المبحث الثاني: الجرائم البنكية الماسة بالإقتصاد الوطني.
تعد الجرائم البنكية الإقتصادية من أهم المشاكل الإجتماعية التي تصيب المجتمع على الإطلاق ما دام في النفس البشرية نزوع إلى الكسب والإستفادة المادية وتتفاوت هذه المشكلة تبعا للنظام الإقتصادي من حيث نموه وضموره، وقد حاولت التشريعات والفقهاء في شتى العصور على إختلاف البيئات أن يجدوا حلا لهذه المشكلة للحد منها[5]، وذلك بإصدار نصوص زجرية للحد من ظاهرة الإجرام الإقتصادي البنكي، والتي أصبحت تشكل خطورة كبيرة إما على صحة المجتمع أو على الإقتصاد الوطني.
إن التطورات التقنية والقانونية التي تعرفها المؤسسات المالية إن على المستوى الوطني أو على مستوى الإرتباطات المالية والإقتصادية الدولية المذهلة جدا، كما أن ضخامة رؤوس أموالها ومدى تحكمه في توجه الإقتصادات العالمية[6]، وإتساع نمو المصارف المتعددة الجنسية ساهم في إزدياد نمو التجارة العالمية، فضلا عما أصبح القطاع البنكي الخاص يلعبه من دور رائد في النسيج الإقتصادي الدولي بحكم توسيع حقل المؤسسات البنكية وتنوع عملياتها تجاه الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، مما تولد عنه مفاهيم جديدة معقدة تماشيا مع ماهو متعارف عليه دوليا من نظم ساهمت في تطويرها أجهزة المعلوميات الحديثة[7]، وسنتطرق لماهية الجرائم الإقتصادية البنكية ( المطلب الأول)، ثم نبحث جريمة غسيل الأموال «كنموذج» على الجرائم التي يمكن إقترافها عن طريق البنك ( المطلب الثاني).
المطلب الأول: ماهية الجرائم الإقتصادية البنكية.
إن الجريمة الإقتصادية ظاهرة إجتماعية، عرفت مع تطور المجتمعات والحضارات البشرية، لكن التطورات الإقتصادية التي يشهدها عالمنا المعاصر، جعلت هذه الجريمة تحتل مكانة خطيرة وحساسة.
فمقياس قوة الدولة في العصر الحاضر لم يعد يقتصر على القوة العسكرية، بل إن مكانة الدولة الحديثة يرتبط إيما إرتباط بقوتها ومناعتها الإقتصادية ومدى قدرتها على التحكم في سياستها الإقتصادية، وهكذا إزدادت أهمية القوانين والنصوص الإقتصادية الهادفة إلى حماية الإقتصادات الوطنية، ورغبة منا في وضع الخطوط العريضة لهذا الموضوع سنناقش مفهوم هذه الجريمة ودور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني ( الفقرة الأولى)، لنتعرف بعد ذلك على الإتجاهات الجنائية بشأن حماية النظام العام الإقتصادي ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الجريمة الإقتصادية البنكية ودور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني.
تعتبر الجريمة الإقتصادية من السمات الأساسية للدول الرأسمالية، فطبيعة إقتصاديات هذه الدول يشجع على تنامي هذه الجرائم فما هو مفهومها؟ ( أولا)، وكيف حاول القانون الجنائي والقوانين الخاصة حصر ومعاقبة هذه الجرائم؟ ( ثانيا).
أولا: مفهوم الجريمة الإقتصادية البنكية.
يذهب البعض[8] إلى تعريف الجريمة الإقتصادية بأنها ” كل عمل أو إمتناع يقع بالمخالفة للقواعد المقررة لتنظيم أو حماية السياسة الإقتصادية إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات أو في القوانين الخاصة”.
أما البعض الآخر[9] فيرى أن الجريمة الإقتصادية هي « مباشرة نشاط معين، سواء تمثل في تصرف إقتصادي أو سلوك مادي بالمخالفة للتنظيمات والأحكام القانونية الصادرة كوسيلة لتحقيق سياسة الدولة الإقتصادية».
من خلال التعريفات السابقة نلاحظ أن قيام المؤسسة البنكية بأي عمل أو إقناع عن عمل مخالف للمقتضيات القانونية المنظمة للقانون المتعلق بنشاط مؤسسات الإئتمان ومراقبتها[10]، مثل جريمة إمتناع المؤسسة البنكية عن إطلاع بنك المغرب على الوثائق والمستندات الواجب مسكها وأفرد لها عقوبة خاصة تتلائم مع خطورتها في المادة 90 من القانون البنكي لسنة 1993، وذلك بهدف الحفاظ على سمعة السوق البنكية المغربية وإدراكا من المشرع لدور البنوك في الحفاظ على النمو والإستقرار الإقتصادي.
والواقع في الأمر أن متطلبات الأخلاق أدت إلى تطور فكرة الجريمة الإقتصادية بجميع فروعها ومكوناتها وبتوسيع مجالها الجنائي وهذا هو ما يتضح من تعريف الدوائر المجتمعة لمحكمة النقض الفرنسية للجريمة الإقتصادية من أنها « كل ما يتعلق بالإنتاج وتوزيع وإستهلاك وتداول السلع والخدمات، وكذلك ما يتعلق بوسائل الصرف، ويدخل فيها بصفة خاصة وسائل صرف النقود بمختلف أشكالها، والتي تضمن إعتداء مباشر على إقتصاد الدولة حيث تضطلع الدولة بالتوجيه والرقابة ومراعاة للظروف[11]».
إذن الجرائم الإقتصادية هي أفعال تتعارض مع قواعد الإقتصاد بشكل عام والذي يحمي مصالح إقتصادية معينة، فإرتكابها يتضمن عصيانا لأوامر المشرع الذي يستهدف من ورائها تحقيق مصلحة المجتمع، لذا قيل بأن الجريمة الإقتصادية لا تتعارض مع القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، لأنها من خلق المشرع ومن صنعه، فالعقاب على هذه الجرائم لا يعتمد على أسس فلسفية، أو أخلاقية، أو إقتصادية، كما هو الحال في جرائم السرقة والقتل، وإنما لها طابع خاص يجري وفق ظروف معينة، فما يعد في نظر الشارع جرائم إقتصادية في فترة زمنية معينة، فإنه لا يعد كذلك بعد إنقضاء تلك الفترة المحددة لسريان القانون[12]، ومن ثم يغلب في هذه الجرائم أن تكون جرائم وقتية يهدف المشرع من ورائها حماية أوضاع إقتصادية معينة.
ثانيا: دور القانون الجنائي والقوانين الخاصة في حماية الإقتصاد الوطني.
يلاحظ أن الإتساع الجنائي في نطاق النظام العام الإقتصادي لا يقتصر على المجال التشريعي، بل إن التوسع يمتد ليشمل المجال القضائي أيضا، ومما لا شك فيه أن هناك توسع حقيقي للنظام العام الإقتصادي في القوانين الخاصة ويبدو ذلك جليا في تزاحم القوانين والمراسيم والقرارات واللوائح والدوريات، فقد أدت فترات الأزمات الإقتصادية أو التغيرات السياسية إلى ظهور نصوص جديدة متداخلة، وقد تكون متعارضة مع النصوص السابقة عليها والتي لم تلغ صراحة[13].
وإذا رجعنا إلى النصوص القانونية في التشريع المغربي، نجده غني ومتنوع ومرد ذلك راجع إلى أن النظام الإقتصادي المغربي هو نظام هجين، لأنه رغم أخذه بمبادئ الحرية الإقتصادية كمبدأ عام، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة بل هي مقيدة، وقد كان للأزمات والحروب التي عرفها العالم في القرن العشرين[14]، دورا هاما إضافة إلى التأثير الذي مارسه الفكر الإشتراكي، ومستلزمات بناء الإقتصاد الوطني الحديث.
وهكذا فإن القانون الجنائي المغربي يتضمن بعض الجرائم الإقتصادية كعرقلة المزايدات ( الفصل 292 منه)، والحمل على التوقف عن العمل ( الفصل 288 )منه، كما أصدر المشرع قوانين إقتصادية خاصة تبعا للمرحلة التي إجتازها المجتمع المغربي وما رافقها من ظروف سياسية وإجتماعية وإقتصادية[15].
أما بالنسبة للقوانين الخاصة، ومنها القانون رقم 99- 06 والمتعلق بحرية الأسعار والمنافسة[16] والذي يعاقب القيام أو محاولة القيام برفع أو خفض الأسعار بشكل يتعارض ويهدد حرية المنافسة المشروعة، بالإضافة للقانون المتعلق بنشاط مؤسسات الإئتمان ومراقبتها والذي يجرم في العديد من مواده كل محاولة للتدليس في مواجهة الجمهور ( المادة 97 منه)، ومحاولة إنتحال صفة مؤسسة إئتمان والقيام بأعمالها دون الحصول على الإعتماد ( المادة 80) وتطلب المشرع لقيام هذه الجريمة عنصر الإعتياد، والنصوص الجنائية للشركات والتي ترمي إلى حماية الأغيار والإدخار عن طريق جزر المخالفات المرتكبة من طرف شركات الأسهم بمناسبة التأسيس أو الزيادة في رأس المال، أو الإدارة المالية، وتجارة القيم المنقولة الصادرة عنها، وهناك قوانين أخرى في هذا الصدد لا يمكننا أن ندرجها كلها في هذا العرض نظرا لكترثها، ونظرا لأهمية هذه القوانين فإنه يجب على المشرع ومنعا للإضطراب عند تعديل أحد القوانين الإقتصادية أو إلغائه، على أن ينص عادة في القانون الجديد على إستمرارية العمل بالقرارات التي صدرت إستنادا إلى القانون القديم فيما لا يتعارض مع أحكام القانون الجديد.
ويلاحظ أن للقضاء سلطة واسعة في تفسيرها، ولذلك فإن التفسير القضائي يعد مصدرا قضائيا للنظام العام الإقتصادي، ومن تم فإنه بالرغم من أن النظام العام في قانون العقوبات والقوانين الخاصة يجد مصدره الوحيد في التشريع فإن توسع النظام الإقتصادي إتجه إلى أن أصبح ظاهرة قضائية أو بمعنى آخر أصبح مظهر للسياسة الجنائية[17].
الفقرة الثانية: إتجاهات السياسة الجنائية بشأن حماية النظام العام الإقتصادي.
تحاول جل التشريعات ومنها التشريع المغربي إفراد نظام قانوني خاص لحماية النظام العام الإقتصادي يهدف من وراءه الحفاظ على المنظومة الإقتصادية بصقل قواعد تتلائم وخطورة هذه الجرائم. فما هي أنواع هذه الجرائم؟ ( أولا )، وما هي طبيعتها ( ثانيا ).
أولا: أنواع الجزاءات.
إن الأثر الرادع للعقوبة الجنائية يعد عاملا هاما في مكافحة الجرائم بصفة عامة بما فيها الجرائم الإقتصادية البنكية والجرائم الناجمة عن النمو الإقتصادي، فمن المسلم به أن التهديد بالعقوبة يصرف الكثيرين عن السلوك الإجرامي، كما أن توقيعها يحول دون عودة من وقعت عليه لإرتكابها مرة أخرى، وتزيد فاعلية الأثر الرادع للعقوبة كلما إزدادات يقينية توقيع العقوبة على مرتكب الجريمة وسرعة البت في جريمته وتنفيذ العقوبة عليه.
وسنحاول التعرض هنا لبعض الجزاءات الجنائية لبيان مدى أهميتها في مكافحة الجريمة بصفة عامة، ثم نعرض لدور الجزاءات غير الجنائية وضرورتها إزاء الجرائم الإقتصادية.
فالبنسبة للجزاءات الجنائية فإنها تنقسم بدورها لقسمين أساسيين أولهما وهي عقوبة الحبس والتي لا تزال تعتبر الوسيلة الأولى التي تلجأ إليها النظم الجنائية المعاصرة في محاولاتها للحد من الجريمة، وإذا كا ن لايمكن الإستغناء- حاليا- عن عقوبة الحبس نظرا لأثرها الرادع الذي ينأى بالبعض عن سلوك السبيل الإجرامي، فإنه من المؤكد أن هذه العقوبة متى نفذت بالطريقة السائدة في النظم العقابية التقليدية، فإنها لا تحول في حالات كثيرة من منع من نفذت عليه من العودة مرة أخرى لإرتكاب الجريمة، ومن ناحية أخرى فإن الأثر السيء لهذه العقوبة يبدو من إرتفاع نسبة من ينفذ عليهم لمدة لا تزيد على ستة أشهر، وهي مدة لا تكفي لتحقيق الأثر الإصلاحي للعقوبة، وتزداد المشكلة خطورة إذا علمنا أن عدد هؤلاء ينفذ عليهم بالحبس لمدة أقل من شهر، ومن المؤكد أن العقوبة التي لا تزيد على شهر واحد ليست لها أية فائدة إصلاحية،
أما إحتمالات تحقيق أثر رادع لها، فهو أمر مشكوك فيه كثيرا لأن قيمة عقوبة السجن هي في التلويح والتهديد وليس في تنفيذها، وخصوصا إذا كانت متناهية القصر، ولتلافي هذه السلبيات إقترح البعض[18] في عدة مؤتمرات دولية حلولا لهذه المشكلة عن طريق جعل الحد الأدنى لهذه العقوبة لا تقل عن ستة أشهر، وأن تحل عقوبات أو تدابير أخرى محلها.
وثاني تلك العقوبات وهي الغرامة والتي تتمتع بالعديد من المزايا لعل من أهمها أنها لا تصيب الإنسان في جسده ولا تمثل قيدا على حريته ولا تمس شرفه ولا سمعته أو تنال من مكانته الإجتماعية، وهي تجنب المحكوم عليه بها وسط السجون المفسدة، فتحول بينه وبين الإختلاط بنزلائها، وتمكنه من الإستقرار في مزاولة عمله أو مهمته، ومع ذلك فهي عقوبة مؤثرة لأنها تقتطع جزء من الذمة المالية للمحكوم عليه، ولا يمكن أن يعتاد عليها الشخص خلافا لعقوبة الحبس، وهي من أفضل العقوبات التي تقرر إزاء الجرائم التي يدفع إليها الطمع والشجع، لأنها تصيب العامل المباشر الذي أدى إلى إرتكابها، كما أنها تمتاز بأنها عقوبة يمكن الرجوع فيها بسهولة إذا ماتبين حدوث خطأ في توقيعها،
ومع هذا فإنه يؤخذ عليها عدة عيوب، منها أنها تتنافى مع مبدأ المساواة أمام الجزاء الجنائي، فأثرها على الثرى جد ضئيل إذا ما قورن بأثرها على الفقير، ولا شك في أن هذا النقد له قدر كبير من الصحة، إلا أن هذا العيب يمكن ملافاته إلى حد بعيد عن طريق الأخذ بالنظم الحديثة للغرامة، فبعض التشريعات تقدر وجوب تناسب الغرامة مع دخل المحكوم عليه، من ذلك ما يقرره قانون العقوبات السويسري على أن القاضي يحدد مبلغ الغرامة مراعيا المركز المالي للمحكوم عليه.