دراسة وبحث قانوني قيم عن الأهداف التشريعية للعقوبات
ملخص البحث
موضوع هذا البحث هو الأهداف التشريعية للعقوبات في الإسلام أو بعبارة أخري الحكمة من تشريع العقوبات في الإسلام أو بعبارة ثالثة فلسفة العقوبات في الإسلام .
وقد قمت بحصر أهم الأهداف والحكم التي من أجلها قرر الإسلام العقوبات على مرتكبي الجرائم فكانت في العموم أهدافا تتلخص فيما يلي :
فالهدف الأول هو حفظ الضروريات الخمس وهو الهدف الرئيس حيث جاء الإسلام ليحفظ للإنسان دينه ونفسه وعرضه وعقله وماله, فرتب العقوبات لتسلم هذه الأمور الضرورية لحياة الناس . والهدف الثاني وهو الردع والزجر عن الجريمة سواء كان ردعا عاما ليردع جميع الناس عن ارتكاب الجرائم أو ردعا خاصا يردع المجرم عن ارتكاب الجريمة مرة أخرى . والهدف الثالث وهو أن في العقوبات جبرا للخلل الناجم عن ارتكاب الجريمة سواء كان جبرا لجانب المجني عليه بتعويضه عن حقه الذي انتهكه الجاني, أو جبرا لجانب الجاني نفسه حيث تجبر ما انثلم من دين الجاني وتكفر ر ذنوبه التي اقترفها . والهدف الرابع وهو تطهير المجتمع من الرذائل فتطهر المجتمع منهم وتحمي الفضائل من شرورهم بل وتغرس الفضائل في نفوسهم . والهدف الخامس وهو الرحمة بالأمة وبالمجرمين حيث أن الله تبارك وتعالى قررها لتكفل حق الأمة في الحياة الآمنة ثم هي كذلك رحمة بالمجرمين إذ تنتشلهم من حماة الجريمة ودرنها .
والهدف السادس وهو مجازاة الجاني بالمثل وهذا هو العدل الذي تكون فيه الموازنة بين الحقوق والواجبات . والهدف السابع والأخير الذي هو إصلاح الجاني, فإصلاح الجاني هدف مهم من أهداف العقوبات الشرعية سواء كان ذلك أثناء تطبيق العقوبة أو بعدها, فيجب أن يكون هدف من يوقع العقوبة هو إصلاح الجاني وليس الهدف هو تقييد الناس لتوقيع العقوبات عليهم .
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد : فإن ديننا الإسلامي دين كامل وشامل لكل أمور الحياة حيث لم يكتف بتشريع العبادات للناس ، بل حكم ونظم كافة شئون الحياة الدنيا أيضاً ، فسن للناس قواعد ونظماً يسيرون عليها, ويهتدون بها, فمن أ خذ بها فقد رشد وأ نقذ نفسه, ومن مال عنها فإن الإسلام قد قرر له عقوبات رادعة على حسب جنايته .
وهذه العقوبات لم تشرع جزافا ; بل إن للعقوبات في الإسلام أهدافا سامية ومقاصد حميدة يحافظ الإسلام بها على كيان المجتمع من الوقوع في هاوية الرذيلة .
وسوف أتكلم عن هذا الموضوع في سبعة مباحث على النحو التالي :
المبحث الأول : حفظ الضروريات الخمس
المبحث الثاني : الردع والزجر عن الجريمة
المبحث الثالث : الجبر للخلل الناجم عن الجريمة
المبحث الرابع : تطهير المجتمع من الرذيلة وحماية الفضيلة
المبحث الخامس : رحمة للأمة وللمجرمين
المبحث السادس : مجازاة الجاني بالمثل
المبحث السابع : إصلاح الجاني
هذا والله أسأل أن ينفع بهذا البحث ويحسن القصد والله الموفق .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
علي الحسون
المبحث الأول
حفظ الضروريات الخمس
تنقسم المقاصد التي تراعيها الشريعة إلى ثلاثة أقسام هي : الضروريات والحاجيات والتحسينيات .
1-الضروريات : وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا, بحيث إذا فقدت لم تستقم الحياة الدنيا بل تؤول إلى الفساد والفناء ، أما الأخرى فتفوت فيها النجاة والنعيم ويحصل الخسران .
والضروريات خمس هي : حفظ الدين, والنفس, والنسل, والعقل, والمال .
2-الحاجيات : وهي ما كانت مفتقرا إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤد ي في الغالب إلى الحرج والمشقة, وذلك مثل الرخص المخففة كرخصة المريض والمسافر, وكذلك المعاملات كالبيع والقرْض والسلَم وغيرها .
3-التحسينيات : ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات مما تأنفه العقول الراجحة، وهي ما تدخل في قسم مكارم الأخلاق, وذلك مثل الطهارة وستر العورة والتقرب إلى الله تعالى بالنوافل,كالصدقات وغيرها . ([1])
والذي يعنينا في هذا المبحث هو القسم الأول ـ أعني الضروريات ــ فهي التي لا تستقيم الحياة بدونها ، ولذلك فإنها مراعاة ومعتبرة في كل الشرائع ،ومن ذلك نجد أنها قد روعيت في الشريعة الإسلامية في تطبيق العقوبات على مرتكبي الجرائم ، فنقول :
إن حفظ الضروريات الخمس هو الهدف الأساسي للعقوبات الشرعية ،حيث جاء الإسلام ليحفظ للإنسان دينه ونفسه وعرضه وعقله وماله, واعتبر حماية هذه الأشياء الخمسة من أهم مقاصده التشريعية .
فحفظ للإنسان دينه الذي كلفه الله به دون غيره من سائر المخلوقات, واعتبر الفتنة في الدين أشد من القتل, قال الله تبارك وتعالى : ( والفتنة أكبر من القتل) (1)
واعتني بالحفاظ على النفس البشرية عناية تامة فجعل نفس الإنسان مصونة, وحياته معصومة لا تهدر إلا بحق ، قال الله تبارك وتعالى: ي أ ي ها ا ل ذ ن ء ام ن وا لا ت أك ل وا أ مو لك م ب ي ن ك م ب الب اط ل إ لا أ ن ت ك ون ت ج ارة ع ن ت ر اض م نك م ولا ت ق تل و ا أ نف س ك م إ ن ا لل ه ك ان ب ك م ر ح يم ا (2) وقال : ولا ت قت ل وا الن فس ال ت ى ح ر م الل ه إ لا ب الح ق (3)
وحفظ للإنسان عقله, لأن العقل مناط التكليف, فالإنسان لم يخلق عبثا متروكا لذاته وللذاته, بل عليه تكاليف في كل لحظة تجاه ربه ونفسه وأهله وجماعة المسلمين والبشرية عامة, فهو مطالب باليقظة الدائمة والوعي المستمر لكي ينهض بهذه التكاليف . وفقدان العقل والوعي لا يخل بأداء التكاليف فحسب بل يجعله عبئاً على المجتمع ومصدر شر وأذى للناس .
واعتنى الإسلام بحماية العرض والنسل, حيث نظم طريقة تواجد الإنسان وتناسله عن طريق زواج مشروع, وأقام الأسرة على أسس متينة قوية مترابطة, وحرَّم النيل من أعراض الناس والخروج عن المنهج القويم إذ يؤدي ذلك إلى انقطاع النسل واختلاط الأنساب وضياع الأسر وتفكك الروابط وانتشار الأمراض وهلاك الناس .
وكذلك حفظ للإنسان ماله, لأنه قوام الحياة ، قال الله تبارك وتعالى: و لا ت ؤت وا الس ف ه آء أ مو لك م ال تي ج ع ل الل ه ل ك م ق ياما و ارز ق وه م ف يه ا و اكس وه م و ق ول وا ل ه م ق ولا م عر وفا (4) وهو وسيلة التبادل والحصول على مطالب الحياة. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الموت دفاعا عن المال شهادة فقال : (من قُتل دون ماله فهو شهيد)([2]).
فجملة القول أن الإسلام جاء لحماية هذه الأشياء التي تسمى بالضروريات الخمس, لأنها ضرورية للناس في حياتهم, ولا يمكن بقاء الإنسان ولا توافر معاني الحياة الإنسانية الكريمة إلا إذا توفرت هذه الأشياء الخمسة, إذ أن فقدان واحد منها يخل بحياة الإنسان ويترتب عليه اضطراب أموره . ([3])
ولهذا فإنه ما من مصلحة إنسانية حقيقية ثابتة جاء الإسلام لحمايتها إلا وهي ترجع إلى واحدة منها .
والناظر في العقوبات الشرعية من حدود وقصاص وتعزير يجد أنها شرعت لصيانة هذه الضرورات الخمس من الدين والنفس والعقل والعرض والمال والمحافظة عليها, وهذا هو الهدف العام من العقوبات .
وقد يقول قائل : إن العقوبات في ذاتها مفاسد, فقتل القاتل ورجم الزاني, وقطع السارق تسبب نقصانا لأعضاء المجتمع, فكيف نعالج المفسدة بمفسدة أخرى .
والجواب : هو أن هذه المفاسد – أعني العقوبات – ليست مقصودة لذاتها بل المقصود هو ما تؤدي إليه, فيجوز أن تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى . قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) (5) فسماه حياة لأنه بقتل القاتل يرتدع قاتلون كُثُر عن الإقدام على القتل, فصاروا أحياء بسبب تطبيق حد القصاص .
قال العز بن عبد السلام : ( وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح لا لكونها مفاسد; بل لكونها مؤدية إلى المصالح, وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح, وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد, وكذلك العقوبات الشرعية ليست مطلوبة لكونها مفاسد; بل لكونها المقصودة من شرعها كقطع السارق … . وقتل الجناة رجم الزناة وجلدهم وتغريبهم وكذلك التعزيرات, كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية, وتسميتها بالمصالح من مجاز تسمية السبب باسم المسبب ). ([4])
وعلى هذا فعقوبة الردة شرعت حفاظا على الدين وضمانا لمسيرته, وحماية الدين من أولئك المنافقين المتاجرين بالدين القويم الذين يريدون الدخول في الإسلام ثم العودة إلى الكفر بغرض إساءة سمعة هذا الدين ومنع الناس من الدخول فيه وتشكيك المسلمين الذين دخلوا في الإسلام حديثا , وقد وجدت فئة من هؤلاء من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخبر عنهم القرآن بقوله : و ق ال ت ط آئف ة م ن أ هل الكت ب ء امن وا بالذي أ نز ل ع ل ى ال ذ ين ءام ن وا و جه الن ه ار و اكف ر وا ءاخ ره ل ع ل ه م ي رج ع ون (6) فعقوبة الردة في الحقيقة شرعت حفاظا للدين ممن أراد التلاعب به والنيل منه [6, ص 51] .
وشرعت عقوبة القصاص للحفاظ على النفوس وكرامتها من أن تنال بغير حق, فالنفس الإنسانية محترمة ومعصومة وقد كرمها الله تعالى, ولا شيء أعز على الإنسان من نفسه بعد دينه, فعقوبة القصاص إنما شرعت لصيانة النفوس من الاعتداء عليها من قتل وضرب وجرح وإيلام, قال تعالى : و ل ك م في الق ص اص ح ي اة ي أ أولي الأ لب اب ل ع ل ك م ت ت ق ون (7) . ومن ذلك الاعتداء المعنوي كالمحافظة على الكرامة والحرية ومنع الإهانة وحرية الفكر وغير ذلك [7, ص 53] .
يقول سيد قطب في تفسير الآية : ؛ إنه ليس للانتقام, وليس لإرواء الأحقاد, وإنما هو أجل من ذلك وأعلى إنه للحياة, وفي سبيل الحياة, بل هو ذاته حياة « [41 ج-1, ص 951] .
ولما كان في تعاطي الخمر اعتداء على العقل الإنساني وشعوره الذي ميزه الله تعالى على جميع الحيوانات وكان هناك احتمال قوي غالب لظهور أنواع من المفاسد والخبائث, وضياع لكثير من المصالح والمبادئ نتيجة فقدان الشعور والوعي جاءت الشريعة تفرض حد الشرب حفاظا على العقل الإنساني, وحماية للمجتمع من أنواع المفاسد والخبائث التي تظهر نتيجة فقدان الشعور .
ثم لما كان في الزنا مساس بكيان المجتمع وتماسكه, واعتداء على أعراض الناس, وقضاء على نظام الأسرة وروابطها, واختلاط الأنساب وضياعها, فرض النظام العقابي الإسلامي عقوبة قاسية على الزنا حفاظا على أعراض الناس ونظام الأسرة التي هي اللبنة الأولى للمجتمع; بل إن الشرع منع مجرد إشاعة الفاحشة, وذلك بتقرير حد القذف على من قذف محصنا بالزنا .
وكذلك شرعت عقوبة السرقة حفاظا على أموال الناس من الضياع وحماية لحرية التملك الفردي, وتحقيقا للأمن على أموال الناس .
ولما كانت المحاربة والإفساد في الأرض اعتداء على النظام, وعلى أرواح الشعب وأعراضهم وأملاكهم, وزعزعة لثقة الناس في النظام, وتهديدا للأمن والاستقرار والاقتصاد ووسائله من التجارة والصناعة, شرع النظام العقابي الإسلامي عقوبة على الحرابة والإفساد حفاظا على هذه الأشياء [4 ج-1, ص ص 682 – 882 و 7 ص ص 4 – 63 و 6 ص ص 102 – 902 و 5 ص ص 93 – 14] .
وهذا هو الشأن في كافة العقوبات مهما كان نوعها فإن الهدف منها بصفة عامة يرجع إلى الحفاظ على الضرورات الخمس وتحقيق مقاصدها وكمالها, والمنع من الاعتداء عليها والمساس بها .
يقول أبو حامد الغزالي : ؛ إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق, وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم, لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع, ومقصود الشرع من الخلق خمسة, وهو أن يحفظ عليهم دينهم, ونفسهم, وعقلهم, ونسلهم, ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة, وكل ما يفوت هذه الأصول, فهو مفسدة, ودفعها مصلحة … وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات, فهي أقوى المراتب في المصالح, ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل, وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته, فإن هذا يفوت على الخلق دينهم, وقضاؤه بإيجاب القصاص إذ به حفظ النفوس, وإيجاب حد الشرب, إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف, وإيجاب حد الزنى, إذ به حفظ النسل والأنساب, وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق, وهم مضطرون إليها . وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة, والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل, وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق, ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنى والسرقة وشرب المسكر « [4, ج-1, ص ص 682 – 882] .
([1]) الموافقات للشاطبي 2/8-12 .
([2]) صحيح البخاري3/108، مسند الإمام أحمد 1/79 و 178.
([3]) المستصفى للغزالي 1/ 184-189، الموافقات للشاطبي 2/8-10،فلسفة العقوبة لأبي زهرة ص 39-41، أثر تطبيق الحدود في المجتمع ص 13و94و201-210،العقوبة لأبي زهرة ص35-36، نظام التجريم والعقاب في الإسلام ص 66-67،النظام العقابي الإسلامي ص 114-115، سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي 1/33-43، عقوبة السارق ص 12-16 .
([4]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/14، وانظر التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 1/69 .
الردع والزجر عن الجريمة
إن تشريع العقوبات المختلفة على أنواع من الجرائم يهدف إلى الردع والمنع عن الجريمة, حيث إن العلم بمشروعيتها يزجر الناس ويردعهم عن الإقدام على الجرائم, ثم من لم يرتدع من الأمة بنصوص العقوبة فأقدم على الجريمة واقترفها, تقوم القوة الحاكمة المسؤولة بتوقيع العقوبة عليه, فمن أهداف إقامة العقوبة الردع والزجر والإبعاد عن الجرائم [51, 2 22, و61, ص ص 98 – 39, و 71ج- 2, ص 882, و81ج- 4, ص 211, و91ج- 5, ص 3, و31ج-, ص 86, و9, ص 021, و 02, ص ص 66 – 96, و12, ص ص 02 – 12] .
والردع على نوعين : الردع العام, والردع الخاص :
أ- الردع العام : ومعنى الردع العام أن توقيع العقوبات على المجرم يزجر الناس ويردعهم عن اقتراف الجرائم ويمنع كل من تسول له نفسه بالجرائم عن ارتكابها, ففي إقامة العقوبات تنبيه للناس على أنهم إن ارتكبوها فقد تلحقهم من العقوبة المؤلمة مثلما أصابت المجرم, والنفس البشرية مجبولة على الإبتعاد عن الإيلام, فإذا عرفت أن مقارفة الجرائم تفضي إلى نزول العقوبة بها كفت عن الإجرام [51, ص 122, و 61 ص 98 – 39, و 71ج- 2, ص 411, و31ج- 1, ص 86, و81ج- 5, ص 3, و02, ص ص 66 – 39] .
فإقامة العقوبات تساعد الناس على مقاومة دوافع الجرائم الداخلية والخارجية وتعينهم على السيطرة عليها .
وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : و ل ك م في الق ص اص ح ي اوة ي أ أولي الأ لب اب ل ع ل ك م ت ت ق ون (8) .
ومما يؤكد معنى الردع العام حث القرآن الكريم على شهود طائفة من الناس إقامة الحدود والعقوبات إذ يقول الله تبارك وتعالى : (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (9) ونلاحظ أن فكرة الردع العام كأحد أهداف العقوبة تتجه إلى الناس عامة, وهي موجودة في جميع العقوبات .
ب – الردع الخاص : ومعنى الردع الخاص أن إقامة العقوبة على المجرم على ما اقترفه من الجريمة يهدف إلى ردع الجاني حتى لا يعود إلى ارتكاب الجريمة مرة أخرى, فإن العقوبة وألمها وما يترتب عليها من أذى مادي ومعنوي تصده عن العودة مرة أخرى إلى اقتراف الجريمة [91, ج-5, ص 3, و02, ص 76, و 9, ص 021] .
وطابع فكرة الردع الخاص طابع علاجي يتجه إلى الفرد الذي اندفع إلى ارتكاب الجريمة .
ونلاحظ أن الردع الخاص كأحد أهداف العقوبة موجود في بعض عقوبات الحدود والدية وأغلب عقوبات التعزير, إلا أنه غير متصور في عقوبة الردة وعقوبة القصاص في صورة القتل, وعقوبة الزنى للمحصن ، وعقوبة الحرابة في صورة القتل .
المبحث الثالث
الجبر للخلل الناجم عن ارتكاب الجريمة
من الأهداف التي ترمي إليها العقوبات الشرعية هو جبر النقص والخلل الحاصل من اقتراف الجريمة, وهذا الجبر على نوعين : الجبر لجانب المجني عليه, والجبر لجانب الجاني الذي أقدم على الجريمة .
أ – الجبر لجانب المجني عليه : فالعقوبات الشرعية تلاحظ جانب الشخص المجني عليه, وتهدف إلى جبر حقه الذي انتهكه الجاني وتسعى إلى شفاء غيظه بأخذ حقه وجبر النقص الحاصل عليه .
ويظهر هذا الهدف جليا في عقوبات القصاص . يقول الشيخ محمد أبو زهرة في هذا الخصوص : ؛ وأن القصاص كان العقوبة الأساسية في الإسلام بالنسبة للجرائم الواقعة على الأشخاص, لأنه يشفى غيظ المجني عليه, وذلك لأن مفقوء العين لا يشفي غيظه مال من الجاني مهما يكن قدره, ولا سجن مهما تكن مدته, ولكن يشفي غيظه أن يجده مفقوء العين, ومن ل طم في مجتمع عام لا يشفي قلبه غرامة مهما زاد مقدارها, ولا سجن مهما يكن أمده, ولكن يشفي غيظه أن يلطم وجه المعتدي على ملأ من الناس «[5, ص ص 35 – 45] .
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف قرر النظام العقابي الإسلامي عقوبات التعويض والأرش إن لم يمكن تنفيذ عقوبات القصاص لعدم إمكان المساواة بين الجريمة والعقوبة أو لأي سبب من الأسباب الأخرى [22, ج-21, ص و7, ص 94] .
ولا يشك أحد أن العناية بالجبر بجانب المجنى عليه وشفاء غيظه له أثره البالغ في منع فكرة الانتقام وردود الفعل, فإنه لا يفكر في الانتقام ولا يسرف في الإعتداء [5, ص ص 35 – 45, و 7, ص ص 94 – 94] . كما نص عليه القرآن بقوله : و لا ت قتل وا الن ف س ال تى ح ر م الل ه إ لا ب الح ق و من ق ت ل م ظل وما ف ق د ج ع لن ا ل و ل يه س لط ن ا ف لا ي سر ف في الق تل إن ه ك ان م نص ورا (01) .
ب – الجبر لجانب الجاني : إن العقوبات الشرعية التي تقام على الجاني تهدف إلى جبر الذنب الذي ارتكبه الجاني وجبر ما انثلم من دين المرء الذي اقتحم المعصية, فالعقوبات هي كفارات للذنوب التي اقترفها الجاني .
ولكن فكرة جبر الذنب وتكفير الجريمة كأحد أغراض العقوبة مختلف فيه بين الفقهاء, فقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال :
1 – ذهب أكثر أهل العلم [32, ج- 11, ص 422, و 42ج-1, ص 66] منهم الإمام الشافعي [52, ج-6, ص 831] وابن حزم [62, ج11, ص ص 421 – 521] إلى أن الحدود كفارات لأهلها, فإذا أقيمت على الجاني كانت مكفرة لما اقترف من آثام [32, ج-11, ص 422 و 42, ج-1, ص ص 66 – 86, و71, ج- 2, ص 511, و 91ج-, ص 3, و 81ج- 5, ص 112] . واستدل هؤلاء بأحاديث هي كما يلي :
أ – حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء في ليلة العقبة – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوا في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له, ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله, إن شاء عفا عنه, وإن شاء عاقبه) . فبايعناه على ذلك, رواه البخاري [2, ج-1, ص 46و72, ج-11, ص 46] .
قال الإمام الشافعي : ؛لم أسمع في الحدود حديثا أبين من هذا [52, ج-6, ص831] .
ب – حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أصاب حدا فعج ل عقوبته في الدنيا فالل ه أعدل من أن يثن ي على عبده العقوبة في الآخرة) [82, ج- 5, ص 61] و92, ج-2, ص 868](11) .
ج – حديث خزيمة بن ثابت مرفوعا : (من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارة له) . [3, ج-5, ص 412](21)
واستثنى ابن حزم [62, ج- 11, ص 421] من الحدود حد المحاربة تطبيقا للآية الشريفة : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله … إلى قوله : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (31) . فالله جمع عليهم بين العذابين, فحديث عبادة يكون مخصوصا بالآية المذكورة , واستثنى الإمام النووي [32, ج-11, ص 322] وابن حجر [42, ج-1, ص 56] وغيرهما حد الردة, فذكر النووي : أن عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة .
2 – وذهب الحنفية إلى أن التوبة هي التي تسقط العذاب الأخروي عن المذنب [91, ج-5, ص 3, و 81, ج-5, ص 112] واستدلوا على ذلك بما يآتي :
أ – قال تعالى : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (41) .
ب – وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) [92, ج-2, ص 0241](51) .
ووجه الاستدلال أن الآية والحديث يدلان على أن الإثم من الذنوب لا يزول إلا بالتوبة .
ج – الآية التي فيها حد الحرابة والإفساد, حيث جمع فيها بين الحد وعذاب الآخرة .
وأجابوا عن حديث عبادة وما ورد في معناه من الأحاديث بأنه يجب أن يحمل على ما إذا تاب المذنب أثناء تنفيذ العقوبة عليه, وقالوا إن تقييد الظني عند معارضة القطعي متيقن بخلاف العكس .
3 – وذهب بعض أهل العلم إلى التوقف في المسألة [32 ج-11, ص 422, و 42, ج-1, ص 66] .
واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعا : ؛ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا« [13, ج-,2, ص 054](61) .
قالوا : طالما توقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد أن يتخد موقفا معينا في الموضوع . بل يجب أن يتوقف كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم .
مناقشة الأدلة والترجيح :
من خلال الأدلة التي استدل بها أصحاب المذاهب الثلاثة يظهر لي – والله أعلم – أن الحدود كفارات لأهلها وجوابر للذنب, وهذا ما ذهب إليه الجمهور, وذلك لأن حديث عبادة حديث متفق على صحته وهو صريح في المسألة .
وأما ما استدل به الحنفية من الآية والحديث على تكفير الذنوب بالتوبة فهذا مع كونه محل اتفاق بين العلماء إلا أنه خارج عن الموضوع فليس فيها ما يدل على أن الحدود كفارات أو أنها ليست كفارات . ثم إن الدليلين لا يدلان على حصر التكفير في التوبة .
وأما آية الحرابة, فليس هنا ثمة تعارض بينها وبين حديث عبادة وما في معناه, فحديث عبادة وما في معناه من الأحاديث مخصصة بآية الحرابة, فحد الحرابة يتميز بأحكام تخصه, ولهذا نرى أن الجمع بين العذابين لم يرد في أي عقوبة أخرى .
وأما حديث أبي هريرة الذي استدل به القائلون بالتوقف فقد أجيب عنه بعدة أجوبة [32, ج-11, ص ص 322 – 422, و42, ج-1, ص 66] :
أ – أن حديث عبادة أصح إسنادا من حديث أبي هريرة, فلذا وجب تقديمه .
ب – أن حديث أبي هريرة متقدم على حديث عبادة, فهو ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه الله ذلك [42, ج-1, ص 66], لأنه لا يمكن أن يكون اليقين قبل الشك; بل يكون شاكا ثم علم بعد ذلك .
ويؤيد هذا أن المبايعة المذكورة في حديث عبادة كانت متأخرة عن إسلام
أبي هريرة بدليل أنه ورد في بعض طرق حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ؛قرأ آية النساء [2, ج-8, ص ص 736 – 836] .
وورد عند الطبراني أن عبادة بن الصامت قال : ؛بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة« [23, ج-2, ص 203] .
فهذه أدلة على أن البيعة المذكورة في حديث عبادة إنما صدرت بعد فتح مكة بعد نزول الآية التي في الممتحنة يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك … الآية ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف [42, ج-1, ص 66] .
فظهر أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن العقوبات كفارات لأهلها وجوابر لذنوبهم ما عدا حد الحرابة والردة . والله تعالى أعلم .
المبحث الخامس
رحمة بالأمة وبالمجرمين
العقوبات الشرعية كلها رحمة من الل ه لعباده, فمبدأ الرحمة واحد من أهم أهداف العقوبات الشرعية فهذه العقوبات تحمي الأسس الثابتة والضرورية لحفظ كيان الأمة, وتبني عليها المصالح الحقيقية الثابتة والتي بدونها يختل بنيان الأمة وينهار, فالعقوبات تكفل المحافظة على أمن المجتمع وتحقق الاستقرار والهدوء التام له, وتحمى حقوق الأفراد وحرياتهم التامة .
ورحمة الله بالأمة تبدو جليا في نظام القصاص الذي يعطي المجني عليه أو أولياءه الحق في التمسك باستيفاء القصاص, وله أثره الكبير في فكرة الردع العام وفي منع تداعي ردود الأفعال العشوائية تجاه الجريمة, فهو بهذا يحفظ على المجتمع الكثير من دماء أبنائه, والتي يمكن أن تسفك بدون حق, وصدق الله إذ قال: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب (71) .
وكذلك تظهر رحمة الل ه بالجماعة في حد السرقة والحرابة وحد القذف والزنا وحد شرب الخمر حيث أن هذه الحدود تؤدي إلى حماية أموالهم وأعراضهم, وتحقق للمجتمع أمنه واستقراره .
وعلى العكس من ذلك فإن الرفق بالمجرمين يعد قسوة في حق المجتمع لا رحمة به . بل الرحمة توجب القسوة على المفسدين وهي وإن كانت في ظاهرها شدة إلا أنها في مؤداها رحمة .
والرحمة وإن كانت للأمة بالدرجة الأولى إلا أنها تشمل الجاني نفسه, حيث إن المجرم لا يعرف مصلحة نفسه فيهوي في دياجير الجرائم التي تؤذيه في دنياه وأخراه, فهو بذلك يحقق رغبة عاجلة تهفو إليها نفسه الأمارة بالسوء ولا ينظر إلى عواقب ما يصنع, وأنه ضرر عليه في الدنيا والآخرة فتأتي العقوبات لتقام عليه رحمة له وشفقة عليه لئلا يستمر في هذه القاذورات المؤذية له, وهو وإن كان يشعر أن العقاب أذى وألم فإن واقع الأمر أن أذى الجرائم لو استمر عليها يكون أشد وأقسى على نفسه وحياته .
ولهذا فإن الشرع ينتشله من حمأة هذه القاذورات بعقوبة هي عليه أخف بكثير من أضرار الجرائم التي ارتكبها .
ومثل العقوبات في هذا كمثل الطبيب يسقي المريض الدواء المر أو يقطع منه عضوا ليسلم باقي الأعضاء فعمله رحمة بالمريض, وكذلك العقوبات هي رحمة بالأمة وبالمجرمين .
قال ابن تيمية : ؛فإن إقامة الحد من العبادات, كالجهاد في سبيل الله . فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده, فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله, ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق, بمنزلة الوالد إذا أدب ولده, فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد, وإنما يؤدبه رحمة به, وإصلاحا لحاله, مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب, وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه, وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك, بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه, وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة« [33, ص 94] .
وكذلك فرحمة الله بالجاني في جرائم الحدود تبدو في اشتراط وسائل إثبات لا تدع معها مجالا للشك في ارتكاب الجريمة, بل إن بعض الوسائل يندر توافرها في بعض الجرائم كالزنا, ومبدأ درء الحدود بالشبهات المعتبر لدى الفقهاء هو أحد مظاهر الرحمة بالجاني .
وفي جرائم القصاص تبدو رحمة الله بالجاني في تخيير المجني عليه أو أوليائه بين القصاص والدية والعفو مع تحبيب العفو إليه .
وإضافة إلى ذلك فإن الرحمة تستمر مع المجرم حتى أثناء إقامة الحد عليه من اشتراط آلة ماضية في القصاص, وكون السوط الذي يضرب به الجاني متوسطا وكذلك التوسط في الضرب نفسه بحيث لا يجرح جلد الجاني وكذلك حسم العروق عند القطع وهكذا .
فالعقوبات الشرعية كلها رحمة بالأمة وبالمجرمين على درجات يواز ن فيها بين مصلحة المعتدي ومصلحة الجماعة [43, ج-3, ص 361, و 5, ص ص 31 – 41, و9, ص ص 441 – 841, و 53, ص 05] .
مجازاة الجاني بالمثل
إن من الأهداف التي ترمي إليها العقوبات الشرعية مجازاة الجاني بالجزاء المكافئ للجريمة فيتحمله الجاني جزاء جريمته [02, ص ص 46 – 66, و 9, ص 341] .
وهذا هو العدل الذي ينشده الناس في حياتهم فلكل إنسان حقوق وعليه واجبات ولابد من الموازنة بينها, فإذا اختل هذا التوازن بالاعتداء على حقوق الآخرين أو الإخلال بالواجبات وجب حسم ذلك بالعقوبة العادلة التي تعيد التوازن وتحقق العدل [63, ص 37].
ويدل على فكرة اعتبار الجزاء غاية للعقوبات تصريح القرآن الكريم في العقوبة في جرائم الحدود بأنها الجزاء المقابل للجريمة . قال تعالى : إ ن م ا ج ز اء ال ذ ين ي ح ار ب ون الل ه و ر س ول ه و ي س ع و ن فى الأ ر ض ف س ادا أ ن ي ق ت ل و ا أ و ي ص ل ب و أ و ت ق ط ع أ يد يهم و أ رج ل ه م م ن خ ل ف أ و ي نف وا م ن الأ رض ذ ل ك ل ه م خ زى فى الد ن ي ا و ل ه م فى الأ خ رة ع ذ اب ع ظ يم * إ لا ال ذ ين ت اب وا م ن ق بل أ ن ت قد ر وا ع ل يه م ف اعل م وا أ ن الل ه غ ف ور ر ح يم (81) . وقال : و الس ار ق و الس ار ق ة ف اقط ع و ا أ يد ي ه ما ج ز ا ء ب م ا كس ب ا ن ك الا م ن الل ه و ال له ع ز يز ح ك يم (91) . وقال تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (02) .
فبمجرد حصول الجريمة يثبت العقاب حتى وإن كان الشارع أعطى المجني عليه حق المطالبة عموما وحق تنفيذ القصاص خصوصا فإنه لا يعني أن العقاب لا يتأتى إلا بذلك, فالعقاب يوجد لأنه مقابل للجريمة الحاصلة ومساو لها في الدرجة الأولى ثم هو أخذ بحق المجني عليه [9, ص 441] .
هذا ومما يؤكد كون العقوبة في مقابل الجريمة وجزاء لها أن الشرع الشريف لا يعاقب إلا من كان مكلفا أي بالغا عاقلا مختارا ومدركا لمعاني الجريمة ونتائجها أي مسئولا عن جريمته, وهو ما ي عب ر عنه بالمسئولية الجنائية . ثم إن من لوازم المسئولية الجنائية أن العقوبة شخصية وهو ما يعبر عنه بمبدأ شخصية العقوبة, فلا ي سأل عن الجريمة إلا مرتكبها ولا يؤخذ المرء بجريرة غيره مهما كانت القرابة أو الصداقة بينهما [31, ج1, ص ص 381, 493], وقد قرر القرآن الكريم هذا المبدأ العادل فقال تعالى : ولاتزر وازرة وزر أخرى (12) . وقال : من يعمل سوءا يجز به (22) .
كذلك مما يؤكد كون العقوبة في مقابل الجريمة وجزاء لها أن الشرع لا يعاقب على الجريمة إلا بعد ثبوتها ثبوتا لا شك فيه ولذلك قرر مبدأ سقوط العقوبة بالشبهات [81, ج-5, ص 942, و 73, ص 552] .
هذا وإن تمي ز عقوبات الحدود في أنها لا يجوز تعديلها ولا العفو عنها يؤيد ما قلناه من اعتبار الجزاء المقابل العادل كأحد أهداف العقوبات .
قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض حديثه عن أغراض العقوبة : ؛هي جزاء وعقوبة وجزاء وخزي« (62, ج-11, ص 602] .
وما يراه الشافعية في مسألة تعدد الجرائم والعقوبات حيث يرون وجوب توقيع جميع العقوبات المحكوم بها على على الجاني مهما تعددت باعتبار أن كلا منها يقابل فعلا قد ارتكبه الجاني [83, ج-2, ص 882, و 02, ص 66], يؤيد ما قلناه من اعتبار الجزاء كأحد أهداف العقوبات الشرعية .
المبحث السابع
إصلاح الجاني
إن العقوبات الشرعية تهدف إلى إصلاح الجاني وتقويم سلوكه, ومنعه من العودة إلى الإجرام مرة أخرى [02, ص 96, و 9, ص ص 841 – 651] .
فإصلاح حال الجاني هدف مهم من أهداف العقوبات الشرعية سواء كان ذلك أثناء تنفيذ العقوبة أو بعدها فيجب أن يكون هدف مقر ر ومن ف ذ العقوبة هو الإصلاح وأن يكون عمله لل ه وليس للتشفي فإن قصد التشفي فهو آثم . وينبغي أن ي بي ن للجاني خطؤه ويبي ن له أنه إن تاب وأناب بعد العقاب فإن المجتمع سوف يرحب به ولا يؤذيه; بل يعتبره عضوا صالحا نافعا , فلا يتعامل معه بموجب سوابقه; بل بموجب واقعه الذي هو فيه .
ومن الأمور التي يظهر فيها ما يقصده الشارع من إصلاح الجاني هو : أن الشريعة قد ندبت إلى الستر إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة …) الحديث [93, ج-4, ص 2002] وندبت إلى التوبة في كل الجرائم التي لم يكشف أمرها باعتبارها مطهرة للذنب إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات (32). وقضت بإسقاط العقوبة في جريمة الحرابة إذا تاب قبل القدرة عليه إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (42) .
كل هذا يؤكد ما قلناه من أن الهدف المهم الأساسي هو إصلاح الجاني وتقويم حاله وليس الهدف هو تقييد الناس وتوقيع العقوبات عليهم .
واشتراط الفقهاء في الآلة التي تنفذ بها العقوبة بحيث يكون تنفيذ العقوبة زاجرا للجاني لا مهلكا له, يؤيد ما قلناه من أن العقوبات تهدف إلى إصلاح الجاني ولا تهدف إلى الإيلام بذاته فقط .
وتحريم الشريعة السب والشتم للجاني أثناء إقامة العقوبة يؤكد ذلك, فقد ورد في بعض ألفاظ الحديث أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن نفذ عليه الحد : ماله أخزاه الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) [2, ج-21, ص 57] .
وكذلك أمرها للمجتمع بقبول المجرم بعد تنفيذ العقوبة وعدم التعرض له بالأذى وعدم تضييق المواقع عليه كل هذا دليل على العناية بجانب إصلاح الجاني [53, ص 05, و 02, ص 96, و 9, ص 841] .
ولقد أشار إلى هذا الهدف العلاجي بعض الفقهاء حين ناقشوا عقوبة النفي من الأرض المقررة لجريمة الحرابة حيث ذكروا أن هدف هذه العقوبة هو إصلاح الجاني, ولذلك يرون أن النفي يجب أن يستمر إلى أن تثبت توبة الجاني وصلاحه [04, ج-01, ص 892] .
وفي نطاق العقوبات التعزيرية فإن الفقهاء أعطوا الهدف الإصلاحي المقام الأول بين الأهداف الأخرى من العقوبات إذ عرَّفوا التعزير بأنه عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة, وهو تأديب استصلاح وزجر [51, ص 632] .
اترك تعليقاً