المحلية لها بحكم تمتع هذه الأخيرة بالشخصية المعنوية.
وتبعا لذلك فإن لا تربط بين مسيري الأجهزة المحلية و السلطة المركزية رابطة التبعية أو السلطة الرئاسية، مثلما هو الشأن عند تطبيق نظام عدم التركيز الإداري، وإنما تربطهم بها فكرة الرقابة الوصائية كما بينا ذلك سابقا. غير أن التركيز الإداري كما يرى البعض قد يكون خطوة في سبيل اللامركزية الإدارية. وربما تحدث الدولة هيئات عدم التركيز لتكون بمثابة همزة وصل بين الهيئة المستقلة ذات الطابع المحلي وجهة وصائية مثلما هو الأمر عندنا في نظام الدائرة.
– اللامركزية و الفدرالية:
يمكن التمييز بين النظام اللامركزي و النظام الفدرالي بالنظر لما يلي:
1- من حيث مجال الدراسة: إن النظام اللامركزية يشكل صورة من صور التنظيم الإداري. وهو مجال يهتم به فقهاء القانون الإداري. بينما النظام الفدرالي نظام يتعلق بشكل الدولة و يهتم به فقهاء القانون الدستوري و المهتمين بالعلوم السياسية.
2- من حيث نطاق المشاركة: إن النظام الفدرالي كشكل من أشكال الحكم يضبطه مبدأ عام هو ” قانون المشاركة” و يعني اشتراك كل دولة عضو في الدولة الاتحادية بتكوين الإرادة العامة، وذلك بتمكينها من المشاركة في الهيئة التشريعية بحسب ما هو مطبق مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية (مجلس الشيوخ). بينما الهيئات المحلية كصور من النظام اللامركزي لا تشارك في تكوين إرادة الدولة بذات الوصف الأول.
3- من حيث المنظومة القانونية: إنّ من آثار النظام الفدرالي أن يكون لكل دولة دستورها الخاص و تشريعاتها الخاصة و هيئاتها المستقلة و نظامها القانوني المتميز. بينما تخضع المجموعات المحلية لذات النظام القانوني وان تعددت، تشرف على سنه هيئة تشريعية واحدة.
4- من حيث الصلاحيات وأداة توزيعها: إن توزيع الصلاحيات بين الدولة المركزية و الدول الأعضاء، أي تحديد ما يعد من الشؤون الوطنية الاتحادية، وما يعد من شؤون الدولة المتحدة، يتم عن طريق الدستور الاتحادي، بينما توزيع الصلاحيات في النظام اللامركزي يتم بموجب قانون الإدارة المحلية أو الهيئات المستقلة و خاضع لمشيئة وإرادة الدولة.
* الاعتبارات الواجب مراعاتها لتجسيد اللامركزية:
إنّ تجسيد اللامركزية يفرض على الدولة مراعاة العديد من الاعتبارات يأتي على رأسها ما يلي:
1- نوع الوظائف و المهام:
لا تخول استقلالية المجموعات المحلية الاعتراف لها بممارسة جميع الوظائف والمهام، بل هناك وظائف نظرا لطابعها لا تحتاج إلى تفويض كالدفاع و الأمن والقضاء و المالية، أما وظائف أخرى كالتجهيز و الفلاحة و النقل و التجارة وغيرها يمكن نقلها على مستوى الإقليم.
2- درجة النمو و الوعي الاجتماعي: إن اللامركزية في صورتها الإقليمية تعني أنّ تعهّد شؤون الإقليم للإدارة المحلية. وهذا يفرض كفاءة ودرجة من الوعي الاجتماعي حتى نضمن نجاحا أكبر.
3- مدى توفر الخبراء الإداريين: إن عدم توفر الأعداد و النوعيات الكافية من الخبراء يجعل من الصعب اتخاذ قرار ما. وهو ما سينعكس سلبا على شؤون الإقليم.
* أركان اللامركزية الإدارية:
يقوم النظام اللامركزي على ثلاثة أركان فهو يعترف بوجود مصالح محلية متميزة و يعترف أيضا بوجود هيئات محلية أو مرفقة مستقلة.و يربط هذه الأجهزة المستقلة بالسلطة المركزية بموجب فكرة الوصاية نحلل بشيء من الإيجاز كل ركن لوحده.
أولا: الاعتراف بوجود مصالح محلية متميزة.
إذا كان يجب أن تشرف الدولة ممثلة في جهازها المركزي على تسيير شؤون الدفاع و القضاء و المرافق الإستراتيجية ذات الطابع الوطني، فإنه من الأفضل والأنسب أن تترك بعض الأعمال كالنقل و توزيع المياه و نظافة المدينة و الصحة و التعليم لتسير محليا وذلك انطلاقا من فكرة أن أبناء المنطقة هم أعلم بشؤونهم أو بشؤون إقليمهم.
وتطبيقا لفكرة توزيع الاختصاص هذه تتولى الأجهزة المركزية القيام بمهام معينة أصطلح على تسميتها بالمهام الوطنية كشؤون الدفاع و الأمن و الخارجية ورسم السياسة العامة في المجال التربوي و الاقتصادي و التعليم العالي و غيرها، تاركة بقية المهام لتسير و ترسم و تدار من قبل الأجهزة المحلية.
ولقد وجد الفقه صعوبة كبيرة في ترشيح معيار فاصل بين المهام الوطنية والمهام المحلية. فقيل أنّه متى اتصلت المهام بإقليم واحد كنا أمام شؤون محلية كشؤون المواصلات و السكن و غيرها.و متى كانت تخص مجموع المواطنين وكل المناطق فهي شأن من شئون السلطة المركزية. ونتيجة لهذا التنوع برز على المستوى الفقهي مصطلح الشئون البلدية والشئون الإقليمية والشئون الوطنية.
ولقد احترم النقاش في الفقه بشأن مفهوم الاستقلال وأدواته القانونية. فرأى البعض أن استقلال الهيئات المحلية لا يستوجب بالضرورة اختيار العنصر المسيّر عن طريق الانتخاب، بدليل أن المؤسسات العامة تتمتع باستقلاليتها عن الأجهزة المركزية، رغم أن مسيروها معينون. بل الاستقلالية الحقيقية تكمن في الناحية الوظيفية أو الفعلية، أي هل من الناحية العملية نلاحظ فعلا استقلالا للهيئة المحلية عن السلطة المركزية. فإذا ما تأكد ذلك كنا أمام فصل بين هيئتين فصلا قانونيا ولا عبرة بشكل الهيئة المسيرة على المستوى المحلي عما إذا كانت تتكون من منتخبين فقط أو معينين و منتخبين، بل العبرة في ممارسة المهام.
وساق أصحاب هذا المذهب للتدليل على وجهة نظرهم المثال من استقلال القضاء هذا الاستقلال الذي لا ينفيه كون القضاة يعينون بواسطة السلطة التنفيذية مادام قد أحيطوا بضمانات أبرزها عدم قابليتهم للعزل.
وتبعا لهذا الرأي فإنّ المؤسسات العامة التي عين مسيروها تمثل صورة من صور عدم التركيز الإداري. وذهب أصحاب هذا الرأي أبعد من ذلك إلى القول أن الانتخاب قد يكون ضارا إذا كان سكان الإقليم لم يبلغوا درجة من الوعي السياسي و التأهيل المطلوب لتسيير شؤون الإدارة المحلية.
وخلافا للرأي الأول ذهب اتجاه آخر في الفقه إلى القول أن استقلال الأجهزة المحلية عن السلطة المركزية يقتضي تطبيق نظام الانتخاب فهو الضمانة الحقيقية والوحيدة لتجسيد فكرة الاستقلالية.
فالعبرة لضمان الاستقلال لا تكمن في الفصل الوظيفي و توزيع الاختصاص بين الأجهزة المركزية و الأجهزة المحلية، وإنما العبرة أساسا تكون في شكل الهيئة المديرة على المستوى المحلي، هذه الأخيرة التي ينبغي أن تتكون من منتخبين حتى نضمن عدم تبعيتهم للسلطة المركزية. لذلك قال موريس هوريو ” إنّ اللامركزية تميل إلى إحداث مراكز إدارية عامة مستقلة يعين أشخاصها بطريق الانتخاب ليس بهدف اختيار أفضل السبل لإدارة الوحدات المحلية، وإنما من أجل مشاركة أكثر ديمقراطية للمواطنين.”
فالمركزية قد توفر لنا على الصعيد الإداري إدارة حسنة. ولكن الوطن بحاجة أيضا إلى حريات سياسية تفرض مشاركة واسعة من الشعب في الحكم بواسطة السياسية و الناخبون لا تكتمل ثقافتهم إلا عن طريق الانتخابات المحلية. وكأنّ بهذا الفقيه يريد القول أنه أيا كانت مزايا النظام المركزي، سواء في المحافظة على الأموال العامة و صيانتها، أو تحقيق العدالة بين الجمهور، أو تجسيد العمل الإداري بكيفية و نمط واحد، إلا أن النظام اللامركزي يكفه شرفا وفخرا أنه يجسد فكرة الديمقراطية بإشراك الشعب في تكوين المجالس المنتخبة. حتى أنّ البعض قال أنّه في البلدية تكمن قوة الشعب الحر.
ومما لاشك فيه أنّ الانتخاب هو الضمانة الأساسية و الوسيلة المثلى لتحقيق الديمقراطية. هذه الأخيرة التي تفرض أن يشارك الشعب في تسيير الشؤون المحلية عبر مجلس منتخب لأن القول بخلاف ذلك مدعاة لتدخل السلطة المركزية في شؤون الإقليم، وهو ما يفقد في النهاية الغاية من وجود هيئات محلية مستقلة.
ثالثا: خضوع الأجهزة المستقلة لوصاية السلطة المركزية.
سبق القول أن اللامركزية الإدارية تمثل صورة من صور الإدارة الذاتية إذ أنها تمكن الإدارة المحلية أو المرفق من تسيير شؤونه بنفسه دون حاجة للرجوع للسلطة المركزية. وإذا كان الشخص المعنوي اللامركزي يتمتع بصلاحيات أصيلة يمارسها بعيدا عن السلطة المركزية بحيث تتوزع الوظيفة الإدارية بين الشخص المعنوي العام الأساسي أي الدولة و الأشخاص العامة القانونية الأخرى كالمجموعات المحلية، فإنّ هذا الاستقلال لا يصل إلى حد الانفصال المطلق و إلى إعدام كل علاقة بين هذه الأشخاص و الدولة، بل تظل العلاقة قائمة بن الهيئة المستقلة والدولة بموجب نظام يعرف (بالوصاية الإدارية).
– المقصود بالوصاية الإدارية: لعلّه اتضح لنا مما تقدم أنّ اللامركزية نظام وسط فلا يترتب عليها الخضوع و التبعية و العلاقة الرئاسية بين الجهاز المركزي والوحدة الإدارية المستقلة لأن السلطة الرئاسية كما رأينا تشكل مظهرا من مظاهر النظام المركزي. ولا يترتب عليها الاستقلال التام و المطلق عن الدولة لأن هذا الأخير يؤدي إلى زعزعة كيان الدولة و يهدد وحدتها الترابية ووجودها، إذن لا مفر من ربط الجهاز المستقل بالجهاز المركزي وأداة الربط هي نظام الوصاية.
ويقصد بها مجموع السلطات التي يقررها القانون لسلطة عليا على أشخاص الهيئات اللامركزية وأعمالهم بقصد حماية المصلحة العامة. ومن هنا فإنّ نظام الوصاية أداة قانونية بموجبها نضمن وحدة الدولة وذلك بإقامة علاقة قانونية دائمة و مستمرة بين الأجهزة المستقلة و السلطة المركزية، كما أن نظام الوصاية يكفل للهيئات المستقلّة حقها في اتخاذ القرار بالكيفية و الحدود التي رسمها القانون.
وحتى يتضح لدينا أكثر مفهوم الوصاية رأينا أنّه من الضرورة تمييزه عن الأنظمة المشابهة له.
التمييز بين الوصاية الإدارية و الوصاية المدنية:
رغم أنّ مصطلح الوصاية من أصل و منشأ مدني، إلا أن له في المجال الإداري مفهوم خاص يختلف اختلافا كبيرا عن مفهومه السائد في القانون الخاص. نوجز أهم نقاط الاختلاف بين النظامين فيما يلي:
1. إنّ الوصاية المدنية تقرر في القانون الخاص لناقصي الأهلية و هم المشمولين بالوصاية. أما الوصاية الإدارية فلا يرجع تقريرها إلى نقص في أهلية الشخص اللامركزي سواء كان في شكل إدارة محلية (ولاية أو بلدية) أو مرفق مستقل، لأن هذه الهيئات جميعا كما رأينا واستنادا للمادة 49 من القانون تتمتع بوجود قانوني مستقل عن الشخص المعنوي الأم و هي الدولة. وهذا الاستقلال يمكنها من صلاحية تسيير شؤونها بيدها دون رجوع للسلطة المركزية. وقررت هذه الوصاية بغرض حماية المصالح العامة و محاولة بعث نسق إداري موحد في العمل الإداري، وهذا المحور يتجلى لنا بوضوح في تعريف الفقه لنظام الوصاية الإدارية.
2. طبقا لمفهوم الوصاية في المجال المدني يتولى الوصي صلاحية مباشرة أي عمل، وينتج آثاره القانونية إذا تم في الحدود التي رسمها القانون. ويسري هذا التصرف كما لو قام به المعني (القاصر) وكان كامل الأهلية، فنحن أمام شخص واحد يملك سلطة التصرف. وإن كنّا من حيث الشكل نلاحظ شخصين قاصر ووصي عليه. بينما في المجال الإداري فنحن أمام شخصين قانونيين مستقلين يملك كل واحد منهما سلطة التصرف باسمه ولحسابه بالكيفيات و في الإطار الذي حدده القانون، فلا يتصرف شخص باسم و لمصلحة شخص آخر.
3. يمارس الوصي في المجال المدني أعماله باسم و لحساب القاصر طالما كان نائبا قانونيا عنه، بينما في الوصاية الإدارية يتولى النائب مباشرة جميع الأعمال باسم الشخص المعنوي المستقل.
4. إنّ الوصاية في المجال المدني تهدف إلى حماية المال الخاص هو مال من كانت أهليته مفقودة، بينما الهدف من الوصاية في النظام الإداري هو حماية المال العام.
التمييز بين الوصاية الإدارية و السلطة الرئاسية:
تختلف الوصاية الإدارية عن السلطة الرئاسية من عدة نواح أبرزها:
1- من حيث أداة ممارسة الرقابة: إنّ رقابة الجهة الوصية (سلطة الوصاية) يجب أن تكون منصوصا عليها قانونيا. أي أن رقابة الإشراف لا تمارس و لا يكون لها وجودا إلا إذا نص عليها القانون الذي يتولى إثبات سلطة الإشراف و يبين عناصرها وأدواتها القانونية ذلك أنه ” لا وصاية دون نص”. وهذا خلافا للرقابة الرئاسية لا تحتاج ممارستها إلى نص فهي تمارس بصفة تلقائية لأنها من موجبات النظام المركزي الذي يقوم على فكرة السلطة الرئاسية كما بينا و يحدث علاقة من التبعية و الخضوع بين الرئيس الإداري و المرؤوس. وهو ما أكدته نصوص الوظيفة العمومية سابق الإشارة إليها.
2-من حيث طبيعة الرقابة: إنّ الرقابة الرئاسية رقابة معقدة تحكمها كثير من الآليات القانونية و هذه الرقابة تجعل الرئيس الإداري في موقع يؤهله من إصدار الأوامر إلى مرؤوسيه سواء كانوا في الوزارة أو غيرها من الوحدات الإدارية وذلك بغرض تنفيذها. كما أنه يراقب هذا التنفيذ.
أما سلطة الوصاية فهي رقابة بسيطة من حيث الإجراءات و الممارسة لأنها من موجبات النظام اللامركزي الذي لا يمكن سلطة الوصاية من حيث الأصل من فرض أوامرها و توجيهاتها بحكم استقلالية الهيئة المحلية أو المرفقية.
3- من حيث الطعن: لا يملك المرؤوس في ظل النظام المركزي أن يطعن في قرار رئيسه الإداري بسبب السلطة الرئاسية و هذا ما أقره القضاء الفرنسي. ولأنّه لا يعقل أن نعترف من جهة للرئيس الإداري بسلطة إصدار الأوامر و التوجيهات للمرؤوسين بغرض تنفيذها ثم نعطي بالمقابل لهؤلاء حق الطعن في هذه الأوامر ومساءلة رؤسائهم أمام السلطة القضائية. وخلاف ذلك يجوز للهيئة المحلية أن تطعن قضائيا في قرار الجهة المركزية.
4- من حيث قواعد المسؤولية: من موجبات السلطة الرئاسية أن يسأل الرئيس عن أعمال المرؤوس لأنه يفترض فيه أنه هو مصدر القرار وأن له حق الرقابة والإشراف و التوجيه. بينما لا تتحمل سلطة الوصاية أيّة مسؤولية بشأن الأعمال الصادرة عن الجهاز المستقل.
مظاهر الرقابة الإدارية التي تمارسها الإدارة المركزية على الإدارة المحلية:
سبق البيان أن اللامركزية لا تعني الاستقلال التام المطلق للهيئة التي تتمتع بالشخصية المعنوية وانفصالها عن السلطة المركزية، وهي لا تعني أيضا الخضوع والتبعية، بل تعني تمتع الجماعات المحلية بقدر من الاستقلال في ممارسة مهامها إزاء الإدارة المركزية مع خضوعها لنوع من الرقابة أطلق عليها اصطلاحا بالرقابة الوصائية (Contrôle de Tutelle). وتتجلى مظاهر هذه الرقابة في مجالات ثلاث رقابة على الأشخاص ورقابة على الهيئة ورقابة على الأعمال.
أ – الرقابة على الأشخاص
إن استقلالية المجموعات المحلية لا تمنع قانونا السلطة المركزية من ممارسة الرقابة على الأشخاص المشرفين على التسيير على المستوى المحلي.فتملك السلطة المركزية صلاحية تعيينهم ونقلهم وتأديبهم كالولاة والمديرين التنفيذيين على مستوى الولايات.أما بالنسبة للمنتخبين فيجوز لها وقفهم أو إقصائهم من المجالس المنتخبة وفقا للإجراءات التي حددها القانون.
ب- الرقابة على الهيئة: تملك السلطة المركزية ممارسة صلاحية على الهيئة تتمثل في الحل. و يقصد به الإعدام القانوني للمجلس و تجريد الأعضاء من صفتهم (كمنتخبين).ونظرا لخطورة هذا الإجراء فقد تم ضبطه من حيث الجهة المختصة بممارسته كما تم رسم و تبيان حالاته وإجراءاته. وتملك السلطة المركزية أيضا حق دعوة المجلس للانعقاد في دورة استثنائية. وتساهم في دعمه ماليا في حالة العجز.
ج- الرقابة على الأعمال: تتجلى هي الأخرى في المصادقة و الإلغاء و الحلول.
– المصادقة: أوجبت مختلف قوانين الإدارة المحلية في الدول العربية إخضاع بعض قراراتها لتزكية السلطة المركزية. وقد أطلق على هذا الإجراء بالمصادقة، و قد تكون صريحة أو ضمنية وفق ما ينص عليه القانون.
ونكون أمام مصادقة صريحة عندما تلجأ السلطة المركزية أو جهة الوصاية إلى إصدار قرار تفصح فيه صراحة عن تزكيتها لقرار صادر عن الجهة التابعة لها وصائيا. أما المصادقة الضمنية فتكون عندما تلتزم سلطة الإشراف الصمت إزاء العمل أو القرار المعروض عليها. هذا وقد اعتبرت المحكمة العليا في الجزائر أن للقرار الضمني نفس آثار القرار الصحيح.
– الإلغاء: إنّ مقتضيات النظام اللامركزي تفرض على سلطة الإشراف إبطال القرارات غير المشروعة الصادرة عن الهيئات المحلية. وحتى لا يحدث الاصطدام بين الجهاز المركزي و الجهاز المحلي عادة ما نجد القانون يتدخل لحصر حالات معينة يتمكن بموجبها الجهاز المركزي من إلغاء قرارات تم اتخاذها على المستوى المحلي وكانت مشوبة بعيب في المشروعية.
– الحلول: إنّ سلطة الوصاية لا تمارس رقابتها فقط على الأعمال الإيجابية التي تصدر عن الهيئة المستقلة المحلية، ولكنّها تراقب أيضا الأعمال السلبية لهذه الهيئات عندما تبادر إلى القيام ببعض واجباتها التي فرضت عليها قانونا.وقد أصطلح على تسمية هذا العمل القانوني بالحلول. ويقصد به حلول السلطة المركزية أو سلطة الوصاية محل السلطة اللامركزية في اتخاذ القرارات التي تؤمن وتضمن سير المصالح العامة.
ويتضح من خلال هذا التعريف أن الحلول يعد إجراءا خطيرا لذا وجب أن يقيد هو الآخر من حيث الاختصاص و الإجراءات ومن حيث الموضوع. والحكمة من إقرار هذا الإجراء تكمن في التوفيق بين المصالح المحلية التي فرضت الاعتراف بالشخصية المعنوية للسلطات اللامركزية و بين فكرة المصلحة العامة التي يجب أن تبقى بمعزل عن الخلافات المحلية. كما يجب تأمين المصالح المحلية ضد كل تقاعس قد يحدث من جانب السلطات المحلية خاصة إذا تعلّق الأمر بمسائل تمس النظام والأمن العموميين. لذا وجب على السلطة الوصية أن تتخذ من الإجراءات ما يضمن أداء عمل معين رعاية للمصلحة العامة و هذا تحت عنوان الحلول ضمن الأشكال التي حددها القانون.
صور اللامركزية الإدارية:
إذا كانت اللامركزية الإدارية تعني توزيع الاختصاص بين السلطة المركزية والهيئات المستقلة المحلية و المصلحية، فإنها على هذا النحو تتخذ صورتين اللامركزية و الإقليمية و اللامركزية المرفقية أو المصلحية.
أ- اللامركزية الإقليمية: و تتجلى في استقلال جزء من إقليم الدولة في تسيير شؤونه المختلفة وإشباع حاجات أفراده. وقد دعت الضرورة إتباع هذا النوع من النظام الإداري بعد عجز السلطات المركزية على القيام بكل صغيرة وكبيرة في مختلف أجزاء الإقليم. وبعد أن ثبت أن لكل منطقة داخل الدولة مميزات خاصة الأمر الذي فرض الاعتراف بالشخصية المعنوية لهيئات محلية.
ب- اللامركزية المرفقية: و تتجسد في انفصال مرفق معين عن الدولة وتمتعه بقدر من الاستقلال ليشكل مؤسسة عامة وطنية أو محلية. وسنتولى دراسة هذه الصورة من اللامركزية في الفصل الثالث تحت عنوان المرافق العامة.
تقدير اللامركزية الإدارية:
إنّ الحديث عن تقدير نظام اللامركزية الإدارية يدفعنا للتركيز عن مزاياه وعيوبه.
مزايا اللامركزية:
يمكن حصر مزايا اللامركزية في مجالات ثلاث:
1- من الناحية الاجتماعية: يترتب على النظام اللامركزي من الناحية الاجتماعية ظهور نوع من التضامن و التعاون فيما بين أفراد الجماعة الواحدة فتتظافر جهودهم من أجل بلوغ هدف واحد منشود. فالمجالس المنتخبة على المستوى المحلي تضم أشخاصا يقيمون في مكان واحد و يحملون مؤهلات مختلفة وينتمون ربما إلى طبقات و تمثيلات سياسية مختلفة ورغم هذا جهدهم اتحد من أجل التنمية المحلية.
2- من الناحية السياسية: يكرس النظام اللامركزي مبدأ الديمقراطية بتمكين الشعب من تسيير شؤونه بنفسه عن طريق ممثليه في المجالس المحلية المنتخبة. فاللامركزية أداة فعالة لتجسيد فكرة الديمقراطية. بل هناك من قال إنّ الديمقراطية من الناحية السياسية تظل نظاما أجوفا إذا لم تلازمها ديمقراطية إدارية. و الحقيقة أنّ هناك من اعتبر هذه الميزة عيبا فقيل أن اللامركزية تتيح استقلالية للوحدات الإدارية المختلفة وهو ما من شأنه أن يشكل خطرا على وحدة الدولة و تماسكها.
و الذي لا ريب فيه أن هذه الانتقادات تفقد معناها إذا طبق النظام اللامركزي على أفضل صورة ووجه. فما كانت اللامركزية يوما خطرا على الدولة لأن المقصود بها هو الاعتراف للوحدات الإدارية بالاستقلال الإداري وليس بالاستقلال السياسي. فتظل وبوجود النظام اللامركزي الهيئة المستقلة خاضعة لقوانين الدولة، وتنظيماتها المختلفة، ولا علاقة للإدارة المحلية بالشؤون السياسية و النشاط التشريعي، ولا علاقة لها بالسلطة القضائية و عملها. فأين إذن تكمن خطورتها؟ ثم إنّه ما يقلل من هذه المخاوف أن استقلال الهيئات المحلية ليس استقلالا تاما مطلقا بل تظل تابعة للجهاز المركزي في مسائل حددها القانون.
ومن الناحية السياسية يشفع للنظام اللامركزي أنّه الأقوى على تحمّل ومواجهة الأزمات ذلك أنه ثبت بالتجربة في أوقات الحرب، وعند اعتماد النظام المركزي، أنّ احتلال العاصمة وحده كاف للتأثير على بقية أجزاء الإقليم.
وعلى خلاف الوضع و عند اعتماد و تطبيق اللامركزية الإدارية، فإنّ كل جزء من الإقليم، يتمكن من الإشراف على تسيير شؤونه المحلية بمعزل عن العاصمة وذلك بحكم استقلالية التسيير التي تعود عليها أهالي المنطقة.
3- من الناحية الإدارية: يضمن النظام اللامركزي تطبيق مبدأ تقريب الإدارة من الجمهور كما يكفل تبسيط الإجراءات بحكم إمكانية البت في كثير من القرارات على مستوى المحلي (الولاية أو البلدية). وعلى هذا النحو فاللامركزية تعني التخفيف من أعباء السلطة المركزية.
وإذا كان قد قيل عن اللامركزية أنها تعني المرونة و الحركة و النشاط والمشاركة في اتخاذ القرار. فالمركزية تحصر سائر أوجه النشاط في العاصمة سواء الشؤون الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية وغيرها وتخول للإدارة المركزية أمر الفصل فيها دون الأخذ بعين الاعتبار المعطيات المحلية، فضلا عما ستأخذه عملية الفصل من زمن طويل. وكل هذه المساوئ يتمّ القضاء عليها بتطبيق النظام اللامركزي أين تتحول سلطة القرار من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي وأين يتم التخفيف من حدة الإجراءات.
ومن الناحية الإدارية يكفل النظام اللامركزي للمنتخبين فرصة للتدريب على العمل الإداري و المشاركة في دراسة الشؤون المحلية واتخاذ القرار و يمكن هؤلاء من الارتقاء لمهام القيادة الإدارية.
– عيوب النظام اللامركزي:
يمكن حصر الانتقادات الموجهة للنظام اللامركزي في جوانب ثلاث.
1- من الناحية السياسية: إذا كان النظام اللامركزي على النحو السابق شرحه يكفل وحدة الدولة و يضمن نفوذ و هيمنة السلطة المركزية. فقد عاب البعض عن النظام اللامركزي أنه يؤدي إلى المساس بوحدة الدولة من جراء توزيع الوظائف و الاعتراف باستقلالية بعض أجزاء الإقليم عن الدولة و تمتعها بالشخصية المعنوية.
غير أن هذه الاستقلالية كما رأينا لا تعطي للهيئة المحلية المستقلة حق الانفصال عن الدولة و تعترف لها بسلطة التشريع مثلا، بل تظل تابعة للدولة الأم في كثير من المسائل و لا تستطيع فقط إلا أن تدير شؤون الإقليم و الحاجات المحلية تاركة المسائل الوطنية للسلطات المركزية.
ويجب أن لا يغيب عن بالنا أيضا أن الموارد المالية للهيئات المحلية تعتمدها وتمنحها السلطة المركزية. ومن ثمّ فإنّنا نرى أن هذه الاستقلالية لا يمكن أن تشكل أي خطر من الناحية السياسية.
2- من الناحية الإدارية: عاب بعض الفقهاء على النظام اللامركزي كونه يؤدي إلى ظاهرة عدم التجانس في القيام بالعمل الإداري وذلك بسبب لجوء ممثلي الإدارة المحلية خاصة المنتخبين منهم إلى تفضيل الشؤون المحلية على الوطنية.
وإذا كنا مقتنعين من أن النظام المركزي يكفل عدالة أكثر من الناحية الإدارية، و يضمن تجانسا للعمل الإداري بحكم وحدة الجهة المختصة بالفصل في الملفات وإصدار القرار، وبحكم وحدة التصور و المنهج و الإجراءات، فإن ذلك لا يعني العمل بالنظام المركزي تحت هذه الحجج الإدارية، بل إن هذه العدالة التي تسعى النظم القانونية إلى تحقيقها يمكن توفيرها عن طريق وضوح التشريعات عامة و التشريعات المتعلقة بالإدارة المحلية خاصة. كما يمكن تحقيقها بتفعيل أجهزة الرقابة و منها الرقابة الوصائية، وكذلك عقد لقاءات بين الفترة و الأخرى تضم المنتخبين المحليين لتكون بمثابة فرصة و منبر لطرح بعض الحلول بهدف ضمان التجانس في أداء العمل الإداري بين الهيئات المحلية المستقلة ودرء مخاطر الاختلاف و انعكاساته.
3-من الناحية المالية: لعلّ أهم نقد وجه للنظام اللامركزي أن تطبيقه في الوسط الإداري ينجم عنه ظاهرة تبديد النفقات العامة، ذلك أنّ الاعتراف للأجهزة المحلية و المرافق العامة على اختلاف أنواعها بالاستقلال المالي سيتبعه دون شك تحمل الخزينة العامة لمبالغ ضخمة سنويا و نفقات كثيرة.
ولقد مرّ بنا مقولة شارل بران من أنّ: ” النظام المركزي يؤدي إلى اقتصاد في النفقات…” وذلك بحكم التقليل من عدد الآمرين بالصرف و هم ممثلي السلطة المركزية، إذ أنّ استقلالية الإقليم من الناحية القانونية وكذلك استقلالية المرفق تفرض الاعتراف له بذمة مالية مستقلة من الناحية القانونية عن الدولة كما سبق البيان. وهو ما ينقل في النهاية سلطة الأمر بالصرف من علو درجة الهرم إلى مستويات أخرى كثيرة (ولاية، بلدية، مؤسسة) و يفترض أن ينجم عن تعدد الآمرين بالصرف ظاهرة سلبية هي المبالغة أو الإفراط في صرف النفقات العامة وهو ما سجلناه عمليا على مستوى الكثير من الإدارات.
وباعتقادنا يمكن التقليل من حدة هذه المخاطر بتحريك أدوات الرقابة. سواء تلك التي تمارسها سلطة الوصاية أو الأجهزة المختصة ذات الطابع المالي كمجلس المحاسبة عندنا في الجزائر، كما ينبغي من وجهة نظرنا الإكثار من النصوص و اللقاءات الداعية إلى كيفية استغلال الموارد المالية أحسن استغلال.
المبحث الثالث: الجمع بين المركزية و اللامركزية.
لعلّه اتضح الآن أنه من الصعب تفضيل أحد النظامين على الآخر لما لهما من مزايا و عيوب سبق الوقوف عندها. وهذا الأمر لا شك يجعلنا أمام حقيقة لا مفر منها أنه ينبغي اعتماد كلا النظامين و هو ما ذهب إليه غالبية الفقهاء.
غير أنه ونظرا لما عرفه النظام اللامركزي من صعوبات ذهب البعض إلى القول أنه ينبغي توسيع الهيئات المركزية. ولقد ظهر هذا الرأي بمناسبة أحد ملتقيات الإتحاد الدولي للسلطات المحلية حيث ذهب التقرير إلى القول ” أنّ هناك اتجاهات متزايدة في العديد من الدول هدفها تحقيق العودة إلى النظام المركزي وتوجد أدلّة أن بعض المسؤوليات قد نقلت فعلا الى السلطات المركزية. وينتهي التقرير إلى أنّ نظام الحكم المحلي يواجه بعض الصعوبات. “
وتركّز هذا الرأي كثيرا في بعض الدول النامية التي سعت إلى الإنقاص من صلاحيات الوحدات الإدارية بشكل أو بآخر خاصة عن طريق الاعتمادات المالية مما أفقد في النهاية الإدارة المحلية ثقة الجمهور. ونتيجة ذلك ظهر الاتجاه الّذي ينادي بإلغاء اللامركزية و الإعراض عنها لما لها من مساوئ و استبدالها بنظام إداري يلائم هذه الدول وهو نظام المركزية في صورة عدم التركيز الإداري.
و الحقيقة أنّ الصعوبات الّتي يواجهها النظام اللامركزي في الدول النامية خاصة، لا ترتقي إلى درجة الاستغناء عنه أيا كانت عيوبه من الناحية العملية، بل ينبغي تدعيمه و محاولة التقليل من مساوئه.
وما يجعلنا نتمسك بالنظام اللامركزي و ندعو إلى الإبقاء عنه و تطبيقه وتطويره هو الدور المتنوع للدولة. فالعوامل الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية دفعت الدولة المعاصرة إلى التدخل واستعملت الإدارة كهيكل لتنفيذ سائر برامجها.
وإن اتساع وظائف الدولة نتج عنه اعتماد اللامركزية كأسلوب إداري من أجل توفير الخدمات للجمهور بأبسط الإجراءات، وتقريب الإدارة من المواطن، وتمكين الشعب من تسيير شؤونه بنفسه على الصعيد المحلي ومن ثم اتخاذ القرار المناسب في مدة معقولة.
ونعتقد أنّ أسلوب عدم التركيز الإداري وإن كان يشكل صورة متطورة للنظام المركزي، و يحتوي على مزايا كثيرة، إلاّ أنّه لا يمكن أن يحل محل النظام اللامركزي لأن ممثل السلطة المركزية على مستوى الإقليم لا يملك البت في مسائل معينة تخص الشؤون المحلية، بل ينبغي عليه اللجوء للسلطة المركزية وهو ما يوقعنا في مساوئ النظام المركزي السابق الإشارة إليه.
وينبغي أن لا نفهم ذلك كله أننا ندعو إلى الإعراض نهائيا عن تطبيق المركزية الإدارية، بل عكس ذلك نحن ندعو لتطبيقها في ميادين معيّنة كالأمن و الدفاع و المالية و الاتصالات. ولأن الإفراط و المبالغة في تطبيقها خاصة في الصورة الأولى (المركزية المطلقة) أمر يغرق القادة الإداريين في مسائل دقيقة وتفصيلية مما يشغلهم عن قضايا أهم. ولقد ثبت من خلال دراسات إدارية أن اللامركزية وإن كانت تقلّل من التخطيط و الضبط المركزي فالقائد الإداري يشبه دوره دور سائق السيارة الذي له أن يقودها متى شاء في الطريق وبالكيفية التي يراها مناسبة له طالما ظل ملتزما بالحدود التي فرضتها أنظمة المرور. و من ثم فإنّنا ندعو إلى الجمع بين النظامين بما يتماشى وظروف كل دولة ومستوى وعي أفرادها.
اترك تعليقاً