الاركان القانونية لعقد التامين
لا يختلف عقد التأمين التعاوني عن غيره من العقود المسماة في الفقه الإسلامي من حيث تعداد الأركان فيه، لكن ربما يزيد عقد التامين عن غيره من حيث الآثار المرتبطة بهذا العقد ذي الطبيعة الخاصة (وهذا ما سأتناوله في المبحث الثاني بإذن الله تعالى).
المطلب الأول: الصيغة.
المطلب الثاني: العاقدان.
المطلب الثالث: محل العقد (الخطر المؤمن ضده).
المطلب الأول
الصيغة
عقد التأمـين كسائر العقود، له صيغة ينعقد بها، هي عبارة عن إيجاب وقبول من الطرفين، عادة ما تأخذ شكل وثيقة يوافق عليها المؤمن له (المشترك) مذعنا لما جاء فيها.
والمقصود بصيغة العقد: صورته في الخارج، أو ما يقوم به العقد في الخارج من إيجاب وقبول على وضع خاص.
والأساس في صحتها: أن تكون دالة في عرف المتعاقدين أو العاقد على إرادة إنشاء العقد دلالة بيـنة غير محتملة لمعنى آخر، ولا يضر بعد هذا أن تكون لفظا أو غير لفظ، كالكتابة والإشارة والفعل ، لكن لا بد أن تكون الكتابة مستبينة لا لبس فيها .
وفي التأمين أخذت الصيغة شكلا معينا في التعاقد، فهي عبارة عن ملء بيانات معينه في طلب التأمين، يقول الدكتور بلاند:[إن استمارة طلب التأمـين هي أساس العقد، وهي جزء من العقد رغم أنه لا يتم إعادة تجهيزها وطبعها مع الوثيقة. وعليه يجب على طالب التأمـين أن يكون صادقا وحذراً عند ملئه الاستمارة، حيث ينص الإقرار على أن طالب التأمـين يتعهد بأن جميع المعلومات الواردة في الاستمارة صحيحة حسب معلوماته واعتقاده، وأن هذا الإقرار سيصبح جزءاً من العقد] .
• مثال لصيغة عقد تأمـين :
تتشابه صيغ وثائق التأمـين على اختلاف أنواعها، مع اختلاف يسير في بعض الأمور لا سيما الشروط الخاصة لكل نوع، إضافةً لمحل عقد التأمـين (ممتلكات- سفن- مركبات- أشخاص…). وعلى سبيل المثال نعرض لأنموذج منها، وهي وثيقة تأمـين شامل لحماية سكن الأسرة . حيث جاء في صيغة العقد ما يلي: بموجب هذه الوثيقة تم الاتفاق بيـن الشركة الأولى للتأمـين التكافلي (المدير لحساب هيئة المشتركين) والمعبر عنها فيما بعد بالشركة، والمشترك (العضو في هيئة المشتركين) المذكور اسمه في الجدول المرفق، على أنه إذا تحققت الأخطار المؤمن منها بفعل أحد الحوادث المغطاة في أي وقت طوال مدة التأمـين المذكورة في الجدول (أو أية مدة لاحقة) بشرط أن يكون المشترك قد تبـرع (أو تعهد بالتبـرع) لهيئة المشتركين باشتراك التأمـين (أو التجديد) المبيـن فيها فإن الشركة تلتزم بالتعويض على ألا يتجاوز التزامها في حال من الأحوال مبلغ التأمـين المبيـن في جدول الوثيقة المرفق لكل فقرة منه.
ويخضع التزام هيئة المشتركين هذا للشروط الواردة في هذه الوثيقة ولأية شروط ترفق، أو تُظَهّر عليها، أو تضاف إليها بشكل آخر في المستقبل، وتعتبر جزءاً منها، وبما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية).
فبالنظر للصيغة في هذا المثال من الوثائق نجد أن الصيغة الشرعية قد تحققت ضمن ضوابط الصيغة في العقود، فقد اشتملت على الإيجاب والقبول، ويدل على ذلك كلمة (اتفاق). كذلك امتازت الصيغة بجلاء المعنى المراد منها ووضوحه؛ حيث بيـنت نوع هذا الاتفاق، وهدفه، ومشمولات التغطية….
كما أنها، إضافة لما سبق، امتازت بجزم الإرادتين (الشركة والمشترك) بالنص عليهما صراحة .
وقد امتازت كذلك بالنص على أمور مهمة، وهي:
– التبـرع، أو التعهد بالتبـرع.
– استعمال لفظ (مشترك ومشتركين) ليعبر عن حقيقة التأمـين التعاوني وأنه شركة بيـن مجموعة متعاونة، بدلا من لفظ (الأقساط) الذي يومئ ويشعر بمعنى المعاوضة.
– وهو الأهم، وهو النص على التزام الشركة (المدير لحساب هيئة المشتركين) بالأحكام الإسلامية.
وهذا ما يميز التأمـين التعاوني عن التأمـين التجاري بشكل كبير ومهم.
المطلب الثاني
العاقدان )
إن عملية التأمـين بطبيعتها لا يمكن أن يقوم بها الأفراد، فمزاولة التأمـين تقتضي أولاً رؤوس أموال ضخمة لدى المؤمنين ،كما تقتضي، ثانياً، توافر ضمانات تبعث الثقة والطمأنينة إلى قلوب الراغبيـن في التأمـين، كما تقتضي، ثالثاً، الاستعانة بالأسس الفنية والعملية التي ينبغي أن يقوم عليها التأمـين. وأمام هذا فإنه يستحيل على الأفراد مزاولة عمليات التأمـين. ولذا تتولاه هيئات .
والشخصية في العقود قد تكون طبيعية (كالأفراد)، وقد تكون اعتبارية أو معنوية (كالشركات والمؤسسات). ولكن يشترط في كل الأحوال ما يشترط في العاقدين.
والعاقد هو الذي يباشر الإيجاب أو القبول في العقد، سواء أكان ذلك بالأصالة عن نفسه، أم نيابة عن غيره، وذلك بطريق الوكالة أو الولاية مثلا. ويشترط فيه التمييز بالنسبة لجميع العقود دون استثناء، فمن كان غير مميز فهو ليس أهلاً لمباشرة أي عقد.
وعدم التمييز إما لصغرٍ، أو جنون، أو عته. والصغر الذي لا يكون معه تمييز هو عادة ما كان دون سبع سنين، والمجنون هو من كان عقله زائلاً، بسبب مرض اعتراه فأثَّر في إدراكه، وقد يكون متقطعا أو مطبقا. وأما العته فهو نقصان في العقل خِلقةً يجعل صاحبه قليل الفهم، مختلط الكلام، سيء التدبير. وقد يكون معه شيء من التمييز، وقد لا يكون معه أصلا. فالأول يجعل المعتوه في درجة الصبي المميز، والثاني يجعله في درجة الصبي غير المميز.
فكل من الصغير،والمعتوه،غير المميزين،والمجنون- حال جنونه- عقودهم باطلة بطلاناً كلياً،ولا يترتب عليه أي التزام،وذلك لعدم صحة عبارة كل منهم شرعًا . ويسمي الفقهاء ما يخل بالتمييز بالأمور المعترضة على الأهلية، وفي أصول الإمام البزدوي( ) قال: [العوارض نوعان سماوي ومكتسب؛ أما السماوي فهو الصغر والجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء والمرض والرق والحيض والنفاس والموت.
وأما المكتسب فإنه نوعان منه ومن غيره؛ أما الذي منه فالجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر، وأما الذي من غيره فالإكراه بما فيه إلجاء وبما ليس فيه إلجاء]( ).
وحتى يكون العقد صحيحا،منتجا لآثاره الشرعية،فإنه لابد من أن تتوفر في العاقدين الشروطالآتية :
1. الأهلية.
2. الولاية.
3. الرضا والاختيار.
وفيما يلي الشروط الثلاث بشيء من التفصيل، والتحقق من وجودها في عقد التأمـين التعاوني.
الشرط الأول: الأهلية :
الأهلية هي كما في كشف الأسرار :[أهلية الإنسان للشيء صلاحيتُه لصدور ذلك الشيء وطلبه منه، وهي في لسان الشرع عبارة عن صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه] . وبعبارة أخرى يعرفها الشيخ الزرقا: صفة يقدرها الشارع في الشخص تجعله محلا صالحا لخطاب تشريعي .
والأهلية تتنوع من حيث صحة تصرفات الشخص وبطلانه إلى نوعين :
نوع يطلق عليه (أهلية الوجوب)، وآخر يسمى (أهلية الأداء).
النوع الأول: أهلية الوجوب: وهي عبارة عن ” صلاحية الشخص للإلزام والالتزام “. أي ثبوت الحقوق له وعليه.
ومناط أهلية الوجوب في نظر الفقه الإسلامي هي الصفة الإنسانية . أو مناطها: الحياة، فتثبت على هذا، لكل إنسان حي، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، عاقلاً أم مجنوناً، حراً أم عبداً، وتستمر معه ما دام حيًّا .
النوع الثاني: أهلية الأداء :وهي عبارة عن صلاحية الشخص لممارسة الأعمال التي يتوقف اعتبارها الشرعي على العقل . أو يمكن تعريفها: بأنها صلاحية الشخص لممارسة التصرفات لنفسه وبنفسه .
وأهلية الأداء هي الأساس لاعتبار تصرفات الشخص،فلا تقبل من المجنون،ولا المعتوه،ولا الطفل الصغير غير المميز.
وأهلية الأداء تبدأ مع الإنسان قاصرةً( ) في سن التمييز وتسايره حتى تكتمل في بلوغه ورشده.وعندئذ يحق له البيع والشراء وسائر التصرفات كالزواج والطلاق وممارسة جميع الحقوق.
وبالنظر إلى أطراف عقد التأمـين (المؤمن والمؤمن له) نجد أن الأهلية متحققة فيهما، ولا ينبغي أن يرد على الشركة المؤمنة إشكال كونها شخصا غير طبيعي؛لأن الأهلية كما تكون في الشخص الطبيعي تكون كذلك في الشخص الاعتباري،لأن مدار الشخصية على وجود الذمة المالية، وهي أساس في شركة التأمـين. كما أن المؤمن له (المشترك)غالبا ما يكون ممن تتوفر فيه الأهليتان( )،أما أهلية الوجوب فلا إشكال فيها،وأما أهلية الأداء فإن الصغير غير المميز لا يستطيع التأمـين والدخول ضمن هيئة المشتركين نظرا لطبيعة العقد ،سواء قلنا معاوضة أو تبـرع، إلا إذا قام الولي أو القيم أو الوصي بالاشتراك نيابة عنه بهذه الصفة. وهذا ما يجري عليه العمل في شركات التأمـين ولا مانع منه شرعا، لأن الشرع أعطى الصفة الشرعية للولي وللقيم، مشترطا عليهم التماس حسن التصرف والغبطة لمن هم مسئولون عنه.
ومثال ذلك: أن يقوم الولي بالتأمـين على أولاده الصغار في التأمـين الصحي، مثلا، أو يقوم بتغطيتهم في إحدى وثائق السيارات (المركبات) والتي تحمل عنوان: (وثيقة تغطية قائد السيارة وزوجه وأبويه وأبنائه الراكبيـن معه).
فهذه تغطية لصالح مستفيدين محددين بناء على رغبة طالب التأمـين، فهو اشتراط لمصلحة الغير، وهو ضمن التأمين التكافلي سائغ ومشروع، إذ هو تبرع من طالب التأمينلمصلحة هؤلاء.
فهذا كله لا مانع منه شرعا؛ لأن ما لا يطال بالصفة الشخصية ينال بصفة أخرى ككونه وليًّا، أو قيماً، أو وصيّا، لكن بشرط كون التأمـين تأمـيناً تعاونياً تكافليا قائما على مبدأ التبرع وعدم استرجاع الاشتراكات المدفوعة مع فوائدها.
الشرط الثاني: الولاية:
والمقصود بها هنا الولاية الشرعية، وهي من يملك شرعا سلطة إبرام العقد، ولو كان غير الشخص الذي تولى عقده فعلاً .
أي لابد أن تتوفر في العاقد – إلى جانب الأهلية – ولاية التصرف، كي تصح تصرفاته. فشركة التأمـين تتمتع بهذه الصفة لكونها نائبة عن المشتركين وتمارس دورها بصفتها وكيلة عنهم في إدارة عمل الشركة وتحصيل الاشتراكات واستثمارها وتسديد التعويضات المستحقة. فكل هذا من باب الولاية الشرعية في إبرام العقود وإدارة العمل نيابة عنهم، ولأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو نيابة .
وبالنسبة للمؤمن له، فهو الذي يتولى إبرام العقد بنفسه إن كان أهلا لذلك، أو بالنيابة عنه إن كان قاصراً لا تتوفر فيه أهلية الأداء كاملة أو ناقصة، فيعقد عنه حينئذٍ وليه أو وصيه، لأن الولاية كما تكون على النفس تكون كذلك على الأموال والتصرفات التجارية.
الشرط الثالث: الرضا والاختيار:
لكي يصح العقد من طرفي التعاقد فإنه لابد من تحقق الرضا والاختيار عندهما، وهو أمر داخلي لايطَّلع عليه أحد، لذلك شرعت الصيغة لبيانها.
وهذا الشرط محل اتفاق عند الفقهاء، فلا يصح العقد من غير الرضا أو الاختيار . قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بيـنكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ . وقال رسول الله : {إنما البيعُ عن تراضٍ} .
والرضا هو دلالة على عدم الإكراه، وعلى اختيار ما يريده العاقد بحرية تامة، وجاء في المصباح المنير: [ومنه قول الفقهاء: تشهد على (رضاها) أي على إذنها، جعلوا الإذن (رضاً) لدلالته عليه]( ). وعيوب الرضا كثيرة إذا وجد معها شيء فإن العقد معها لا يصح وذلك كالإكراه، والجهل، والغلط، والتدليس، والغبن، والتغرير، والهزل، والخلابة… ونحوها .
وبالرجوع إلى عقد التأمـين فإننا نجد أنه منطوٍ عن رضا واختيار في أغلب وثائقه وهو ما يسمى بالتأمـين الاختياري، أما التأمـين الإجباري (كالتأمـين على السيارات مثلا) فيغتفر فيه عدم تحقق الرضا والاختيار لدى بعض المشتركين؛ لكون ذلك مفروضا من جهة الدولة وهو كذلك في كل الدول المتقدمة، تحقيقا لمصلحة عامة، أو درءاً لمفسدة متحققة، والقاعدة الفقهية تقول: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة” . وكما هو معلوم أيضا أن للإمام تقييد المباح إن رأى في ذلك مصلحة ظاهرة.
اترك تعليقاً