بحث قانوني حول نظام تفريد العقوبة
المقدمة:
تعكس العقوبة في نشأتها وفي تطورها المراحل الرئيسية لتطور القانون ذاته، فإذا كان القانون في كتلته ليس سوى نتائج لأوضاع مكانه وزمانه، فإن العقوبة تعد بحق مرآة عاكسة لذلك القانون. وقد مرت العقوبة منذ القرن السابع عشر “ق17″ بمراحل متعددة من التطور واختلف حالها كثيرا عما كانت عليه قديما، وتتمثل مظاهر هذا التطور الذي لحق بالعقوبة في العصر الحديث في جانبين: يتمثل الجانب الأول في التطور الذي لحق بالعقوبة من حيث تحديدها، أما الجانب الثاني فيتمثل بالتطور الذي لحق بالعقوبة من حيث أسلوب تنفيذها.
وقد كان هذا التطور الذي لحق بالعقوبة بسبب تطور الفكر الفلسفي في العصور الوسطى، حيث أن هناك ارتباطا وثيقا بين السياسة الجنائية وبين الفكر السياسي والفلسفي السائد في المجتمع، فإذا كان قانون العقوبات يمثل أقصى درجات الحماية التشريعية للقيم والمصالح الاجتماعية من وجهة نظر المشرع الوضعي؛ فمن الطبيعي أن يتأثر في سياسته الجنائية وفي أسلوبه في حل المشاكل المختلفة بالأفكار الفلسفية والسياسية التي تقوم عليها الدولة
وقد أدى هذا التطور إلى ثورة قانونية وفلسفية وحقوقية في القرن الثامن عشر توج بمبدأ تفريد العقاب، مع العلم أن هذه التسمية لم تظهر إلا مع ريمون سالي عام 1898 من خلال دروس قدمها لطلبة الكلية الأهلية الحرة للعلوم الاجتماعية تحت عنوان”تفريد العقوبة” وقد ظهر هذا المبدأ بسبب القصور الذي كانت تعاني منه المدرسة التقليدية ” نشأت هذه المدرسة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على أيدي دعاتها “بكاريا، فويرباخ وبنتام”، وقد جاءت بسب القسوة الشديدة التي تميزت فيها العقوبات إلى حد تعارضت فيه مع الكرامة البشرية، وكذلك السلطة الواسعة التي كان يتمتع بها القضاء والتي بلغت حد التجريم في بعض الأحيان، ولذلك جاءت بهدفين وهما:
·التخفيف من القسوة التي تميزت بها العقوبات حتى ذلك العهد.
·تحديد سلطة القاضي في أضيق نطاق للقضاء على تحكمه واستبداده، وذلك بإقرار مبدأ الشرعية.”أي أن القاضي في ظلها عبارة عن أداة في يد المشرع وليس له إلا النطق بالعقوبة دون أي سلطة تقديرية.
غير أنه وبسبب الانتقادات التي واجهت المدرسة التقليدية وخصوصا تحديد سلطة القاضي أدت إلى ظهور مدرسة جديدة “المدرسة التقليدية الجديدة أو النيوكلاسيكية”،”نشأت هذه المدرسة في القرن التاسع عشر، وكان ذلك على أثر الانتقادات التي وجهت إلى المدرسة التقليدية في ثوبها القديم ويعد “روسي، اورتلان،مولينيه وميتر ماير” من دعاتها، وقد امنوا بالمبادئ الرئيسية التي انطلقت منها المدرسة التقليدية الأولى ولا سيما الغرض من العقوبة ومبدأ الحرية، ولكن أنكر أقطاب هذه المدرسة مبدأ المساواة المطلقة بين الأفراد في العقوبة، أي يجب أن تكون العقوبة متناسبة مع جسامة الجريمة من ناحية، ومع ظروف الجاني من ناحية أخرى، وفي هذا رفض واضح لمبدأ العقوبة المتساوية الذي كان ينادي به أنصار المدرسة التقليدية الأولى.”[7]وقد طالب روادها بإعطاء بعض الصلاحيات للقاضي، غير أن الثورة الكبرى كانت مع ظهور المدرسة الوضعية” يعتبر الطبيب الشرعي، والعالم النفساني “لمبروزو”مؤسسا لهذه المدرسة الوضعية الايطالية، وشاركه في ذلك العالم الجنائي والاجتماعي”فيري”، وكذلك القاضي والفقيه”جارفالو”.
فمنذ ظهور الثورة العلمية في منتصف القرن التاسع عشر، اتجهت السياسة الجنائية منهجا جديدا قوامه الطابع العلمي التجريبي، وقد نشأت هذه المدرسة على أنقاض أفكار المدرسة التقليدية المنتقدة التي كانت تنظر إلى الفعل الإجرامي بذاته، بينما اهتم أنصار المدرسة الوضعية بشخصية المجرم وكان لها مكان الصدارة في أبحاثهم، وقد استندت إلى دعامتين وهما:
1.فكرة الخطورة الإجرامية.
2.فكرة التفريد العقابي.”
وقد عملت هذه المدرسة على استخدام المنهج العلمي لدراسة الجريمة و كذلك بتحويل النظرة بشكل كلي من الجريمة إلى شخص المجرم.
وقد أثر هذا التطور الكبير في الفكر العقابي إلى تغيير النظرة إلى العقوبة، فبعدما كان الهدف منها إيلام الجاني والقصاص منه في ظل الأنظمة القديمة؛ أصبح الهدف منها واضحا وسامٍ وهو الردع العام والردع الخاص بالإضافة إلى إصلاح الجاني وإعادة تأهيله، وهذا يتطلب إعطاء القاضي سلطة تقديرية في اختيار العقوبة المناسبة لتحقق هدفها.
ومن المعروف، بل ومن المسلم به أن تفريد العقوبة يعتبر من أهم خصائصها في التشريعات الجنائية الحديثة، ويعني ذلك أن تكون العقوبة متناسبة مع الجريمة؛ حيث أن هذا التناسب هو الذي يجعل من الأولى جزاءً عادلا للثانية، كما أنه هو الذي يجعل العقوبة صالحةً لتحقيق الأغراض المراد تحقيقها منها، مثل الردع العام، والردع الخاص وإرضاء العدالة وتهدئة شعورها الكامن في النفس البشرية لكل فرد من أعضاء المجتمع، ولقد استقر الرأي الآن على أن العقوبة المتناسبة هي تلك التي تتلاءم مع الخطورة أو الجسامة المادية للجريمة، تلك الخطورة التي يستدل عليها من خلال الأضرار التي ترتبت عليها، وكذلك مع درجة خطورة الجاني وظروفه المختلفة
وهذا ما عبر عنه بعض الفقه العربي بقوله أن “التفريد يجعل العقوبة من حيث نوعها ومقدارها وكيفية تنفيذها ملائمة لظروف من تفرض عليه، فتفريد العقاب هو تنويعه ليلائم حال كل فرد يراد عقابه، وأساس هذه النظرية أن العقوبة وسيلة لإصلاح المحكوم عليه”، فالعقوبة لا ينبغي أن تطبق عبثا، فلا بد أن تكون ذات مردودية، ولكي يتحقق هذا فالعقوبة لا ينبغي تحديها مسبقا بصورة دقيقة وصلبة، ولا تنظيمها قانونا بطريقة لا تقبل التغيير لأن الهدف منها فردي، يكون الوصول إليه باستعمال سياسة خاصة ملائمة للظروف وليس عن طريق تطبيق قانون مجرد لا علم له بالأنواع والحالات التي تعرض على القضاء.
ومن هنا تأتيأهمية هذا البحثفالتفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية حيث أنه يتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة نص عليها المشرع بصورة مجردة، وإنزالها على الواقعة الإجرامية، حيث تقوم سلطة القاضي بإخراجها من قالبها المجرد، ومن هنا ظهرت إشكالية كبرى وهي ” التفاوت في توقيع العقوبة”، ويمكن تجسيد هذه المشكلة في أن القاضي لا يوقع ذات العقوبة المنصوص عليها في النموذج التجريمي على كل من يرتكب ذات الجريمة، أو بعبارة أخرى لا توقع ذات العقوبة على كل من يرتكب جريمة من الجرائم التي تنتمي إلى طائفة واحدة مع تماثل الظروف العينية للجريمة والظروف الشخصية للجناة
والسلطة التقديرية للقاضي الزجري هي محور سير العدالة الجنائية، وهي ذات أهمية بالغة، وكنا نسمع عنها كثيرا ولم نكن نجد لها شرحا يشفي الغليل أو نظرية مستفيضة يمكن الرجوع إليها، أو حتى تعريفا دقيقا يمكن الاعتماد عليه أو الركون إليه في بحث أو دراسة.
ورغم الأهمية الكبيرة التي يكتسيها هذا الموضوع إلا أنه لم يحظى بالقدر الكافي للدراسة والتحليل اللهم بعضالدراسات التي تطرقت لهوهي:
1.مأمون محمد سلامة في كتابه حدود سلطة القاضي الجنائي في تطبيق القانون عام 1975، والذي تطرق في الفصل الثاني منه إلى سلطة القاضي التقديرية وموضوعها في تطبيق العقوبة، وذلك من خلال قانونية القاعدة الجنائية، وكذلك تأثر السلطة التقديرية بوظيفة العقوبة والخطورة الإجرامية.
2.أكرم نشأت إبراهيم في كتابه الحدود القانونية وسلطة القاضي الجنائي في تقدير العقوبة عام 1998، وتحدث فيه عن سلطة القاضي في اختيار العقوبة كماً ونوعاً، وتطبيقات التفريد القضائي، ولم يتعرض لأنواع التفريد ولا لضوابط سلطة القاضي في تفريد العقاب؛ غير انه تطرق في الباب الثاني إلى سلطة القاضي في تخفيف وتشديد العقاب من خلال أنظمة وليس من خلال الضوابط التي يجب الاعتماد عليها.
3.مصطفى فهمي الجوهرى في كتابه تفريد العقوبة في القانون الجنائي “دراسة تحليلية وتأصيلية في القانون المصري وقوانين بعض الدول العربية” عام 2002، وتطرق فيه إلى أنواع التفريد الثلاث من خلال بعض تطبيقاتهم؛ إلا انه لم يتطرق إلى الضوابط التي تحكم القاضي في تفريد العقاب، وإنما كان كتاباً يعرض صور التفريد الثلاث من خلال تطبيقاته.
4.لطيفة المهداتي في كتابها حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء عام 2007، وناقشت فيه إشكالية مبدأ الشرعية وعلاقته بمبدأ تفريد العقاب، وكذلك تحدثت عن معايير استظهار السلطة التقديرية والمراقبة القضائية، لكن لم تتحدث فيه عن أنواع التفريد إلا بصفة عابرة في التقديم.
وهذا القصور في الكتابات في هذا الموضوع بالذات ولما له من أهمية كبرى هو ما دفعنا إلى اختيار هذا الموضوع لرسالة الماستر، وسنعمل بإذن الله على جمع فتات هذا الموضوع من خلال التطرق للأنواع والضوابط التي كانت مشتتة في الكتابات السابقة.
ويجب التذكير والإشارة إلى أن سياسة تفريد العقاب لا يجب أن تؤثر على قاعدة الشرعية الشيء الذي يفهم على أن القاضي الزجري لا يجب أن يتوفر على سلطات واسعة وغير محددة، وذلك حتى لا تتحول سياسة تفريد العقاب إلى تحكمية في يد القاضي، لذا كان من اللازم وضع حدود لهذه السلطة يتمكن من خلالها القاضي إلى تحقيق سياسة تفريد العقاب، وهذا ما جعلنا نعالج الموضوع من خلال إشكالية مركزية: تتمثل في تحديد طبيعة التفريد قانونا وقضائاً وتنفيذاً ومسائلة هذه الأنواع من خلال رصد الضوابط التي تحكم سلطة القاضي في استعمال هذا التفريد؟ وإلى حد يمكن الحديث عن التفريد دون المس بمبدأ الشرعية؟
وسنحاول الإجابة عن هذه الإشكالية عبر التقسيم التالي:
الفصل الأول: أنواع التفريد
كشف التطور الحديث الذي لحق بالسياسة الجنائية حديثا عن مبدأ هام هو مبدأ التناسب، ويتوجه مضمون هذا المبدأ إلى المشرع، وينبه إلى ضرورة مراعاة التناسب بين إيلام العقوبة الجنائية والجريمة التي تقررت لها هذه العقوبة وظهر بموازاته مبدأ المساواة في العقاب كرد فعل ضد نظام عدم المساواة الذي اتسمت به الإدارة الجنائية في النظم القديمة، لكن المساواة في القانون الجنائي أدت إلى عدم المساواة بين أناس مختلفين، لأن العقاب وإن كان واحداً في الإسم، فإنه يختلف في الحقيقة بإختلاف النوع والسن والظروف؛ وغير ذلك من الأحوال، فالشكلية التي اتسم بها الاتجاه المحافظ كادت تقضي على المبررات التي من أجلها نودي بمبدأ الشرعية؛ وذلك بالهبوط بالقاضي إلى مستوى الآلة في تطبيقه للقانون بحرمانه من أي سلطة تقديرية، وهذا بطبيعة الحال، يضر بمبدأ المساواة أمام القانون الذي يتطلب بالضرورة أن يؤخذ في الاعتبار التغيرات الإجتماعية للمصالح، وأيضا الظروف الواقعية التي أحاطت بارتكاب الجريمة ومن ثم فإن المساواة الحقيقية هي المساواة بين جميع الجناة في الألم.
ومن هنا ظهر التفريد للتعبير عن هذا المنطق الذي هو في الحقيقة عصب السياسة الجنائية، فالمعنى الحقيقي للمساواة هو تماثل العقوبة كلما تماثلت الظروف والأوضاع، ومن ثم فلا تعارض بين مبدأ المساواة في العقوبة ومبدأ تفريدها، ولما كان تفريد العقوبة يحقق العدالة والمساواة، فقد أخذت به النظم الجنائية الحديثة على ثلاث مستويات: ابتداء من المرحلة التشريعية إلى المرحلة القضائية، ثم إلى مرحلة تنفيذ العقوبة.
وسنتحدث في هذا الفصل عن التفريد التشريعي والتفريد التنفيذي (الفرع الأول)، على أن نتناول التفريد القضائي (الفرع الثاني)، لما له من أهمية كبرى تفوق أنواع التفريد الأخرى على أساس أن القاضي الجنائي هو الذي يحدد العقوبة المناسبة التي تطبيق على المتهم.
الفرع الأول: التفريد التشريعي والتفريد التنفيذي
إذا كان المشرع هو الذي يحدد العقوبة وفقا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إلا أنه لا يستطيع أن يحدد كل الظروف التي أحاطت الجاني وقت إرتكاب الجريمة، فأن المشرع يعمل على إعطاء القاضي بعض الصلاحيات لاختيار العقوبة المناسبة لتأهيل وإعادة إدماج المجرم في المجتمع ـ مثلا أن يحدد للعقوبة حدين ـ وهذا ما يسمى بالتفريد التشريعي.
وبما أن الهدف الأصلي لاختيار العقوبة هو تقويم سلوك المجرم وإصلاحه، والتنفيذ العقابي هو المرحلة التي يتحقق فيها الهدف من هذا الإختيار؛ ولا يمكن تحقيق هذا الهدف ما لم تعمل السلطة التنفيذية على تحقيقه
وتقوم فكرة التفريد التنفيذي على أساس أن أخطر عملية تؤثر في مسار حياة المجرم هي مرحلة تنفيذ عقوبته، لذا وجب تحقق التفريد بواسطة تنفيذ العقوبة ومن خلالها يتحقق التفريد التنفيذي، ولقد نبعت هذه الفكرة من إستمرار التفريد العقابي الذي كان قاصراً على المشرع والقاضي؛ أي على إهمال مرحلة تنفيذ العقوبة
ففي مرحلة التنفيذ الذي تتولى إدارة عمومية شؤون تنفيذ العقوبة المحكوم بها على المجرم، تعتبر هي من أبرز النظم العقابية الحديثة، وهو تفريد في المعاملة؛ أي تميز في معاملة المجرمين كل حسب سلوكه
وسنتحدث في هذا الفرع: عن التفريد التشريعي (المبحث الأول)، والتفريد التنفيذي ( المبحث الثاني).
المبحث الأول: التفريد التشريعي
قبل الحديث عن تخفيف العقوبة والإعفاء منها (المطلب الثاني) على أنها من أشكال التفريد التشريعي، سنقوم بتحديد مفهوم التفريد التشريعي والتحدث عن ظروف التشديد (المطلب الأول)، والتي تعتبر من أهم أشكال التفريد التشريعي، حيث أن ظروف التشديد تنقل الجنحة إلى الجناية في بعض الأحيان، وهذه الظروف منصوص عليها بشكل محدد وحصري في القانون .
المطلب الأول: مفهوم التفريد التشريعي وظروف التشديد
سنحاول في هذا المطلب التطرق إلى مفهوم التفريد التشريعي (الفقرة الأولى)، وبعد تبيان المفهوم وتحديده سنقوم بالتطرق إلى ظروف تشديد العقاب (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم التفريد التشريعي
أوضحت دراسات علم الإجرام العديد من الواجبات التي تقع على عاتق المشرع عند تحديده لشق الجزاء الجنائي من القاعدة الجنائية، ومن أهم تلك الواجبات ضرورة أن يراعي المشرع عند إنشاءه للجزاء تدرجه بحسب ظروف كل جاني، فيفترض تطبيق نص معين عقوبته أشد أو أخف من العقوبة العادية المقررة لنفس الفعل إذا وقع في ظروف معينة، أو من جناة محددين مثل ظروف التشديد، وأعذار التخفيف، والأعذار المعفية من العقاب.
ويتمثل التفريد التشريعي أن يدخل المشرع في اعتباره عند وضع الجزاءات المقررة للجرائم المختلفة؛ ظروف الجريمة المرتكبة من ناحية، وظروف الجاني من ناحية أخرى أو تدخل المشرع بغية تنظيم تفريد العقوبة.
ويعرف التفريد التشريعي بأنه: التفريد الذي يتولاه المشرع ذاته محاولاً به أن يجعل من العقوبة جزاءاً متناسباً ومتلائماً مع الخطورة المادية للجريمة من ناحية، بما تتضمنه الجريمة من خطر على المجتمع، أو ما يمكن أن تحدث به من ضررٍ مع الظروف الشخصية للجاني الذي يمكن له أن يتوقعها أو يتنبأ بها وقت تحديده للجريمة والعقوبة، أي لحظة وضع نص التجريم والعقاب، وذلك من ناحية ثانية .
والمشرع هو الذي يحدد مبدئيا العقوبة تطبيقا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إلا أنه في كثير من الحالات لا يستطيع القيام بذلك بشكل حصري ومحدد، فإذا كان وقت وضع النص التشريعي يقدر خطورة الجريمة؛ ويحدد تبعاً لها العقوبة الملائمة، إلا أنه على يقين بأن مرتكب هذه الجريمة ليس دائماً على هذه الدرجة من الخطورة الإجرامية، حيث أن ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة تختلف من مجرم إلى مجرم أخر ارتكب نفس الجرم. وغالبا ما يضع المشرع عقوبتين للفعل كالإعدام أو السجن المؤبد في بعض الجنايات، والحبس أو الغرامة أو كليهما في بعض الجنح، كما يضع المشرع عقوبة متراوحة بين حدين أدنى وأقصى، ويترك للقاضي سلطة تقديرية تتناسب وقائع الدعوى
وحيث يرى المشرع في بعض الحالات أن العقوبة التي رصدها للجريمة لا تتلاءم مع ظروف إرتكابها، سواءً ما تعلق منها بالجريمة ذاتها أو بمرتكبها، ويرى أن هذه الظروف تستدعي إما تخفيف العقاب؛ وإما تشديده، فينص على ذلك، وقد يكون التخفيف أو التشديد وجوبا؛ أي يلتزم القاضي به دون أن يكون له أي سلطة تقديرية في هذا الشأن، وقد يكون إختياريا للقاضي. ونكون أمام التفريد التشريعي في الحالة الأولى التي يكون التشديد والتخفيف وجوبيا.
الفقرة الثانية: ظروف التشديد
هذه الظروف محددة في القانون على سبيل الحصر، وبالنسبة لجرائم معينة (جنايات وجنح)، بحيث يؤدي توافرها إلى تشديد عقوبتها ورفعها عن الحد الأقصى المقرر لها قانوناً، وهي: عبارة عن ملابسات رافقت ارتكاب الجريمة قدر المشرع أن توافرها يوجب مبدئيا رفع العقوبة المقررة للجريمة التي ارتكبت في ظروف عادية
أو هي الحالات التي يجب فيها على القاضي ـ أو يجوز له ـ أن يحكم بعقوبة من نوع أشد مما يقرره القانون للجريمة، أو يجاوز الحد الأقصى الذي وضعه القانون لعقوبة هذه الجريمة، وبصفة عامة هي عبارة عن بعض الأمور أو الخصائص أو الوسائل أو الملابسات التي يرى المشرع أن تخفيفها يوجــب أو يجيز تشديد العقاب المقرر أصلا للجريمة بدونها
وتنقسم ظروف التشديد إلى: ظروف عينية أو مادية، وهذه الظروف تتعلق بالملابسات العائدة للجانب المادي أو العيني في الجريمة، ككيفية ارتكابها، أو مكان اقترافها، أو زمن هذا الإقتراف.
أما النوع الثاني فهو: الظروف الشخصية: وهي تلك التي تتعلق بصفات خاصة بشخص الجاني، أو بطبيعة علاقته بالمجني عليه، أو بدرجة جسامة خطئه العمدي أو غير العمدي.
وتقسم أيضا إلى الظروف المشددة الخاصة: وهي تلك التي يقتصر أثرها من حيث وجوب التشديد وجوازه على جريمة أو جرائم معينة حددها القانونوالظروف المشددة العامة: وهي تلك التي يقررها المشرع و يحددها على سبيل الحصر، بحيث ينصرف أثرها في تشديد العقاب إلى جميـع الجرائم، أو عدد كبير غير محدد منها
المطلب الثاني: تخفيف العقوبة والإعفاء منها
ينص القانون أحيانا على أعذار معينة تكون نتيجتها وجوب تخفيض العقوبة أو الإعفاء منها، ويسري مفعولها بالنسبة لجميع الجرائم؛ والأعذار القانونية حالات محددة في القانون على سبيل الحصر، ولا يملك القاضي إزاءها سلطة تقديرية، ويترتب عليها مع ثبوت الجريمة وقيام المسؤولية أن يتمتع المجرم بالإعفاء من العقاب؛ إذا كان العذر معفيا منه تماماً ـ وعلى الرغم من أن هذه الأعذار تعفي الجاني من العقاب، إلا أنه يمكن للقاضي أن يحكم عليه بتدابير الوقاية الشخصية أو العينية
، وإما أن تقوم بتخفيض العقوبة؛ إذا كان العذر مخفضاً للعقوبة.
والأسباب التي تؤدي إلى تخفيض العقاب هي نوعين:النوع الأول: يسمى بالأعذار القانونية (لأنها ذات مصدر قانوني ) المخففة أو المخفضة للعقوبة. أماالنوع الثاني:فيسمى بالظروف القضائية (لأنها ذات مصدر قضائي) المخففة؛ أو ظروف التخفيف القضائية
والفرق بين أعذار التخفيف وبين الظروف القضائية المخففة هو أن تطبيق الأعذار القانونية هو أمر وجوبي؛ وهذا يعني أن تخفيف العقوبة عند توافر العذر القانوني يكون إلزامياً على القاضي، في حين أن تطبيق الظروف القضائية المخففة لا يكون إلا جوازياً للقاضي يدخل ضمن سلطته التقديرية التي منحه إياها المشرع
الفقرة الأولى: أعذار التخفيف
يقصد بالأعذار المخففة: الحالات التي حددها المشرع على سبيل الحصر، ويلتزم بها القاضي بأن ينزل عن العقوبة المقررة للجريمة؛ وفقا للقواعد المحددة في قانون العقوبات، وقد تولى المشرع تعيينها، فبين كل عذر والوقائع التي يفترضها؛ ومدى التخفيف عند توافره، ومن ثم لا يستطيع القاضي أن يعتبر العذر متوفرا إلا إذا توافرت الشروط التي حددها القانون، ولا يستطيع القاضي إذا توفر العذر أن ينكر وجوده؛ وأن يمتنع عن تخفيف العقاب بناءً عليه، ويلتزم القاضي أن يشير في الحكم إلى العذر ويثبت توافر شروطه أي هي في حقيقتها عبارة عن بعض الظروف والملابسات التي تتعلق بشخص الجاني، وبحالته النفسية، أو التي ترجع إلي الجريمة المسندة إليه[.
والظروف المخففة هي نظام يسمح للقاضي بألا يوقع على الجاني العقوبة الأصلية المقررة للواقعة، بل عقوبة أخف منها كثيراً أو قليلاً، وعلة تقرير هذا النظام هو أن المشرع رأى بأن العقوبة كما هو منصوص عليها في القانون؛ قد تكون في بعض الحالات أشد مما ينبغي حتى ولو هبط بها القاضي إلى حدها الأدنى، لذلك وضع نظاماً لتخفيف العقوبة ليحقق الملاءمة بين العقوبة والظروف والحالات الخاصة التي أحاطت ارتكاب الجريمة.
وتنقسم الأعذار المخففة إلى نوعين :
·الأعذار المخففة الخاصة: وهي أعذار قانونية يقتصر نظامها على جريمة معينة أو عدد محدد من الجرائم نص عليها القانون صراح، ويستفيد منها الجاني إذا توافرت شروطها فيه، وهذا النوع من الأعذار هو تجسيد لفكرة التفريد التشريعي للعقوبة، بحيث يمنح المشرع مرتكبي بعض الجرائم فرصة الاستفادة منها في بعض الحالات، وفي نطاق الظروف التي قد تحيط بالجريمة، أو بشخص مرتكبها ولذلك فإن الدراسة التفصيلية لهذه الأعذار الخاصة تكون في إطار القسم الخاص من القانون الجنائي (الموضوعي)، حيث تتم دراسة أحكام كل جريمة على حدتها من حيث أركانها؛ وعناصرها؛ وظروفها المخففة أو المشددة للعقاب عليها
·الأعذار المخففة العامة: وهي التي يمكن لأي مرتكب للجريمة أن يستفيد منها إن توافرت شروطها فيه، وهذه الظروف تشمل جميع الجرائم بدون استثناء، أي هي التي يقررها المشرع ويحددها، فينصرف أثرها في التخفيف الوجوبي إلى جميع الجرائم أحياناً، والى عدد معين من الجرائم في أحيانٍ أخرى
وهذه الأعذار ملزمة للقاضي فمتى توافرت عناصرها، وتحققت شروطها، وجب على المحكمة أن تأخذ بها وأن تهبط بالعقوبة إلى ما دون الحد الأدنى، بالقدر الذي يحدده القانون، وإلا كان الحكم معيبا
الفقرة الثانية: الأعذار المعفية من العقاب
إن الصفة الإجرامية التي يكتسبها الفعل بخضوعه لنص تجريمي ليست ثابتة في كل الأحوال، ويعني هذا أنه إذا تحقق ظروف معينة يقدر معها المشرع انتفاء علة التجريم، وعلى ذلك فإن الفعل الذي يخضع إبتداءً لقاعدة تجريم؛ ولكن المشرع يسمح به إستثناءً إذا وقع في ظروف معينة ومحددة، يكون مباحا إباحة استثنائية
والأعذار المحلة هي: أسباب الإعفاء من العقاب على الرغم من بقاء أركان الجريمة كافة، وشروط المسؤولية عنها متوفرة .
ويتضح من هذا التعريف أن العذر المحل يعفي فاعل الجريمة الذي يستفيد منه من كل عقوبة، لذا فإن هذه الأعذار تسمى أحياناً بالأعذار المعفية، كما تسمى أحيانا أخرى بموانع العقاب
وقد نص عليها المشرع على سبيل الحصر وحددها في ثلاث حالات وهي:
1.التبرير الناتج عن أمر القانون وإذن السلطة الشرعية
2.حالة الضرورة والإكراه
3.الدفاع الشرعي “دفع الصائل”
أي أن المشرع يضفي على الفعل المجرم الذي أقدم عليه الشخص الصفة الشرعية، ويخرجه من نطاق التجريم؛ ويتضح لنا من سياق هذا القول بأن نصوص مواد التجريم ليست مطلقة بل يرد عليها قيود تضيق من نطاقها، والمشرع يهدف من وضعه هذه النصوص حماية مصالح اجتماعية معينة على قدر كبير من الأهمية فينص على تجريم تلك الأفعال، لكنه قد يقدر أن المصلحة التي تعود على المجتمع في عدم العقاب تفوق المصلحة التي تعود عليه في حالة العقاب عليها في ظروف معينة، فيقرر اعتبارها مشروعة في مثل هذه الظروف على الرغم من خضوعها لنصوص التجريم، وأساس تسويغ فعل الإباحة وعلته عند الفقهاء .
المبحث الثاني: التفريد التنفيذي
لم يعد السجن في الزمن المعاصر مجرد مكان يختص لعزل المحكوم عليهم طيلة فترة العقوبة المحكوم بها، بل تحول في ظل السياسة العقابية الحديثة إلى مرفق اجتماعي غايته تقويم وتأهيل وإصلاح النزلاء[1]، وقد استفادت الإدارة العقابية من النتائج التي توصلت إليها الدراسات الإجرامية فيما يتعلق بشخصية المحكوم عليه، وما يطرأ عليها من تغير بفعل الجزاء الجنائيحال قيامها بتنفيذ الجزاء الجنائي المقضي به في حق الجاني، فقد يتاح للقائمين على التنفيذ العقابي بالتعديل من طبيعة العقوبة أو من مدتها أو من طريقة تنفيذها حسب ما يطرأ على شخصية المجرم ومدى استجابته للتأهيل والإصلاح[
فالقاضي بعد أن يحكم على الجاني بالعقوبة التي يراها ملائمة لظروف الجريمة وفاعلها، تتولى السلطة أو الجهة الإدارية مهمة تنفيذ هذه العقوبة على المحكوم عليه، وبحكم اتصالها المباشر والقريب بهذه الأخيرة فأنها قد تجد أن العقوبة المحكوم بها عليه غير ملائمة لظروفه الشخصية، خاصة بعد انقضاء فترة زمنية من التنفيذ، لذلك خولها المشرع الصلاحية لتفريد العقوبة على نحو يحقق عدالتها وملاءمتها لظروف الجاني.
ويتحقق هذا النوع من التفريد إذا خولت لسلطة التنفيذ الوسائل التي تتمكن بها من جعل كيفية تنفيذ العقوبة ملائمة لظروف كل محكوم عليه، فيسمح لها بتصنيف المحكوم عليهم، وإخضاع كل طائفة لإجراءات تنفيذ تصلح أفرادها، وأعطيت حق العفو عن العقوبة أو تخفيضها، واعترف المشرع لها بالحق في وقف الحكم النافذ، والإفراج عن المحكوم عليهم شرطيا[
والتفريد التنفيذي أو الإداري للعقوبة: هو الذي تتولاه السلطة التنفيذية في حدود المبادئ والقواعد العامة التي يحددها المشرع، فكثيرا ما يعهد هذا الأخير إلى السلطة التنفيذية، باعتبارها الجهة القائمة على التنفيذ العقابي وإدارة المؤسسات والمنشآت العقابية التي يتم التنفيذ فيها، بمهمة تفريد العقوبة عندما تكون هي الأجدر على تقدير ملائمتها لظروف الجريمة والمجرم من ناحية، وتحقيقها للغاية منها كما رسمها القانون من ناحية أخرى
ومن بين صور التفريد التنفيذي ما يسمح به لجهة التنفيذ من نقل المحكوم عليه بعد فترة إلى أحد السجون العمومية إذا رأت أن التطور الإيجابي الذي طرأ على شخصيته لم يعد يناسب ظروف الليمانات ومثال هذا النوع من التفريد أيضاً إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقا لنظام الإفراج الشرطي أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إبدالها بأخف منها، متى كان سلوك المحكوم عليه ينبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة في المستقبل
وسنقتصر في هذا المبحث بالتحدث عن التفريد التنفيذي من خلال المعاملة العقابية (المطلب الأول)، ونماذج التفريد التنفيذي (المطلب الثاني).
المطلب الأول: التفريد التنفيذي من خلال المعاملة العقابية.
لم يعد الجزاء الجنائي في ظل السياسة العقابية الحديثة يهدف إلى إيلام الجاني أو الانتقام منه، بل صار هدفه في المقام الأول إصلاح الجاني وتأهيله، وفي ضوء هذا الهدف وجب توجيه أساليب المعاملة العقابية وجهة تحقق هذا الهدف، ولما كانت أساليب المعاملة العقابية مختلفة ومتنوعة، لذلك يبدو ضروريا أن تبدأ مرحلة التنفيذ العقابي بإجراء دراسة كاملة لمختلف الظروف المحيطة بالجاني حتى يمكن في ضوء ذلك تصنيفه واختيار أسلوب المعاملة الأنسب لحالته
وتعني المعاملة العقابية “مجموعة أساليب التنفيذ العقابي التي تحقق الأغراض المبتغاة من العقـوبـة، وهي تأهيـل المحكوم عليه عن طريق تهذيبه أو علاجه”، وقد عرفته مجموعة قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين لعام 1955 تعريفا عاما “بأنها مجموعة المبادئ والأسس التي تحدد اقل الأوضاع والمعايير المقبولة لمعاملة مختلف طوائف المسجونين البالغين، وتنظيم و إدارة مؤسساتهم طبقا للآراء والممارسات المعاصرة لعلم العقاب الحديث” وسنتحدث في هذا المطلب عن الفحص “الفقرة الأولى”، والتصنيف “الفقرة الثانية”.
الفقرة الأولى: الفحص
الفحص هو نوع الدراسة الفنية التي يقوم بها أخصائيون في مجالات مختلفة لإجراء الدراسة على المحكوم عليه لتحديد شخصية وبيان العوامل الإجرامية التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة، حتى يمكن الملائمة بين ظروفه الإجرامية وبين الأساليب العقابية التي تجعل الجزاء الجنائي المحكوم به يحقق تأهيله، ويعتبر الفحص خطوة تمهيدية لتصنيف المحكوم عليه. ولذلك يجب أن يحدد الفحص درجة خطورة المحكوم عليه في المجتمع، ثم مدى استعداده للتجاوب مع الأساليب العقابية المختلفة[.
الفحص في جوهره عمل فني يفترض تضافر جهود فريق من المختصين في علوم الطب وعلم النفس والاجتماع، وهو ما يفترض بعد ذلك تأهيل النتائج التي أثمرتها أعمالهم وإعدادها في صورة صالحة لتكون أساسا للتصنيف.
وللتصنيف أنواع وهي:
1.الفحص السابق للحكم: وهو ما يسمى بالفحص القانوني الذي يهدف أساسا إلى تحديد نوع ومقدار التدبير الجنائي اللازم للمتهم، وقد نصت تشريعات عديدة على هذا النوع من الفحوص استجابة لما تم إقراره من مفاهيم حديثة في مجال السياسة العقابية، ومن التشريعات التي اخذ بهذا النوع من الفحوص، قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الذي يلزم قاضي التحقيق والجنايات، ويجيز له ذلك في مواد الجنح أن يجري بنفسه أو عن طريق شخص ينتدبه لذلك، ليجري تحقيقا حول شخصية المتهم ومركزه المادي والعائلي والاجتماعي، كما يجيز له الأمر بإجراء فحص طبي ونفسي للمتهم
2.وهو الذي يدخل في نطاق دراسة علم العقاب: وهو اللاحق على صدور الحكم بالجزاء الجنائي، وهو الذي يمهد السبيل إلى تصنيف المحكوم عليه، لتقرير المعاملة العقابية الملائمة لكل طائفة، حتى يحقق الجزاء غرضه التأهيلي، ويجب أن يكون هذا النوع من الفحص امتداد للنوع الأول، والسبيل إلى ذلك يكون بنقل ملف شخصية مع المحكوم عليه إلى مركز الفحص
3.الفحص التجريبي: وهو الذي يجري بعد دخول المحكوم عليه المؤسسات العقابية، ويقوم به القائمون على المؤسسة من إداريين وحراس، فيلاحظون سلوك المحكوم عليه أثناء إقامته بالمؤسسة ومدى تجاوبه معهم، والعلاقة بينه و بين زملائه، ويعين ذلك في تحديد طريق معاملته.
ويجب أن ينصب البحث على الجوانب المختلفة لشخصية المحكوم عليه، وبصفة خاصة الجوانب التي ساهمت في سلوك المجرم سبيل الجريمة، وأهم الجوانب الشخصية التي تكون موضوعا للفحص هي: الجانب العضوي “البيولوجي”، والجانب العقلي والجانب النفسي، وكذلك يمتد إلى دراسة حياته المحكوم عليه الاجتماعية.
الفقرة الثانية: التصنيف
قبل البدء في البحث عن موضوع التصنيف تجدر الإشارة إلى نقطة هامة مفاداها أن مبدأ تصنيف السجناء قد أسيء فهمه في أغلب أنحاء العالم، وقد أشار إلى هذه الحقيقة العالم الجنائي الشهير “بول باتان” في كتابه “سبيل الإصلاح المعاصر”، ويقول أن سبب سوء الفهم نابع من عدم فهم الوظيفة الأساسية للتصنيف، بأنها وضع كل صنف من السجناء المتشابهين في محل واحد، كوضع المسجونين عن جرائم القتل في محل والسرقة في محل آخر، وان مثل هذا الفصل هو موضوع انتقاد كبير، وهو بدوره ليس له صلة بموضوع تصنيف السجناء الذي نحن بصدده
والتصنيف العلمي للمحكوم عليهم يختلف طبقا للمدلولين الأمريكي والأوروبي:
المدلول الأمريكي: أن التصنيف في المعنى العقابي هو في المقام الأول “أسلوب” يحقق التنسيق بين التشخيص والتوجيه والمعاملة في كل حالة على حدا في صورة فعالة، وهو يكاد يشمل كل نظم التنفيذ العقابي.
المدلول الأوروبي: يقسم المحكوم عليهم طبقا للمدلول الأوروبي إلى فئات مختلفة في المؤسسات المتخصصة بالاستناد إلى السن، الجنس،……وغيرها، وبعدها يتم تقسيمهم إلى مجموعات مختلفة داخل كل مؤسسة
وقد ذهب رأي من الفقه العقابي إلى تعريف التصنيف بأنه: “وضع المحكوم عليه في المؤسسة العقابية الملائمة لمقتضيات تأهيله، وإخضاعه في داخلها للمعاملة مع هذه المقتضيات”، بينما عرفته المؤتمر الجنائي الدولي الثاني عشر الذي انعقد في لاهاي عام 1950 “التصنيف عبارة عن عملية تقسيم المحكوم عليهم إلى فئات معينة وفقا للسن، الجنس، العود والحالة العقلية والاجتماعية، وتوزيعهم وفقا لذلك على مختلف المؤسسات العقابية حيث تتم تقسيمات أخرى فرعية”
وهناك مجموعة نظم للتصنيف يمكننا حصرها في ثلاث أنظمة وذلك على النحو التالي:
1.نظام مكاتب التصنيف “أجهزة التصنيف التابعة للمؤسسات العقابية”: تتبع أجهزة التصنيف-وفقا لهذا النظام-المؤسسات العقابية فيوجد في كل مؤسسة عقابية جهاز ملحق بها، يضم عددا من المتخصصين بإجراء الفحوص المختلفة، يقومون بفحص المحكوم عليهم الذين يرسلون إلى المؤسسة وفقا لأسس محددة قانونا، ثم يقومون معا بعملية التصنيف لكل محكوم عليه–وفقا للنتائج التي أسفر عنها فحص الشخصية- برنامج المعاملة الملاءمة لحالته
2.النظام التكاملي: يقوم هذا النظام على أساس الجمع بين الأخصائيين والفنيين والإداريين في هيئة أو مجلس ملحق بالمؤسسة العقابية، فبينما يعكف الأخصائيون على تشخيص حالات المحكوم عليهم؛ يقوم الإداريون بوضع برامج المعاملة العقابية لكل حالة على نحو يتلاءم مع إمكانيات المؤسسة المادية و الفعلية.
ويتميز هذا النظام على خلاف سابقه في أن رأي الهيئة ليس استشاريا بل هو ملزم للإدارة المؤسسة العقابية.
3.نظام مركز الاستقبال: يفترض هذا النظام وجود جهاز مركزي يمتد اختصاصه إلى كامل أقاليم الدولة، حيث تجري دراسة كاملة لكل محكوم عليه على حدا، وفي ضوء ذلك يتم توجيهه إلى المؤسسة العقابية الملاءمة لحالته مع بيان أسلوب المعاملة العقابية الذي ينبغي إتباعه في مواجهته، وهذا النظام يحقق أهداف المعاملة العقابية في أجلى معانيها، وذلك أنه يستقبل جميع المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية ثم يتولى فحصهم وتوزيعهم على المؤسسات وفق معايير موحدة يضعها المركز، مما يحقققدرا كبيرا من المساواة بينهم.
المطلب الثاني: نماذج التفريد التنفيذي
وسنقتصر في هذا المطلب بالتحدث عن الإفراج الشرطي (الفقرة الأولى)، والبارول والعفو الخاص (الفقرة الثانية)، حيث أنهما يقومان على الإفراج بعد تنفيذ جزء من العقوبة .
الفقرة الأولى: الإفراج الشرطي
يمثل الإفراج الشرطي أهم صور التفريد التنفيذي وسنحاول التطرق له بتحديد مفهومه (الفقرة الأولى)، وكذلك بيان شروطه (الفقرة الثانية) .
أولا: مفهوم الإفراج الشرطي
الإفراج الشرطي[18]هو: إطلاق سراح المسجون قبل انتهاء مدة عقوبته إذا توافرت شروط معينة، ويكون هذا الإفراج معلقا على شرط يتمثل في إخلال المحكوم عليه بالتزامات معينة يفرضها عليه القانون، فإذا تحقق هذا الشرط كان ذلك قرينة على عدم جدارة المحكوم عليه بهذا الإفراج، ولذلك يقرر القانون إعادته إلى المؤسسة العقابية مرة أخرى يمضي فيها ما تبقى من فترة العقوبة
وبمعنى آخر هو الإفراج عن المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية بعد إنقضاء مدة معينة منها، إفراجا مقيداً بشروط محددة تتمثل في إخضاعه لمجموعة من الالتزامات التي تقيد حريته، ويترتب على تنفيذها الإفراج النهائي عنه، أما إذا أخل بها فتسلب حريته مرة ثانية ويعود إلى المؤسسة العقابية لتنفيذ المدة الباقية
ونظام الإفراج الشرطي يعد أسلوباً من أساليب إعادة التأهيل الاجتماعي للمحكوم عليه بالسماح له بالعودة إلى حياة الحرية، على أن يكون ذلك مصحوبا بإجراءات مساعدة ومراقبة يحددها القانون، والفكرة في هذا النظام أنه من غير المجدي أن تستمر العقوبة السالبة للحرية للمحكوم عليه طالما ثبت للقائمين على المؤسسة العقابية أن سلوكه خلال الفترة التي قضاها فيها يدعو إلى الثقة، وأنه إستجاب لبرامج الإصلاح والتأهيل فقّوم نفسه، ويعد الإفراج المشروط مرحلة من مراحل تنفيذ العقوبة وليس إنهاءًا لها
وعلى الرغم من أن الإفراج الشرطي يفترض مساساً بالقوة التنفيذية للحكم القضائي، إلا أن له ما يبرره في أنه وسيلة لحث المحكوم عليهم إلتزام السلوك الحسن أثناء تنفيذ العقوبة[23]، كما يشكل حافزاً يحث المحكوم عليه على إلتزام السلوك الحسن سواءً داخل المؤسسة العقابية، أم بعد الإفراج عليه حتى يستفيد من هذا النظام، كما أنه يعد أسلوباً متمماً لجملة الأساليب العقابية المطبقة داخل المؤسسة العقابية، حيث يمر في ظله المحكوم عليه بمرحلة وسطى تمهد له السبيل من سلب كامل للحرية إلى الحرية التامة.
ثانيا: شروط الإفراج الشرطي
لكي يستفيد المحكوم عليه من نظام الإفراج الشرطي فرضت النظم العقابية عدة شروط وهي:
1.شرط المدة: تتطلب أغلب التشريعات العقابية أن يمضي المحكوم علية فترة معينة من مدة العقوبةلمحكوم بها عليه في المؤسسة العقابية قبل أن يتقرر الإفراج عنه إفراجاً شرطياً
2.أن يكون سلوكه قويما: لما كان الإفراج الشرطي يهدف في حقيقته إلى تكملة مرحلة عقابيةسابقة إستنفذت أغراضها إتجاه المحكوم عليه، والتمهيد للتأهيل الكامل لذا وجب ألا يستفيد منه سوى من كان سلوكه قويما وجديراً بالثقة في أن لا يعود إلى الإجرام إذا ما تم الإفراج عنه شرطياً
3.ألا يكون في الإفراج عن المحكوم عليه خطر يهدد الأمن العام: ولا يؤخذ من هذا الشرط أن يكون مصدر الخطر على الأمن العام هو سلوك الجاني ذاته، ذلك أن من كان حسن السيرة والسلوك أثناء التنفيذ لا يمكن أن يشكل بسلوكه خطراً على الأمن العام، إذ الفرض أن حاله قد إنصلح ولا يخشى عودته إلى الإجرام، ولكن الذي يعنيه هذا الشرط هو انه قد يترتب على الإفراج عن المحكوم عليه تهديد الأمن العام، كما لو كان يخشى إعتداء المجني عليه أو أهله على المحكوم عليه بعد الإفراج عنه، وفي مثل هذه الحالات يكون الإفراج غير جائز ما لم تتخذ السلطات العامة الإجراءات التي يكون من شانها تفادي تهديد الأمن العام، وأن تقدير توافر هذا الشرط من عدمه يرجع إلى إدارة المنشأة العقابية بالتعاون مع الأجهزة المختصة بالأمن العام
4.الوفاء بالالتزامات المالية: تتطلب أغلب التشريعات العقابية حتى يمكن تطبيق
نظام الإفراج الشرطي على المحكوم عليه أن يكون قد أوفى بجميع التزاماته المادية التي قضت بها المحكمة الجنائية طالما أن في إستطاعته الوفاء بها، والحكمة من هذا الشرط حرص المحكوم عليه على الوفاء بهذه الالتزامات يعني ندمه على جريمته، وحرصه على انتهاج السلوك المستقيم
ويطرح هذا الموضوع إشكالية هامة وهي: هل يتطلب الإفراج الشرطي رضا المحكوم عليه أم لا ؟ حيث ظهر هناك اتجاهان وهما:
·الاتجاه الأول: لا يشترط رضا المحكوم عليه،حيث أن رضا المحكوم عليه لا يعد شرطا للإفراج عنه، وبالتالي يجوز للجهة المختصة بالإفراج أن تقرره، ولو كان المحكوم عليه رافضا له مفضلا البقاء داخل المؤسسة العقابية، حيث انه في جوهره أسلوب عقابي ابتغى من وراءه المشرع تمهيد السبيل أمام المحكوم عليهم ليندمجوا تدريجيا في الوسط الحر، وبالتالي فان تطبيقه لا يتوقف على إرادة المحكوم علية قبولا أو رفضا، منها التشريع المصري، والتشريع الليبي، والتشريع السوري، والتشريع العراقي.
·الاتجاه الثاني: اشتراط رضا المحكوم عليه، حيث أن تطبيق الإفراج الشرطي يعتبر تطبيقا لنوع من المعاملة العقابية التي تهدف إلى تأهيل المحكوم عليه؛ ومساعدته على التكيف مع المجتمع، وإذا كان تطبيق هذه المعاملة امراً إلزاميا بالنسبة للمحكوم عليه، إلا أن عدم رضائه يضعف الأمل في إمكان جدوى تطبيق هذا النوع من المعاملة عليه تحقيقا لتأهيله، ولذلك اشترطت بعض التشريعات تحقق رضا المحكوم عليه كشرط للإفراج الشرطي منها: التشريع الفرنسي، والتشريع الألماني.
وينتهي الإفراج الشرطي بأحد أمرين:
1.إخلال المفرج عنه بالتزاماته فيلغى الإفراج الشرطي: لما كان الإفراج معلقا على جملة من الشروط التي يجب على المفرج عنه الإلتزام بها خلال فترة الاختبار، لذا فإن الإخلال بها يعد سببا موجبا لإلغاء الإفراج، وإعادة المحكوم عليه مرة أخرى إلى المؤسسة العقابية لتنفيذ القدر المتبقي من العقوبة المحكوم بها عليه مضافا إليها مدة الإفراج التي قضاها خارج السجن.
2.مضي مدة الإفراج دون إخلال بهذه الالتزامات: يصبح الإفراج الشرطي نهائيا إذا ما انقضت المدة المقررة له دون أن يخل المفرج عنه بالالتزامات المفروضة عليه، فان الإفراج الشرطي يتحول إلى إفراج نهائي وتنتهي الإلتزامات المفروضة على المفرج عنه.
الفقرة الثانية: البارول والعفو الخاص
سنقوم في هذا المطلب بالتحدث عن نظام البارول الذي يعتبر النظام الحديث من الإفراج الشرطي والمستخدم في الدول الأنجلو-أمريكية (أولا)، وكذلك على العفو الخاص (ثانيا) .
أولا: البـــــــارول
كلمة بارولParole[30] تعبير عن اختصار لكلمةParole d’Honneur أي كلمة شرف واستخدامها في هذا المعنى يتفق مع تحديد معنى نظام البارول؛ إذ هو في جوهره نوع من الإفراج عن المحكوم عليه الذي تعهد أو يعطي كلمة شرف بان يلتزم سلوكا معينا، ويخضع لإشراف معين تحقيقا لأغراض عقابية، وهذا الاصطلاح نفسه يستعمل في تشريعات الدول الأنجلو-أمريكية التي يرتبط بها هذا النظام، في حين أن الإفراج الشرطي يستخدم بالنظم القانونية اللاتينية .
البارول هو أسلوب عقابي حديث مقتضاه: الإفراج عن المحكوم عليه بعد قضائه جزءً من العقوبة إذا ما تبين حسن سلوكه، وتعهد بأن يلتزم في مسلكه سلوكا غير مخالف للقانون، قابلاً الخضوع للإشراف الإجتماعي؛ ملتزماً بكافة ما يفرض عليه من شروط الوسط الحر
ويتضح مما سبق أن البارول يقوم على ذات العناصر التي يقوم عليها الإفراج الشرطي في صورته الحديثة، حيث يقوم على فكرة تعديل المعاملة العقابية، بحيث يفرج عنه فيمنح حريته بعد أن يقدم تعهداً بالتزام حسن السلوك بالخضوع لالتزامات معينة تفرض عليه، ونظام البارول لا يغير مركز المحكوم عليه القانوني كسجين، وكل ما يطرأ على وضعه من تغير هو أنه يقضي بقية عقوبة خارج أسوار السجن.
ولتطبيق نظام البارول يجب أن تتحقق شروطه وهي :
1.شرط المدة:مقتضى هذا الشرط وجوب أنيكون المحكوم علية قد أمضى مدة معينة من العقوبة المحكوم بها عليه في المؤسسة العقابية حتى يتسنى للإدارة العقابية خلالها مراقبة سلوكه؛ والتحقق من أساليب المعاملة العقابية في الوسط المغلق قد حققت أهدافها في مواجهته وأهمية هذه المدة تتضح من وجهتين الأولى: أن هذه المدة ضرورية لإمكان ملاحظة سلوك المحكوم عليه؛ ومدى جدارته بتطبيق هذا النظام، والثانية: أن أساليب التأهيل لا تحدث أثرها إلا إذا طبقت خلال فترة معينة.
2.حسن سلوك المحكوم عليه: مفادها أن المحكوم عليه قد صار معداً للحياة في المجتمع، وهذا يفترض بلا ريب تحقق أمرين: أحدهما يتعلق بثبوت حسن سيرته إثناء تنفيذ الجزاء السابق من العقوبة، بينما يرتبط الأخر بتوافر احتمالات التأهيل بعد الإفراج
والفرق بين الإفراج الشرطي والبارول ينحصر في ذلك الدور الايجابي الملحوظ الذي يقوم به المشرف الاجتماعي في ظل نظام البارول؛ حيث تتطلب مهمته مراقبة سلوك المفرج عنه، وتقديم يد العون له، وكذلك إعداد تقارير دورية عن حالته مضمنا إياها كافة ملاحظاته بشان الآثار المختلفة المترتبة على الإفراج الايجابية منها والسلبية تمكينا للجهات المختصة من اتخاذ القرار الملائم لتطور حالته
ثانيا: العفــو الخـــاص
العفو الخاص[38]هو منحة من رئيس الدولة أو الملك تزول بموجبها العقوبة عن المحكوم عليه كلها أو بعضها أو تستبدل بعقوبة أخرى أخف منها.
والعفو الخاص تأخذ به أكثر التشريعات في العالم فهو مؤسسة لا غنى عنها لأسباب متعددة أهمها: أن القاضي يطبق القانون ولا يستطيع تعدي الحدود المرسومة له في تطبيق العقوبة؛ بحيث يتعذر عليه أحيانا مواجهة بعض المسائل التي تحتاج إلى حل خاص لا تسمح به حدود سلطته، وقد وجد المشرع أن الحل الوحيد لهذه المسألة هو إناطة حق الموازنة بين ضرورة تنفيذ العقوبة وضرورات المصلحة العامة بسلطة عليا في البلاد مؤهلة لمثل هذه المهمة وهى سلطة رئيس الدولة أو الملك، والعفو الخاص بالإضافة إلى ذلك هو سبيل لإصلاح الأخطاء القضائية التي تكتشف بعد أن يكون الحكم قد أصبح مبرماًُ وسدت أمام المحكوم عليه جميع طرق المراجعة
ويختلف العفو الخاص عن العفو عن الجريمة أو- كما يسمى أيضا- العفو الشامل بحيث يعتبر الأول سببا من أسباب سقوط العقوبة في حين أن الثاني يعتبر من أسباب محو الجريمة وإزالة الحكم الصادر فيها بالعقوبة وجميع أثاره الجنائية
ويتمثل العفو في أحد الأمور التالية:
·إسقاط العقوبة المحكوم بها كلها عن المحكوم عليه.
·إسقاط جزء من العقوبة المحكوم بها فقط، وينفذ الجزء الباقي منها.
·إبدال العقوبة المحكوم بها بأي عقوبة اخف منها مقررة قانونا.
ولا يمنح العفو الخاص إلا إذا حوكم المحكوم عليه بحقه حكم جزائي مبرم، أما إذا كانت الدعوى في طور المحاكمة أو صدر بها حكم قابل لأي طريق من طرق المراجعة فلا يجوز إصدار العفو؛ وذلك لأن العفو الخاص طريق احتياطى، ولا يلجأ إليه إلا إذا استنفذ المحكوم عليه كل الطرق القانونية الأخرى لرفع العقوبة عنه أو تخفيضها.
يمكن أن يكون العفو شرطيـا ويمكن أن ينـاط بأحـد الالتزامات التالية أو بالأكثر منها :
·أن يقدم المحكوم عليه كفالة إحتياطية .
·أن يخضع للرعاية .
الفرع الثاني: التفـريد القضـائي
يستند المشرع عند تحديده لما يعد جريمة، وما يستوجب من جزاء على عدة معايير تتعلق بالقيمة الاجتماعية المعتدى عليها، وما أصابها من ضرر، وما تعرضت له من خطر، ونوع الخطأ الذي وقع في سبيل المساس بها فإنه كثيرا ما يترك للقاضي في ضوء الحدود التشريعية تطبيق القانون، فيحدد طبيعة العقوبة، وما إذا كانت عازلة أو تقويمية على أساس طبيعة الشخصية الإجرامية للمجرم طبقا لما تكشف عنها دراسة ظروف كل واقعة، حيث يؤخذ في الاعتبار كافة العوامل الداخلية والخارجية المسببة لإجرامه من ناحية، وقابلية المجرم أو عدم قابليته للإصلاح والتقويم من ناحية أخرى
والتفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجرده، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها، وأن إنزالها “بنصها” على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ينافي ملاءمتها لكل أحوالها وملابساتها، بما مؤداه أن سلطة تفريد العقوبةهي التي تخرجها من قوالبها الصماء وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة
ومرتكبها، ولا ينفصل عن واقعها
فمن خلال نصوص التجريم والعقاب، نجد أن المشرع قد حدد العقوبة على نحو عام ومجرد، حيث أن تفريد العقوبات في العملية التشريعية يقتصر على مجرد التفريق بين عقوبة البالغين والأحداث، أو التميز في العقاب بين المجرمين العائدين والمبتدئين، كما اكتفى المشرع بوضع الحد الأقصى للعقوبة؛ وهو أقصى ما يقدره وفقا لجسامة الفعل المجرم، والحد الأدنى؛ وهو أدنى ما يتصوره من عقاب للجريمة، وفوض للقاضي مهمة وزن العقوبة المناسبة لكل جرم على حدا، وهو ما يمثل السلطة التقديرية للقاضي
وتقوم فكرة التفريد القضائي على أساس أن المرحلة الحقيقية لتحقيق التفريد هي مرحلة النطق بالحكم لا مرحلة وضع النص التشريعي الخاص بالجريمة ويتحقق التفريد إذا أعطي القاضي سلطة تقديرية واسعة وحاول في نطاق هذه السلطة أن يحدد العقوبة التي يراها ملائمة لظروف المتهم، ويتمتع القاضي بهذه السلطة إذا جعل المشرع العقوبة بين حدين؛ حد أدنى وحد أقصى
ويعرف التفريد القضائي للعقوبة بأنه: هو ذلك الذي يتولاه القاضي في حدود القواعد والمبادئ التي يقررها المشرع بقصد الحكم بالعقوبة المناسبة للجريمة؛ ولظروف مرتكبها، أي أنه يتمثل في إختيار القاضي نوع وقدر العقوبة أو التدبير الملائم لحالة الجاني على ضوء ما تسفر عنه دراسة شخصية وظروف حياته، والحصول على كل المعلومات المتصلة بشخصه، وصفاته الخاصة، والأسباب التي أدت به إلى ارتكاب الجريمة لتكون محل اعتبار عند اختيار العقوبة المناسبة
وقد ثار البحث عن إذا كان تفريد العقوبة يتناقض مع مبدأ المساواة أمام القانون، والذي يتطلب عدم إختلاف الناس في المعاملة أمام القانون، إلا أنه يرد على ذلك بأنه يتفق تفريد العقوبة مع مبدأ المساواة أمام القانون؛، الذي يتطلب عدم توحيد المعاملة مع المختلفين، كما أن تفريد العقاب يتفق مع المصلحة العامة التي تتفق مع أهداف القانون في مكافحة الجريمة من خلال عدة أهداف منها: الردع العام، والردع الخاص، الذي يحقق إصلاح المجرمومن ثم فإن التفريد القضائي لا يخالف مبدأ المساواة، والقاضي بوصفه الحارس الطبيعي للحريات هو أفضل من يتولى التفريد، وإن نصوص القانون بشأن الظروف المخففة تتفق مع مبدأ المساواة، وتعتبر من أهم وسائل التفريد، ويعتبر إنكار سلطة القاضي في تقديرها ينطوي على إنكار مبدأ المساواة
ويمثل التفريد القضائي أهم أنواع التفريد وأعمقها أثرا في معاملة الجاني، وسنحاول التطرق في هذا الفرع إلى أهم مظاهر التفريد القضائي وهي: الظروف القضائية المخففة؛ ووقف النطق بالعقوبة ( المبحث الأول)، وقف تنفيذ العقوبة، والاختبار القضائي ( المبحث الثاني).
المبحث الأول: الظروف القضائية المخففة ووقف النطق بالعقوبة
إن أهم المواضيع التي يتمتع فيها القاضي الزجري بسلطة تقديرية واسعة في مجال العقوبة: منح ظروف التخفيف (المطلب الأول)، ووقف النطق بالعقوبة (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الظروف القضائية المخففة
منذ زمن بعيد عرضت عوامل الرأفة والرحمة، أو ما يعرف اليوم بظروف التخفيف من العقوبة، وهكذا نادى فلاسفة اليونان (بروتاغوراس، وأرسطو، وأفلاطون) بجعل العقوبة إنسانية؛ لافتين نظر الحكام إلى أن الجريمة وإن كانت عملا غير محق، إلا أن العقوبات الصارمة والتأثر لا يزيلان آثارها، وبالتالي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي دفعت المجرم إلى ارتكاب عمل غير المحق، لأن الغاية من العقوبة هي: إما إصلاح المجرم، و إما جعله أقل شرا من ذي قبل
وإذا كان المشرع قد حدد عقاب أغلب الجرائم بحدين أدنى وأعلى، تأثراً منه ولا شك بالظروف الملابسة لارتكاب الجريمة ماديةً أكانت هذه الملابسات أم شخصية، وترك للقاضي الحرية في تفريد العقاب حين مكنه من أن يحكم بعقوبة واقعة بين الحدين الأدنى والأعلى كما هي واردة في النص القانوني
غير أن القاضي في دعوى معينة مطروحة أمامه قد يرى أن الظروف التي استخلصها منها تستدعي الرأفة بالجاني أكثر من النزول بالعقوبة إلى الحد الأدنى المقرر لها، أو الحكم عليه بأخف العقوبتين المقررتين للجريمة أصلا؛ أي أن الظروف تستدعي إما النزول عن الحد الأدنى المقرر للعقوبة، وإما الاستعاضة عن هذه الأخيرة بعقوبة أخرى أخف منها، لكن القاضي لا يستطيع أن يفعل شيء من ذلك ما لم يسمح له المشرع به بمقتضى نص خاص، لأنه أي القاضي مقيد بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص في القانون، لذلك فإن المشرع الجنائي رغبة منه في إفساح المجال أمام القاضي لتفريد العقاب بما يتلاءم مع ظروف كل جريمة وكل جانٍ، قد خول القاضي الصلاحية للنزول بالعقوبة عن الحد الأدنى المقرر لها، أو الحكم بعقوبة أخرى اخف منها يحددها المشرع.
والظروف المخففةهي: أسباب متروكة لتقدير القاضي، تخوله حق تخفيض العقوبة في الحدود التي عينها القانون وهي تتناول كل ما يتعلق بماديات العمل الإجرامي في ذاته، ويتعلق بشخص المجرم الذي ارتكب هذا العمل، وبمن وقعت عليه الجريمة، وعلى ذلك فهي كل الظروف والملابسات التي تحيط بالعمل الإجرامي، ومرتكبه والمجني عليه من ظروف وملابسات بلا استثناء، وهو ما يصطلح على تسميته بالظروف المادية والشخصية: وهي مجموعة من الظروف لا تقع تحت الحصر، ولم يحدد المشرع الأسباب التقديرية المخففة ـ كما فعل بالنسبة للأعذار القانونيةـ وسبب ذلك يعود إلى أن هذه الأسباب كثيرة جدا ومتجددة، بحيث لا يمكن الإحاطة بها كلها، كما أن القضاة يختلفون في نظرتهم إليها، وتتفاوت آراؤهم في تقديرها، ومن أجل ذلك ترك المشرع تقدير هذه الأسباب المخففة للقاضي دون أن يبين مضمونها أو يحدد حدودها
وقد اقتصرنا في هذا المطلب على تحديد مفهوم الظروف القضائية المخففة على أن نتناولها بشيء من التفصيل من خلال أنظمتها وضوابط سلطة القاضي في تطبيق هذه الظروف في إطار الفصل الثاني.
المطلب الثاني: وقف النطق بالعقوبة
تعتبر طريقة ( إرجاء الحكم القضائي) التي كان يطبقها القضاء الإنجليزي قديما المصدر الأساسي لنظام الامتناع عن النطق بالعقاب، وكانت تتمثل هذه الطريقة في إصدار المحكمة قراراً يوقف النطق بالعقوبة أو وقف تنفيذها مؤقتا؛ بسبب الشك في أدلة الإثبات أو وجود ظروف شخصية معينة، أو لتفاهة الجريمة، وذلك لإفساح المجال لطلب عفو مطلق أو مشروط من الملك.
واستحدثت بلجيكا نظام وقف الحكم بالإدانة في قانون1964، وذلك لتجنب العيوب الناجمة عن الحكم الصادر بالإدانة، وما يتبعه من قيد في صحيفة السوابق، ومن حرمان المحكوم عليه من بعض الحقوق المدنية، أي لتجنب المعنى المشين للحكم بالإدانة، وهو نظام مستقل اقتضته السياسة الجنائية الحديثة كتدبير من تدابير الدفاع الإجتماعي لمنح الجاني فرصة إصلاح نفسه بعيداً عن السجون، وعن الاختلاط السيئ الذي يتم فيها
ويعرف الفقه الإمتناع عن العقاب: بأنه نظام يقتضي الإمتناع عن النطق بعقوبة على المتهم لفترة زمنية محددة، إذا سلك خلالها سلوكاً حسناً، مع جواز وضعه خلال تلك الفترة تحت رقابة شخص تعينه المحكمة، أو تكلفه بتقديم كفالة عينية أو شخصية. ويعرفه البعض الأخر من الفقه بأن الامتناع عن النطق بالعقاب: هو صدور حكم بالإدانة على المتهم مع عدم النطق بعقوبة معينة
أولا: مميزات نظام الامتناع عن النطق بالعقوبة
إن لهذا النظام ” وقف النطق بالعقوبة” مجموعة من الامتيازات عن غيره من نظم التفريد القضائي ومن هذه المميزات:
1.يقوم هذا النظام على أساس عدم النطق بعقوبة خلال مدة تقررها المحكمة، مما يجنب الجاني الوصمة الاجتماعية نهائيا، ويتميز هذا النظام عن تلك الوجهة من نظام إيقاف التنفيذ[63] لأن الإيقاف يقتضي دائما النطق بالعقوبة في الحكم ثم إيقاف تنفيذها المدة المقررة قانونا، ولا شك أن مجرد النطق بعقوبة يؤدي إلى إلحاق وصمة بالمحكوم عليه، ولو كان تنفيذ هذه العقوبة موقوفاً
2.يؤدي إلى استفادة الجاني من عدم حبسه في حالة تنفيذ الإلتزامات المفروضة عليه في الحكم.
3.إن تنفيذ الشروط والإلتزامات من جهة الجاني يساعده على تقويم سلوكه والتغلب على العوامل المؤدية لإنحرافه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من خلال عقوبة الحبس قصير المدة، حيث لا تكفي مدة العقوبة لتنفيذ برامج الإصلاح.
4.يجوز وفقا لهذا النظام العقابي أن تأمر المحكمة بوضع الجاني تحت الإختبار خلال المدة المقررة، وذلك بأن تجعله تحت رقابة شخص تعينه لهذا الغرض، ويكون من واجبات هذا الشخص توجيه الجاني إلى ما يجب إتباعه، والإشراف عليه، والتحقق من أنه ينفذ الشروط التي وضعتها المحكمة.
ثانيا:الشروط القانونية
هناك شروط قانونية يجب توافرها لاستخدام القاضي سلطته التقديرية في الحكم بالامتناع عن النطق بالعقاب وهي:
1.الشروط المتعلقة بالجريمة:
يلاحظ في القانون المقارن وجود اتجاهين إزاء تحديد نوع الجرائم التي يجوز للقاضي أن يقرر وقف النطق بالعقوبة وهما:
·تقتصر سلطة القاضي في وقف النطق بالعقوبة على الجرائم التي لا تزيد عقوبتها عن حد معين.
·يسمح للقاضي بالامتناع عن النطق بالعقاب في جميع الجرائم ما عدا المعاقب عليها بعقوبة جسيمة جداً
بالإضافة إلى هذين الشرطين فقد قررت بعض القوانين جرائم مستثناة، حيث لا يستطيع القاضي إستخدام سلطته التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب.
2.الشروط المتعلقة بالمجرم:
هناك شروط يجب أخذها في الاعتبار عند استخدام القاضي سلطته التقديرية في الامتناع عن النطق بالعقاب، وهي شروط ترتبط بشخصية المجرم، ومن هذه الشروط ما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة، فيحدد مقدار ما انطوت عليه الإرادة الإجرامية للمتهم من خطئه وإثمه، ومنها ما يحدده مقدار نصيب الأهلية للمسؤولية ومنها ما تبين به درجة خطورة على المجتمع وعدم سبق الحكم على المتهم
ثالثا: إلغاء وقف النطق بالعقوبة.
لا يتم إلغاء وقف النطق بالعقوبة إلا بحكم قضائي، لأن هذا الإلغاء بذاته يستلزم تحديد عقوبة للجريمة التي سبق وقف النطق بعقوبتها، والعقوبة لا يجوز تحديدها إلا بحكم يصدره القضاء، لذلك لا محل في هذا المجال لقاعدة الإلغاء القانوني المقررة في بعض القوانين بالنسبة لإلغاء وقف النطق في جميع القوانين التي تأخذ بنظام وقف النطق، وإن كانت هذه القوانين تختلف غالبا فيما بينها من حيث تحديدها لأساليب الإلغاء القضائي
المبحث الثاني: وقف تنفيذ العقوبة والاختبار القضائي
لا تقتصر المعاملة العقابية على نزلاء المؤسسات العقابية، بل تشمل أيضا فئات أخرى من المحكوم عليهم خارج تلك المؤسسات، والأصل أن يكون الإفراج عن المحكوم عليه بعد انتهاء تنفيذ العقوبة المانعة للحرية المحددة في حكم الإدانة كلها، ولكنه قد يكون بعد تنفيذ جزء من هذه العقوبة فحسب، كما قد يتم قبل البدء في تنفيذها
وعلى خلاف ما جرى بحثه في إطار التنفيذ الجزئي للجزاء الجنائي يرتكز النظام الكلي للجزاء الجنائي خارج المؤسسات العقابية على فكرة قوامها تجنب الشخص دخول السجن، والاكتفاء بدلا من ذلك بتهديده بإيقاع العقوبة عليه حكماً وتنفيذاً إذا لم يلتزم بما تفرضه عليه من الشروط خلال فترة الاختبار
والإفراج قبل بدء تنفيذ العقوبة ينطق به القاضي إذا تحققت شروط خاصة ينص عليها القانون، وتوافرت ظروف معينة يرى معها القاضي أنه من الملائم لمصلحة المجتمع؛ ولمصلحة المحكوم عليه ألا تنفذ العقوبة، ويشمل هذا النوع من الإفراج: وقف تنفيذ العقوبة (المطلب الأول)، والاختبار القضائي (المطلب الثاني).
المطلب الأول: وقف تنفيذ العقوبة
يعتبر نظام وقف تنفيذ العقوبة من أخطر السلط المخولة للقضاء في ميدان تفريد الجزاء وتشخيصه بحسب شخصية المجرم وظروفه، ويقصد بإيقاف تنفيذ العقوبة هو تعليق العقوبة المحكوم بها على شرط موقف خلال فترة معلومة يحددها القانون بناءاً على اعتبارات تقدرها المحكمة، فيظل المحكوم عليه متمتعاً بكامل الحرية إذا لم يكن محبوسا، ويتم الإفراج عنه إذا كان محبوسا حبسا احتياطيا
ويتبين لنا من هذا التعريف أن وقف التنفيذ يفترض إدانة المتهم، والحكم عليه بعقوبة مع وقف التنفيذ لمدة من الزمن ويترك المحكوم عليه خلالها حراً، فإذا عاد إلى الإجرام نفذت فيه العقوبة الموقوف تنفيذها إضافة إلى العقوبة المقررة للجريمة التي ارتكبها، أما إذا انقضت المدة بغير أن يرتكب المحكوم عليه جريمة أخرى سقط الحكم الصادر ضده وأعتبر كأن لم يكن
ويأمر القاضي[81]بإيقاف التنفيذ إما من تلقاء نفسه أو بناءاً على طلب من المتهم، وإذا تعدد المتهمين فللقاضي أن يأمر بوقف تنفيذ العقوبة بالنسبة لأحدهم دون الآخرين، مع بيان الأسباب التي دعته لإيقاف التنفيذ.
وسنتناول هذا النظام من خلال شروطه ( الفقرة الأولى)، وآثار هذا النظام (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: شروط وقف التنفيذ
يحدد المشرع شروطا معينة لا يجوز للقاضي أن يقدر ملاءمة إيقاف تنفيذ العقوبة إلا إذا تحققت، وذلك رغبة من المشرع في تقييد سلطة القاضي بالحدود التي تحقق الردع الخاص دون أن يصطدم مع اعتبارات الردع العام وتحقق العدالة،وهذه الشروط هي:
أولا: الشروط المتعلقة بالمجرم
يتطلب المشرع بعض الشروط التي يجب توافرها في الجانيحتى يمكنه الإستفادة من وقف تنفيذ العقوبة، لأن وقف التنفيذ يهدف إلى الأخذ بيد من ارتكب جريمة لا تدل على خطورة إجرامية، وعلى ذلك، فإن هناك ظروفا خاصة بالجاني يمكن للمحكمة أن تستشف منها مبررات إيقاف تنفيذ العقوبة بحقه، ومن هذه الظروف أخلاق المحكوم عليه، طباعه، ماضيه، والظروف التي أحاطت بارتكاب الجريمة، ويشترط أن تكون هذه الظروف فيها ما يبعث على الاعتقاد بأن الجريمة المرتكبة هي أمر عارض في حياة الجاني، وأنه لن يعود إلى مخالفة القوانين مستقبلاً
ثانيا: الشروط المتعلقة بالعقوبة
لا يثير وقف تنفيذ عقوبة الحبس أية اعتراضات من جانب الفقه، وذلك على أساس أن إيقاف التنفيذ هو في حقيقته أحد أساليب المعاملة الجنائية “العقابية” التي تهدف إلى تفادي مساوئ تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، تلك المساوئ التي تترتب على اختلاط المحكوم عليه بغيره من المجرمين الخطرين أو المعتادين على الإجرام داخل السجن، وهو أسلوب مخصص لنوع معين أو لفئة محددة من المحكوم عليهم الذين ترى المحكمة أن عملية تأهيلهم وإصلاح حالهم يمكن أن يتحقق دون تنفيذ العقوبة فيهم، لذلك فإن المحكمة تأمر في حكمها بوقف تنفيذ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي تحكم بها عليهم لانعدام الفائدة منها، وقد اقتضت هذه الطبيعة العقابية أو الوظيفة التأهيلية لإيقاف التنفيذ ضرورة تحديد حد أقصى للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة التي يمكن الأمر بتعليق تنفيذها على شرط
ثالثا: الشرط المتعلق بالجريمة
الأصل أن إيقاف التنفيذ يسري على جميع مرتكبي الجرائم أيا كان نوعها ودرجة جسامتها، جناية أم جنحة أم مخالفة وذلك أن العلة في إقرار هذا النظام كامنة في مرتكبي هذه الجرائم[89]، لكن جل هذه القوانين إستثنت المخالفات من وقف التنفيذ، لأن عقوبة المخالفات إذا شملها وقف التنفيذ فإن ذلك يعني أن تفقد المخالفة كل ما لها من قيمة رادعة، وكذلك أن الحكمة من وقف التنفيذ غير متوافرة بالنسبة للمخالفة؛ لأنه لا يعتد بها بالنسبة للعود للجريمة، فضلا عن أن المخالفات لا تظهر في سوابق المتهم، وبالتالي يتعذر على المحكمة التثبت من ماضيه وسوابقه في هذا المجال، كما أن الحكم بالغرامة في المخالفة مع تحصيلها أولى من الحكم بالحبس مع وقف تنفيذه
بالإضافة إلى الشروط الثلاثة السابقة يشترط ألا يكون في القانون المنطبق على الواقعة نص يمنع من وقف تنفيذ العقوبة، وكذلك ينسحب وقف التنفيذ على العقوبة الأصلية المحكوم بها سواء كانت العقوبة غرامةً أو حبساً، أما العقوبات التبعية والتكميلية فإن وقف التنفيذ لا ينطبق عليها، وهي بذلك تكون واجبة التطبيق على المحكوم عليه بها، فما هي أثار وقف التنفيذ وهذا ما سنتناوله في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: أثــار وقف التنفيذ
يترتب على إيقاف التنفيذ أثار متنوعة يقع البعض منها أثناء فترة الاختبار، ويقع البعض الأخر بعد مضي تلك الفترة دون إلغائه من الجهات المختصة.
أولا:أثر انقضاء فترة التجربة دون إلغاء وقف التنفيذ
يجب الإشارة إلى أن الحكم بالإدانة مع وقف التنفيذ يفترض ثبوت ارتكاب الجريمة، أي إقرار قضائي بأن المستفيد من إيقاف التنفيذ هو مرتكب الجريمة، وهذا الإقرار بالإدانة يختلف عن العقوبة وعن تنفيذها، فالإقرار بالإدانة من جانب القضاء هو أمر قطعي وغير مشروط، أما العقوبة نفسها فهو أمر معلق على شرط
ومن أهم الآثار المترتبة على شمول الحكم بإيقاف التنفيذ عدم جوازه اتخاذ أي إجراء تنفيذي ضد المحكوم عليه خلال فترة الاختبار، غير أن هذا الإيقاف ليس نهائيا؛ بل هو قابل للإلغاء في أي لحظة أثناء فترة الاختبار، وذلك إذا ما ارتكب المحكوم عليه جريمة بمعناها القانوني
أما إذا انقضت فترة التجربة دون إلغاء وقف التنفيذ، يصبح عدم التنفيذ نهائيا، فلا تنفذ العقوبة؛ ويعتبر الحكم بها كأن لم يكن، ومعنى ذلك أن يفقد الحكم الصادر بالعقوبة كل أثاره الجنائية، ولا يعتبر سابقة في العود ولا يحتاج المحكوم عليه الذي استفاد من نظام وقف التنفيذ لأن يرد إعتباره.
ثانيا: إلغاء إيقاف التنفيذ
إن الاعتبارات التي من أجلها صدر الأمر بوقف التنفيذ يتمثل أساسا في الشعور الذي يتولد لدى المحكمة بعد فحصها ودراستها لأخلاق أو ماضي أو سن المحكوم عليه، أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة، والذي يدفعها إلى الاعتقاد بأن هذا الشخص لن يعود في المسـتقبل إلى مخـالفة القانـون، بتكرار جريمته أو ارتكاب جريمة أخرى[فإذا صدر من المجرم خلال الفترة التي يحددها القانون لإيقاف تنفيذ العقوبة ما يدل على أن إيقاف التنفيذ لم يكن مجديا في ردعه
11 سبتمبر، 2019 at 11:43 م
كلام جميل وتفصيل دقيق حول وقف او الامتناع عن النطق بالعقوبة لكن السؤال هنا الذي يضع نفسه كيفية الامتناع عن الحكم على الواقع العملي..
هل تكتب العقوبة بعد الادانة ولا ينطق بها ام لا تكتب اطلاقا؟؟؟