بحث قانوني ودراسة عن دور الطب الشرعي في التكييف القانوني للوقائع:
إن للطب الشرعي دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة على تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية وسنتناول فيما يلي هذه المواضيع بشيء من التفصيل.
1 – الوفاة:
– يعرف الموت على أنه توقف الأعمال الحيوية للجسم المتمثلة في التنفس ودوران الدم وعمل الجهاز العصبي، فيصبح من غير الممكن إعادة هذه الأجهزة للعمل بشكل تلقائي، وغالبا ما تكون الوفاة طبيعية من دون عنف ناتجة عن كبر أو مرض، وقد تكون نتيجة عنف من دون أن يكون هذا العنف عمل إجرامي كالحادث ( Accident ) أو نتيجة انتحار الشخص أي وضع الشخص حد لحياته بصفة إرادية، وقد تكون نتيجة عمل إجرامي.
– العمل الإجرامي قد يكون ظاهرا وتسهل معاينته على الجثة كالذبح وبعض الجروح العميقة كما قد يكون غير ظاهرا كالتسمم والجروح الداخلية، وللطبيب الشرعي دور كبير في تحديد أسباب وظروف الوفاة، وبالتالي له دور في التأثير على تحريك الدعوى العمومية وتوجيهها في حالة الوفاة و لما كان الأمر كذلك نصت المادة 62 من قانون الإجراءات الجزائية على أنه في حالة العثور على جثة شخص وكان سبب الوفاة مجهولا أو مشتبها فيه سواء كانت الوفاة نتيجة عنف أو بغير عنف ينتقل وكيل الجمهورية إلى المكان إذا رأى لذلك ضرورة ويصطحب معه أشخاصا قادرين على تقدير ظروف الوفاة.
– الأفعال الإجرامية التي تسبب الوفاة قد تشكل جريمة القتل العمدي المنصوص عليها في المادة 254 من قانون العقوبات وهو إزهاق روح إنسان عمدا أو قد تشكل جريمة القتل الخطأ المنصوص عليها في المادة 288 من قانون العقوبات أي دون توافر نية القتل عند الفاعل بل يتسبب في ذلك نتيجة رعونة أو عدم احتياط أو عدم انتباه أو عدم مراعاة الأنظمة، وقد تقترف جريمة القتل العمدي بسبق الإصرار أو الترصد (المادة 255 من قانون العقوبات)، وقد يكون الفعل الإجرامي ضربا وجروحا عمدية أدت إلى الوفاة دون قصد إحداثها (المادة 264/4 من قانون العقوبات)، وقد يكون ضحية القتل أصول الفاعل أو طفلا حديث العهد بالولادة (المادتين 258 و 259 من قانون العقوبات).
كما قد يكون الفعل الإجرامي المسبب للوفاة هو التسمم والذي لا يمكن كشفه بالعين المجردة، وعرف التسمم في المادة 260 من قانون العقوبات على أنه اعتداء على حياة إنسان بتأثير مواد يمكن أن تؤدي إلى الوفاة عاجلا أو آجلا وتعتبر الجريمة تامة حتى وإن لم تحدث الوفاة.
– في الحالات المذكورة أعلاه فإن الخبرة الطبية الشرعية تساعد في تشخيص الجريمة وتحديد التكييف القانوني وذلك استنادا إلى معطيات موضوعية يستنتجها الطبيب الشرعي بفحص المكان الذي وجدت فيه الجثة، وبفحص الجثة وفتحها ومعاينة الجروح وعددها، ومواضعها مما قد يساعد على معرفة سبب الوفاة إن كان قتلا أو انتحارا ومعرفة النية الإجرامية للقاتل واستنتاج عنصر الإصرار كما أن التحاليل المخبرية المتممة قد تساعد في إقامة الدليل العلمي عما سبب الوفاة وكشف جرم التسمم مثلا ومن ثمة تحريك الدعوى العمومية.
2 – الجروح:
– الجروح هي انفصال في الجسم نتيجة عنف أو صدام وتشمل من الناحية القانونية كذلك الكدمات والسحجات والكسور والحروق، والجروح قد تكون بسيطة وتلتئم خلال بضعة أيام وقد تكون خطيرة تطول مدة التئامها وقد تتسبب في عاهات دائمة كما قد تكون الجروح مميتة، والجروح من الوجهة الطبية الشرعية تختلف حسب الوسائل المستعملة في إحداثها وتتمثل في:
– السحجات ( erosion . excoriation . egratignure ): التي تحدث نتيجة احتكاك الجلد بسطح خشن مما يؤدي إلى تلف الطبقة الخارجية وتختلف السحجات حسب مسبباتها (أظافر، حبل، اصطدام).
– الكدمات ( echymoses ): وتتمثل في تمزق الأوعية الدموية، والأنسجة تحت الجلد وتسببها أداة صلبة.
– الجروح الرضية ( plaies contuses ): ويصاحب هذا النوع من الجروح انكسار في العظام وتمزق في الأحشاء وينتج عن الاصطدام بجسم صلب ( حوادث السيارات، السقوط ) أو بسبب التمدد المفرط.
– الجروح بأداة قاطعة المفتوحة ( plaies par instruments tranchants ): وتسببها أداة قاطعة ( سكاكين، قطع الزجاج ).
– الجروح الطعنية ( plaies par instruments tranchants-piquants ): وتسببها آلة ذات رأس مدبب وقاطع في نفس الوقت أو دون أن يكون قاطعا وتسمى جروح وخزية.
– الكسور ( Fractures ): التي هي من الناحية القانونية جروح.
يظهر مما تقدم أن الجروح تختلف حسب الأداة المستعملة لإحداثها كما تختلف عواقب الجروح المحدثة في جسم الإنسان وتبعا لذلك تختلف العقوبات التي يفرضها القانون على مسبب الجروح وإن تشخيص الطبيب الشرعي للجروح وتحديد نسبة العجز يؤثر بصفة مباشرة على التكييف القانوني وعلى نوع الجريمة، أي مخالفة أو جنحة أو جناية حسب التقسيم العام للجرائم الوارد في المادة 27 من قانون العقوبات.
ونصت الفقرة الثالثة من المادة 264 من قانون العقوبات على عقوبة جنائية في حالة ما إذا أدت أعمال العنف إلى فقد أو بتر إحدى الأعضاء أو الحرمان من استعماله أو فقد البصر أو فقد أبصار إحدى العينين أو أية عاهة مستديمة أخرى، وإن الاجتهاد القضائي يعتبر العاهة الدائمة هو فقد أي عضو أو فقد منفعته جزئيا أو كليا.
ويستعين القضاء بالأطباء لإثبات وجود العاهة وتحديد نسبة العجز الجزئي الدائم بالرجوع إلى مقدار النقص الوظيفي الذي تركته العاهة الدائمة.
ويتابع بجنحة الجروح الخطأ المتسبب للغير برعونته أو عدم احتياطه في مدة عجز مؤقت عن العمل تتجاوز ثلاثة أشهر (المادة 289 من قانون العقوبات)، ويتابع بجنحة الضرب والجروح العمدية من أحدث عمدا جروحا للغير تسبب له مدة عجز مؤقت عن العمل تزيد عن 15 يوم (المادة 264/1 من قانون العقوبات).
– وتعد مخالفة إذا كانت مدة العجز تساوي أو تقل عن 15 يوم بشرط أن لا يكون هناك سبق إصرار أو ترصد (المادة 442/1 من قانون العقوبات)، فإذا كان هناك سبق إصرار أو ترصد أو حمل أسلحة فإن المتسبب في جروح للغير يتابع بجنحة بغض النظر عن مدة العجز (المادة 266 من قانون العقوبات).
3 – الإعتداءات الجنسية:
– لقد نص قانون العقوبات على جريمة هتك العرض ( [1]) في المادة 336 من قانون العقوبات ومن عناصر جريمة هتك العرض وقوع الجماع بإدخال العضو التناسلي في فرج الضحية، ونص على الفعل المخل بالحياء في المواد 334 و 335 من قانون العقوبات والفعل المخل بالحياء قد يكون بعنف ضد بالغ أو قاصر أو دون عنف على قاصر، وقد يكون ضد ذكر أو أنثى.
– في مثل هذه الجرائم كثيرا ما يطلب من الطبيب الشرعي فحص الضحية لبيان صحة وقوع الاعتداء وبالتالي قيام الجريمة، وهكذا في جريمة هتك العرض (الاغتصاب) فإن تمزق غشاء البكارة عند وجوده وما يرفق ذلك من نزيف دموي هو العلامة الرئيسية التي تساعد على تشخيص هتك العرض ولو أن غشاء البكارة لا يتمزق دائما عند الإيلاج كما قد يترافق هتك العرض أو الفعل المخل بالحياء بدفق منوي سواء في مهبل المرأة أو على ثياب وجلد الضحية، ويبحث الطبيب الشرعي كذلك على علامات عامة ناتجة عن مقاومة الضحية للفاعل، ونستدل على عدم رضا الضحية بظهور هذه العلامات على شكل كدمات أو سحجات أو خدوش، كما أن الوطء الشرجي يترك علامات تدل على إيلاج القضيب في الشرج.
– إن فحص الطبيب الشرعي للضحية وبحثه عن العلامات المذكورة أعلاه يساعد في إثبات الركن المادي للجريمة بإقامة الدليل العلمي وقد يطلب من الطبيب تشخيص الحمل الذي يدل على وقوع الفعل الجنسي، وفي حالات أخرى فإن تشخيص الوضع وتقدير المدة التي مضت على الولادة قد يهم القضاء، وقد يحدث وأن تجهض المرأة وتتخلص من محصول الحمل دون سبب صحي وهي جريمة معاقب عليها ( المواد من 304 إلى 310 من قانون العقوبات ).
– وتشخيص الإجهاض قد تكون نقطة الإنطلاق لكشف جرائم جنسية إذ أن الضحية لا تتقدم دائما بشكوى في مثل هذه الجرائم فقد تكون قاصرة والإجهاض هنا هو الدليل على وقوع الفعل الجنسي، كما قد يساعد في كشف جرائم جنسية أخرى كالفواحش (المادة 337 مكرر من قانون العقوبات ).
اترك تعليقاً