بحث قانوني كامل عن علم المواريث
د. أحمـد علي محـي الدين
الحمد لله ، قدَّر المواريث في كتابه ، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، فرض المواريث بعلمه ، وقسَّمها بين أهلها بحسب ما تقتضيه حكمته .?وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ، أمر بتنفيذ المواريث وفق ما شرعه ربُّه . صلى الله?عليه وعلى آله وصحبه وحزبه .
وبعــد : فقد استعنتُ بالله تعالى على تأليف كتاب في علم الفرائض ، أتعرَّض فيه لأهمّ المباحث الفرضيَّة ، موضِّحاً ذلك بحلّ جملة من المسائل الحسابيّة?، مع التزامي بالاختصار ، والبُعد ـ ما أمكن ـ عن الأمور الخلافيَّة ، راجياً مولاي جلّ وعلا أن يتقبَّله بقبول حسن ، وأن ينفع به طلبة العلم ، وأن يجعله في موازين حسناتي يوم ألقاه . إنَّه بالإجابة جدير ، وكلّ مستصعبٍ عليه يسير .
وقد قسمته إلى مقدِّمات ، ومباحث .
المقدمات
أولاً ـ نبذة موجزة عن مشروعية الإرث في الإسلام
فرض الله جلّ وعلا المواريث بحكمته وعلمه ، وقسمها بين أهلها أحسن قسم وأتمَّه ؛ فجاءت آيات المواريث شاملةً لكلّ ما يُمكن وقوعه .
وكذا رسوله r بيَّن ما أُنزل إليه من ربِّه أتمَّ بيان ، وأمر بإلحاق الفرائض بأهلها ، سواء منهم الإناث والذكران .
وقد كان أهل الجاهلية في جاهليتهم لا يُورّثون النساء ولا الصبيان ، فأبطل الله حكمهم المبني على الجهل والطغيان ، وجعل الإناث يُشاركن الذكور بحسب ما تقتضيه حاجتهنّ ؛ فجعل للمرأة نصف ما للرجل من جنسها دون زيادة ولا نقصان ، ولم يحرمها كما فعل أهل الجاهلية ، ولا سوَّاها بالرجل كما فعل بعض من انحرف عن مقتضى العقل والفطرة السوية ؛ فقال عزّ من قائل : ) آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إنَّ الله كان عليماً حكيماً( [النساء : 11] ، وقال في آية أُخرى : ) وصيةً من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يُطع الله ورسوله يُدخله جنَّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهين ( [النساء : 12-14] ، وقال في آية ثالثة : ) يُبيِّن الله لكم أن تضلُّوا والله بكلّ شيءٍ عليمٌ( [النساء : 176] .
” فبيَّن الله تعالى أنَّه فرض المواريث بحسب علمه وما تقتضيه حكمته ، وأنَّ ذلك فرضٌ منه لازمٌ لا يحلّ تجاوزه ولا النقص منه ، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشّى فيها على ما حدَّه وفرضه جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين ، وتوعَّد من خالفه وتعدَّى حدوده بأن يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهينٌ . كما امتنّ بفضله علينا بالبيان التامّ حتى لا نضلّ ولا نهلك ، فلله الحمد رب العالمين ” .
فالشريعة الإسلامية ـ إذاً ـ قد وضعت نظام التوريث على أحسن النظم المالية . والقرآن الكريم بيَّن أحكـام المواريث ، وأحوال كلّ وارث بياناً شاملاً شافياً ، لا يدع مجالاً لأحدٍ من البشر أن يقسم أو يُحدِّد شيئاً من ذلك .
ثانياً ـ حكمة مشروعية الإرث
الإنسان في هذه الحياة أكرم مخلوقاتها ، وهو مستخلف في الأرض ، ومحتاج إلى ما يضمن له بقاء هذا الاستخلاف .
والمال وسيلة لتحقيق ذلك ، يحتاج إليه الإنسان ما دام على قيد الحياة ، فإذا مات انقطعت حاجتـه ، فكـان من الضروري أن يخلفه في ماله مالكٌ جديدٌ . فلو جُعل ذلك المالك الجديد أولَ شخص يحوز المال ويستولي عليه ، لأدَّى هذا إلى التشاحن والتنازع بين الناس ، وتغدو الملكية حينها تابعة للقوة والبطش .
من أجـل ذلك جعلت الشريعة المالَ لأقارب الميت ، كي يطمئنّ الناس على مصير أموالهم ؛ إذ هم مجبولون على إيصال النفع لمن تربطهم بهم رابطة قوية من قرابة أو سبب .
فـإذا مات الشخص ، وترك مالاً ، فإنّ الإسلام يجعل هذا المال مقسَّماً على قرابته ؛ الأقرب فالأقرب ، ممن يُعتبر شخصه امتداداً في الوجود لشخص الميت ؛ كالأولاد ، والأب ، ومن يليهما في درجة القرابة .
الحكمة في تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث
قد يتساءل البعض عن الحكمة التي لأجلها يُعطى الذكر من الميراث أكثر ممّا تُعطاه الأنثى ، والجواب على هذا التساؤل يظهر بتأمّل وظيفة كلّ من الذكر والأنثى في الحياة ؛
(1)- فالذكر أحوج إلى المال من الأنثى ؛ إذ الرجال قوّامون على النساء ، والمرأة مكفيَّة المؤنة والحاجة ؛ فنفقتها واجبة على ابنها ، أو أبيها ، أو أخيها ، أو غيرهم من قرابتها . والقائم على غيره ، المنفِق مالِه عليه ، مترقِّبٌ للنقص دائماً ، ومكفيُّ المؤنة والحاجة يترقَّب الزيادة دائماً . والحكمة في إيثار مترقِّب النقص على مترقِّب الزيادة جبراً لنقصه المترقب ظاهرة جداً .
(2)- المرأة لا تُكلَّف بالإنفاق على أحد ، بخلاف الرجل ؛ فإنَّه مكلَّف بالإنفاق على الأهل والأقرباء وغيرهم ممَّن تجب عليه نفقتهم.
(3)- الرجل يدفع مهراً لزوجته ، ويُكلَّف بنفقة السكن ، والمطعم ، والملبس لزوجه وأولاده . وكذا أجور التعليم ، وتكاليف العلاج ، وثمن الدواء ، وغير ذلك ممَّا يدفعه الرجل دون المرأة .
فحين كانت النفقات عليه أكثر ، والالتزامات عليه أكبر ، استحق أن يكون نصيبه أكثر وأوفر .
وهكذا لا تجد المرأة نفسها في حاجة إلى المال في نظام الإسلام ؛ فما تأخذه من نصيبها في الميراث ، ومهرها من الزوج ، يكون مالاً محفوظاً لا يتعرَّض للنقصان .
ولذا كان من الطبيعي أن تأخذ نصف نصيب الرجل . بل إنّ في إعطائها هذه النسبة ـ وهي لا تكلَّف بتكاليف مادية ـ محاباة لها على الرجل ، يقصد الإسلام من وراء ذلك إكرامها ، وإعزازها ، وصيانتها من الفاقة والحرمان .
ثالثاً ـ بيان الأسس الشرعية التي يقوم عليها فقه المواريث ،وتميُّز الإسلام عن غيره في ذلك
يقوم نظام الإرث في الشريعة الإسلامية ، على مجموعة من الأسس ، يتميَّز بها عن سائر الأنظمة الأخرى . ومن هذه الأسس :
(1)- وقف الإسلام موقفاً وسطاً بين الاشتراكية الشيوعيّة ، وبين الرأسماليّة والمذاهب التي تقول بالحرية الشخصيَّة في التملك ؛ فالاشتراكية الشيوعية ـ كما وضعها كارل ماركس ـ تُنكر مبدأ الإرث وتعتبره ظلماً يتنافى مع مبادئ العدالة ؛ فلا تُعطي أبناء الميت وأقرباءه شيئاً مطلقاً ؛ والرأسمالية وما يُشابهها من المذاهب الاقتصادية تترك مطلق الحرية للمورِّث في التصرف بماله كيف شاء ؛ فله أن يحرم أقرباءه كلَّهم من ميراثه ، ويُوصي به إلى غريب ؛ من صديق أو خادم . وكثيراً ما يُوصي الرجل أو المرأة ـ في المجتمعات الغربية ـ بكلّ ثرواتهم أو بعضها لكلبٍ ، أو قطةٍ ، أو ما أشبه ذلك من الوصايا العجيبة الغريبة .
(2)- الإرث في النظام الإسلاميّ واجبٌ بالنسبة إلى الوارث والمورِّث ؛ فلا يملك المورث أن يمنع أحد ورثته من الإرث . وكذا الوارث يملك نصيبه جبراً من غير اختيارٍ منه ، ولا حكمٍ من قاض ؛ فليس له أن يردّ إرثه ، أو شيئاً منه .
بينما نجد الأنظمة الأخرى لا تُوجب شيئاً من ذلك . بل نجد القانون الفرنسي لا يُثبت الإرث إلاَّ بعد حكم القضاء ؛ فهو اختياريّ عندهم لا إجباريّ .
(3)- النظام الإسلاميّ جعل الميراث في دائرة الأسرة لا يتعدَّاها ؛ فلا بُدّ من نسبٍ صحيحٍ ، أو زوجية ـ والولاء يُشبه صلة النسب ، فكان ملحقاً به ـ . وبذلك لا يرث الولد المتبنَّى، ولا ولد الزنى ، ولا المولود من نكاح باطل أو فاسد. وفي دائرة الأسرة يُفضِّل الإسلام الأقربَ فالأقربَ إلى المتوفّى؛ ممن يُعتبر شخصه امتداداً في الوجود لشخص الميت؛ كالأولاد والأب ومن يليهما في درجة القرابة .
بينما نجد الحال في الأنظمة الأخرى مخالفاً للنظام الإسلامي تماماً ؛
فعنـد اليهود يرث الأولاد الذكور ، ويُعطى للولد البكر نصيب اثنين من إخوته ، دون تفريق بين المولود من نكاح صحيح ، أو غير صحيح . ولا يُحرم الولد البكر من نصيبه بسبب كونه من نكاح غير شرعيّ .
وفي الأنظمة الغربية يمكن للغريب ؛ من صديق ، أو خادم أن يرث ، ويمكن للولد اللقيط ، وولد الزنى أن يرث ، بل يرث عندهم من لا علاقةَ قرابة له بالميت ، بل وحتى الحيوانات كما قدَّمنا .
ذكر الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله ـ أنّ أحد الأثرياء في إحدى الدول الغربية كتب في وصيته التي قُرئت بعد موته : أنه ترك كلّ أملاكه ؛ وهي منزل ريفي كامل ، وعقار ، ومكتبه الخاص ، وسيارته ، وخمسين ألف جنيه في البنوك، لسكرتيرته الحسناء، ولم يترك لزوجته قرشاً واحداً، وقال في تلك الوصية : إني لم أترك لزوجتي شيئاً ؛ لأنها كانت سبب شقائي وآلامي المستمرة ، ولا تستحق إلا الفقر والموت ، وإنني أترك كل أموالي لسكرتيرتي التي أحببتها ، وأخلصت لها ، وإليها يرجع الفضل في التغلُّب على نكد زوجتي .
(4)- النظام الإسلامي قدَّر نصيب الوارثين ـ عدا العصبات ـ بالفروض ؛ كالربع ، والثمن ، والسدس ، والنصف ، والثلث ، والثلثان . ولا مثيل لهذا في سائر الأنظمة والشرائع القديمة والحديثة .
(5)- إنَّ توزيع الإرث بالسهام المقدَّرة يؤدّي إلى تفتيت الثروة وتوزيعها ؛ فلا يبقى المال دولةً بين الأغنياء . بخلاف بقية الأنظمة التي تحصر الثروة في شخص واحد قد لا يمتّ للميت بصلة ، وتحرم أقرباءه من أقلّ حقوقهم .
(6)- جعل النظام الإسلاميّ للولد الصغير نصيباً من ميراث أبيه يُساوي نصيب أخيه الكبير ؛ فلم يُفرِّق بين الحمل في بطن أمه ، وبين الولد الكبير في العائلة الكبيرة . كما أنَّ النظام الإسلامي لم يُفرِّق بين الولد البكر وغيره من الأولاد ـ كما هو واقع الحال في شريعة اليهود المحرّفة ، وفي القانون البريطاني ـ ؛ وذلك لأنّ الصغار قد يكونون أحوج إلى مال يصون معيشتهم من إخوانهم الكبار الذين عملوا وجمعوا لأنفسهم ثروة خاصة بهم ، مستقلة عن ثروة أبيهم .
فالولد البكر عند اليهود يأخذ نصيب اثنين من إخوته .
ولقد كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يمنعون الصغير من الذكور ـ فضلاً عن الإناث ـ من إرث أبيه ، ويقولون : لا يُعطى إلا من قاتل ، وحاز الغنيمة .
(7)- جعل النظام الإسلامي للمرأة نصيباً من الإرث ؛ فالأم ، والزوجة ، والبنت ، وبنت الابن ، والأخت ، وأمثالهنّ ، لهنّ نصيبٌ من مال الميت يضمن لهنّ حياة كريمة خالية من هوان الفاقة ، ومذلَّة الفقر .
بخلاف بعض الأنظمة التي حرمت المرأة من ذلك تماماً ؛
فالقانون الفرنسيّ حرم الزوجة من الميراث ، ولم يُعطها شيئاً من ذلك .
والمرأة ـ أماً كانت ، أو زوجة ، أو بنتاً ـ قبل أن تبزغ شمس الإسلام كانت لا تُعطى شيئاً من الإرث، بحجة أنها لا تقاتل، ولا تدافع عن حمى العشيرة . وكـان العـربي يقول : “كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ، ولا يحمـل سيفاً، ولا يقاتل عدواً”؛ فكانوا يمنعونهـا من الإرث ، كما يمنعون الوليد الصغير .
وكذا اليهود يُعطى الميراث عندهم للولد الذكر ، فإذا تعدّد الذكور ، كان للولد البكر نصيب اثنين من إخوته . وأما الأنثى فلا ميراث لها عندهم .
(8)- جعل النظام الإسلامي الحاجة أساسَ التفاضل في الميراث ؛ فأبناء الميت أحوج إلى ماله من أبيه ؛ لأنَّ مطالب الحياة قد لا ترهق جدّهم ، كما ترهقهم وهم شباب في مقتبل أعمارهم .
وكذا مطالب الابن الذكر في الحياة ، وفي نظام الإسلام نفسه أكثر من مطالب أخته ؛ فهو الذي يُكلَّف بإعالة نفسه متى بلغ سنّ الرشد ، وهو المكلَّف بدفع المهر لزوجته ، وبنفقة الزوجية ، ونفقة الأولاد ؛ من تعليم ، وتطبيب ، وكساء ، وغير ذلك . ثمّ هو المكلَّف بإعالة أبيه أو أقربائه إذا كانوا فقراء . أمَّــا البنت فلا تكلَّف بشيءٍ من ذلك ؛ فنفقتها على أبيها ما دامت في بيتـه ، ثمّ إذا انتقلت إلى بيت الزوجية كانت نفقتها على زوجها . فإذا فارقت الزوج بطلاق أو موت ، انتقل واجب الإنفاق عليها إلى أبيها ، ثمّ إلى من بعده ، بحسب الترتيب الوارد في نظام النفقات .
رابعاً ـ التعريف بعلم الفرائض والمواريث
الفرائض : جمع فريضة ؛ وهي مأخوذة من الفرض الذي له عدة معان لغوية ؛
منها : التقدير ؛ كما في قوله تعالى : ) وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم( [البقرة : 137] ؛ أي قدَّرتم .
ومنها : التبيين ؛ كما في قوله تعالى : ) قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم( [التحريم : 2] ؛ أي بيَّن .
ومنها : التنزيل ؛ كما في قوله تعالى : ) إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد( [القصص : 85] .
ومنها الإحلال ؛ كما في قوله سبحانه : ) ما كان على النبيّ من حرجٍ فيما فرض الله له( [الأحزاب : 38] .
وهـذه المعاني اللغوية كلّها موجودة في الميراث ؛ لأنّ سهام الوارثين فيه مقدَّرة ، قد بيَّنها الله تعالى ، وأنزلها في كتابه ، وأحلَّها للوارثين .
والمواريث : جمع ميراث .
ولفظ ميراث في اللغة مصدر من : وَرِثَ يَرِثُ إِرْثاً وميراثاً .
وهويطلق في اللغة على معنيين ؛ أحدهما : البقاء . ومنه اسم الله تعالى “الوارث” ؛ فإنّ معناه الباقي بعد فناء خلقه .
والمعنى الثاني : انتقـال الشـيء من شخصٍ إلى شخصٍ آخر ، أو من قومٍ إلى قومٍ آخرين ، حسياً كان ؛ كانتقــال المال إلى وارث موجود حقيقة ، أو حكماً ـ كانتقـالـه إلى الحمل قبل ولادتـه ـ ؛ أو معنـويـاً ؛ كانتقال العلم والخلق . ومن ذلك قوله r : “العلماء ورثة الأنبياء” .
فهو أعمّ من أن يكون بالمال ، أو بالعلم ، أو بالمجد والشرف .
والمراد بعلم الفرائض ، أو علم المواريث في الشريعة الإسلامية :
التركة التي خلَّفها الميت وورَّثَهــا غيرَه .
أو استحقاق الإنسان لشيء بعد موت مالكه بسبب مخصوص وشروط مخصوصة .
أو انتقال الملكية من الميت إلى ورثته الأحياء ، سواء كان المتروك مالاً ، أو عقاراً ، أو نحوه .
والميت : مورِّث . وذاك الغير : وارث . والتركة : موروثة .
وعلم المواريث : هو علمٌ بقواعد فقهية وحسابية ، يُتوصَّل بها إلى معرفة الحقوق المتعلقة بالتركة ، ونصيب كل وارث منها . وهو علمٌ مستمدٌ من الكتاب والسنة والإجماع .
خامساً ـ أهمية علم الفرائض ومكانته في الإسلام
لعلم الفرائض مكانةٌ خاصَّةٌ في الإسلام ؛ لما له من علاقة ظاهرة بكل فردٍ في المجتمع .
ومما يدلّك على أهميته من كتاب الله تعالى : أنّ الله عزّ وجلّ تولّى تقدير الفرائض بنفسه ، ولم يُفوَّض ذلك إلى أحدٍ من خلقه ، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشّى فيها على ما حدَّه وفرضه جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ، وتوعَّد من خالفه وتعدَّى حدوده بأن يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مهينٌ .
وكذا جاءت السنة المطهرة شارحة لأحكام الميراث ، ومبينة لفضله ؛ فقال r : “ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر” .
ولقد رغَّب النبيّ r في تعلّم هذا العلم الشريف وتعليمه ؛ كيلا يجهل النّاس نظاماً شديد الصلة بحياتهم العائلية ، وعلائقهم المالية .
فقد أخرج الإمام الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : “تعلَّموا القرآن والفرائض وعلِّموا النَّاس فإنِّي مقبوض” .
وأخرج الإمام ابن ماجه عن أبي هريرة نحوه ، وفيه قوله r : “يا أبا هريرة تعلَّموا الفرائض وعلِّموها فإنه نصف العلم وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنزع من أمَّتي” .
وأخرج الإمامان أبو داود ، وابن ماجه في السنن من حديث عبدالله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله r : “العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة” .
وأخرج الإمام الدارمي في سننه من حديث عبدالله بن مَسْعُودٍ قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَالْعِلْمُ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا” .
ولعلّ من الحكمة في الحثّ على تعلّمه : ما أشار إليه النبيّ r من كونـه يُنسى ؛ إذ هو علمٌ توقيفيّ ، لا مجال للرأي فيه ، فلا بُدّ من أخذه على طريق التلقي .
ولقد اهتمّ سلفُنا الصالح رحمهم الله تعالى بهذا العلم ، وحضُّوا على دراسته وتعلّمه :
فهذا الفاروق عمر t يحثّ على تعلّم هذا العلم بقوله : “تعلَّموا الفرائض فإنَّها من دينكم”
، وبقوله : “تعلَّموا الفرائض واللَّحْنَ والسُّنَن كما تعلَّمون القرآن” .
وكذا حثَّ على تعلّمها عبدالله بن مسعود t بقوله : “تعلَّموا الفرائض والطلاق والحجَّ فإنَّه من دينكم” ، وبقوله : “تعلَّموا القرآن والفرائض ؛ فإنَّه يُوشِك أن يفتقر الرجلُ إلى علمٍ كان يعلمه ، أو يبقى في قومٍ لا يعلمون” ، وبقوله : “من قرأ القرآن فليتعلَّم الفرائض ، فإن لقيه أعرابي قال : يا مهاجر أتقرأ القرآن . فإن قال نعم ، قال : تفرض . فإن قال نعم ، فهو زيادة وخير ، وإن قال لا ، قال : فما فضلك عليَّ يا مهاجر” .
وكذا أبو موسى الأشعري t حثَّ كما حثَّ غيره من الصحابة على تعلّم الفرائض، وشبَّه من علم القرآن ولم يعلم الفرائض بالبرنس الذي لاوجه له ؛ فقال: “من علم القرآن ولم يعلم الفرائض فإنّ مثله مثل البرنس لا وجه له ، أو ليس له وجه” .
وهذا الحثّ والحضّ على تعلّم الفرائض ، كان ديدن السلف رحمهم الله تعالى جميعاً ؛ فقد أخبر عنهم شيخ التابعين الإمام الحسن البصري رحمه الله أنَّهم “كانوا يُرغبون في تعليم القرآن والفرائض والمناسك” .
وهذا يدلّك على أهمية هذا العلم الشريف ومكانته .
وقـد اشتهر من علماء الصحابة بالفرائض عددٌ كثيرٌ ، منهم : زيد بن ثابت ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالله بن عبَّاس ، وعائشة ، وعثمانy .
وكان المبرّز في هذا العلم منهم : زيد بن ثابت t ، الذي شهد له رسول الله r بذلك بقوله : “أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر ، وأصدقها حياء عثمان ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله أُبَيّ ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” ؛ فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنّ زيداً t أعلم أمته بالفرائض .
وكذا كانت الصديقة بنت الصديق ؛ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عالمةً بالفرائض ؛ فقد سئل الإمام التابعي مسروق : أكانت عائشة تُحسن الفرائض ، فأجاب : “والذي لا إله غيره ، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمدٍ r يسألونها عن الفرائض” .
وجاء الفقهاء من بعد عصر الصحابة ، وأولوا هذا العلم عناية فائقة ، بدت عند تدوين الفقه الإسلامي ؛ إذ كان باب المواريث من أهم أبوابه وأدق مباحثه . وقد أفرده كثير من المصنفين بمؤلفات مستقلة ، وجعلوه علماً مستقلاً ، وسموه “علم الميراث” ، و”علم الفرائض” ، وسمّوا العالم به : “فرضياً”
سادساً : مبادئ علم الفرائض العشرة
من المبادئ العشرة التي ينبغي لكلّ من أراد الشروع في علم من العلوم أن يعرفها ، هي : حدّ هذا العلم ، وموضوعه ، وثمرته ، ونسبته إلى غيره ، وواضعه ، واسمه ، واستمداده ، وحكمه ، ومسائله ، وفضله .
فحدّ هذا العلم ـ أي تعريفه ـ قد تقدَّم .
وموضوعه هو : التركات . وثمرته : إيصال ذوي الحقوق حقوقَهم .
ونسبته إلى غيره : كونه من العلوم الشرعية .
وفضله : قد تقدَّم في معرض الحديث عن مكانته .
وواضعه : هو الله سبحانه وتعالى .
واسمه : علم الفرائض ، أو علم المواريث .
وحكمه : تعلمه فرض كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، وإن لم يقوموا به أثموا جميعاً .
ومسائله : ما يُذكر في كل باب من أبوابه من تفاصيل المواريث .
ومصادره : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
مصادر علم الفرائض
يستمد علم الفرائض قواعده من ثلاثة مصادر رئيسية :
(1)- القرآن الكريم . ومنه أُخذت أكثر أحكام المواريث ؛ كأحكام الزوج ، والزوجة ، والأب ، والأم ، والبنت ، وغيرهم .
(2)- السنة النبوية . ومنها أُخـذ العديد من أحكام المواريث ؛ كإرث أم الأم ، والأخوات مع البنات ، وغير ذلك .
(3)- الإجماع . كما في توريث أم الأب باجتهاد الفاروق عمر t ، وموافقة الصحابة ، وعليه إجماع المسلمين .
س : هل القياس مصدر من مصادر علم الفرائض ؟
ج : ليس القياس مصدراً من مصادر علم الفرائض . ولم يثبت شيء من أنصباء الورثة بالقياس ؛ لأنه لا مجال للقياس في الأشياء التقديرية ؛ لخفاء وجه الحكمة ـ أحياناً ـ في التخصيص بمقدار دون آخر .
بيان الحقوق المتعلقة بالتركة
سبق أن ذكرنا أنَّ موضوع علم الفرائض ، هي التركة نفسها (جميع ما يتركه الميت) ؛ من حيث تقسيمها ، وتوزيعها .
ولكن ثمَّة حقوق متعلقة بهذه التركة ، لا بُدّ من مراعاتها .
فما هي هذه الحقوق ؟
الأمور المتعلقة بالتركة
الإرث وتوزيعه الوصية الحقوق التي على الميت التجهيز والدفن
حقوق في الذمَّة حقوق عينية
حق للعباد حق لله
الأمور المتعلقة بالتركة :
يتعلَّق بالتركة خمسة حقوق ، لا تنتقل التركة إلى الوارث بدونها ، هي :
(1)- التجهيز : أو ما يُعرف بـ”مؤن التجهيز” ؛ وهي عبارة عن فعل ما يحتاج إليه الميت من وقت وفاته إلى حين دفنه ؛ من نفقات غسله ، وحنوطه ، وكفنه ، وأجور حمَّال ، وحفر قبره ، ونقله من بلد إلى بلد (إذا أوصى بذلك) ، وأجور دفنه ، وكلّ ما يلزم إلى أن يُوضع في قبره .
وكلّ تكاليف الدفن تؤخذ من التركة إن لم يتبرّع واحدٌ بالدفع .
(2)- الحقوق التي على الميت : وهي تنقسم إلى قسمين :
أ ـ حقوق عينيَّة (متعلقة بعين التركة) : مثل : بيت مرهون ، أو عبد جنى جنايةً ( قتل ـ مثلاً ـ ، فعليه دية) ، أو بقرة قد أفسدت زرعاً . وهذه الحقوق يجب سدادها قبل التي في الذمّة ـ بالاتفاق ـ ؛ لأنَّها تمنـع التصرُّف في التركة ، فتكون الملكية ضعيفة . فلا بُدّ من فكّ الحجز ، ودفع الحقوق المتعلقة بعين التركة أولاً .
ب ـ حقوق في الذمَّة : وهي تنقسم إلى قسمين :
= حق لله : كأن يكون عليه زكاة في ماله لم يدفعها ، أو عليه كفَّارات ، أو نذر أن يحجّ ، .. إلخ .
= حقّ للعباد : كالديون التي عليه لعباد الله .
ويجب أن لا يكون هناك دينٌ بستغرق التركة كلها ، فإن وجد دينٌ يستغرق كلّ التركة ، فلا مُلْكيَّة خَلَفيَّة .
س : هل حقّ الله مقدَّمٌ على حقّ العباد في السداد ، أم الأمر على العكس ؟
ج : اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
<أ>= الحنفيَّة قالوا : الكفارات جميعها لله سبحانه ، والميت ليس مطالباً بإخراجها ، ولا الورثة . بل هي عبادة محضة تسقط بالموت ، والميت آثمٌ بعدم إخراجها .
<ب>= الشافعية قالوا : أوّل ما يجب أداؤه من الحقوق بعد المتعلق بعين التركة : حقّ الله تعالى ، ثمّ حقّ العباد .
قالوا : والسبب : لأنّ حق الله تعالى ليس له مطالب ، وحقوق العباد لها مطالِب ، ورسول الله r يقول : “اقضُوا الله الذي له ، فالله أحقّ بالوفاء” .
<ج>= بعض المالكية قـالـوا : نبدأ بحق العباد ؛ لأنّ حقوق الله مبنيَّة على العفو ، ولأنّ الله تعالى في الآخرة يُطالب بحقوق العباد قبل المطالبة بحقوقه ؛ ولأنّ المرء مرتهنٌ ومعلَّق بدَيْنِهِ كما أخبر رسول الله r ؛ فقد جيء بجنازة ليُصلِّي عليها، فسأل : “أعليه دين ؟” فلما أجابوه بنعم، قال : “صلُّوا على صاحبكم” ؛ فقـد سأل عن حق العباد . أما حقّ الله تعالى فإنَّه معرَّض للعفو بالتوبة ، بخلاف حقوق العباد .
<د>= الحنابلة قالوا : حقوق العباد ، وحقوق الله متماثلة ، لا يُقدَّم أحدها على الآخر .
(3)- الوصيَّة :
س : لـم كان أداء الديون المستحقة ـ في التركة ـ مقدَّماً على الوصية ، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى قد قدَّم الوصية على الـدَّيْـن في القـرآن الكريم ؛ فقال جلّ وعلا : ) من بعد وصيَّة توصون بها أو دين ( [النساء : 12] ، وقال سبحانه وتعالى : ) من بعد وصيَّة يُوْصَى بها أو دين ( [النساء : 12] .
ج : ظـاهــر الآية الكريمة يدلّ على أنّ الوصيَّة مقدَّمة على الدين ، مع أنّ الأمر بالعكس (الدين مقدّم على الوصية) ، فتُقضى ديون الميت أولاً ، ثمَّ تُنفَّذ وصيّته .
وهذا قضــاء رســول الله r وحكمـه ؛ فقـــــد أخبر عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t بـذلك ، فقــال : إنَّكـم تقرؤون هذه الآية : ) من بعد وصيَّة توصون بها أو دين ( ، وإنّ رسول الله r قضى بالدين قبل الوصيّة .
والحكمة من تقديم الوصية على الدين في الآية ـ والله أعلم ـ أنّ الديون حقّ ثابت في ذمَّة المدين قبل الوفاة وبعدها ، ولها مطالِب ؛ إذ لصاحب الحقّ مقـال ؛ ـ كما أخبر رسولنا r ـ . أمَّا الوصيَّة فهي تبرّع محض وبرّ وصلة ، وليس لها مطالِب . فلئلا يتهاون الناس في أمرها ، قدّمها الله تعالى في الذكر ، منبِّهاً على وجوب العناية بها كالعناية بالدين .
س : هل الوصية تحتاج إلى إذن الورثة ؟
ج : لا تحتاج الوصيّة إلى إذن الورثة إذا كانت بالثلث فأقل (لغير وارث) . فإذا زادت عن الثلث (لغير وارث) ، أو كان الموصى إليه وارثاً (سواء كانت الوصية بالثلث ، أو بأقل ، أو أكثر) ، فلا بُدّ من رضى الورثة جميعــاً وإذنهم ؛ إذ عدم الإذن وعدم الرضا يضرّ بالورثة ـ ورضاهم إنّما يُعتبر بعد بلوغهم ـ . وإذا لم يرض أحد الورثة ، ورضي الباقون ، فإنّ ذاك الذي لم يرض يأخذ حقَّه كاملاً من الإرث ، ويُنقص من حقوق الباقين ـ الذي رضوا ـ بمقدار ما يُغطي ما أوصى به الميت لذلك الوارث .
إذاً : يُشترط في الوصية إن كانت لغير وارث أن تكون في الثلث ، أو دونه . فإن زادت عن الثلث اشترط إذن الورثة .
ويُشترط في الوصيَّة إن كانت لوارث : إذن الورثة ، ورضاهم جميعاً .
(5)- الإرث :
بعد أن تُسدَّد الحقوق الأربعة السابقة من التركة ، يوزَّع الباقي ـ وهو الإرث ـ على الورثة بحسب أنصبائهم الشرعيَّة .
والكلام على الإرث يتضمَّن بيان أركانه ، وأسبابه ، وشروطه ، والموانع التي تمنعه ، وأنواعه ، وتفصيل كلّ نوع ، والمستحقين ، ونصيب كلّ واحـد من هؤلاء . وهو ما سنفصله إن شاء في المباحث الآتية .
ولنبدأ أولاً بأركان الإرث .
أركـان الإرث
الركن في اللغة : جانب الشيء الأقوى . يُقال : ركنتُ إلى فلان ، إذا اعتمدت عليه .
وهو في الاصطلاح : جزء ماهية الشيء ، أو ما لا يُتصوّر الشيء بدونه ؛ فالركوع في الصلاة ركنٌ ؛ لأنَّه جزءٌ منها ، ولا توجد الصلاة إلا به .
وللإرث أركان ثلاثة ، لا يُتصوّر الإرث بدونها ، فإذا انعدم واحدٌ منها ، انعدم الإرث .
(1)- المورِّث : وهو الذي يستحق غيره أن يرث منه ، وتحقق موته ؛ سواء أكان موته حقيقة (بأن عُدِمت حياته بالفعل) ، أو حكماً (كأن يحكم القاضي بموته ، مع احتمال حياته ؛ كالمفقود) ، أو تقديراً (كالجنين الذي ينفصل عن أمه ميتاً بجناية عليها) ، أو مع تيقن حياته (كالمرتد الذي لحق بدار الحرب) .
(2)- الوارث : وهو الذي يرتبط بالمورِّث بسبب من أسباب الإرث ؛ كالزوجيّة ، أو القرابة النسبيَّة ، وتحقَّقت حياته بعد موت المورِّث ، ولو للحظة ، مع استحقاقه الإرث .
(3)- الحق الموروث : وهو ما يتركه الميت بعد تجهيزه ، وسداد ديونه ، وتنفيذ وصاياه ؛ من أموال وحقوق تُستحقّ بالإرث .
شروط الإرث
الشرط في اللغة : العلامة اللازمة ، الدالَّة على الشيء ، المميِّزة له عن غيره . ومنه : أشراط الساعة ؛ أي علاماتها الدالَّة عليها . وسُمِّي الشُرَط بذلك ؛ لأنَّهم ذوو علامة يُعرفون بها .
والشرط في الاصطلاح : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته . مثل الطهارة شرط لصحة الصلاة ، والاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والعقل شرط لصحة العبادة ووجوبها .
وفي الإرث : حياة الوارث مثلاً شرط لاستحقاق الإرث ، فإذا انعدمت حياته انعدم الاستحقاق ، ولا يلزم من وجود تلك الحياة وجود الاستحقاق ، لاحتمال وجود مانع يمنع من ذلك .
فلا يكفي في ثبوت الإرث مجرّد وجود سببه ، بل لا بُدّ من توفّر شروط الاستحقاق .
وللإرث شروط ثلاثة :
(1)- وفاة المورِّث تحقيقاً (وذلك بمشاهدة ، أو بشهادة عدلين) ، أو حكماً (يحكم القاضي بموته . ومثاله المفقـود) ، أو تقديراً (كانفصال الجنين عن أمه ميتاً بسبب الاعتداء عليها ؛ فيُقدَّر أنَّه كان حيّاً في بطن أمِّه ، ثمّ يُقدَّر بعد ذلك أنَّه مات بعد حياة) ؛ وذلك لحكمه r بغُرَّة (عبد أو أمة) دية للجنين .
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ r فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ ؛ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ . فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ : كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا شَرِبَ وَلا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ . فَقَالَ النَّبِيُّ r : “إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ” .
وهذه الدية تورّث ، وورثة الجنين لا يرثوا ديته إلا إذا قدَّرنا أنَّه كان حياً ، ثمّ جُنِيَ على أمه بجناية ، فخرج ميتاً .
(2)- حـيـاة الـوارث تحقيقاً (بأن يُشاهد ، أو تقوم البيِّنة الشرعية على حياته بشهادة شاهدين عدلين لمن لم يكن حاضراً) ، أو حكماً (كالحمل في بطن أمّه ، يُحكم بحياته) ؛ إذ الحمل يرث بشرطين اثنين ؛ أحدهما : تحقق وجوده في بطن أمه عند موت مورِّثه ولو نطفة . والثاني : خروجه من بطن أمِّه حيَّاً بحياة مستقرة ، يحكم الحاكم أنه كان حياً ، فيورِّثه .
(3)- العلم بالجهة المقتضية للإرث ؛ أي نعلم نسب الوارث ، وصلته بالمورِّث ؛ (من زوجية ، أو ولاء ، أو نسب) ، مع تعيين الدرجة التي اجتمعـا (المورِّث والـوارث) فيهــا (هـل هـي : بنوّة ، أو أُبـوّة ، أو أُخــوّة ـ هل هو أخ شـقيق ، أو أخ لأب ، أو أخ لأم ـ ، أو عمومة ، أو أُمومة ، … إلخ) .
أسباب الميراث
السبب في اللغة : ما يُتوصَّل به إلى غيره ، حسيَّاً كان أو معنوياً .
فمثال الســبب الحســيّ : قـولـه تعالى : ) من كان يظنّ أن لن ينصره الله في الـدنـيــــا والآخرة فليمـــــدد بســــــبب إلى الســماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يُذهبنَّ كيده ما يغيظ ( [الحج : 15] ؛ أي فليمدد بحبل .
ومثال السبب المعنوي قوله تعالى عن ذي القرنين وآتيناه من كلِّ شيء سبباً ( [الكهف : 84] ؛ أي آتيناه من كلّ شيء علماً ، أو طريقاً يوصله إليه .
وفي الاصطلاح : ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم لذاته .
مثال على الإرث : الزوجية سبب من أسباب الإرث ، وهي أمرٌ خارج عن حقيقة الإرث ، ومع ذلك فقد ربط الشارع الإرث بها وجوداً وعدماً ؛ فإذا وجدت الزوجية وجد الإرث بعد توفر الشروط ، وانتفاء الموانع . وإذا انعدمت الزوجية ، فلا إرث .
وأسباب الإرث تنقسم إلى قسمين :
قسمٌ متفق عليه ؛ وهي ثلاثة : نكاح ، وولاء ، ونسب ، وقسمٌ مختلفٌ فيه ؛ وهو بيت المال ؛ إذ هو سبب رابع عند الإمام مالك .
أسباب الميراث
سبب عام مختلف فيه , أسباب خاصة متفق عليها
بيت مال المسلمين , النسب , الولاء , النكاح
أولاً ـ السبب الأول : النكاح :
النكاح في اللغة هو : الضمّ .
يُقال : تناكحت الأشجار ؛ إذا انضمّ بعضُها إلى بعض .
وشرعاً : هو عقد الزوجية الصحيح ، وإن لم يحصل فيه خلوة ، أو وطء .
والزوجية : هي علاقة بين الرجل والمرأة نشأت نتيجة عقد زواج صحيح قائم بينهما حقيقة ، أو حكماً (كما في المعتدة) .
فقـولـنـا : “عقد” ، يخرج به وطء الشبهة ؛ لأنّ الولد لا يرث ، وإن لحق بأبيه .
وقـولـنـا : “زواج صحيح” ؛ للاحتراز عن النكاح الفاسد (وهو النكاح الذي اختلّ شرطه) ؛ مثل نكاح زوجة الأب ، نكاح المتعة ، نكاح الشغار ، نكاح التحليل ، نكاح أكثر من أربعة . فهذه متفق على فسادها .
أما الأنكحة المختلف في فسادها : فهي متوقفة على تصحيح الحاكم .
والنكـاح الباطل : هو النكاح الذي اختلّ ركنه ؛ كأن يكون بدون إذن الوليّ ، أو بدون شهود .
فالزوجان يتوارثان ولو كانا في عدّة طلاق رجعيّ (أي بعد الطلقة الأولى أو الثانية) ؛ أي مـا لم تخرج من العدّة . أما إذا وقع الطلاق البائن : فلا توارث بينهما ، إلا إذا اتُّهِم أحدهما أنَّه تسبَّب بالطلاق لحرمان الآخر من الإرث ، فالمتسبِّب يحرم من الإرث ، دون الآخر.
مسألة : لو تزوَّج في مرض موته . هل يتمّ التوارث بين الزوجين ؟
الجواب : العقد باطل عند المالكية . وهو صحيح عند الجمهور .
مسألة هامة : لو طلَّق زوجته في مرض موته ، هل ترثه أم لا ؟
الجواب : هذه المسألة اختلف فيها العلماء :
(1)- فقـال الشافعي ومن تبعه : إذا طلقها بقصد الإضرار بها ، أو بدون قصد ؛ سواء ثبتت التهمة عليه ، أو لم تثبت ، فلا توارث بينهما .
وهؤلاء وقفوا عند القاعدة الأصلية ؛ وهي أنَّ البينونة قطعت الزوجية التي هي سبب الإرث .
وقولهم مردود لأمرين :
= أحدهما : مخالفته للإجماع ؛ حيث قضى عثمان بن عفان t بتوريث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبدالرحمن بن عوف t ، وكان قد طلقها في مرض موته ، فبتَّها .
واشتهر هذا القضاء بين الصحابة ، ولم يُنكره أحدٌ منهم ، فصار كالإجماع .
= الثاني : إنّ هذا المُطلِّق قصد قصداً فاسداً ، فعومل بنقيض قصده ، عملاً بقاعدة سدّ الذرائع .
(2)- الجمهور (أبو حنيفة ، مالك ، أحمد) : قالوا بتوريثها إذا طلقها بقصد الإضرار بها ، معاقبة له بالضدّ .
ولكنَّهم اختلفوا في ضابط المدة التي ترث بها :
= فقال أبو حنيفة : المرأة ترث ما دامت في العدة .
= وقال مالك : المرأة ترث ولو تزوَّجت بعده .
= وقال أحمد : المرأة ترث ولو بعد انقضاء عدتها ، ما لم تتزوَّج .
ثانياً ـ السبب الثاني : الولاء : (وهو قرابة حكمية) :
الولاء في اللغة يُطلق على النصرة ، والقرابة ، والمُلك .
وشرعاً : هو عصوبةٌ سببها نعمة السيِّد المعتق على عبده العتيق ؛ حيث أخرجه من الرق إلى الحرية .
أو هي قرابة حكمية أنشأها الشارع ، ناتجة عن عتق ، أو موالاة .
والدليل على أنَّ الولاء عصوبة :
(1)- قوله r : “الولاء لمن أعتق” .
(2)- قوله r : “الولاء لحمة كلحمة النسب” .
فجعل r الولاء كالنسب .
ووجــه هــذا التشــبيه : أنَّ الرجـل كما أخـرج ابـنـه من حيّـز المعــدوم إلى حيز الموجود ، كذلك نعمة المعتق أخرجت المملوك إلى حيز الحرية .
ملاحظــة :
الميراث في الـولاء من طـريق واحد ؛ وهو طريق العبد العتيق ؛ حيث يرثه سيده ، ولا يرث هو سيّدَه . بخلاف أسباب الميراث الأخرى ؛ فإنَّها تُوجب الإرث من الجانبين .
والميراث في الولاء عن طريق التعصيب ، وهو أضعف أنواع أسباب الميراث ؛ لأنَّ السيِّد لا يرث عبده إلا بانعدام ورثة العبد .
س : هل يرث السيد عبده بشروط ، أو بدون شروط ؟
ج : بل يرث السيد عبده بشرط انعدام الورثة من جانب العبد .
من يرث بالولاء :
لا يرث بالولاء إلا المعتق الذي باشر العتق ، ثمّ عصبته المتعصبون بأنفسهم لا بغيرهم ، ولا مع غيرهم .
ففي حال موت السيد (المعتق) ، تنتقل العصوبة إلى عصبة العتيق المتعصبين بأنفسهم ؛ كالابن مثلاً ، فإنَّه يرث عبدَ والده المعتَق . وأما البنت (ابنة السـيد) فإنَّها لا ترث بالولاء لأنَّها لا تكون عصبة بنفسها ، وإنما مع الغير .
س : هل يثبت الولاء على فرع العتيق ؟
ج : كما يثبت الولاء على العتيق ، فإنه يثبت على فرعه ، بشرطين :
= الأول : أن لا يكون أحد أبويه حرّ الأصل .
= الثاني : أن لا يمسه رق لأحد .
ملاحظــة :
المولود يتبع أمَّه في الحرية والرق ، ويتبع خير أبويه في الدين وفي الولاء ، ويتبع أباه في النسب .
ثالثاً ـ السبب الثالث : النسب (القرابة الحقيقيَّة) :
النسب في اللغة : القرابة ؛ وهي الاتصال بين إنسانين في ولادة ؛ قريبة كانت أو بعيدة . فكلّ إنسان بينك وبينه صلة ولادة ؛ قربت أو بعدت ؛ من جهة الأب ، أو من جهة الأم ، أو منهما معاً ، فهو قريبك .
والقرابة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
(1)- الأصــول : وهـم أبو الميت ، وأبوه ، وإن علا بمحض الذكور . وأم الميت ، وكلّ جدة تُدلي بوارث ، أو وارثة .
(2)- الفروع : وهم أبناء الميت ، وأبناؤهم ، وإن نزلوا .
(3)- الحواشي : وهم إخوة الميت ، وأخواته مطلقاً ، وأبناء إخوته الذكور لغير الأمّ ـ أي أبناء الإخوة الأشقاء ، وأبناء الإخوة لأب ـ ، وأعمام الميت الأشقاء ، ولأب ، وإن علوا ، وبنوا الأعمام ، وإن نزلوا .
ملاحظــة :
الميراث بالنسب أقوى الأسباب في الميراث للأمور التالية :
(1)- سبق وجوده ؛ لأنَّ الشخص في وقت ولادته يكون ابناً ، أو أخاً ، ونحو ذلك ، بخلاف النكاح والولاء فإنّ كلاً منهما طارئ .
(2)- النسب لا يزول ، والنكاح قد يزول ، بأن يقع الطلاق مثلاً .
(3)- النسب يحجب النكاح نقصاناً ، ويحجب الولاء حرماناً ، وهما لا يحجبانه .
(4)- الإرث يتمّ فيه من جميع الطرق ؛ تارة بالفرض ، وتارة بالتعصيب ، وتارة بالفرض والتعصيب . والنكاح إنما يورث به بالفرض فقط ، والولاء يورث به بالتعصيب فقط .
رابعاً ـ السبب الرابع : بيت مال المسلمين :
وهو سبب مختلف فيه بين العلماء . قال به البعض ، وعدُّوه سبباً من أسباب الإرث .
= فالمالكية ـ وتبعهم بعض الشافعية ـ قالوا بإرث بيت المال ، سواء أكان منتظماً أو غير منتظم . واستدلُّوا بقوله r : “أنا وارث من لا وارث له” .
والشافعية في قولهم الآخر ـ وتبعهم بعض المالكية ـ قالوا بإرث بيت المال ، حال انتظامه فقط .
أما الأحناف والحنابلة فقـالوا : بيت مال المسلمين ليس سبباً من أسباب الإرث مطلقاً ، سواء أكان منتظماً أم غير منتظم . ومـن أجـل ذلك قالوا بتوريث ذوي الأرحام ؛ مستدلين بقوله تعالى : ) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ( [خاتمة سورة الأنفال] .
مسألة : هل يُتصوَّر اجتماع الأسباب الثلاثة (نكاح ، وولاء ، ونسب) في شخص واحد ؟
الجواب : نعم ، ومثاله : إذا اشترى شخص بنتَ عمِّه ، فأعتقها ، وتزوجها ، فقد اجتمعت فيه الأسباب الثلاثة ؛ فهو زوجها ، وابن عمها ، ومولاها .
موانع الإرث
الموانع في اللغة : جمع مانع ، وهو الحائل . ومنه قولهم : هذا مانع بين كذا وكذا : أي حائل بينهما ؛ فكلّ أمرٍ يحول بين شيء وشيء آخر يُسمَّى مانعاً .
وفي الاصطلاح : هو أمرٌ خارجٌ عن الحكم ، يستلزم وجوده عدم الحكم مع وجود سببه ؛ فهو يؤثر من جانب وجوده ؛ فينعدم الحكم بوجود المانع ، بخلاف الشرط ؛ فإنَّ تأثيره من جانب العدم .
أو هو : ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته .
ـ والموانع من الإرث تنقسم إلى قسمين :
(1)- قسمٌ مجمعٌ عليه ، وقسمٌ مختلف فيه .
* فالقسـم المجمـع عليـه ثلاثـة أنواع : رق ، وقتل ، واختلاف الدين .
* والقسـم المختلف فيه على أنواع ، أهمها : الارتداد ، واختلاف الدار .
موانع من الإرث مجمعٌ عليها
اختلاف دين , قتل , رق ,
ناقص الرق , كامل الرق ,
المكاتَب المبعَّض
من موانع الإرث :
(1)- الرق :
= تعريفه : في اللغة : العبودية .
: في الاصطلاح : عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر فيمنعه من التصرُّف .
= تفسير التعريف :
: عجز حكمي : ليس العجز أصلياً في العبد ؛ كعجز الصبيّ والمجنون ، بل عجزه حكمي طارئ عليه .
: التصرُّف : الملك ، الحرية ، الشهادة ، تولِّي الحكم أو القضاء .
= الدليل من الكتاب والسنَّة على عجز العبد الحكمي :
قول الله I : ) ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه ..( الآية [النحل : 75] .
س : هل الرق على درجة واحدة ، أم هو على درجات متفاوتة ؟
ج : بل هو على درجات متفاوتة :
-1- رقيق كامل الرق : وهو القِنّ ؛ الخالص العبودية ، المملوك بكليته .
-2- المكاتَب : وهو الذي كاتب سيده على أقساط يدفعها إليه ، فيُصبح حراً عند آخِر قسط يدفعه .
-3- أمّ الولد : وهي المملوكة التي وطئها سيّدها ، فحملت منه ، وأتت بولد . فهذه لا تباع ولا توهب، وتُصبح حرة بمجرّد موت السيّد .
-4- المبعَّض : من كان بعضه حراً ، وبعضه مملوكاً ؛ كما لو كان مشتركاً بين اثنين ، فأعتق أحدهما نصيبه منه .
-5- المُدْبَر ، أو المدَبَّر : وهو الذي يقول له سيده : أنت حر بعد وفاتي ، فيُصبح حراً بمجرد وفاة سيده .
-6- المعلَّق على صفة : كالعبد الذي يقول له سيده : أنت حرّ إن أتاني ذكر ، أو نجحت ، أو تولّيت ولاية ، أو إذا جاء شهر رمضان فأنت حرّ .. إلخ .
-7- الموصى بعتقه (تنفيذ عتقه موقوف على الورثة) ؛ إذ قد يكون العبد أكثر من الثلث ، فيتوقف عتقه على موافقة الورثة .
مسألة :
ما رأي العلماء في إرث الرقيق الكامل الرق ، والناقص الرق ؟
أولاً ـ كاملوا الرق : لا يرثون من الغير ، ولا يرث الغير منهم ، ولا يحجبون أحداً باتفاق الفقهاء .
ثانياً ـ ناقصوا الرق : (محلّ خلاف) :
-1- المبعَّـض : تقدّم أنَّ المبعَّض من كان بعض جزئه حراً ، والباقي عبداً .
س : ما رأي العلماء في توريث المبعَّض ، والإرث منه ، وحجبه ؟
ج : =أ= الحنفية والمالكية قالوا : لا يرث ، ولا يُورِّث ، ولا يحجب، وحكمه حكم القنّ تماماً . (وهؤلاء قد غلَّبوا منه جانب العبودية) .
=ب= الشعبي والأوزاعي : يرث ، ويورِّث ، ويحجب كالحرّ تماماً . (وهؤلاء قد غلَّبوا منه جانب الحرية) .
=ج= الحنابلة : يرث ويورِّث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية ؛ فيُعامل جزؤه الحرّ بحكم الأحرار ، وجزؤه الرقيق بحكم الأرقاء .
=د= الشافعية : لا يرث ، ولكن يورِّث ، ولا يحجب .
مســألة :
مات أبٌ حرّ عن ابنٍ عبدٍ مبعَّض بالنصف ، وأخ شقيق :
الشافعية الحنابلة الشعبي الحنفية مات عن :
لا يرث له النصف يرث وهو عصبة لا يرث ابن عبد مبعَّض
عصبة له النصف محجوب عصبة أخ شقيق
مســألة :
ماتت عن زوج ، وابن مبعَّض بالنصف ، وأخ شقيق :
الحنابلة (مبعَّض) الحنفية (عبودية) الشعبي (حرية) ماتت عن:
¼ + 1/8 ½ ¼ زوج
¼ + 1/8 الباقي للابن م ع ¾ ابن مبعَّض
¼ ع ½ م أخ ش
الحنابلة قالوا : الباقي يُعطى للابن ؛ إذ هو أقرب فرع وارث غير أصحاب الفروض
= صور العبد المبعَّض :
-1- المهايأة : كأن يخدم سيِّده بنسبة ملكه ، ويكتسب بنسبة حريته .
-2- المخارجة : كأن يقول له سيده : اعمل لنفسك ، وكلّ يوم تأتيني بـ(10) ريالات مثلاً .
-3- المقاسمة : كأن يقول له سيده : ما أتيت به ، فهو مناصفة بيني وبينك .
وهناك صورة رابعة ، وهي : أن يتركه يعمل لنفسه ، ولا يأخذ منه شيئاً .
مسألة :
مات عبدٌ مبعَّض بالنصف عن زوجة ، وابن :
الشافعية الحنابلة الشعبي الحنفية مات عن :
1/8 فرضاً 1/16 فرضاً 1/8 فرضاً لا ترث زوجة
7/8 عصبة 7/16 عصبة 7/8 عصبة لا يرث ابن
والباقي للسيِّد
-2- المكاتب :
س : هل يرث العبد المكاتب من غيره ، وهل يرث غيره منه ؟
ج :
أولاً : العبد المكاتب لا يرث من غيره بالاتفاق .
ثانياً : هل يرث غيره منه ؟ المسألة محل خلاف ، وسبب اختلافهم في ذلك ، هو اختلافهم في الذي يموت عليه المكاتب ؛ أيموت مكاتَباً ، أم حراً ، أم عبداً :
=أ= الشافعية والحنابلة : إذا مات ولم يف بمال الكتابة ، وكان لديه مالٌ قدر الكتابة ، أو أقلّ ، أو أزيد ، يُعتبر عقداً لاغياً ، وتُفسخ الكتابة ، ويكون المال لسيده ؛ إذ المكاتبة عقد معاوضة على المكاتب ، وقد تلف قبل التسليم ، فبطل العقد ، فيئول المال الذي تركه إلى سيده ، والمكاتب عبدٌ ما بقي عليه شيء :
كذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : “هو عبدٌ ما بقي عليه شيء” ، وقال زيد بن ثابت t : “ما بقي عليه درهم” ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : “هو عبدٌ إن عاش ، وإن مات ، وإن جَنَى ، ما بقي عليه شيء” .
وعلى ذلك أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r وَغَيْرِهِمُ ؛ “أنّ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ” . وَهـُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ .
=ب= الحنفية قالوا : العبد المكاتب إذا كان لديه مال يفي بالكتابة ، فإنَّ الكتابة تُعتبر سارية ، ولا تنفسخ ، ويوفي من المال الذي تركه دين الكتابة ، ويُحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته . وما زاد عن الكتابة ـ ما بقي بعد وفاء سيِّده ـ يكون لورثته مطلقاً (سواء أدخلوا معه في عقد المكاتبة أم لا ، وسواء أكانوا أحراراً أم عبيداً) .
=ج= المالكية قالوا : الكتابة لا تنفسخ ، ولكن لا يرث المال إلا ورثة العبد الذين دخلوا معه في الكتابة ، شريطة أن يكونوا أصله أو فرعه .
فإذا مات المكاتب قبل أداء مال الكتابة ، وترك مالاً ، يؤدِّي منه مال كتابته ، فإنَّه يؤدى منه ، وما بقي يكون لورثته مـمَّن كان معه في عقد الكتابة ـ مـمَّن يُعتق عليه لو ملكه ؛ كأصله وفرعه ـ .
ومن موانع الإرث :
(2)- القتـل :
والقتل : هو فعل ما يكون سبباً لإزهاق الروح .
ولا خلاف بين العلماء في أنّ القتل مانعٌ من موانع الإرث ، ولكنّ الخلاف في نوع القتل الذي يمنع منه .
أنواع القتل :
مع اتفاق العلماء على أنّ القتل مانع للإرث ، إلا إنهم اختلفوا في نوع القتل المانع ؛ وذلك أن القتل قسمان : قتل بغير حق ، وقتل بحق .
أولاً = القتل بغير حق : وهذا تحته أنواع :
(1)- قتل عمد : وهو ما كان بآلة قاتلة على سبيل القصد والتصميم ، فهو يُوجب القصاص ، والإثم ، دون الكفارة .
والآلة القاتلة ـ كما عرَّفها الإمام أبو حنيفة ـ هي التي لها حدّ تُفرِّق الأجزاء ؛ كسلاح ، أو ما يجري مجراه في تفريق الأجزاء ؛ كالنار ، والمحدّد من الخشب ، أو الحجر ، أو الزجاج .
وعرَّف صاحباه ـ أبو يوسف ، ومحمد ـ القتل العمد : بأن يتعمَّد ضربه بما يُقتل به غالباً ؛ وهو ما لا تطيقه البنية ؛ سواء أكان محدَّداً كالسيف أو السكين ، أم غير محدَّد ؛ كحجر عظيم ، وخشب عظيم . ومثله القتل بالقنبلة .
وهذا القتل ـ كمـا قدّمنـا ـ يُوجب القصـاص ، والإثم ؛ لقوله تعالى : ) كتب عليكم القصاص في القتلى ( [البقرة : 178] ، ولقوله عزّ وجلّ : ) ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً ( [النساء : 93] . ولكونه فاحشة وجريمة آثمة ، لم تُشرع فيه الكفَّارة التي فيها معنى العبادة .
(2)- قتل شبه عمد : كأن يتعمَّد ضرب شخص بما لا يقتل عادة ؛ كالضرب بيده ، أو سوطه ، أو حجر صغير ، أو عصا ليّنة ، أو ما أشبهها ، فيموت منه . فهذا القتل يُوجب الدية على العاقلة ، والكفارة ، مع الإثم .
وسُمِّي هذا النوع “شبه عمد” ؛ لأنَّ فيه معنى العمدية ، باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب ، ومعنى الخطأ ، باعتبار عدم قصده إلى القتل ؛ لأنَّ الآلة التي استعملت فيه ليست آلة قتل ، فكان خطأً يُشبه العمد ، فلم يجب فيه القصاص ، ووجبت فيه الكفارة ، والدية المغلَّظة على العاقلة ، ودخل تحت قوله تعالى : ) ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله ( ـ إلى قوله ـ ) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله ( [النساء : 92] . وفي هذا النوع إثم الضرب ؛ لوجود القصد إليه ، وارتكاب ما هو محرَّم شرعاً ، لا إثم القتل ؛ لأنَّه لم يقصده .
(3)- قتل خطأ : وهو إمّا أن يكون خطأ في القصد ؛ كأن يرمي شبحاً يظنّه حيواناً ، فإذا هو إنسان . وإمَّا أن يكون خطأ في الفعل ؛ كأن يرمي طائراً فيُصيب إنساناً ، فيقتله . فهذا القتل يُوجب الدية على العاقلة ، والكفارة ، ولا إثم عليه .
(4)- قتل شبه خطأ ، أو جار مجرى الخطأ ، أو ملحق به ؛ كأن ينقلب النائم على إنسان فيقتله . وهذا القتل يُوجب الدية على العاقلة ، والكفارة ، وفيه إثم ترك التحرُّز والمبالغة في التثبُّت ، وهو دون إثم قصد القتل .
(5)- قتل بالتسـبُّب ؛ كأن يضع السمّ في الطعام ، أو يحفر بئراً فيتردّى فيه ، أو يُشارك القاتل برأي ، أو إعانة ، أو تحريض ، أو يشهد شهادة زور تؤدي إلى الحكم بالإعدام ، أو يكون ربيئة (وهو من يُراقب المكان أثناء مباشرة القتل) . فهذا القتل يُوجب الدية على العاقلة ، ولا كفارة ، ولا قصاص فيه .
ثانياً = القتل بحق ، أو بعذر : وهذا على أنواع أيضاً :
(1)- القتل قصاصاً : كالجلاد يُنفِّذ حكم الإعدام بالقاتل .
(2)- القتل بالحدّ : كقتل المرتدّ .
(3)- القتل دفاعاً عن النفس ، أو المال .
(4)- قتل الزوج زوجته الزانية ، أو قتل المحرم لقريبته الزانية ، وقتل الزاني بها أيضاً .
(5)- القتل مبالغة في الدفاع عن النفس ؛ كأن يكون بحيث يستطيع ردّ هجوم الصائل عليه بما دون القتل ، لكنه يقتله .
س : ما هو القتل الذي يُعتبر مانعاً من موانع الإرث ؟
ج : اختلف العلماء في القتل الذي يُعتبر مانعاً من موانع الإرث :
=1= فقالت الشافعية : مجرّد القتل بجميع أنواعه السابقة ؛ سواء أكان بحق (مثل قاض حكم على أبيه بالقتل ، فلا يرث من باب سدّ الذرائع) ، أو بغير حقّ سـواء أكان بمباشرة ، أو بتسبّب (فلا يرث ، لتُهمة الاستعجال بالإرث) . وسواء كان القاتل عاقلاً بالغاً ، أو صبياً ، أو مجنوناً ؛ فالقاتل خطأ ، والقاضي الذي حكم بالقتل، والجلاد الذي نفَّذ القتل ، والمدافع عن نفسه ، والمنتقم لشرفه ، والأب يضرب ولده للتأديب فيقتله ؛ كلّ هؤلاء يُمنعون من الميراث أخذاً بعموم قوله r : “ليس للقاتل شيء ، وإن لم يكن لـه وارث ، فـوارثه أقرب الناس إليه ، ولا يرث القاتل شـيئاً” ، وعملاً بقاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه .
إذاً : الشافعية جعلوا مجرّد القتل مانعاً من موانع الإرث .
=2= وقالت المالكية : القاتل له حالتان ؛ إمَّا أن يكون قتل مورِّثه عمداً عدواناً ـ فلا يرث من مال مورثه ولا من ديته ـ ؛ وإمَّا أن يكون قتله خطأ ـ فيرث من ماله ، ولا يرث من ديته ـ .
فالقتل المانع من الإرث ـ عند المالكية ـ هو القتل العدوان العمد المقصود بغير حقّ ، وبدون عذر ؛ سواء أكان مباشــرة ، أو من طريق التســبُّب . فمتى كان القتل قصداً مع العدوان ، منع من الإرث . أمَّا القتل الخطأ ، أو بحق ، أو بعذر ، أو الذي وقع من صبي أو مجنون ، فلا يمنع من إرث المال ، وإنّما يمنع من إرث الدية ؛ لأنَّ الدية واجبة عليه ، فكيف يرث شيئاً قد وجب عليه .
=3= وقالت الحنفية : كلّ قتل أوجب قصاصاً ، أو كفارةً مع الدية ، يمنع من الإرث ؛ وهو القتل بغير حقّ ، شريطة أن يكون بالمباشرة ، سواء أكان عمداً ، أو شبه عمد ، أو خطأ ، أو جارياً مجرى الخطأ . وأمَّا القتل بالتسبُّب (كما لو حفـر بئـراً ، أو وضع حجراً في الطريق ، فقتل مورّثـه) ، أو القتـل بحق ، أو بعذر ، فلا يمنع من الميراث .
=4= وقالت الحنابلـة : إنّ القتل المانع هو ما أوجب عقوبة على القاتل ؛ سواء أكانت عقوبة جسمية (كما في القتل العمد)، أو ماليَّة (كما في القتل الخطأ)، والقتل بالتسبُّب . فكلّ قتلٍ مضمون بقصاص ، أو دية ، أو كفارة ، يمنع الإرث ؛ فالقتل بغير حقّ ، سواء بمباشرة، أو بتسبّب ، يكون مانعاً من الإرث عند الحنابلة ؛ تعميماً لسدّ الذريعة ، ولئلا يدّعي العامِد أنه قَتَل خطأً .
ومن موانع الإرث :
(3)- اختلاف الدين :
واختلاف الدين : هو أن يكون المورِّث على دين ، والوارث على دين آخر .
وله صورتان :
= أن يكون المورِّث مسلماً والوارث كافراً ، أو العكس .
= أن يكون المورِّث يهودياً والوارث نصرانياً ، أو العكس .
س : هل يرث المسلم من الكافر ، أو الكافر من المسلم ؟
ج :
=1= مذهب الجمهور ـ وهو الراجح ـ : أنّ المسلم لا يرث الكافر ، والكافر لا يرث المسلم ؛ لقوله r : “لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم” .
=2= وقيل : المسلم يرث الكافر ، دون العكس ؛ لأنَّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه ، ويزيد ولا ينقص . واستدلّ أصحاب هذا القول بحديث : “الإسلام يزيد ولا ينقص” .
أخرج الإمام أبو داود في سننه عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَنَّ أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ ؛ يَهُودِيٌّ وَمُسْلِمٌ ، فَوَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا ، وَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو الأسْوَدِ أَنَّ رَجُلاً حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاذًا حَدَّثَهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : “الإسْلامُ يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ” ، فَوَرَّثَ الْمُسْلِمَ .
وأخرج الإمام أبو داود أيضاً في السنن : أَنَّ مُعَاذ بن جبل t أُتِيَ ـ وهو باليمن ـ بِمِيرَاثِ يَهُودِيٍّ وَارِثُهُ مُسْلِمٌ ، فورَّث المسلم ، وذكر الحديث بِمَعْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ r .
=3= وقيل : الكافر يرث من المسلم شريطة أن يُسلم قبل تقسيم التركة ترغيباً له في الإسلام . (وهذه رواية ثانية عن الإمام أحمد) .
ومستند أصحاب هذا القول : قوله r : “كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ لَهُ ، وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإسْلامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الإسْلامِ” . وهـو يدلّ على أنّ الكافر لو أسلم قبل قسم ميراث مورِّثه المسلم ، ورث منه .
=4= وقيل : المسلم يرث الكافر ، والكافر يرث المسلم بالولاء ؛ لقوله r : “لا يرث المسلم من النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته”.
أما توارث ملَّة الكفر من بعضهم : فكلّ ملَّة ترث نفسها .
ومفهوم قوله r : “لا يرث المسلم الكافر ..” : أنَّ الكفَّار يرث بعضهم من بعض .
ولكنّ السؤال :
س : هل يرث اليهودي من النصراني ؟ وهل يرث النصراني من المجوسيّ ؟
=1= الشافعية والحنفية : ملة الكفر مهما تعدَّدت فهي واحدة ؛ بدليل قول الله تعالى : ) فماذا بعد الحق إلا الضلال ( [يونس : 32] .
فالنصراني يرث اليهودي ، واليهودي يرث المجوسيّ ، .. إلخ ، بشرط اتحاد الدار . والله I يقول والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ( [الأنفال : 73] .
=2= المالكية قالوا : ملل الكفر ثلاث : يهودية ، ونصرانية ، وما عداهما من ملل الكفر فملة واحدة . فلا يرث اليهودي من النصراني ، ولا النصراني من اليهودي ، وما عداهما لا يرثون من اليهودي ولا النصرانيّ .
=3= الحنابلة قالوا : ملة الكفر ملل شتّى ، فلا يرث أهل كلّ ملة من أهل الملل الأخرى .
ودليلهم أنّ الله I دلّ على تعدّدهم بقوله عنهم ، وعن أهل الإيمان : ) إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة ..( [الحج : 17] ؛ فكلّ ملَّة ترث من ملَّتها ، ولا ترث من الأخرى . وعليه حملوا قوله r : “لا يتوارث أهل ملَّتين شتّى” .
من موانع الإرث المختلف فيها :
(1)= الارتداد :
المرتـدّ في اللغة هو : الراجع .
والردة معناها الشرعي : الرجوع عن الإســـلام إلى غيره ؛ وهو الكفر بعد الإسلام . قال الله تعالى : ) ولا ترتدوا على أدباركم ( [المائدة : 21] .
فالـردة إذاً : خروج المسلم عن دينه ، وإعلانه الكفر به ، وبتشريعه . والمرتدّ هو : الراجع عن الدين طوعاً .
ولا خلاف بين العلماء في أنّ المرتد لا يحجب غيره .
ولكن السـؤال : هل يرث من مورِّثه المسلم ؟ وهل يرث غيره منه ؟
= إرث المرتد :
س : هل يرث المرتدّ من مورِّثه المسلم ؟
=1= الجمهور (وهم الحنفية ، والمالكية ، والشافعية) ، قالوا بعدم توريث المرتدّ .
=2= الحنابلة : قـالوا بتوريث المرتدّ إذا أسلم قبل تقسيم التركة .
ولا منافاة بين القولين ؛ إذ المرتد الباقي على ردته لا يرث بإجماع علماء المسلمين .
= الوراثة من المرتدّ :
س : هل يرث غيره منه ؟
=1= الجمهور (وهم المالكية ، والشافعية ، والحنابلة) : قالوا بعدم توريث غيره منه ، وماله يعتبر فيئاً للمسلمين ، يُوضع في بيت المال ، سواء اكتسبه في حال إسلامه ، أو حال ردَّته ، وسواء كان ذكراً أو أنثى .
=2= الحنفية : قالوا بتوريث ورثته المسلمين ، على اختلاف فيما بينهم .
والراجح في مذهبهم : أنَّ المال الذي كسبه في حال الإسلام ، والذي كسبه في حال الردّة هو مال واحد ، ويرثه ورثته المسلمون . وهو قول أبي يوسف ، ومحمد من تلاميذ أبي حنيفة .
والمرجوح في مذهبهم : أنّهم فرَّقوا بين المال الذي كسبه الرجل الذكر في حال إسلامه ، والذي كسبه في حال ردّته ؛ فالذي اكتسبه في حال الإسلام يرثه ورثته المسلمون . أما الذي اكتسبه في حال الردَّة ، فلا يرثوه .
أمَّا المرأة المرتدة : فيرثها ورثتها المسلمون في كلّ الأحوال . وهو أحد قولي أبي حنيفة رحمه الله .
من موانع الإرث المختلف فيها :
(2) = اختلاف الدار :
وهذا يكون بين غير المسلمين ؛ إذ ” لا خلاف بين العلماء في أنّ المسلمين مهمـا تباينت أوطانهم ، وتعدّدت ممالكهم ، وتميّزت حدود دولهم بعضها عن بعض ، فهم أبناء وطن واحد ، تجمعهم راية الإسلام ، ووحدة تشريعه ونظامه ؛ فالمسلم العربي يرث من المسلم الباكستاني أو التركي ، كما لو كانا من بلدة واحدة ؛ لأنّ من مبـادئ الإسلام أنّ الوطن الإسلامي وطن واحد ، وأنّ المسلمين أمة : ) وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة ( [الأنبياء : 92] ، ) إنّما المؤمنون إخوة ( [الحجرات : 10] . ولا خلاف بين العلماء أيضاً في أنّ المسلم يرث من المسلم ، ولو كان أحدهمـا تحت سـلطة الأعـداء ، أو من رعية دولة غير إسلامية ؛ فالمســلم العربي يرث من قريبه المسلم الأمريكي ، أو الإنكليزي ، أو الروسي ؛ لأنّ ولاية المســلم للإســلام ، مهما اختلفت جنســــيته وقوميته . أمَّـا غير المسلمين : فإن كانوا من رعايا دول إسلامية ، توارثوا فيما بينهم ، ولو تميَّزت حدود هذه الدول بعضها عن بعض” ؛ فالنصراني السوري يرث من النصراني المصري أو الإيراني .
أما إن كان أحدهما من رعايا دولة إسلامية ، والآخر من رعايا دولة غير إسلامية ، فلا توارث بينهما لاختلاف الدار .
والمراد باختلاف الدار : اختلاف المنعة ، والحوزة (الحدود) ، والسلطان ، والملك . وبتعبير العصر الحاضر : اختلاف الجنسيَّة .
س : هل يُعتبر اختلاف الدار مانعاً من موانع الإرث بين غير المسلمين ؟
=1= الحنابلة والمالكية : لا يعتبرونه مانعاً من موانع الميراث ؛ لعدم ورود نص فيه ؛ فالرسول قال : “لا يتوارث أهل ملتين شتى” ، وهؤلاء ملة واحدة ؛ فلا يمنع اختلاف الدارين من الإرث بينهم .
=2= الشافعية والحنفية : يُعتبر مانعاً .
س : ما العلة في اعتبارهم اختلاف الدار من موانع الإرث ؟
ج : قالوا : لانعدام النصرة والتآزر بين المتوارثين .
وقد قسَّموا هذا الاختلاف إلى ثلاثة أقسام :
=1= اختلاف الدارين حقيقة وحكماً ؛ كالحربي المقيم في بلده ، بالنسبة لقريبه الذمِّي المقيم في بلاد الإسلام .
مثال : نصراني أمريكي ، له أخ نصراني سوري ، وكلّ واحد منهما يُقيم في دولتـه ، (فلا توارث بينهما لاختلاف الدار) ؛ فهذا السوري ذمِّي في دار الإسلام ، وقريبه الأمريكي حربي في دار الحرب ، والعصمة بين البلدين منقطعة ، والاختلاف بين الدارين موجود حقيقة وحكماً .
=2= اختلاف الدارين حكماً لا حقيقة ؛ كالذمِّي الذي يعيش في بلد الإسلام ، بالنسبة لقريبه المستأمن الذي دخل بلاد الإسلام بأمان ، ليعيش فيها فترة من الزمن ؛ فإنَّهما في دار واحدة حقيقة ، من جهة أنّهما يعيشان في دار الإسلام وقت وفاة أحدهما ، لكنهما من حيث المعنى والحكم في دارين مختلفين ؛ لأنّ المستأمن لا تزول جنسيته عنه بإقامته المؤقتة في بلد المسلمين ، وهو من أهل دار الحرب حكماً لتمكنه من الرجوع إليها، بينما قريبه الذمي يعتبر من دار المسلمين .
مثال : نصراني ألماني مقيم في سوريا ، وله أخ نصراني سوري يعيش في سوريا أيضاً .
=3= اختلاف الدارين حقيقة لا حكماً ؛ كالمستأمن الذي دخل بلاد المسلمين بأمان ، وهو من دار الحرب ، بالنسبة لقريبه الذي يعيش في دار الحرب ؛ فإنّ الدار مختلفة وقت وفاة أحدهما حقيقة ، لكنها لا تختلف في الحكم ؛ نظراً إلى أنَّ المستأمن على وشك الرجوع إلى وطنه الأصلي ، وهما من دار واحدة حكماً .
مثال : نصراني روسي دخل بلاد المسلمين مستأمناً ، وله أخ روسي يُقيم في دار الحرب .
ففي الحالتين الأوليين يمتنع الإرث ، وفي الحالة الثالثة لا يمتنع .
اترك تعليقاً