دراسة و بحث حول الدية و التعويض بين الشريعة و القانون
أعداد
الدكتور:- وليد سعيد عبدالخالق
مقدمة
الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل، يهب لمن يشاء الفهم وصدق التأويل ويؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يشرك في حكمه أحداً ولن تجد من دونه ملتحدا..
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً..
أما بعد..
فهذا بحث عن الدية والتعويض بين الشريعة والقانون نستخلص فيه العلاقة بينهما من حيث الاتفاق والاختلاف والمقاربة والمباعدة ومدى إجازة التعويض مع بقاء الدية وقد استعنّا في بحثنا باجتهادات الأولين تلك التي غاصت في النصوص واستصحبت الواقع فلم تنفصم عنه ولم تغترب عن أعرافه كما كان عماد بحثنا الآيات المحكمات من القرآن الكريم والأحاديث قطعية الثبوت والدلالة، وكان لنا مندوحة أن نرد المتشابهات للمحكمات والظنيات للقطعيات من غير تعسف أو تحوير أو انتحال… ومما لا شك فيه أن فقهاء الأمة قد استقروا في أفهامهم وأطروحاتهم على أن كل ما جاء به الشرع الإسلامي من أحكام منصوص عليها هو لمصلحة الناس، فما من أمر أمر به الشرع وتعقبنا نتائجه وآثاره بعقل سليم من الهنات الفكرية والهوى إلا وجدنا فيه المصلحة واضحة نيرة هادية وما من أمر وجدت الشارع الإسلامي ينهى عنه إلا رأيت المضرة فيه بارزة واضحة بلا لبس أو غموض إن اتجهنا إلى الفحص والدرس بعقل مجرد من الهوى.
ومما لا شك فيه أيضاً أن من يحاول أن يفهم الشريعة على أنها قوانين مجردة ومعالجات لإصلاح طوائف المجتمع وتنظيم معاملاتهم من غير أن يربطها بالإسلام فلن يفهمها على وجهها الصحيح لأن الفهم السليم المستقيم هو ما قام على رد الفروع إلى أصولها والنتائج إلى مقدماتها والأحكام إلى غاياتها من غير تعسف أو تحوير أو انتحال..
وإذا كانت حكمة الله قد اقتضت أن يترك لنا مساحة كبيرة نجتهد فيها لأنفسنا ولمعاملاتنا وأجاز أن يتعدد فيها الصواب وفقاً لمصالح الأمة وكانت معالم هذه الحكمة واضحة غاية ما يكون الوضوح عندما قال الله تعالى في كتابه الكريم “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكر إلا أولو الألباب”(1)
فكان التشريع الإسلامي يدور بين المحكم والمتشابه الذي ينبغي أن نستهدي في فهمه إلى أصول وقواعد، حيث نرده إلى المحكمات ونبحث من خلاله على المصلحة.
ولم يختلف أحد على أن عالمية الإسلام وشموله اقتضت أن تتغير الأحكام بتغير المكان أو بتغير الزمان فلا يعقل أبداً أن يثبت الحكم على اختلاف الأزمنة والأمكنة فلم يقل أحد أن الشريعة جامدة ليس فيها سعة أو مرونة أو أنها تقف عند زمن واحد وفكر واحد بل أن هناك العديد من الأحكام التي أقر الفقه صراحة بلا مواربة بتغيرها بتغير الزمان، ومن أمثلة تغير الأحكام بتغير الزمان تضمين سيدنا علي رضي الله عنه الصناع إذا هلك ما تحت أيديهم من متاع ( أي تحميلهم المسئولية التعويضية عن الذي تلف تحت أيديهم من متاع دون أن يكون هناك خطأ راجع إليهم ) وذلك خلاف ما كان متبعا من قبل ولما سئل علي رضي الله عنه في ذلك قال “لا يصلح الناس إلا ذاك” وذلك لما تغير الناس وخوف على أموال الناس التي تحت يد الصناع.
وأيضاً نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبس ضالة الإبل ( كانت الإبل تضل من أصحابها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الأمانة كانت متفشية بين الناس فكانوا يتركونها تأكل من المراعي وتشرب من الآبار إلى أن يبحث عنها صاحبها فيجدها لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبس ضالة الإبل حتى يأتي صاحبها فيعرفها ويأخذها ) وظل سيدنا أبو بكر على ذلك واستمر الحال على ذاته في زمن سيدنا عمر بن الخطاب ولكن جاء زمن سيدنا عثمان بن عفان فرأى تغير طباع الناس وأخلاقهم فأمر بحبس ضالة الإبل حتى يأتي صاحبها فيعرفها ويقول الدكتور/ يوسف القرضاوي في كتابه “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم”
“رأينا أصحاب الأئمة يخالفون شيوخهم لاختلاف زمانهم عن زمن من قبلهم وهذا ما سجله تاريخ الفقه بوضوح كما قيل في بعض الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد: أنه اختلاف عصر وزمان وليس اختلاف حجة وبرهان”
وآية ذك تلك المقولة التي ما زالت تتردد في أروقة التاريخ من أن “الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق”
ومما لا ينازع فيه أحد أن عصرنا حدثت فيه تغيرات ضخمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأصبح للعصر ضروراته وحاجاته وتلك الضرورات والحاجات ينبغي أن تفرض على الفقيه الاتجاه إلى مراعاة الواقع والاجتهاد له في الأحكام الفرعية سواء في العبادات أو المعاملات.
“هذه الضرورات هي التي جعلت علماء العصر لا يبطلون بيع المصحف لحاجة الناس إلى شراءه رغم نص كثير من الفقهاء ـ كالحنابلة والمالكية ـ على كراهة بيعه وتحريمه..
وفي كتاب الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي نجد أنه استنبط حكماً جديداً في مسألة من مسائل الزكاة لم يقل بها أحد من السابقين ذلك أنه في زكاة الأرض المستأجرة ذهب إلى أن يزكي المستأجر الزرع والثمر الذي يحصله من الأرض إذا بلغ نصاب الزكاة محسوباً منه مقدار الأجرة التي يدفعها لمالك الأرض ومؤجرها له باعتبارها ديناً عليه وبذلك يزكي ما خلص له من زرع الأرض.
وأما المالك المؤجر فهو يزكي ما يقبضه من أجرة الأرض ـ إذا بلغ النصاب ـ محسوماً منه ما يدفعه من ضرائب عقارية وبذلك يزكي كل منهما ما وصل إليه من مال عن طريق الأرض كما لو اشتركا فيها بطريق المزارعة فإن كل منهما يزكي نصيبه.. وهذا القول بهذه الصورة لم يذهب إليه أحد مما سبق وإنما قال أكثرهم زكاة الزروع والثمار في الأرض المستأجرة على المستأجر. وقال أبو حنيفة على المالك المؤجر وسبب الخلاف هو نظرة كل فريق لهذا النوع من الزكاة هل هو حق الزرع أم حق الأرض وكان اجتهاد القرضاوي أنه حق مجموعهما.
وإذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية هي أعلى المصادر الأصلية في الفقه الإسلامي فإن المصالح المرسلة أو الاستصلاح من أعلى المصادر التبعية، والاستصلاح من أعلى المصادر التبعية، والاستصلاح في أصول الفقه هو بناء الأحكام الفقهية على مقتضى المصالح المرسلة (وهي كل مصلحة لم يرد في الشرع نص على اعتبارها ولم يرد فيه نص على إلغائها فهي إنما تدخل في عموم المصالح التي تتجلى في اجتلاب المنافع واجتناب المضار تلك المصالح التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها بوجه عام مثل حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال.
أما العوامل التي تدعو إلى الاستصلاح فأهمها تغير الزمان أي اختلاف أحوال الناس وأوضاع العامة عما كانت عليه ومنها جلب المصالح ودرء المفاسد)
ووفقاً لما سلف سينقسم البحث إلى:
1- تعريف الدية وتأصيل طبيعتها وكنهها.
2- العقوبة في الشريعة الإسلامية.
3- التعويض في الشريعة الإسلامية
مبحث : الدية.. تعريفها طبيعتها وجوبها
أولاً: الدية لغة:
الدية في اللغة “مصدر من فعل (ودى) والدية حق القتيل والدية واحدة وجمعها ديات والهاء عوضاً عن الواو تقول وديت القتيل أديه ديةً إذا أعطيت ديته، واتديت أي أخذت ديته ومنه الحديث ( إن أحبوا قادوا وإن أحبوا وأدوا) أي إن شاءوا اقتضوا وإن شاءوا أخذوا الدية.
ثانياً: الدية قبل الإسلام:
كان العرب قبل الإسلام مجتمعاً قبلياً لا تنظمه قوانين ولا تسوسه أنظمة إلا أنهم مع ذلك كانوا يحرمون طائفة من الأعمال ويعاقبون عليها وفقاً لأعراف تعارفوا عليها وتحاكموا إليها وكانت هذه الأعمال المحرمة – التي نطلق عليها حالياً بلغة القانون جرائم – تختلف عقوباتها من قبيلة لأخرى لأن العرف الذي كان يسوسهم وينقادون إليه متبايناً ومختلفاً حتى أنهم كانوا يتحاكمون إلى أعراف لا تعد ولا تحصى، وكانت الجريمة إذا وقعت من أحد الأفراد تتحمل القبيلة بأسرها تبعاتها ومسئوليتها وكثيراً ما كانت الجرائم الفردية باعثاً لحروب طويلة كحرب داحس والغبراء التي وقعت بين قبيلتين من قبائل العرب وظلت مستعرة أوارها سنوات عديدة وكانت في أصلها بسبب جريمة فردية قليلة الأهمية.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الصلح بمقابل وكان الدافع لذلك الرغبة في السلام والوئام وسمي هذا المقابل عند العرب دية إلا أن الدية لم تكن على نسق واحد وإنما تتحكم فيها أمور خارجية مثل مكانة الجاني والمجني عليه ومكانة القبيلة المعتدية والمعتدى عليها.
كما أن الدية لم تكن قبل الإسلام عن جريمة القتل الخطأ فقط بل كانت الدية أيضاً عن القتل العمد وعن كافة الجروح، وتروي كتب السيرة لنا أن أهل قريش جمعوا نفراً من كل قبيلة في مؤامرتهم التي حاولوا بموجبها قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه للهجرة وكان منهجهم في هذا هو أن دم الرسول صلى الله عليه وسلم سيتوزع بين القبائل فلن يكون أمام أهله آنذاك من بد إلا قبول الدية.
ثالثاً: أصل الدية من حيث التشريع:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم “وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا…”
وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة:
“من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد”
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث في وجوب الدية ومقدارها وكذلك كتابه إلى أهل اليمن في القتل والديات ومقاديرها – وقد أجمع الصحابة والتابعين وفقهاء الأمة على مشروعية الدية من غير نكير ولا مخالف.
رابعاً: تعريفها وطبيعتها:
لم يختلف أحد من الفقهاء على أن الدية عقوبة يتم توقيعها على شخص إرتكب جريمة قتل خطأ وهي من العقوبات المالية التي فرضتها الشريعة الإسلامية ردعا للجناة وزجرا لهم وقد أوردت آيات القرآن الكريم بيانا تفصيليا لهذه العقوبة كما أوردت السنة النبوية شرحا تفصيليا لها ولمقاديرها وبالتالي لا يجد الباحث في هذا المجال حاجة للاستطراد في أمر لم يختلف فيه الفقهاء، بيد أن طبيعة الدية من حيث أنها تؤول للمجني عليه أو ورثته أثارت خلطا لدى البعض فظنوا أنها نوع من أنواع التعويض وهي بعيدة كل البعد عنه لذلك فإننا سنتعرض للدية من حيث تعريفها وطبيعتها والأدلة الشرعية والعقلية الدالة على تلك الطبيعة.
والدية في تعريفها من ناحية اللغة “هي المال الذي يدفع للمجني عليه أو لورثته من بعده سواء كانت الجناية في النفس أو دون النفس وسواء كانت الجناية عمداً أو خطأ وقد سمي هذا المال في القرآن دية لقوله تعالى (ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا)
وسمي المال المدفوع في الإصابات التي دون النفس أرشاً كما سمي دية ((فالمال المدفوع في القتل يسمى دية ولا يسمى أرشاً لكن فيما دون النفس يمكن أن يسمى أرشاً أو دية على حد السواء000
كما ذهب الفقه الحديث في تعريف حاسم وجازم إلى أن “الدية عقوبة مالية تتمثل في مال يؤديه الجاني أو عاقلته إلى المجني عليه أو أوليائه وهي بهذه المثابة تتشابه مع خصائص الغرامة”
والعاقلة هي عشيرة الجاني أو أهله أو قبيلته أو من تحالف واتفق معهم على سداد الدية .
وذهب الفقه أيضاً إلى أن “لا يقتصر التشريع الجنائي الإسلامي على عقوبات الحدود والقصاص فحسب وإنما تضمن بعض العقوبات المالية وتعتبر الدية والأرش هي أهم صور العقوبات المالية”
والأرش هي العقوبة المالية التي فرضها المشرع الإسلامي لبعض جرائم الاعتداء على النفس بصدد دية الجروح التي تحدث تلفا لأحد أجزاء جسد المعتدى عليه (ويطلق على دية الجروح الأرش وهو عندما تكون الدية مقدرة، أما إذا لم تكن مقدرة فتسمى حكومة العدل)
(وأي تلف أو جرح لم يحدد له الرسول صلى الله عليه وسلم دية أو أرشاً ففيه حكومة وهي ما يحكم به القاضي بناء على تقدير أهل الخبرة)(4)
“وإذا كان القصاص حقاً للمجني عليه أو ولي الدم فإن الإسلام شرع الدية في المقابل كعقوبة بديلة مع القصاص في حالة سقوطه أو صدور عفو من أصحاب الحق في القصاص وقرر الدية كعقوبة أصلية في حالتي القتل والجرح شبه العمد والخطأ والحكمة من تشريع الدية “كعقوبة” في الحالتين هي تجنيب الأمة الإسلامية كافة صور القطيعة والبغضاء ونزع بذور الحقد والانتقام من نفوس المسلمين”
“فالقضاء بالدية فيه ترضيه للمجني عليه وأهليته حيث تشفى ما في نفوسهم من الألم والغيظ”
وعقوبة الدية عقوبة منطقية في الإسلام تتماشى مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وقد راعى الإسلام بشرية الجاني وأن الإنسان جُبل على الخطأ ومن طبيعته الذلل وأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى درجة الكمال لبشريته ولذلك فإنه من الطبيعي أن يقع المكلفون في الخطأ وقد يكون هذا الخطأ قد ترتب عليه إزهاق روح وقتل نفس فما الحال آنذاك؟ خطأ وقع دون قصد أو عمد، ونتيجة ترتبت هي إزهاق روح وإماتة إنسان، نظر المشرع إلى المصلحتين، مصلحة النفس التي أزهقت دون حق ومصلحة الجاني الذي أخطأ دون قصد، ووازنت الشريعة بين هاتين المصلحتين فرفضت أن تهدر نفس في الإسلام دون عقوبة كما رفضت أن يقتص من قاتل لم يتعمد أو يقصد إحداث الأثر الذي وقع، لذلك ذهب فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أنه:
“ومن ناحية أخرى أن تشريع الدية في حالة الخطأ أو شبه العمد هو تطبيق لقاعدة “لا يهدر دم في الإسلام” فإذا أوجب الإسلام رفع الخطأ عن المخطئ استثناء لأنه معذور أو استبعاد القصاص في شبه العمد لعدم المماثلة فإنه لابد من احترام النفس الآدمية وعدم إهدارها”
ولم تكن عقوبة الدية هي العقوبة الوحيدة في جريمة القتل الخطأ بل تقدم عليها عقوبة أخرى هي “تحرير رقبة مؤمنة”.. وهذه العقوبة – تحرير رقبة مؤمنة – هي من العقوبات المالية أيضاً إلا أنها بطبيعة الحال لا تذهب إلى أهل المجني عليه ولكن يستفيد منها الذي سيتم عتقه وسيستفيد منها المجتمع بأثره وهذه العقوبة تؤكد أن طبيعة الدية التي جاءت ردف تحرير الرقبة المؤمنة هي طبيعة عقابية وليت تعويضية، ومن هذا المنطلق فإن قاضي العدل لا ينبغي عليه أبدا أن يخلط بين الدية والتعويض ولا يجوز له أن يجمع بينهما أو يقضي بتعويض محسوم منه الدية ولا يجوز له بداهة ضم عائد الدية إلى التعويض فهذا غير ذاك، ولعل كون الدية عقوبة مالية مع كون صيرورة هذا المال لورثة القتيل قد أثار بعض اللبس والاشتباه حول طبيعة الدية هل هي تعويض ؟ أم عقوبة ؟ أم هي بين بين ؟
( قد يقال أن الدية عقوبة لأنها مال في بذله معنى زجر الجاني ولأنه يحكم بها دون توقف على طلب صاحب الحق فيها ولأنها واحدة ومتساوية، وقد يقال إنها تعويض لأنها تدخل في مال المجني عليه ولا تدخل الخزانة العامة وقد دعا هذا إلى القول بأنها تعويض وعقوبة معا وإذا عفا المجني عليه عنها جاز تعزير الجاني بعقوبة تعزيرية ملائمة ولو لم تكن عقوبة لتوقف الحكم بها على طلب المجني عليه ولما جاز العفو عنها أن تحل محلها عقوبة تعزيرية)
أظن أن هذا هو وجه الخلاف بين الرأيين ووجه الاختلاف بين النظرتين، لذلك فإننا لكي نسبر غور طبيعة الدية فإننا سنتعرض لفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية ذلك أن العقوبة في الشريعة لها نسيج خاص بها قد تتشابه في بعض الملامح مع الأنظمة التشريعية الأخرى إلا أنها قطعيا تختلف عنها في كثير من الأسس والقواعد بحيث أنه لا يجوز في نهاية الأمر أن نُخضع العقوبة الشرعية لمفاهيم وقواعد العقوبة الجزائية في التشريعات العقابية الأخرى إذ أنهما من نسيجين مختلفين، (فالدين الإسلامي عقيدة وشريعة فهو دين عقائد وعبادات وهو أيضا شريعة متكاملة تنظم حياة الإنسان من مختلف جوانبها المعنوية والمادية وتضع له القواعد والأحكام التي تكفل مسيرة الفرد والجماعة في الحياة الدنيا على الطريق السوية)
كما أن النظام الاقتصادي في الإسلام وفكرة الخزينة العامة للدولة ومصادرها ومصارفها تختلف كل الاختلاف عن الأنظمة التشريعية الأخرى فإذا كانت فكرة العقوبة المالية في التشريعات الوضعية تقوم على توجيهها إلى خزينة الدولة حيث تعتبر مصدرا من مصادر الدخل العام للدولة إلا أن هذه الفكرة لا تجد لها شبيها في الإسلام حيث لا تذهب الغرامات المالية أبدا لخزينة الدولة ( بيت مال المسلمين ) في أي حالة من الحالات اللهم إلا بعض الحالات الاستثنائية التي لا يجوز القياس عليها.، لذلك فالنظام الجنائي الإسلامي يتفرد عن الأنظمة العقابية الأخرى بهذه الخصيصة.
(ويعتبر النظام الجنائي الإسلامي من أهم الجوانب التي عنى بها الإسلام لتنظيم حياة الإنسان في دنياه إذ لم يكتف بالتذكير بالعقاب الأخروي وإنما أقام نظاماً متكاملاً للعقاب في الحياة الدنيا لردع الجناة والحيلولة دون استفحال الشر واستشراء الفساد، ويقوم النظام الجنائي الإسلامي على عدة أسس رئيسية يتميز بها عن أي نظام آخر.)
ومن هنا فإنه يجب علينا من باب اللزوم أن نتعرض تفصيلاً لمقاصد الشريعة الإسلامية في العقوبات
خامساً: فلسفة العقوبة في الإسلام والمقاصد الشرعية لها:
غني عن الذكر أن أهم المبادئ التي تغياها الفقه الإسلامي بصدد العقوبة هو “استظهار علة التجريم” فالشريعة الإسلامية لم تحظر على الناس أنواعاً وأنماطاً من السلوك للتضييق أو التسلط عليهم أو الاستبداد بهم وإنما حظرت بعض الأفعال ابتغاء حماية مصالح اجتماعية تتأذى بهذه الأفعال، أو في عبارة أخرى استهدفت صيانة حقوق المجتمع والأفراد تهدرها هذه الأفعال.
وقد أصّل الفقه المصالح التي تحميها قواعد التجريم فردوها إلى مصالح خمس هي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال، وإن كانت هناك رؤى فقهية جديدة من فقهاء معاصرين ترى ضرورة التوسع في هذه المصالح وذلك لتنوع العلاقات والأفكار والغايات في واقعنا المعاصر حتى باتت هناك أنماط من التصرفات تهدر مصالح لم يسبق أن بحثها الفقهاء وهي في الحقيقة جديرة بالحماية العقابية.
أما العقوبات الشرعية التي قررتها الشريعة الإسلامية فإنها وإن بدا من ظاهر الأمر في بعضها شدة وصرامة إلا أنها في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن أن تكون تعذيباً للمجرم أو تنكيلاً به بل أن الشريعة الإسلامية تميزت في جميع قواعدها بطابع الرحمة بالناس كما أنها قاعدة عامة مجردة كما أن الشريعة الإسلامية فضلاً عن أنها تستهدف بالعقوبات ضبط الأمن في المجتمع وتنتهج في سبيل ذلك منهج الردع العام والردع الخاص ويضاف إليهما ترضية المجني عليه وأسرته، ولئن كانت تأصيلات فقهاء القانون الجنائي الوضعي على مختلف المدارس القانونية تحصر فلسفة العقوبة في الردع العام والردع الخاص فقط إلا أن الشريعة الإسلامية أضافت لهذين العنصرين ترضية المجني عليه وأسرته.
سادساً: سمات العقوبة في الشريعة:
تتسم العقوبات في الإسلام بمجموعة من السمات والخصائص تفردها وتميزها عن غيرها في الأنظمة الوضعية وتضفي عليها طابعاً خاصاً وتؤدي إلى صيانة المجتمع الإسلامي وسوف نتناول هذه السمات بالتفصيل.
1. العقوبات في الشريعة الإسلامية رحمة بالناس:–
كانت نظرة الشريعة الإسلامية للعقوبة نظرة متوازنة غاية ما يكون التوازن ذلك أنه (إذا كانت العقوبات بكل صورها أذىً لمن ينزل به فهي في آثارها رحمة بالمجتمع ولسنا نريد من الرحمة تلك الشفقة التي تنبعث عن الانفعال النفسي بل نريد من الرحمة العامة بالناس أجمعين التي لا تفرق بين قبيل وقبيل ولا جنس وجنس، إن الله تعالى يقول لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وقال صلى الله عليه وسلم “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” وقال عليه السلام “لا تنزع الرحمة إلا من شقي” وعن مفهوم الرحمة قال صلى الله عليه وسلم “إنما أريد بالرحمة الكافة” ولكن لا رحمة في ظلم فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرحم الناس عندما قال ” لآخذن بصماخ القوي حتى يأخذ الضعيف الحق منه”)
وقد أجمع الفقه كله على أن الأحكام العقابية في الإسلام هي رحمة من المشرع للمخاطبين بأحكامه بل إن هناك المئات من الأبحاث لفقهاء القانون من غير المسلمين أفردوا مباحثا عديدة لهذه الخصيصة التي تعلو ولا يُعلى عليها
2. قاعدة عامة مجردة تتغيا المساواة:–
الشريعة الإسلامية تخاطب في أحكامها الحكام والمحكومين على قدم المساواة لذلك نجد ألفاظ وعبارات القرآن الكريم وهي في مجال العقوبة تتجه إلى العمومية والتجريد مثل:
“والسارق والسارقة”
“والزانية والزاني”
“كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى”
“ومن قتل مؤمناً خطأ..”
وذهبت الأحاديث الشريفة إلى أنه:
“الناس سواسية كأسنان المشط”
” إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه”
” لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى”
وتحفل الشريعة الإسلامية بعشرات بل مئات من النصوص التي تؤكد عمومية القواعد العقابية فيها وتجريدها ومساواة المخاطبين بها
“فإذا كانت العقوبة محددة كما في الحدود والقصاص وقعت على مقترف الجريمة أيا كان مركزه ومكانته وإن كانت غير مقدرة كما في التعزير وقعت العقوبة على الجاني بالقدر الذي يردعه أيا كانت مكانته أيضاً وقد تقرر هذا المبدأ عملياً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدع اجتهاداً لمجتهد أو تأولاً لمتأول “
3. الردع العام والردع الخاص:–
لم تكن العقوبة في الإسلام محض عبث بل إن العقوبة مانع عن الإقدام على الجرائم، زاجر للمجرم بعد ارتكابها.
قال الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية:
“الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع على ارتكاب ما حظر وترك ما أمر لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حظراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة وليكون ما حظر ممنوعاً وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم”
قال ابن تيمية في فتاويه:
“العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم وزجرهم للردع عن ارتكاب الجهالات”
لذلك وتحقيقاً لهذا المقصد ظهرت خصائص العقوبة في الإسلام وهي:
أ. الإيلام:
(ويقصد بذلك أن العقوبة مؤلمة أو تنطوي على أذى أو ألم لمن توقع عليه إذا كانت الجريمة تعد شراً أنزله الجاني بالمجتمع فإن هذا يقتضي مقابلة هذا الشر بإيلام يعادله في النفس أو المال)
(ويتمثل الإيلام في أثر معين يلحق المحكوم عليه وهذا الأثر هو المساس بحقوقه أو مصالحه عن طريق السلب أو الانتقاص منها كلية أو جزئية أو في صورة قيود على استعمالها فهو يصيب الشخص في نواحي متعددة في حريته وحقوقه وذمته المالية وأحياناً في حياته وسلامته البدنية)
(والقاعدة في التشريع الجنائي الإسلامي أن مقادير العقوبة تكون مساوية لمقدار الأذى أو الضرر الحاصل من الجريمة فالقصاص هو أساس العقوبات)
لذلك تحمل العقوبة في الإسلام إيلاما لا انتقاما وقد يكون هذا الإيلام في البدن كما قد يكون الإيلام في المال على قدر الجريمة ودور نية الجاني فيها
ب. الترضية:
من خصائص العقوبة في الإسلام ترضية المجني عليه أو أهله وهذه الخصيصة هي من أهم الخصائص التي تميزت بها العقوبة في الشريعة الإسلامية حتى لا أخالني مغالياً إذ قلت أنه لا توجد شريعة عقابية تسعى إلى استرضاء المجني عليه – بشكل مباشر وخاص – أو أهله كقدر عناية الشريعة الإسلامية بها حتى أنها قررت إسقاط العقوبة ذاتها في بعض الجرائم ـ وليس في كلها ـ إذا رضي المجني عليه أو ورثته أو وليه.قال تعالى “فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة”وقوله تعالى “وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم”
وإذا كانت صور القصاص تحدث أثراً نفسياً شافياً في نفس المجني عليه أو أهله أو وليه أو ورثته بحيث تشفي نفوسهم عند رؤيتهم للجاني وهو يقتص منه وترضى نفوسهم فإن الشريعة عنيت فوق القصاص بتحديد دية أو أرش تُسلم إلى المجني عليه أو ورثته لترضيتهم إذ لا يقبل الإسلام أن يسفك فيه حماه دم.
(فالدماء هي أحرم الحرمات كلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف “ألا إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا قد بلغت اللهم فاشهد”)
وإذا كانت الشرائع العقابية الحديثة قد اتجهت إلى اعتبار الجريمة خرقاً لناموس الاجتماع وغلّبت حق المجتمع على حق الفرد في كل الجرائم (فإن الشريعة الإسلامية مع هذا الاعتبار جعلت العقاب متجهاً إلى شفاء غيظ المجني عليه أولاً مع ملاحظة الاعتبار العام وبذلك لوحظ الجانب الشخصي مع ملاحظة حق المجتمع فقد اعتبر الإسلام أن من قتل شخصاً فقد قتل الناس جميعاً وللمعنى الشخصي جعل لولي الدم الحق في رفع الدعوى وإسقاطها والعفو فقد قال تعالى “فمن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا
ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وعلاجه له أثره إذ أنه وقتها يتوقف عن التفكير في الانتقام ويبتعد عن الإسراف في القصاص أو الانتقام.
(وأنه في سبيل شفاء غيظ المجني عليه وذويه كان الفقه الإسلامي في العقوبات يقوم على أساس سداد الدية كغرامة للمجني عليه أو ذويه إن لم يمكن تنفيذ حكم القصاص كما أنه في حالة عفو المجني عليه يجب إعطاؤه أيضاً المال الذي يطلبه)
ج. التحديد:
تتسم العقوبة بأنها محددة سواء من حيث الكم أو الكيف إذ يتقيد القاضي في تقديره لها بالحدود التي يقررها القانون وليس له الحق في أن يوقع عقوبة تجاوز الحد الذي شرعه الشارع أو تقل عن الحد الذي قدره المشرع
“والعقوبات في الشريعة الإسلامية نوعان بعضها مقدر سلفاً بالنص الصريح في الكتاب الحكيم أو في السنة النبوية وهي الحدود والقصاص ولا مجال لتوقيع أي عقوبة مغايرة لها”
أما العقوبات الأخرى فهي العقوبات التعزيرية والتي يترك أمر تقديرها للقاضي وفقاً لمصالح الأمة ومبتغياتها ومقاصدها.
أنواع العقوبات
تتعدد العقوبات في الإسلام وتتنوع على حسب الجريمة وطبيعتها وأثرها في ترويع المجتمع والأشخاص وفي إصابتهم بالأذى في النفس أو المال ووفقاً لهذا:
تنقسم العقوبات إلى أربعة أصناف:
1. عقوبات تصيب المحكوم عليه في حياته كالقصاص في النفس أو القود.
2. عقوبات بدنية تصيب جسم الجاني كالقصاص في الأطراف والقطع في السرقة.
3. عقوبات مقيدة للحرية كالحبس والنفي في التعزيرات.
4. عقوبات مالية وهي الدية والأرش والكفارة.
(أما عن العقوبات المالية فالمقصود بها معاقبة الجاني بأخذ بعض ماله عقوبة على اقترافه بعض المعاصي التي لا حد فيها وقد أجاز ذلك أبو يوسف من الأحناف أما العقوبات المالية في الإسلام المحددة سلفاً فقد أفرد لها الإسلام توصيفاً محدداً جامعاً مانعاً لا ريب فيه ولا شك في طبيعته العقابية ألا وهي الدية التي هي (عقوبة بديلة في القتل العمد تجب حيث يسقط القصاص وهي عقوبة أصلية في القتل الخطأ وشبه العمد)
أما الأرش فهو العقوبة التي قدرها الشارع سلفاً لجرائم الاعتداء التي تقع على ما دون النفس كالجروح وإتلاف الأعضاء أو قطعها، ويتضامم مع هذه العقوبة عقوبة تحرير رقبة مؤمنة.
أما الكفارة فهي مأخوذة لغة من الكفر بفتح الكاف وهو الستر والتغطية وسميت الكفارة بهذا الاسم لأنها تستر الذنب وتغطيه تخفيفاً من الله تعالى ويقال كفر الله عنه الذنب أي ستره ومحاه، أما المقصود بالكفارة في الشرع فهي ما يقوم به المذنب من عتق أو صيام أو إطعام، (واستعملت الكفارة كعقوبة أصلية في القتل الخطأ وتأخذ صورة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين وبالتالي يكون الصوم عقوبة بدلية إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية
والكفارة في جميع صورها (عقوبة ذات طابع مالي وقد تكون مصاحبة لعقوبة مقدرة كالدية في القتل الخطأ وقد تكون مصاحبة لعقوبة غير مقدرة وهي التعزير, طبيعة وكيفية سداد العقوبات المالية في الشريعة الإسلامية
1- للمال في الشريعة الإسلامية طبيعة خاصة إذ أنه يتم توظيفه من الدولة لمصلحة الأفراد وبيت مال المسلمين ما هو إلا صورة من صور التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع ككل وقد صنفت الشريعة الإسلامية المال إلى متقوم وغير متقوم.
(فالمال المتقوم ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند اعتدائه عليه وما ليس كذلك يسمى غير متقوم ومنه المال المباح الذي لا مالك له كالسمك في البحر والكنز في باطن الأرض)
2- المال الذي لا مالك له مملوك في الشريعة الإسلامية لكل من يستطيع الحصول عليه.
3- تتلاشى وتغيب فكرة ملكية الدولة في الشريعة الإسلامية مع تغليب فكرة ملكية الأفراد الذين ينضوون تحت لواء الدولة لذلك فالعقوبة المالية في الإسلام لا تسدد إلى خزينة الدولة إذ خزينة الدولة (بيت مال المسلمين) لا يعرف إلا جباية أموال زكاة المال والصدقات وسهم الغنائم والجزية ودية القتيل الذي عُرف قاتله ولم يعُرف أهله أو ورثته بل إن المستقر عليه أن أموال بيت المال تتعدد إلى عدة بيوت لمال المسلمين هي (بيت مال الصدقات، بيت مال الخراج، بيت مال الخمس، بيت مال اللقطات والتركات) وقد أجاز البعض أن تكون هناك نوعية من الغرامات التي يفرضها القاضي كعقوبة تعزيرية تكون من مصادر بيت مال المسلمين.
4- غرامة الدية التي هي عقوبة في أصلها لا تسدد إلى بيت مال المسلمين وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ولكنها تسدد للمجني عليه أو ورثته إعمالاً لفكرة الترضية وتغليباً لفكرة ملكية الأفراد على حساب فكرة ملكية الدولة، ولعل هذا هو ما أثار لبسا عند الفقهاء في طبيعة الدية هل هي تعويض لأن الذي يتقاضاه هو المجني عليه أو ورثته؟ أو هو عقوبة لأنه غرامة أصلية متساوية القيمة توقع على من يرتكب جريمة القتل الخطأ أو شبه العمد؟ أو هو عقوبة بدلية عوضاً عن القصاص في القتل العمد عند العفو عن القصاص من ورثة المجني عليه؟.
غاية الأمر هنا وذروته وسنام فهمه هي أنها عقوبة مالية ولكنها لا تسدد إلى الدولة إذ يتم تسديدها من المتهم الجاني أو عاقلته للمجني عليه أو ورثته أو وليه، ولا يغير أبداً من طبيعة الغرامة كيفية السداد أو الجهة التي سيسدد لها مبلغ الغرامة.
فلو فرض جدلاً وقررت الشريعة سدادها لبيت المال أو سدادها لجهة ما أفردت لها تسمية خاصة (كبيت الديات) مثلاً وحددت كيف تنفق موارده ومصارفها فهل كان تحديد جهة المتلقي سيغير من طبيعتها كغرامة؟
الحقيقة أنه لا عبرة على الإطلاق في تحديد طبيعة الغرامة للجهة التي سيؤول لها المبلغ المالي للعقوبة، وغني عن الذكر أن كثير من التشريعات العقابية تحدد عقوبات مالية تفرضها على أشخاص أو جهات ترتكب جرائم معينة في حق البيئة مثلاً أو مخالفات تخل بنظافة المدن أو سيولة وتدفق السير في الطرق العامة وتنص هذه التشريعات على تحديد الجهة التي ستتلقى الغرامة مثل جهاز حماية البيئة مثلاً فهل هذا التحديد يغير من طبيعة الغرامة ويحولها إلى تعويض؟!!.
ومع تسليمنا أن هذا القياس قياس مع الفارق لاختلاف الطبيعة الجزائية في القوانين الوضعية عن الطبيعة الجزائية في الشريعة الإسلامية، إلا أنه وبالرغم من هذا الفارق فإن أحداً من شراح وفقهاء القوانين الوضعية لم يقل أن الغرامة بهذه المثابة ستتحول إلى تعويض وليس في طوق أي أحد أن يذهب إلى هذا المنحى فالغرامة عقوبة تستمد طبيعتها من كينونتها وسببها ولا تستمد توصيفها أبداً من شخص أو جهة من استحقت له هذه الغرامة دولة أو مؤسسة أو جهة أو فرد.
مبحث.. الأدلة الشرعية العقلية والنقلية على اختلاف التعويض عن الدية
أ. جماع ما سلف يتضح أن الدية ليست تعويضاً بأي صورة من الصور وفي أي وجه من الأوجه من قريب أو بعيد وهذا ما يدلنا عليه منطق العقوبة نفسها وكيفية فرضها حيث لا جدال على أن الشارع فرضها زجرا للجناة الذين يرتكبون جريمة القتل – سواء كانت عقوبة بدلية في القتل العمد أو أصلية في الخطأ – تتضامم معها عقوبة أخرى هي الكفارة المتمثلة في تحرير رقبة مؤمنة، والغرامة التي تفرض لجريمة هي عقوبة في المعنى والصورة وإذا جاز تقسيم الشريعة الإسلامية في مدونة قانونية لكانت الدية من نصيب قانون العقوبات بل إن المجتهدين من فقهاء الشريعة والقانون عندما قاموا بعمل مدونات للشريعة أفردوا مدونة للعقوبات وضعوا فيها الدية وكان من ذلك الكتاب الرائد للمستشار الدكتور/ عبد القادر عودة الذي وضع كتاباً كاملاً عن التشريعات الجنائية الإسلامية وأفرد فيه فصلا عن الدية وأحكامها ومقدارها… فإذا بحثنا في التشريعات التي تتعلق بالمعاملات فلن نجد أي ذكر للدية بل سنجد أن الفقهاء افردوا فصولاً للضمان (التعويض).
وقد أورد الدكتور/ علي صادق أبو هيف أوجه الاختلاف تفصيلاً فذهب إلى أن:
1. الدية عقوبة جنائية مقررة جزاءً للجريمة ولا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد كما أنها لا تقدر بالنظر إلى ما يتبع الجريمة من أذى وخسارة ولا تؤدى باعتبارها تعويضاً عما نتج عن الجريمة من ضرر جسماني ومادي وإنما كمقابل فقط للنفس أو الأعضاء التي أتلفتها الجناية بغض النظر عما قد يؤدي إليه ذلك التلف من الخسارة المادية للمجني عليه أو لورثته.
2. الدية لا تعوض غير الضرر المادي وهو الأذى الجسماني الناشئ عن الجريمة ولا تتناول الضرر المعنوي بينما يكون التعويض شاملاً لكل ما تؤدي إليه الجريمة من الضرر سواء كان معنوياً أو مادياً.
3. مقدار الدية ثابت يتساوى فيه الجميع ومقدار التعويض يختلف حسب مركز المجني عليه وحالته الشخصية وحسب الضرر الذي أصاب المضرورين ومقداره.
4. الدية تجب بالجريمة نفسها أما التعويض فلا يحكم به إلا إذا طالب به الطالب وأثبت حصول ضرر له من جرائها.
5. توزع الدية على الورثة حسب أنصبتهم أما التعويض فيقدر حسب الضرر الذي لحق المتضرر شخصياً.
6. لدائني القتيل استيفاء ديونهم من الدية المحكوم بها للورثة لأنها تعتبر تركة لمورثهم ولكن ليس لهم ذلك بالنسبة للتعويض لأنه محكوم به شخصياً لكل مضرور.
7. ليس لغير ورثة القتيل أي حق في الدية أما التعويض فيحكم به لمن أصابه ضرر وعلى قدر هذا الضرر.
8. الدية في غير العمد تدفعها عاقلة الجاني غالباً أما التعويض فيتحمله هو شخصياً.
ب. أما حجة أصحاب الرأي الذي يقول أن الدية هي تعويض فإنها وإن اتفقت وسلمت على أنها عقوبة في شق منها إلا أنها ذهبت إلى أنها تحمل أيضاً صفة التعويض لأنها تؤول إلى المجني عليه أو أوليائه بينما تؤول حصيلة الغرامة إلى الخزانة العامة وهذا الخلط الذي حدث لهؤلاء إنما مرده أنهم قارنوا بين قانونين مختلفين ونظامين غير متشابهين والمقارنة هنا في غير محلها والقياس مع الفارق بل إنه قياس فاسد.
(إذ تقتضي المقارنة عادة قدراً من التناسب او التشابه بين شيئين بقصد المفاضلة بينهما ولكن شريعة الله أسمى من أن تقارن بشريعة أخرى)
والنظام الجنائي في الشريعة الإسلامية له خصوصية فهو وثيق الصلة بالمنظومة الإسلامية كلها التي تحمل قدراً من التفرد والمغايرة عن باقي الأنظمة التشريعية الأخرى وبالتالي لا يجوز لنا إخراج أحد المفاهيم الجزائية من سياقها التشريعي الإسلامي ومقارنتها بمفهوم جزائي في نظام تشريعي آخر اللهم إلا لبيان أوجه المقاربة والاختلاف لا لإسباغ تسميات ومفاهيم النظام الجزائي الآخر على النظام الجنائي في الشريعة فالشريعة الإسلامية تأبى بطبيعتها أن تنضوي تحت لواء شريعة أخرى.
(والشريعة الإسلامية إذن لا تماثل القانون ولا تساويه ولا يصح أن تقاس به فطبيعة الشريعة تختلف تماماً عن طبيعة القانون)
فإذا انتهينا إلى تفرد النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية (وإلى أن هذا النظام مرتبط بالعقيدة وأنه أقام منهجاً عقابياً متكاملاً في الحياة الدنيا لردع الجناة والحيلولة دون استفحال الشر واستشراء الفساد)
فإننا نكون قد خلطنا الحابل بالنابل إن أخضعنا النظام الجزائي في الشريعة لمفاهيم وأطر الأنظمة الجزائية الوضعية وهذا مما يأباه العقل السليم.
ومع ذلك فإن أحكام كثير من العقوبات المالية المسماة غرامة في الأنظمة العقابية الوضعية كثيراً ما يخصص المشرع ـ وفقاً لما أسلفناه سابقاً ـ الجهات التي تتلقاها وهي غير الخزينة العامة للدولة ومع ذلك لم يقل أحد أن هذه الغرامات تحولت بتخصيصها إلى هذه الجهات إلى تعويض ما أو أنها خرجت من طبيعتها الجزائية بسبب هذا التخصيص.
مقارنة أخرى تنتهج اللزوم العقلي
أولا :من هو الملتزم بالدية:
تتبعنا آراء الفقهاء بخصوص مصادر الدية ومصارفها فكانت على النحو الآتي:
1. عند ابن حزم: الدية في الخطأ على عاقلة القاتل وفي العمد في ماله
2. عند مالك: الدية على القبائل فإذا انقطع الرجل من البادية إلى القرى فعلى قومه الذين في القرى فإن لم يكن فأقرب القبائل إلى قبيلته.
3. عند أبي حنيفة والشافعي: الدية على العاقلة أو على المقر في ماله (أي المقر بالقتل الخطأ)
4. عند الليث بن سعد: الدية على القاتل وعلى الذين يأخذ معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء.
-5عند ابن شهاب وعروة: الدية في الخطأ على العاقلة وفي العمد على القاتل.
(وعلى هذا فتؤخذ الدية في القتل الخطأ جبراً من عاقلة القاتل وهم عصبته ويجوز الاستعانة في دية القتل الخطأ بالحلفاء تؤخذ منهم رضاءً وتطوعاً)
ثانيا : من هو المستحق للدية
تصرف الدية إلى أهل المقتول فقال تعالى في كتابه الكريم “ودية مسلمة إلى أهله”
(وأهل القتيل المشار إليهم في الآية هم أهله الذين يرثونه دون غيرهم)
ثالثا :من هو الملتزم بالتعويض
الملتزم بالضمان أو التعويض هو القاتل في القتل الخطأ أو العمد مصداقاً لقوله تعالى “كل نفس بما كسبت رهينة” وقوله “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه” وقوله “ولا تزر وازرة وزر أخرى”.
وينهض التزام القاتل بالضمان (التعويض) سواء كان القاتل متسبباً أو مباشراً.
(فالضمان يؤخذ من المخطئ لجبر ما فات من مصالح حقوق العباد والضمان يجب مع الخطأ والعمد والجهل والعلم والذكر والنسيان وعلى المجانين والصبيان)
رابعا : من هو المستحق للتعويض (الضمان)
لا خلاف في الفقه على أن مستحق التعويض (الضمان) وفقاً لأحكام الشريعة هو كل من أصابه ضرر من إهدار المهدر أو إتلاف المتلف في النفس أو المال سواء كان من ورثة القتيل أو من غير ورثته فالعبرة هنا بالضرر ووقوعه وشخص من لحق به ونوعية الضرر الذي وقع.
خامسا : مقدار الدية
أما عن مقدار الدية في الإسلام فهو ثابت وفقا للآتي:
رأي الحنفية: الدية تجب في ثلاثة أجناس هي الإبل والذهب والفضة ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة
2. رأي المالكية: الدية تجب على الإبل أما أهل الذهب فديتهم بالذهب وأهل الورق فديتهم بالورق
3. رأي الشافعية: الإبل هي الأصل في الدية بالغة ما بلغت يوم وجوب التسليم
4. رأي الحنابلة: الدية في الإبل والذهب والورق والبقر والغنم.
أما الفقهاء المعاصرين فقد جمعوا كل هذه الآراء بمصادرها وأسانيدها وانتهوا إلى أن قيمة الدية تعادل 4250 جرام من الذهب وعلى ذلك فإن الدية في الإسلام ثابتة القيمة
سادسا : موعد سداد الدية
المتفق عليه فقهاً أن الدية تسدد منجمة على ثلاث سنوات بحيث يسدد الثلث الأخير في نهاية العام الثالث وذلك كما حكم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون أن يخالفه الصحابة في ذلك.
سابعا : مقدار الضمان (التعويض)
يقدر الضمان على قدر الضرر الواجب جبره وما فات العباد من مصالح بسبب هذا الضرر ويدخل فيه الضرر الشعوري (النفسي) ويقدره الحاكم بحكومة عدل وفقاً لكل حالة على حدة دون أن يضع لها مقداراً ثابتاً.
ثامنا : موعد سداد الضمان (التعويض)
يسدد الضمان فور الحكم به من الحاكم بحكومة عدل جبراً دون أن ينجم على سنوات كما هو الحال في الدية إلا إذا وافق المحكوم له على التنجيم.
إزالة شبهة التعويض عن الدية
وحتى مع من يذهب إلى أن الدية تعويض وعقوبة معاً مستندين في ذلك إلى أنها (تشبه العقوبة وتشبه التعويض فهي عقوبة لأنها مقررة جزاء للجريمة وهي تعويض لأنها مال خالص للمجني عليه ولأنه لا يجوز الحكم بها إذا تنازل المجني عليه عنها)
فإن هذا الرأي مردود عليه من ناحيتين أما من الناحية الأولى فإننا نجد في التشريعات العقابية الأخرى والمدارس الجنائية في كل الأنظمة تقريبا نصوصاً قاطعة تجيز أحيانا وتلزم أحيانا أخرى قاضي الدعوى بأن لا يحكم بالعقوبة في العديد من الجرائم إذا تنازل المجني عليه عن حقه وقبل التصالح مع المتهم، ومن ناحية ثانية فإن استحقاق المجني عليه للمال لا يغير من طبيعته العقابية، فضلا عن هذا فإن إعمال القواعد والمفاهيم الفقهية تقتضي تغليب مظنة العقاب على مظنة التعويض… فإذا قامت شبهة على أنها جزاء وشبهة على أنها تعويض وكان من الضروري تغليب إحدى الشبهتين كان الأولى هو تغليب مظنة الجزاء على مظنة التعويض وذلك لفتح الباب للمضرور حتى يستطيع تعويض ما أصابه من ضرر، فإذا كان حفظ النفس وحفظ المال من مقاصد الشريعة وكان اعتبار الدية تعويضاً سيترتب عليه فوات كسب أو تحقق خسارة لمن أصابه ضرر من جراء القتل ولم يحصل على أي قدر من الدية فإن الفهم المستقيم هنا لمقاصد الشريعة يقتضي إزالة شبهة التعويض عن الدية حتى تتحقق مقاصد الشريعة.
وتغليب مظنة الجزاء هنا واجبة للاعتبارات التالية:
1. تغليبها يترتب عليه حماية إحدى مقاصد الشريعة الإسلامية وهي حفظ النفس فحرمة الدم في الإسلام مغلبة على رعاية المعتدي المتلف.
2. تغليبها يترتب عليه حماية مقصد آخر من مقاصد الشريعة الإسلامية ألا وهو حفظ المال وإن كانت نفس الآدمي لا تقارن بمال متقوم أو غير متقوم إلا أن تعطيلها أو إتلافها قد يسبب ضرراً للغير من غير الورثة فإن قطعنا بأنه تعويض نكون قد أهدرنا مصلحة حفظ المال دونما سبب.
3. إن تطبيق قاعدة “جلب المنفعة ودفع المضرة” أو “دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة” وقاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” وهي مقاصد الخلق هي أولى بالتطبيق هنا وجلب المنفعة يقتضي تغليب كونها جزاء وذلك لدفع المضرة التي تقع من إتلاف النفس وتصيب أو تلحق الآخرين من جراء هذا الإتلاف أما تعويض المضرور فهو واجب ولذلك فإن اعتبار الدية عقاب تصبح واجباً.
4. إذا كانت الدية كجزاء عقابي شرعت أصلاً لتطبيق قاعدة “لا يطل دم في الإسلام أو لا يهدر دم في الإسلام” (فإن اعتبارها جزاء يترتب عليه إفساح المجال لإرساء مبدأ المسئولية الشخصية التي قررتها الشريعة الإسلامية مصداقاً لقوله تعالى “كل نفس بما كسبت رهينة”
وقوله “لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت”
وقوله ” من يعمل سوءاً يجز به”
وقوله “من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها”
ولذلك فإننا لو قلنا أنها تعويض نكون قد أهدرنا الضمان الذي شرعه الله لرفع الظلم وقطع التعدي وحماية حق الملك)
من جماع ما سلف يتضح أن أحكام الفقه الإسلامي ومنطق الفهم السديد يوجبان وفقاً للمفاهيم التي أوردناها اعتبار الدية جزاء لا تعويض فإن قال بعضهم أنها تحمل قدراً من الجزاء وقدراً من التعويض لزم تغليب جانب الجزاء فيها على جانب التعويض درءاً للمفاسد وجلباً للمنافع وفقاً للأسس التي أوردناها آنفاً.
رأي الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق
ولهذا الرأي قيمة علمية وفقهية كبيرة من ناحية لأن الشيخ شلتوت هو واحد من كبار الفقهاء المعاصرين ومن ناحية أخرى لأنه اعمل في هذا المجال آلة الاجتهاد فنظر إلى الواقع الحالي وإلى النصوص القطعية والظنية ورد المتشابه للمحكم والظني إلى القطعي ثم قدم اجتهاده غير المسبوق في بحث هو حادي الاجتهادات ودرته إلى مؤتمر القانون المقارن في دورته الثانية في لاهاي 1937 وهذا البحث بكل ما اشتمل عليه منشور في منشورات شيخ الجامع الأزهر للشئون العامة، ونحن هنا نضع عباراته القاطعة نصب أعين القارئ خاصة ما أورده في الصحيفتين رقمي 35، 36 من بحثه حيث ذهب إلى التسليم بشرعية ضمان أذى النفس التعويضية “التعويض” أي حق أهل القتيل في طلب التعويض فضلاً عن استلامهم الدية فقال:
(أما نظرية اتحاد قدر الدية بالنسبة إلى جميع الناس فهي مبنية على أن الدية في مقابل الدم فقط والناس في نظر الشريعة من هذه الحيثية سواء وهذا لا يمنع الحاكم (القاضي) من أن يقدر الأضرار التي تصيب الورثة بموت مورثهم فيحكم بالنظر إليها بما يعوض عليهم ما فاتهم من الانتفاع به وذلك بخلاف الدية التي هي حق الدم)
رأي الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق ورد إلى مكتب فضيلة الإمام شيخ الأزهر السابق الشيخ/ جاد الحق علي جاد الحق سؤال عن حكم الدية في الإسلام وهل هي تعويض فقال فضيلته (الدية تختلف عن التعويض إذ يدخل في عناصر تقدير التعويض مقومات متعددة مادية وجسدية وأدبية بينما الدية جاءت مقدرة شرعاً غير داخل في تقديرها كل ما نتج عن الجريمة من الأذى والخسارة وإنما كمقابل للنفس التي هلكت بالقتل فقط أو الأعضاء التي أتلفها الجاني).(1)
خلاصة تحديد طبيعة الدية
الدية بالمثابة التي أفردناها ليست تعويضا بأي حال من الأحوال فهي لا تعوض الأضرار المادية والأدبية التي تلحق بالآخرين من جراء قتل المجني عليه وإنما أجمع فقهاء الشريعة على أنها مجرد عقوبة مالية تمثل ثمن الدم الذي أهدر ورغم أن هذا الدم غير قابل للتعيين والتقدير إلا أن حرمة الدم في الإسلام أوجبت تحديد مقدار ما يكون مكافئا للدم أو للنفس أيا كان صاحبه غنيا أو فقيرا، قويا أو ضعيفا، كبيرا أو صغيراً
مبحث.. الدية والتعويض (الضمان) في الشريعة الإسلامية
ظن بعض المعاصرين أن الإسلام أغفل فكرة التعويض أو الضمان عن الخطأ الذي سبب إزهاقا للروح وإماتة للنفس وأنه استبدله بفكرة أخرى ثابتة لا تتغير بتغير الخطأ زيادة أو نقصاناً ألا وهي فكرة الدية في خصوص التعويض عن قتل الخطأ ويقيناً فإن هذا المفهوم يخالف مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها ومستهدفاتها فقاعدة أن كل إنسان مسئول عن نتيجة تصرفاته قاعدة شرعية ابتنيت على نصوص قطعية لا مراء فيها مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه” وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”
مشروعية الضمان (التعويض) في الشريعة الإسلامية
لم يستخدم الفقه الإسلامي كلمة التعويض للدلالة على جبر الضرر وإنما استخدم كلمة هي أدق وأعم وأشمل ألا وهي الضمان ويطلق الضمان في اللغة على الكفالة والالتزام والغرامة والمسئولية وغير ذلك من المعاني.
ففي لسان العرب: ضمن الشيء أي كفل به وفلان ضامن وضمين أي كافل وكفيل.
وفي القاموس المحيط: ضمنت الشيء تضمينا أي غرمته.
أما الضمان في اصطلاح الفقهاء فهو الكفالة بمعنى ضم ذمة إلى ذمة، كما يطلق الضمان ويراد به ما يرادف مفهوم الالتزام في الفقه القانوني الحديث ومن هذا القبيل قول الشيخ علي الخفيف
(الضمان عبارة عن شغل الذمة بما يجب الوفاء به من مال أو عمل بسبب من الأسباب الموجبة له)(1)
والضمان على هذا النحو يشمل:
1. “الشيخعلي الخفيف – الضمان في الفقه الإسلامي طبعة 1971 ص9”
(أ. ما وجب في الذمة بإلزام الشخص نفسه بإرادته كالتبرعات
ب. ما وجب بعقد من العقود كالبيع ونحوه
ج. ما وجب بفعل أو ترك غير مشروع فألحق بالغير ضرراً أوجب الشارع رفعه)(1)
وقد يطلق الضمان ويراد به التعويض عن الضرر ومن ذلك قول شهاب الدين الحموي في غمز البصائر
“الضمان عبارة عن رد مثل الهالك إن كان مثلياً أو قيمته إن كان قيمياً”(2)
وعلى ذات المعنى قول الشيخ شلتوت
“تضمين الإنسان عبارة عن الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب الغير”(3)
ولعل أقرب ما قيل في الضمان هو قول الأستاذ الزرقا
“أن الضمان التزام بتعويض مالي عن ضرر للغير”
أو قول الدكتور محمد سراج
“أن الضمان شغل الذمة بحق مالي أوجب الشارع أداءه جبراً لضرر لحق بالغير في ماله أو بدنه أو شعوره سواء نشأ هذا الضرر بمخالفة العقد أو شرط من شروطه أو بارتكاب فعل أو ترك حرمه الشارع ذاتاً أو مآلاً)(4)
1. “ضمانعثرات الطريق – د. أحمد بخيت الغزالي ص20”
2. “المرجعالسابق ص21”
3. “المرجعالسابق ص21”
4. “المرجعالسابق ص21”
تأصيل فكرة المسئولية والضمان في الإسلام
ليست فكرة الضمان ( التعويض ) غريبة عن الشريعة الإسلامية بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع أساسها الأول عندما قال في الحديث الشريف ( لا ضرر ولا ضرار ) وتحفل آيات القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع بالعديد من الآيات التي تحدد قواعد المسئولية والتزام كل إنسان بضمان فعله وتصرفه فيقول الله سبحانه وتعالى “كل نفس بما كسبت رهينة”
ويقول “لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت”
ويقول ” من يعمل سوءاً يجز به”
ويقول “من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها”
ويقول ” وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ”
وهذه الآيات وغيرها تضع المسئولية على عاتق صاحبها بلا تفريط ولا إفراط فالذي جنت يداه شيئا يُسأل عما جنته يداه والذي اقترف فعلا يُسأل عما اقترف، والمسئولية هنا هي ضميمة الضمان ( التعويض ) وصنوه إذ من تبعات المسئولية أن يرفع الضرر الذي جنته يداه وإلا فلا مسئولية وهذا مما تأباه الشريعة ويأباه بالتبعية المنطق السديد للأمور والشريعة ما جاءت أبدا لكي تضيع حقوق العباد، وأي فتوى يترتب عليها إضاعة مصلحة معتبرة في الشريعة هي فتوى منبتة الصلة عن الإسلام وأحكامه وحكمته.
ومن ناحية أخرى فإن المصلحة التي هي مناط الشريعة توجب الضمان (التعويض) فحفظ المال الذي هو من مقاصد الشريعة يتعلق بمصلحة العباد وقد انتهت مباحث الفقه والفقهاء على مر العصور إلى تغليب المصلحة كحقيقة تم الاستدلال عليها بطريق النظر العقلي والاستدلال المنطقي فضلا عن النصوص القطعية
(فالشرائع إنما جيئ بها لمصالح العباد فالأمر والنهي والتخيير جميعاً راجعة إلى حفظ المكلف ومصالحه لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض)(1)
1. “الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي الجزء الأول ص105”
والمصلحة كما عرفها الإمام أبو حامد الغزالي هي:
(المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة)(1)
ووفقاً لما سلف تبزغ فكرة الضمان تحقيقاً لمقاصد الشرع الضرورية وبالتحديد ما يتعلق بحفظ النفس وحفظ المال فإهدار النفس وإهدار المال يخالف مقاصد الشريعة لذلك وجب على المتلف المهدر ضمان ما أتلفه وما أهدره، لذلك ومن هذا المنطلق يقرر الفقهاء في وضوح وجلاء أن:
(الإتلاف سبب لوجوب الضمان لأن إتلاف الشيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به وهذا اعتداء وإضرار وقد تعذر نفي الضرر من حيث الصورة فيجب نفيه من حيث المعنى بالضمان)(2)
وتأكيداً لذات المعنى ومن ذات المنطلق يقول الإمام العز بن عبد السلام:
(الجوابر مشروعة لجلب ما فات من المصالح والغرض من الجوابر جبر ما فات من مصالح حقوق الله وحقوق عباده)(3)
ونفس المعنى أورده القرافي في كتابه الفروق الجزء الأول ص 218.
1. “المستصفىمن علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي الجزء الأول ص286 ومابعدها”
2. “بداعالصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني الجزء السابعص164”
3. “قواعدالأحكام في مصالح الأنام – للإمام عز الدين بن عبد السلام الجزء الأول ص178”
ولعل عبارات العز بن عبد السلام والقرافي أبلغ وأحكم ما تكون عن وضوح فكرة التعويض بمعالمها الرئيسية في الشريعة الإسلامية خاصة فيما يتعلق بما لحق المضرور من ضرر وخسارة وما فاته من كسب، هذه الأفكار تبين لنا أن فكرة التعويض أو الضمان بصدد الخسارة التي لحقت من تضرر من جريمة القتل الخطأ هي فكرة أصيلة تدرك أن هناك فارق جوهري بين حرمة الدم وبين ما لحق الآخرون من إهدار هذا الدم، وإذا كان من المستقر عليه في الشريعة الإسلامية وفي غيرها من الشرائع أن الإنسان لا يمكن تقديره بمال وتقويمه بقدر ثابت أو متغير فالإنسان والنفس البشرية أعلى من التقدير والتثمين، إلا أنه من المستقر أيضا أن الإنسان في سعيه في الحياة الدنيا يعول وينفق ويرعى ويباشر ويحمي نفرا أو بعض نفر من الناس قد يكون بعضهم من أقاربه أو عشيرته أو أهله وقد يكون بعضهم من ورثته والبعض الآخر من غير ورثته، هذا الإنسان الذي يسعى في حياته على هذه الشاكلة لاشك أبدا أنه يوفر منفعة لناس ويحمي مصالح لناس ويدخل مالا إلى ذمة ناس، فإذا انقطع عنهم لموته الذي حدث من قتل خطأ ـ أو قتل عمدي ـ فإنهم ولا ريب سيصابون بضرر من الممكن لأهل الاختصاص حساب قيمته هذا الضرر هو ما فاتهم من كسب كان سيحققه لهم هذا الذي مات خطأً أو عمداً لو أنه بقي على قيد الحياة وهو أيضا ما لحقهم من خسارة بسبب قتله، ليس التعويض هنا عملية حسابية نحسب فيها قيمة الإنسان ولكن الذي نحسب قيمته هو الضرر الذي تولد عن قتله وشخص المضرورين وعلاقتهم بالقتيل، وإذا كان العدل هو الركن الرئيسي للتشريع الإسلامي فإن العدل يقتضي تعويض من أصابه ضرر من الجريمة وهذا هو الباعث الذي دفع كبار فقهاء الشريعة على مر العصور إلى إجازة الحكم بالتعويض لمن أصابه ضرراً من الجريمة بغض النظر عن الدية مع تسليمهم أن هذا المبلغ ليس تقديرا لقيمة الإنسان.
ومن هنا اتسعت فكرة الضمان في الشريعة الإسلامية اتساعاً كبيراً قد لا تعرفه بعض الشرائع القانونية الحديثة واجتهد فقهاء الشريعة في هذا المجال حتى أن الإمام الشاطبي أدرج حديث (لا ضرر ولا ضرار) في الأدلة الشرعية الظنية الراجعة إلى أصل قطعي باعتبار أن هذا الحديث من الأحاديث التي أتت بها السنة النبوية بياناً وتبياناً لنص كتاب الله القرآن الكريم ولذلك انتهى الشاطبي إلى أن:
(الضرر والضرار مبثوث منعه من الشريعة كلها كقوله تعالى “ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا” وقوله “ولا تضار والدة بولدها” و “ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن” ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك)(1)
ومن جماع ما سبق يتضح أن للضمان (التعويض) كيان مستوفي الشرائط والأركان وهو بعيد كل البعد فيما يتعلق بإتلاف النفس عن الدية التي وضعها الشارع كعقوبة لجريمة لا كتعويض عن خطأ سبب ضرراً، أما الضمان (التعويض) في الشريعة فهو يتألف من عدة عناصر أو أركان لا يقوم إلا بها.
1. “أبوإسحاق الشاطبي – الموافقات في أصول الشريعة الجزء الثالث ص11، 12”
أركان الضمان ( التعويض ) في الشريعة الإسلامية
أ. الخطأ (التعدي)
لا تتعلق الأحكام وضعية كانت أم تكليفية إلا بالفعل الإنساني لذلك ذهب الفقه إلى أنه:
(فلئن كان الإتلاف سبباً لوجوب الضمان فإن من أهم الشرائط التي يتقيد بها الوجوب كون الإتلاف راجعاً إلى فعل إنساني وكون هذا الفعل خطأ أدى إلى الإضرار بالغير)(1)
(فالإتلاف ليس مجرد ضرر أصاب الغير لأن الإضرار لا يقوم بذاته سبباً موجباً للضمان وإنما يلزم أن يكون تعدياً وإخلالاً بمقصود شرعي)(2)
وقد أطلق الفقهاء على “الخطأ” مصطلح “التعدي” (والتعدي ليس مجرد صفة لفعل ضار وإنما هو إخلال بما فرضه الشارع عصمة للحقوق)(3)
وقد أطنب الفقهاء في الحديث عن الخطأ المباشر والخطأ غير المباشر أما الخطأ المباشر فهو الذي يصدر من المخطئ بالذات دون واسطة أما الخطأ غير المباشر فهو الذي يصدر من المخطئ عن طريق واسطة ويسمى حينذاك متسبب فهناك مخطئ مباشر وهناك مخطئ متسبب.
ب. الضرر
1. (الحق فيالتعويض مقتضياته الغائبة د. حسن عبد الرحمن قدوس صـ360)
2. ( المرجعالسابق صـ 360 )
3. “المرجعالسابق ص429”
حتى يتحقق الضمان ينبغي أن يتوافر الضرر مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا ضرر ولا ضرار” حتى ولو كان الضرر مجرد الترويع والإيلام النفسي فحدوث الضرر هو سبب الضمان والضامن ملتزم بجبر كل الضرر والضرر يتمثل في إتلاف النفس أو المال أو إنقاص قيمتهم أو حجب منفعتهم فلا تثريب على القاضي إن حكم بتعويض عن ضرر إتلاف النفس وإماتة الإنسان إن كان هذا الإتلاف حجب منفعة لآخرين أو سبب لهم خسارة أو فوت عليهم كسباً.
أما العلاقة السببية بين التعدي والضرر فأمر لازم وقد أفرد الفقهاء أبواباً في المباشر والمتسبب والمباشَرة وحدوث النتيجة من غير المباشر أو من غير المتسبب كالآفة السماوية أو القوة القاهرة، وقد ذكر الفقهاء أمثلة لها كالسيل والريح ونحوها من الأمور التي لا يمكن توقيها ومن شرطها أن تكون غير متوقعة.
فإذا توافرت أركان الضمان وشرائطه حق للمضرور أن يطالب بتعويضه عن الضرر الذي أصابه ، حتى ولو كان الضرر ناجماً عن إماتة نفس عن طريق الخطأ أو العمد فإذا كانت مصالح الإسلام يدخل فيها كما أوردنا سلفا حفظ المال وكان قتل الشخص قد ترتب عليه ضرر مادي سواء من خسارة لحقت به أو كسب فاته فإن الضمان يستحق والضامن ملتزم.
مثال لضمان آدمي بعقد في الشريعة
( ضمان سلامة وصول الراكب ومتاعه أو بضاعته من التلف )
طالما أن الضمان يشمل جبر الضرر بشقيه المادي والأدبي وفقاً لما أسلفنا فإن أمر الناقل وضمانه للتلف الذي يصيب شخص المنقول وماله تصبح من لزوميات هذا الضمان، فالناقل ضامن لسلامة وصول شخص المنقول وماله للجهة التي يتم نقله إليها سواء كان هذا النقل بالطرق البرية أو المائية إذ أن الناقل بقبوله نقل الشخص وماله يكون قد تعاقد معه على أمرين أولهما الوصول وثانيهما سلامة الوصول دون تلف أو نقص والناقل ضامن بمقتضى هذا العقد لهذين الأمرين.
وفيما يتعلق بضمان تلف النفس أي تعويض التلف وجبر الضرر فهو ضمان يخرج عن نطاق الدية وأحكامها حتى مع فرضية أن الدية تحمل شبهة التعويض جدلاً.
وإذا كان ضمان سلامة المال من التلف بالنسبة للناقل غير منكور في الفقه فإن ضمان الآدمي صار بشأنه خلاف، هل الناقل يضمن الآدمي أم لا يضمنه؟
ووجه الخلاف أن ضمان بني آدم ضمان جناية وضمان الجناية لا يجب وفقاً لهؤلاء بالعقد لأن الآدمي في يد نفسه ولكن البضاعة ساكنة، ومع ذلك فإن هذا القول مردود عليه بالآتي:
(إذا كان سند هذا الرأي أنه لا ضمان على الناقل في الآدمي لأنه لا يمكن تشبيه الآدمي بالبضاعة الساكنة عديمة الحركة لتمتعه بحرية الحركة نقول أن مقصود عقد النقل الحفظ لا ثبوت اليد وهذا المعنى كما يصدق على المتاع يصدق على الآدمي فالراكب يسلم نفسه إلى الناقل آذناً في نقله سالماً وإن لم يكن سبب أجنبي فإن ما يلحق الراكب من فعل الناقل لأن زمام التنفيذ بيده، ومن هنا استدرك بعض متأخري الحنفية فقالوا: هذا الكلام لمن يتلف بسبب حركته هو وإلا فهو كالمتاع يجري عليه الضمان)(1)
1. “ضمانعثرات الطريق د. أحمد بخيت غزالي ص404 وما بعدها”
والمتفق عليه بلا خلاف أن الضمان هنا يستحق للمتضرر الذي لحقه ضرر أو فاته كسب جراء موت المنقول الآدمي بسبب خطأ الناقل، فضلاً عن هذا ذهبت جمهرة من الفقهاء المعاصرين تأسيساً على ما سلف إلى أن (رفض ضمان الآدمي بالعقد مع تجويزه في ضمان الأشياء فهذا مما يأباه النظر السليم إذ الحكمة من تضمين الصناع الاحتياط لصيانة أموال الناس فلا يصلح الناس إلا هذا والقاعدة أن صيانة الدماء أولى من صيانة الأموال لأن حرمة الآدمي لعينه وحرمة المال لغيره فإذا كان كذلك فالتشدد في ضمان الآدمي أولى في الحكم من التشدد في ضمان المال)(1)
وعلى ضوء هذا كله يمكن القول أن (الضرر اللاحق بالراكب إن لم يكن بسبب أجنبي فهو من صنع الناقل فعثار الدابة أو انقلاب السيارة أو غرق السفينة كله من جنايته وما يتلف بجنايته مضمون عليه وإن لم يقصده)(2)
فإذا كان هذا النظر السليم من الفقهاء قد أجاز ضمان الآدمي بالعقد مما يترتب عليه أن عقد الناقل مع الآدمي على الالتزام بضمان سلامة الوصول يلزم الضامن في ذات الوقت الذي لا ينفي فيه الدية ولا يستغرقها ولا يجبّها ولا حتى يستكملها فالدية هي عن جناية الدم وعقد النقل عن ضمان سلامة الوصول الأمر الذي يوجب الجمع بين التعويض والدية
1. “المرجع السابق ص412”
2. “المرجع السابق ص415”
الضمان على شركات التأمين
لا يخل ضمان الناقل ولا يؤثر أو يقدح أو ينتقص من ضمان شركات التأمين
(1)
وبالرغم من وجود خلاف فقهي حاد بين علماء الأمة المعاصرين حول عقد التأمين وطبيعته… أحلال هو أم حرام ؟ أيجوز أم لا يجوز ؟ حتى أن المجامع الفقهية لم تنته حتى تاريخنا هذا إلى رأي فقهي واحد له سنده وقيمته ولعل السبب في هذا الخلاف هو أن عقد التأمين من العقود المستحدثة التي لم يكن لها نظائر في العصور الأولى، إلا أننا وخارج نطاق هذا الجدل نتحدث عن نوعية من العقود التأمينية أجازها جمهرة من الفقهاء وهي التأمين على البضائع والأشخاص من شركات النقل أثناء فترة نقلهم، في هذا الصدد الذي نحن بشأنه ذهب جانب من الفقه إلى أن شركات التأمين الحديثة هي عاقلة الجاني فإذا كانت الدية تجب على القاتل إلا أنها تنقسم إلى نوعين:
(نوع يجب عليه في ماله ونوع يجب عليه كله ولكن تتحمله عنه العاقلة بطريق التعاون والتحمل من العاقلة في الخطأ وشبه العمد على طريق التخفيف لأن الدية الواجبة على القاتل مال كثير)(2)
وكتب الشاطبي عن تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ أن:
(حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي)(3)
1. “غني عنالذكر أن شركات التأمين يكون التزامها فقط في حدود ما التزمت به أمام الناقل”
2. “الحق في التعويض مقتضياتهالغائية د. حسن عبد الرحمن قدوس ص496”
3. “الموافقات في أصول الشريعةللشاطبي الجزء الثاني ص 177”
والإسلام لا ينكر أن يتحالف الشخص أو يتفق أو يتشارك مع آخرين على أن يقوموا بضمان ما يتلفه أو يهدره في النفس أو المال بل أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعي إلى مثل هذا قبل الإسلام في حلف الفضول وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الحلف أنه (لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت).
ووفقاً لهذا إذا ما قام الناقل بالاتفاق مع شركة تأمين كي تكون بمثابة عاقلة له أو ضامنة للتلف الذي يحدث للنفس أثناء النقل فهو مما يتفق مع مصالح الشرع ولا يخالفها بل على العكس هو يؤصل لأحكامها ومقاصدها.
خاتمة
ملخص البحث
من جماع ما تقدم يتضح لنا بجلاء أن الدية غير التعويض وقد أقمنا اجتهادنا الذي أوردناه في البحث على الأسس التالية:
1. كان من اللازم أن نتحدث عن فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية إذ أن الشريعة جاءت لكي يتحاكم إليها الناس مصداقاً لقوله تعالى “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا”
النساء59
والشريعة الإسلامية بهذه المثابة منهج متكامل لا يجوز إخراج أو اقتطاع جزئية من جزئياته من سياقها ومقارنتها بمنهج عقابي آخر وإخضاعها لمفاهيم هذا المنهج وقراءتها في سياقه.
2. ثم تحدثنا عن الدية كعقوبة أصلية لجريمة القتل الخطأ أو شبه العمد وأفردنا تفصيلاً لها من الناحية الشرعية وأوردنا ما يدل على أن الشارع في الإسلام شرعها على أنها محض عقوبة يتضامم معها تحرير رقبة مؤمنة وهي الأخرى عقوبة مالية.
3. لحسم التشابه بين الدية والتعويض أجرينا مقارنة علمية من كل الأوجه بين الاثنين ليستبين للقارئ أن الدية عقوبة جزائية مالية لها طبيعة مستمدة من فلسفة العقوبة في الإسلام ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة بيت مال المسلمين الذي يختلف في وظيفته وطبيعته اختلافاً جذرياً عن فكرة الخزانة العامة للدولة وأيلولة العقوبة المالية لها إذ أن العقوبات المالية في الإسلام لا تؤول إلى بيت مال المسلمين إلا في أحوال خاصة.
4. ثم أوردنا تفصيلاً شارحاً لمن هم الذين يلتزمون بسداد الدية ومن هم الذين يستحقونها ومقارنتها بمن يلتزم بسداد التعويض ومن يستحقه وكذلك أوردنا بيان بقيمة الدية وثباتها مع بيان كيفية تغير قيمة التعويض على حسب الضرر.
5. قد يرد إلى ذهن القارئ أن الشريعة الإسلامية لا تعرف مبدأ التعويض لذلك أفردنا مبحثاً كاملاً عن الضمان (التعويض) في الإسلام وشرائطه وأركانه وقد وضح من خلال هذا العرض أن الضمان في الإسلام له سعة وشمولية لا تعرفها الكثير من القوانين الوضعية كما أتضح من خلال هذا المبحث أن أفهام الفقهاء للضمان الإسلامي لم تتناول إلا في الأعصر المتأخرة تعويض القتل الخطأ وقد ارتكن الفقهاء في هذا إلى أن الإسلام نظم عقوبة الدية إلا أن الدراسة أوضحت أنه ليس هناك أبداً ما يمنع من ناحية الشرع في نصوصه القطعية تعويض المضرورين عن جريمة القتل الخطأ فضلاً عن وجوب الدية.
6. ثم استعرضنا دلالة من الدلالات التي تؤكد إمكانية شمول الضمان لدم الآدمي حينما أوردنا مبحثاً عن التزام الناقل في الشريعة بضمان سلامة الوصول وأحكام الفقهاء في هذا المجال وكيف أن متأخري الحنفية أجازوا التعويض وجبر الضرر إذا ما هلك الآدمي أثناء النقل بخطأ الناقل وذلك بخلاف الدية التي تدفعها عاقلته.
7. وطالما تحدثنا عن العاقلة فقد أوردنا ملخصاً سريعاً لمفهومها في النظرة الفقهية الحديثة وكيف أنه يجوز أن يتم إسناد سداد الدية لشركات التأمين ويجوز أن تقدر الشركات المبالغ التي ستلتزم بها حتى ولو كانت مغايرة أو تزيد على الدية.
وقد ابتغينا في بحثنا هذا طرح تأصيل علمي لطبيعة الدية والتفريق بينها وبين التعويض وملامح كل واحد منهما وذلك حتى لا تضيع حقوق العباد تحت مظلة “أن هذا هو شرع الله” وحقيقة الأمر أن الذي يُضّيع شرع الله هو الهوى والمصالح الخاصة وما كانت مصالح العباد لتضيع أبداً تحت مظلة الشريعة.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل”
صدق الله العظيم
مصادر البحث
1. القرآن الكريم
2. الأحاديث النبوية الصحيحة
3. الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط د/ يوسف القرضاوي
4. أصول الفقه – الشيخ محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي
5. الدية في الشريعة الإسلامية والقانون د/ محمد حسين المرتضى
6. الفقه الجنائي الإسلامي د/ محمد رشدي محمد إسماعيل
7. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام – د. حسني الجندي – طبعة أولى
8. التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي عبد القادر عودة
9. العقوبة في الفقه الإسلامي الإمام أبو زهرة
10. الدية في الشريعة الإسلامية – د. أحمد فتحي بهنسي – طبعة ثانية
11. د. عبد العزيز عبد الرحمن العيد (كمال الشريعة الإسلامية) مجلة أضواء الشريعة/ العدد التاسع 1398هـ
12. د. محمد سليم العوا (مبدأ الشريعة في القانون المقارن) المجلة العربية للدفاع الاجتماعي/ العدد العاشر مارس 1978
13. ديوان القصاص – د. محمد طلبة زايد – طبعة أولى
14. أحكام المعاملات الشرعية – الشيخ علي الخفيف – طبعة رابعة 1952
15. الدية في الشريعة الإسلامية د. علي صادق أبو هيف رسالة دكتوراه جامعة القاهرة 1932
16. المحلى والموطأ والمغني
17. قواعد الأحكام في مصالح الأنام العز بن عبد السلام
18. البحر الرائق في شرح كنز الدقائق لابن نجيم
19. ابن رشد.. بداية المجتهد ونهاية المقتصد
20. المغني لابن قدامة
21. ضمان المتلفات في الفقه الإسلامي – د. سليمان محمد أحمد رسالة دكتوراه
22. بحوث وفتاوى إسلامية من مطبوعات مشيخة الأزهر
23. الشيخ علي الخفيف – الضمان في الفقه الإسلامي طبعة 1971
24. ضمان عثرات الطريق – د. أحمد بخيت الغزالي
25. الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي
26. المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي
27. بداع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني
28. الحق في التعويض مقتضياته الغائبة د. حسن عبد الرحمن قدوس
فهرس البحث
تنويه……………………………………………………………………………………………………2
مقدمة……………………………………………………………………………………………………2
الدية.. تعريفها طبيعتها وجوبها………………………………………………………………..6
أولاً: الدية لغة…………………………………………………………………………………………..6
ثانياً: الدية قبل الإسلام………………………………………………………………………………….6
ثالثاً: أصل الدية من حيث التشريع………………………………………………………………………7
رابعاً: تعريفها وطبيعتها…………………………………………………………………………………7
خامساً: فلسفة العقوبة في الإسلام والمقاصد الشرعية لها……………………………………………..11
سادساً: سمات العقوبة في الشريعة……………………………………………………………….12
العقوبات في الشريعة الإسلامية رحمة بالناس……………………………………………………………12
قاعدة عامة مجردة تتغيا المساواة………………………………………………………………………….12
الردع العام والردع الخاص………………………………………………………………………………13
أنواع العقوبات…………………………………………………………………………………………..18
طبيعة وكيفية سداد العقوبات المالية في الشريعة الإسلامية……………………………………………..20
مبحث.. الأدلة الشرعية العقلية والنقلية على اختلاف التعويض عن الدية……………………………..22
مقارنة أخرى تنتهج اللزوم العقلي……………………………………………………………………..25
إزالة شبهة التعويض عن الدية…………………………………………………………………………29
رأي الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق…………………………………………………………32
رأي الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق………………………………………………………………33
خلاصة تحديد طبيعة الدية……………………………………………………………………………33
مبحث.. الدية والتعويض (الضمان) في الشريعة الإسلامية…………………………………………….34
مشروعية الضمان (التعويض) في الشريعة الإسلامية……………………………………………………34
تأصيل فكرة المسئولية والضمان في الإسلام……………………………………………………………..36
2. “أبوإسحاق الشاطبي – الموافقات في أصول الشريعة الجزء الثالث ص11، 12”
أركان الضمان ( التعويض ) في الشريعة الإسلامية……………………………………………………..40
مثال لضمان آدمي بعقد في الشريعة(ضمان سلامة وصول الراكب ومتاعه أو بضاعته من التلف)………42
3. “المرجعالسابق ص412”
4. “المرجعالسابق ص415”
الضمان على شركات التأمين……………………………………………………………………………44
خاتمة ملخص البحث………………………………………………………………………………….46
اترك تعليقاً