بحث قانوني ودراسة قيمة حول صور رد الفعل العقابي
تمهيد وتقسيم :
تحديد صور رد الفعل العقابي ، هو بيان لأنماط الجزاء الجنائي واجبة التطبيق كأ ثر قانوني لازم عند وقوع الفعل الإجرامي وثبوت الإدانة من قبل القاض ي الجنائي حال أداءه لدوره في مرحلة المحاكمة . وكما سبق وأن أوضحنا في الصفحات السابقة أن تطور الفكر الجنائي قد كشف عن ظهور نوعين من الجزاءات الجنائية ، ه ما العقوبة والتدابير الاحترازية . والأولى أسبق في الظهور من الثانية ، هذه الأخيرة التي ظهرت على يد المدرسة الوضعية ومع ابتداع فكرة الخطورة الإ جرامية. وعلى هذا فليس صحيحا الربط بين الجزاء الجنائ ي – رد الفعل العقابي – وبين العقوبة. فالعقوبة وإن كانت جزاء جنائيا ً ظل لحقبة طويلة بمثابة ا لأثر القانون ي المباشر للجريمة ، إلا أن كل جزاء ليس بالضرورة ي شكل عقوبة جنائية ، فهناك التدابير كصورة أخرى لرد الفعل العقاب ي . وبذا أصبح مبدأ ازدواج العقوبات والتدابير هو السمة المميزة للسياسة الجنائية المعاصرة .
ولما كانت العقوبة الجنائية هى أخطر الجزاءات وهى ا لأثر الحتمي والمباشر للجريمة – فلا جريمة بدون عقوبة – فإننا سوف نشرع في دراستها من خلال الفصل الأول ، قبل أن ننتقل بالدراسة إلى التدابير الاحترازية في الفصل الثان ي .
الفصل الأول
العقوبة الجنائية
5- تمهيد وتقسيم :
العقوبة La peine جزاء يوقع باسم المجتمع ، حماية له وضمان لمصلحته ، وهى جزاء ي ت ناسب مع جسامه الواقعة الإجرامية ومقدار الخطيئة وا لإ ثم إعمالا لمبادئ العدالة. وعلى هذا فالعقوبة ضرورة حتمية تفرضها اعتبارات حماية النظام العام السياسي والاقتصاد ي والاجتماع ي . ولبيان العقوبة كجزاء جنائ ي فإننا سوف نقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث نحدد فيها على التو ا لى جوهر العقوبة وأغراضها ، ثم بيان ضماناتها ، ثم بيان أقسامها ، و أخيرا ً بيان الإشكاليات المتصلة بتطبيق بعض العقوبات خاصة الإعدام والعقوب ات السالبة للحرية [4].
المبحث الأول جوهر وأغراض العقوبة الجنائية
6- أولا : جوهر العقوبة الجنائية :
يقرر الفقه التقليد ي أن العقوبة ، هى جزاء يقرره القانون ويوقعه القاض ي من أجل الجريمة على من يثبت إدانته ومسئولية [5]. غير أن هذا التعريف لا يكفل في حقيقة الأمر بيان ذاتية وجوهر العقوبة الجنائية ، لذا فإننا نميل إلى تعريفها بأنها ” إيلام مقصود وحتم ي للجريمة ويتناسب معها” [6]. وعلى هذا فإن جوهر العقوبة ينصرف إلى ثلاث ة عناصر :
7- أ : العقوبة الجنائية كإيلام مق ص ود :
إن أول ما يميز العقوبة الجنائية هو أنها جزاء ينطو ي على إي لام . ولا يقصد بالإيلام امتهان كرامة و إنسانية وأدمي ة المحكوم عليه بهدف إذلاله وتحقيره من الناحية الاجتماعية. إنما يقصد بالإيلام توجيه اللوم للمجرم عما اقترفه من سلوك إجرام ي ، من خلال الم س اس بأحد حقوقه اللصيقة بالشخصية ، إما إلغاء ً أو انتقاصا ً ، ب ف رض بعض القيود على استعمال هذه الحقوق.
فقد ينصرف الإيلام إلى سلب المجرم حقه في الحياة باعتباره أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية . وهذا هو الإيلام البدن ي . كما قد ينصب الإيلام على حق الإنسان في الحرية ، من خلال فرض العقوبات السالبة أو المقيدة للحرية ، وهذا هو الإيلام المعنو ي . وقد ينصب الإيلام على حق الإنسان في التملك بحرمانه من جزء من أموال ه لصالح الد و لة ، كما هو الحال في عقوبة الغرامة والمصادرة ، وهذا هو الإيلام الماد ي . كما قد ي م س الإيلام بحقوق أخرى كالحق في تول ي الوظائف العامة أو الترشيح لعضوية المجالس النيابية.
ولا يعنى أن الإيلام مقصود في العقوبة ، أنه يكون مقصود لذاته ، ولكنه مقصود من أجل تحقيق أغراض مفيد ة كالردع والإصلاح. ويرتهن تطبيق العقوبة وتنفيذها على نحو سليم باستظهار هذه الأغراض والاجتهاد في توجيه العقوبة نحو تحقيقها. وعلى هذا النحو فإن الإيلام لا يصيب المحكوم عليه عرضا ً ، وإنما يقصده الشارع والقاض ي والمكلف بالتنفيذ [7].
ولا يتوقف هذا الإيلام على إرادة المحكوم عليه ، بل يتحقق كرها ً عنه ، مما يعط ي للعقوبة أعلى درجات الألم. وهو إ يلام نسبى ويقدر بمعيار موضوع ي قوامه الشخص العاد ي ، فقد لا يتوافر الإيلام لدى البعض ممن اعتادوا الجريمة والعقوبة [8] . وعلى هذا الأساس لا تختلط العقوبة ب غيرها من الإجراءات التي و إ ن أحدثت بعض الألم لدى من توقع عليه ، إلا أن هذا الألم ليس مقصود ولا يستهدف من وراءه ردع ولا إ صلاح ، ومثال ذلك إجراءات التحقيق والمحاكمة ، حتى و إ ن اتخذت صورة القبض أو الحبس الاحتياط ي .
8- ب : العقوبة الجنائية كأثر حتم ي للجريمة :
لا يتصور إنزال الجزاء الجنائ ي ، في صورة العقوبة الجنائية ، إلا كأثر لاحق ومرتبط بسلوك إجرام ي سبق تحديده سلفا ً من قبل المشرع. بمعنى أخر ، أن إيلام العقوبة لا يجوز إنزاله إلا على من أخل بأمر أو نه ي تحدده القاعدة التجريمية. وهذا أهم ما يميز العقوبة عن غيرها من الإجراءات التي قد تتخذها الدولة قبل وقوع الجريمة.
وليس معنى الأثر الحتمي ارتباط العقوبة الجنائية بالجريمة كواقعة مادية أو بالمظهر الشكل ي المتعارض مع القاعدة الجنائية ، ولكن هذا ا لأ ثر الحتم ي لا يتحقق إلا بعد إعمال قواعد تقيمية لهذا السلوك وثبوت توافر رابطة نفسية معينة بين السلوك الإجرام ي والنت ي ج ة ال ض ا رة الناشئة عنه ، سواء في صورة القصد أو ا لاه مال (الخطأ الجنائي بالمعنى الواسع) . بمعنى أخر ، ضرورة توافر عنصر الإذناب أو الإثم. وعلى ذلك فإن ما يطبق من إجراءات على بعض أنماط السلوك الضار الذي لا يتوافر بشأنه قصد ولا إ ه ما ل لا يمكن عده عقوبة ، وإن اعتبرت هذه الإجراءات من قبيل التدابير اللاحقة التي ت ن م عن وجود حالة إجرامية خطرة لم ترقى بعد إلى درجة الجريمة متكاملة الأركان.
9- ج : العقوبة الجنائية كأثر متناسب مع الجريمة La proportionnalité :
إن اشتراط التناسب بين العقوبة الجنائية والجريمة يضمن أن تكون العقوبة عادلة ومحققة لوظيفتها في المجتمع. وعبء تحقيق هذا التناسب يقع على عاتق المشرع ، الذي عليه عند وضع العقوبة أن يراع ي توافقها كما ً ونوعا ً مع جسام ة الواقعة الإجرامية كسلوك ونتيجة ضارة ، وكذلك توافقها مع درجة الإثم الجنائ ي – أو ما يسمى بالركن المعنو ي للجريمة – حال ارتكابه للسلوك ا لإ جرام ي. ودون التنسيق بين هذين الأمرين (جسامة الواقعة ودرجة الإثم أو الخطأ) لا يمكن ضمان التطبيق السليم والعادل للعقوبة [9]. وه ذا ما يسمى بالتفريد التشريع ي L’individualisation législative . وعدم قيام المشرع بهذه المهمة عند وضع النص الجنائي قد يصم هذا النص فيما بعد بعدم الدستورية. وهذا ما أكدته محكمتنا الدستورية العليا في حكمها الصادر في 3 فبراير 2001 بقولها “إن المتهمين لا تجوز معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحة تجمعهم لتصبهم في قالبها ، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها. وتقرير استثناء تشريعي من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم ن وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها ، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها والظروف الشخصية لمرتكبها” [10].
وقد يترك المشرع أمر مراعاة هذا التناسب للقاض ي نفسه ، بعد وضع الضوابط الخاصة به. ومثال ذلك أن يضع المشرع أمام القاض ي عقوبة تدور بين حد أقصى وحد أدنى تاركا ً له الخيرة بحسب جسامة الواقعة ودرجة الخطأ الجنائي أو يجيز له الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها. وه ذا ما يسمى بالتفريد القضائ ي [11] L’individualisation judiciaire .
بل لا نشك في أن كل قيد يوضع من قبل المشرع علي سلطة القاضي في التفريد يكون مشوباً بعدم الدستورية. وعلى هذا تؤكد المحكمة الدستورية في حكمها سابق الذكر بقولها “لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً…وكان من المقرر أن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطتان بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها على ضوء دوره فيها ، ونواياه التي قارنتها ، وما نجم عنها من ضرر ، ليكون الجزاء موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك ، وكان تقدير هذه العناصر جميعها داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية ، فإن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة…مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة ، ولا يكون إنفاذها إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال ، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل” [12].
10- ثانيا : التمايز بين العقوبة والجزاءات الأخرى المترتبة على الجريمة :
11- تمهيد :
لقد أشرنا في أكثر من موضع سابق – وس نشير إليه تفصي لاً بعد قليل – أن العقوبة تتمايز عن التدابير الاحترازية ، التي يكون مبنى توقيعها الخطورة الإجرامية وليس الفعل الإجرام ي ولا الخطأ الجنائ ي كما هو الحال في العقوبة .
وعلى هذا فسوف نكتفي في هذا الموضع ببيان الأوجه التي تميز العقوبة الجنائية عن غيرها من الجزاءات المعروفة في فروع قانونية أخرى ، كالتعويض المدن ي والجزاء التأديب ي ، والتي قد ت ت رتب أحياناً على وقوع الجريمة.
12- أ : العقوبة الجنائية والتعويض المدني :
تشترك العقوبة الجنائية مع التعويض المدن ي في أن كل من الصورتين يعد جزا ء. وقد يتماثلا من حيث الشكل إذا اتخذت العقوبة الجنائية صورة الغرامة أو المصادرة ، فيكون كلاهما انتقاص من الذمة المالية للمحكوم عليه. وفيما عدا ذلك فإن كلا الجزاءين يتباعدان على النحو التالي :
*- العقوبة الجنائية جزاء شرع من أجل الجريمة ، أما التعويض المدن ي فجزاء شرع من أجل تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة ، باعتبار أن هناك التزام مدن ي يقع على عاتق مرتكب الفعل الخاطئ بتعويض المضرور من هذا الفعل عما أصابه من ضرر . فتقض ي قواعد المسئولية التقصيرية أن “كل خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض” (م 163 مدني مصري و م1382 مدني فرنسي ). ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا توقع إلا على فعل تكامل له وصف الجريمة بأركانها المادية والمعنوية ولو لم ينشأ عنها ضرر (إلا إذا كان الضرر ركن فيها وفق ما ي حدده المشرع). أما التعويض المدن ي فلا يحكم به إلا إذا سبب الفعل ضرر في جميع الأحوال ، حتى ولو لم يكون هذا الفعل مكون لجريمة من الناحية الجنائية [13].
*- لا يتماثل الغرض من العقوبة الجنائية مع الغرض من التعويض المدني . ففي العقوبة الجنائية – حتى لو اتخذت صورة الغرامة – يكون الغرض هو تحقيق وظيفة اجتماعية ، هى مكافحة الجريمة عن طريق إيلام المجرم ، وتحقيق غرض نفعي هو الردع العام والخاص. بينما يقتصر الغرض في التعويض المدني على إعادة التوازن بين الذمم المالية بعد أن أخل به الفعل الخاطئ والضرر الناجم عنه [14] . ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا يجوز توقيعها إلا على مرتكب الجريمة شخصياً – عملاً بمبدأ شخصية العقوبة – في حين أن التعويض المدني يمكن أن يقضى به في مواجهة المسئول عن الحقوق المدنية ، ولو لم يكن هو مرتكب الفعل الخاطئ الضار. ومن هنا كانت العقوبة تتناسب مع شخص الجاني بخلاف التعويض المدن ي فإنه يتناسب مع عنصر الضرر الناشئ عن الفعل غير المشروع ولا يرتبط ب الخطأ وجسامته ولا بشخص مرتكبه [15] .
*- العقوبة الجنائية دائما ذات طبيعة قضائية ، لا تتقرر إلا بحكم قضائي أو ما يقوم مقامه ، كما في حالة الأمر الجنائي . أ ي أن العقوبة تستوجب دائما تدخل سلطة عليا بعيداً عن أطراف الجريمة (الجاني – والمجني عليه). أما التعويض المدن ي كما يمكن أن يتقرر بحكم قضائي – صادر عادة من المحكمة المدنية – يمكن أيضاً أن يتقرر باتفاق الأطراف (المخطئ والمضرور) دون الالتجاء إلى المحاكم ، أي عن طريق ما يمكن أن نسميه الأداء الاختياري للحق المدني. فإذا ما نشأ الفعل الضار عن جريمة أمكن للمضرور أن يلتجأ إلى القضاء الجنائ ي بدعواه المدنية – بالتبعية للدعوى الجنائية – التي تتكفل النيابة العامة (سلطة الاتهام) بمباشرتها.
*- تتعدد العقوبة الجنائية – ومنها الغرامة – بتعدد الجناة في الجريمة. في حين أن التعويض المدن ي عن الضرر لا يقضى به إلا مرة واحدة حتى ولو تعدد المشتركون في الفعل الضار أو المسئولون عنه. وقد يتضامن هؤلاء في أداء التعويض المقض ي به ، بحيث إذا أداة أحدهم ب ر أت ذمة الباقين منه. ومن الممكن أن يلزم الحكم كل مسئول بنصيب من التعويض يتناسب مع مدى ما صدر عنه من خطأ أو ما سببه من ضرر [16].
*- لما كانت العقوبة الجنائية تهدف إلى تحقيق وظيفة اجتماعية ، لذا فإن المطالبة بتوقيعها أصبحت حكراً على النيابة العامة (سلطة الاتهام) بوصفها ممثلة للمجتمع وتنوب عنه ولا يشاركها في ذلك أحد ، حتى المضرور الذي يباشر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائ ي ، الذي لا يحق له إلا المطالبة بالتعويض المدن ي دون العقوبة الجنائية. لذا فإن هذا الأخير – المضرور أو المدعى المدني – حينما يخسر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائ ي لبراءة المتهم فإنه لا يحق له الطعن إلا على الشق المتعلق برفض التعويض المدن ي . أما الطعن على حكم البراءة فيظل حقا للنيابة العامة كممثل وحيد للمجتمع. فالإنابة لا تتصور في المطالبة بتوقيع العقوبة الجنائية ، في حين أن الإنابة جائزة في المطالبة بالحقوق المدنية (التعويض). فضلا عن أن التنازل عن المطالبة بتوقيع العقوبة أمر – بحسب الأصل – غير جائز لتعلقه بحقوق المجتمع على عكس التعويض المدن ي .
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية تنفذ جبراً على المحكوم عليه ، ويجوز تعليق تنفيذها على شرط (أو ما يسمى عملاً إيقاف التنفيذ) ، وقد تسقط بأسباب متعددة منها التقادم والعفو ، وقد يرد الاعتبار قانونيا أو قضائيا عن الأحكام الصادرة بعقوبة جنائية. أما التعويض المدن ي فيخضع في تنفيذه للأحكام خاصة يضمها قانون المرافعات المدنية والتجارية والقوانين المتفرعة عنه. وقد يجرى هذا التنفيذ اختياراً باتفاق أطرافه دون جبر ، وقد يلجأ في تنفيذه إلى وسائل جنائية كالإكراه البدني. كذلك فإن التعويض المدن ي يسقط الحق فيه بآجال وأسباب يحددها القانون المدن ي تبعد عن أسباب سقوط العقوبة الجنائية.
13- ب : العقوبة الجنائية والجزاء التأديبي :
تتفق العقوبة الجنائية مع الجزاء التأديب ي (كاللوم – والتنبيه – والخصم من المرتب – والفصل عن الخدمة … الخ) في أن كلاهما يرتبط بمبدأ شخصية الجزاء ، فلا يوقعان إلا على المسئول عن الجريمة الجنائية أو الجريمة التأديبية. كما يتفقان في أن كلاهما يرم ي إلى تحقيق الردع عن نوع معين من المخالفات (الخروج على أوامر ونواهي القانون الجنائي والقانون الإداري). كما قد يوقع الجزاء التأديب ي كأثر ملازم للعقوبة الجنائية ، كما هو الحال في عزل الموظف المحكوم عليه بعقوبة جناية وجوباً (م25 عقوبات).
وفى غير ذلك يختلف كلا الجزاءين بعضهما عن الأخر على النحو التالي :
*- تخضع العقوبة الجنائية لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يوجب الحصر المسبق للأفعال الغير مشروعه أو المجرمة والتي يستحق عنها العقاب. هذا الحصر لابد وأن يكون محدداً بوضوح لا لبس فيه وبألفاظ لا تعوزها الدقة. أما الجزاء التأديب ي فهو وإن كان محدد في اللوائح والقوانين إلا أن الأفعال التي يطبق بشأنها هذا الجزاء تبقى غير محددة. إذ يغلب على المخالفات التأديبية أن ت ت حدد وفق معيار عام مرن وفضفاض مثل الإخلال بواجبات الوظيفة أو الخروج على مقتضيات المهنة …الخ [17].
*- لا ينال الإيلام الناشئ عن الجزاء التأديب ي إلا من المركز الوظيف ي للشخص شاغل هذا المركز (كتوقيع التنبيه أو الإنذار أو الخصم من المرتب أو تأخير أو الحرمان من العلاوة أو تأخير الترقية أو الحرمان منها أو الوقف عن العمل أو الفصل من الخدمة…الخ). بينما تنال العقوبة الجنائية من حقوق متنوعة كما سبق وأن أسلفنا ، كالحق في الحياة ، أو في الحرية ، أو الحق في التملك ، أو الحق في الشرف والاعتبار…الخ.
*- إذا كانت العقوبة الجنائية تتقيد بمبدأ القضائية ، أي عدم جواز توقيعها إلا بحكم قضائ ي ، فإن الجزاء التأديب ي لا يتقيد بهذا الأمر . فقد يصدر هذا الجزاء ع ن محكمة وقد يصدر بقرار من سلطة تأديبية رئاسية.
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية – بحسب الأصل – ذات تطبيق عام على كافة المواطنين المتواجدين على إقليم الدولة ، متى قام أحدهم بانتهاك قاعدة من قواعد قانون العقوبات. بينما لا يتعلق الجزاء التأديب ي ولا يثبت إلا بشأن فئة معينة من الأفراد يخضعون لنظام تأديب ي معين ، كما هو الحال بشأن الموظفين العموميين. فالجزاء التأديبي محدود من حيث نطاق تطبيقه الشخص ي .
14- ثالثا : أغراض العقوبة الجنائية :
15- تمهيد :
كشف لنا استعراض الفلسفات التي كانت وراء الحق في العقاب وبيان سلطة الدولة في توقيعه ، أن هناك تطوراً قد لحق أغراض العقوبة الجنائية Les finalités de la peine تبعا للتطور الفكر ي والاجتماع ي الذي شهدته المجتمعات.
ولقد استبان لنا أن أغراض العقوبة تنوعت بين ثلاث ة اتجاهات : اتجاه موغل في القدم ، يرى في العقوبة غرض اً انتقامي اً (سواء أكان انتقام فردى أو جماعي) ، ثم اتجاه لاحق دعمت ظهوره الأفكار المسيحية الكنسية ، يرى في العقوبة غرضاً تكفيرياً. ثم ظهر الغرض النفع ي كمرحلة ثالثة في القرن الثامن عشر على يد مفكر ي هذا العصر أمثال مونتيسكيو وروسو وبيكاريا وبنتام. واقتصر هذا الغرض عند مفكر ي المدرسة التقليدية الأولى على تحقيق الردع العام ، ثم أصبح تحقيق العدالة هدف يضاف إلى الردع العام عند أنصار المدرسة التقليدية الثانية أو الجديدة. وفى مرحلة رابعة أعيد للردع العام أهميته مرة أخرى وغلب كغرض للعقوبة الجنائية لدى مدارس الوسط التوفيقية. إلى أن استقر الأمر بإعلاء الهدف التأهيل ي والإصلاح ي للمجرم ، كأسمى أهداف العقوبة مجتمعه عند أنصار حركة الدفاع الاجتماعي الجديد وعند أنصار النيوكلاسيكية المعاصرة ، الذين يرون أن هذا الهدف الإصلاح ي يمكن تحقيقه إلى جانب الردع والزجر بشقيه العام والخاص. فالردع يتحقق من مجرد النطق ب العقوبة من قبل القاضي ، أما الهدف أو الغرض الإصلاحي أو التأهيلي فيمكن تحقيقه في مرحلة التنفيذ وداخل المؤسسة العقابية.
على أنه لا يجب أن نفهم أن هذه المراحل تظل منفصلة بعضها عن الأخر. فلا يعنى الاهتمام بالانتقام كغرض للعقوبة في المراحل الأولى للإنسانية أن التكفير أو الردع لم يكن هدفاً. كما أن ظهور الدولة وتسيدها لتوقيع العقاب لم يلغ أبداً فكرة الانتقام والتكفير . والدليل على ذلك أنه إلى وقت قيام الثورة الفرنسية كانت العقوبات تتسم بالوحشية انتقاماً من الجاني وتشفياً فيه. وحتى مع ظهور المسيحية وظهور المحاكم الكنسية ، ظل المجتمع المدني (المحاكم غير الدينية) يطبق العقوبات الوحشية التي كانت تتعدى كثيراً الجاني وتمتد إلى أهله وأحيانا إلى الحيوانات وجثث الموتى. كما لا يمكن القول أن ظهور الغرض النفع ي ، خاصة مع ظهور أفكار بيكاريا ، كان جديداً تماما في الفقه . فلقد عرفته المجتمعات القديمة ذات الطابع الانتقام ي في العقاب عندما أرادت التخفيف عن غلواء هذا الطابع عن طريق اعتماد نظام الدية الاختيارية ثم الإجبارية فيما بعد . فهذا الإقرار بمبدأ الدية أريد به تغليب المنفعة على شهوة الانتقام.
وبالجملة فإن تقسيم أغراض العقوبة – بحسب المراحل التاريخية – هو تقسيم تحكم ي. فتلك الأغراض متداخلة في كل العصور ، ولم يكن الهدف من التقسيم التاريخ ي إلا التبسيط وإبراز لعلو هدف على أخر خلال مرحلة معينة من تطور المجتمع البشر ي .
ومن المؤكد أن الهدف أو الغرض الانتقام ي أو التكفير ي للعقوبة لم يعد له دور يذكر في العصور الحديثة والمعاصرة. ومن ثم يمكن حصر أغراض العقوبة فقط في نوعين من الأغراض ، أحداهما الغرض الأخلاق ي ، وهو تحقيق العدالة ، وغرض نفع ي هو تحقيق الردع بنوعية العام والخاص.
16- أ : الغرض الأخلاقي للعقوبة :
كما سبق وأن أوضحنا ، فإنه يرجع الفضل للف لاسفة الألمان – خاصة “إيمانويل كانت” ومن بعده هيجل – في توجيه الأنظار نحو الغرض الأخلاقي للعقوبة Le but rétributif de la peine ، متمثلا هذا الغرض في العدالة. فعنده م أن الجريمة هى نف ي للعدالة في المجتمع وأن العقوبة هى نف ي لهذا النف ي ومن ثم تصبح العقوبة تأكيد للعدالة أو إثبات لها من جديد. فالجريمة عدوان على العدالة كقيمة اجتماعية مثلى يجب أن تسود داخل المجتمع ، لما تمثله الجريمة من ظلم تجاه المجن ي عليه بحرمانه من حق من حقوقه (كالحياة في حاله القتل – والسلامة الجسدية في حالة الضرب والجرح – والحق في الملكية في حالة السرقة والنصب …الخ) ، وما تمثله من تعد ي على الشعور العام في العدالة المستقر في ضمير الأفراد.
وفى ضوء ذلك فإن العقوبة تعمل على تحقيق العدالة لما تقوم به من إعادة ا لتوازن بين المراكز القانونية التي أخل بها الفعل الإجرامي. وتنزل بالمجرم شر مماث ل للشر الذي نجم عن الجريمة ولحق بالمجن ي عليه ، فكأنها تعيد للقانون هيبته في أذهان العامة. ويحقق اعتبار العدالة غرض من أغراض العقوبة ميزة كبيرة ، إذ أن الوصول إلى هذا الهدف يرض ي شعور المجن ي عليه ويهدأ من ثورة المشاعر العامة اللاحقة على ارتكاب الجريمة ، بما يخمد نار الانتقام في صدر المجني عليه وعند أقرانه ، فيحقق بالتال ي السلام الاجتماع ي الذي ينقص من معدلات الجريمة في المجتمع. كما أن تحقيق هذا الهدف – خاصة عند الإسراع في توقيع العقاب – ينمى روح الندم والشعور بالمسئولية لدى الجان ي ، مما يدفعه إلى محاولة تهذيب سلوكه ك ي يعود من جديد عضو اً منتج اً ومندمج اً في مجتمعه [18].
ويمكننا القول أن الغرض الأخلاق ي للعقوبة ، أي تحقيق العدالة ، ينحصر في رسالة القضاء . فهذا الهدف هو المهمة الأساسية للقاض ي ولمرفق القضاء بكافة مستوياته الجنائية. وقد يساهم القاض ي – وهو في سبيل سعيه نحو تحقيق العدالة – في تحقيق أهداف أخرى للعقوبة ، كالردع العام والخاص مثلا. فالقاض ي من خلال العقوبة يؤكد على انتهاك القاعدة الجنائية ، مما يعل ي من فكرة القانون في نفوس الأفراد ، ويساهم في كبت عوامل الجريمة أو ما يسمى بالإجرام الكامن ، سواء في نفوس الكافة (الردع العام) أو على المستوى الفرد ي ، أي في نفس المجرم (الردع الخاص). إلا أن تحقيق هذا الهدف الأخير ( الردع العام والخاص) يتحقق كأثر للهدف الأول المتمثل تحقيق العدالة .
فما يكون نصب عين القاض ي هو الغرض الأخلاق ي للعقوبة ، المتمثل في تحقيق العدالة. والدليل على ذلك ، أن القاض ي (وذلك من خلال ما يثبته الواقع العملي في المحاكم) يسعى في تطبيقه للعقوبة إلى أن تكون متناسبة مع جسامه الفعل وماديات الجريمة (سلوك ونتيجة) ، دون مراعاة لتناسبها مع شخص المجرم. فهو يقدر للجريمة ، وليس للمجرم ، قدراً من العقوبة ، وهو ما يسمى في الفقه “بتسعير العقاب ” La tarification de la punition “. فلو كان الردع هدف للقاض ي ، لأدخل في تقديره العناصر الشخصية للمجرم حتى يتأكد من كون العقاب سيحقق هذا الهدف [19].
17- ب : الغرض النفعي للعقوبة
قلنا أن جوهر العقوبة ، هو الأذى أو الإيلام الذي يلحق بمن توقع عليه نتيجة الماس بأحد حقوقه الأساسية أو اللصيقة بشخصية. ويستهدف إقرار هذا الإيلام والأذى كبح عوامل الجريمة داخل النفس البشرية ، وهو ما يسمى بالردع ، أي التخويف والزجر ، والذي يمثل غرضاً نفعياً للعقوبة Le but utilitaire de la peine . وقد ينصرف هذا الأخير إلى تحقيق الردع العام La prévention générale الموجه للكافة ، بحيث تمنع العقوبة بقية أفراد المجتمع من تقليد ومحاكاة المجرم ، استهجاناً لما أنزل عليه من عقاب. وقد يستهدف الردع الخاص La prévention spéciale ، أي محاولة وأد ميكروبات الجريمة أو الميكروبات الاجتماعية – على حد قول البعض [20] – في نفس المجرم للحيلولة بينه وبين الجريمة مرة أخرى.
18- الردع العام:
ينظر للعقوبة على أنها إنذار موجه للكافة من الناس ، تنذرهم بسوء العاقبة في حالة تقليد المجرم في سلوكه. فالعقوبة هى المضاد الحيوي الذي يكبت نوازع الشر الطبيعية في كل نفس بشرية. فالعقوبة تمارس أثر اً نفسياً تهديدياً ، يقوى بواعث الخير تجاه بواعث الشر أو بواعث الجريمة ، بما ي حقق الموائمة بين السلوك الجماعي وبين قواعد قانون العقوبات. فالعقوبة هى التي تمنع من تحول الإجرام الكامن إلى إجرام فعل ي .
وتحقيق هذا الهدف – أي الردع العام – يتوقف على عوامل كثيرة منها : عدالة العقوبة وتناسبها مع جسامه الواقعة الإجرامية والخطأ الجنائ ي . فزيادة العقوبة أكثر مما تقضيه جسامه الواقعة قد يحمل القضاء على عدم تطبيقها ، وسعيه الحثيث على تبرئه المتهم مخافة توقيع عقاب غير عادل ، مما يرسخ في أذهان العامة قلة أهمية دور العقوبة فلا يتحقق الردع العام. الأمر الذي يحدث بالمثل في حالة ضعف العقوبة بالمقارنة بجسامة ما وقع من جرم. كما يتوقف الردع العام في النفوس على ميكان ي زم القضاء الجنائ ي ، أي الكيفية التي يسير بها هذا المرفق من حيث البطء أو السرعة في مواجهة الجريمة.
ومهمة تحقيق الردع العام تقع بحسب الأصل على المشرع ، وإليه يسعى دون الأهداف الأخرى للعقوبة ، وذلك من خلال خلق القواعد التجريمية وتقرير الأجزية المناسبة لكل جرم. فهو بهذا الخلق يوجه التحذير للكافة بتوقيع العقاب في حالة انتهاك القاعدة التجريمية.
ولكي يطمئن المشرع إلى تحقيق هذا الهدف ، فإنه يجب أن يستند إلى قواعد العدالة في التشريع. ولما كان أمر تحقيق العدالة موكول إلى القاضي ، لذا ف قد جرت التشريعات على تقرير العقوبات بين حد أدنى وحد أقصى ، أو تقرير عقوبات تخيري ة ذات جسامه متفاوتة، تارك ة للقاض ي حرية تقرير العقوبة المناسبة كماً وكيفاً حسب ظروف كل حالة. فهذا الأسلوب يضع أمام الكافة الصورة الفعلية للعقوبة وكيفية تطبيقها ، فتتفاعل النفوس مع هذا التطبيق . فإن رأته عادلاً فإنها تبدأ في مراجعة النفس (التخويف والترهيب) وتبدأ أولى مراحل الردع العام ، وإن رأته ظالماً ، استخفت النفوس بالقانون وبالعقوبة وقلت لديهم عوامل الردع العام.
وعلى ذلك ، فإذا كان المشرع هو المنشئ للردع العام من خلال القاعدة الجنائية ، فإن القاضي هو الموكول إليه التثبت من تحقيق تلك القاعدة للردع العام الفعلي. فيمكننا القول أن هناك نوعا من الإنابة بين السلطة التشريعية وبين القضاء الجنائ ي في تحقيق الردع العام في المجتمع.
19- الردع الخاص:
الردع الخاص هو الأثر المباشر للعقوبة الذي تحدثه على ذات المجرم المحكوم عليه ، أو هو الأثر الناشئ عن الانتقاص من حقوق المحكوم عليه في بدنه أو حريته أو ماله أو شرفه واعتباره.
من هنا يظهر أن للردع الخاص طابع فرد ي Intimidation de nature individuelle ، حيث ينصب على شخص بعينه هو المحكوم عليه ، فيدفعه إلى تغيير عناصر شخصيته في المستقبل بما يحول بينه وبين الرجوع إلى اقتراف الجريمة لاحقا ً . فكأن الردع الخاص هو محاولة استئصال الخطورة الإجرامية المستقبلية أو الاحتمالية التي كشفت عنها الجريمة التي ارتكبها الشخص بالفعل. فبالعقوبة يتعاظم مقدار الألم في نفس الجاني وإحساسه بالمهانة والاحتقار بين أفراد مجتمعه ، فتنمو داخله العوامل التي تحول بينه وبين السلوك الإجرامي في المستقبل.
وللردع الخاص – كوسيلة لمنع المجرم من معاودة ارتكاب الجريمة في المستقبل – درجات أشدها هو الردع الخاص الاقصائ ي ، والذي يتم من خلال استبعاد الجاني كليا ً من المجتمع ، كما هو الحال في عقوبة الإعدام وفى العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو المؤبدة ، وذلك بهدف تجميد النشاط الإجرام ي للجان ي في المستقبل. ولا يتحقق ذلك النوع الاقصائ ي إلا بشأن الجرائم شديدة الخطورة على مصالح المجتمع وفى حالات المجرمين الذين لا تجدي معهم برامج التأهيل والإصلاح من واقع سجلهم الإجرام ي أو جسامه ما ارتكب من أفعال.
وللردع الخاص صورة أخف تتمثل في الردع الخاص الإنذار ي . ويتحقق ذلك في حالات الإجرام غير الجسيم أو الذي يتمثل في تفاهة ما نشأ من ضرر ، والذي يثبت فيه أن الحدث الإجرام ي لم يكن إلا شئ عارض في حياة المتهم. في تلك الأحوال ، يمكن تطبيق بعض العقوبات ذات الطابع الإنذار ي ، كما هو الحال في الحبس قصير المدة مع إيقاف التنفيذ أو الوضع تحت الاختبار أو الحكم بالإدانة مع تأجيل النطق بالعقوبة أو الحكم بعقوبة مالية بسيطة.
وبين الصورتين توجد صورة وسط تتمثل في الردع الخاص الإصلاح ي أو التأهيلي ، ويكون ذلك في حالات الإجرام المتوسط (كالسرقة وخيانة الأمانة والقتل الخطأ …الخ) ، حيث يوجب تحقيق هذا النوع من الردع الدخول الفعل ي في إحدى المؤسسات العقابية من أجل إخضاع المحكوم عليه للبرامج الإصلاحية والتأهيلية الموضوعة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشئون العقابية ، التي تعمل على تنمية روح التوافق مع المجتمع مرة أخرى.
ويظهر من ذلك أن الردع الخاص في شق كبير منه يلق ى على عاتق السلطات القائمة على التنفيذ العقاب ي ، وإليه تهدف هذه السلطات أكثر من الأهداف الأخرى للعقوبة الجنائية [21].
المبحث الثاني
ضمانات العقوبة الجنائية
20- تمهيد وتقسيم :
يحدد الفقه الجنائي عادة ً عدداً من الضمانات الأساسية التي تحكم العقوبة الجنائية عامة ً ، أيا ً ما كان نوعها أو درجتها ، وبصرف النظر عن التقسيم الذي يتبعه المشرع أو الفقه في تحديد أنواع و درجات العقوبة الجنائية. و للعقوبة ضمانات ستة تحكمها ، سواء في مرحلة وضع النص الجنائي (مرحلة التشريع) أو في مرحلة التطبيق الفعلي للنص من قبل القضاء ، أو في مرحلة التنفيذ العقابي.
21- أولاً : شرعية العقوبة الجنائية :
مبدأ الشرعية هو حجز الزاوية في القانون الجنائي عامة ، وهو بهذه الصفة يمثل الركن الركين والضمان العام للعقوبة. فمن هذا المبدأ تتولد بقية المبادئ التي تحكم العقوبة في أي مرحلة من مراحلها [22].
ويقصد بشرعية العقوبة الجنائية Légalité de la peine أن يوكل إلى المشرع وحدة أمر تقرير العقوبات التي تطبق حال مخالفة الشق التجريم ي من القاعدة الجنائية. وإذا كان تحديد العقوبة بالتالي هو عمل السلطة التشريعية ، فإنها قد تفوض في ذلك السلطة التنفيذية في تحديد العقوبات لما يكون المشرع نفسه قد جرمه من أفعال ، وهو ما يسمى بالتفويض التشريع ي المنصب على ركن الجزاء [23].
وعلى ذلك لم يعد صائبا القول أن “لا عقوبة إلا بقانون” ، إنما الأصوب القول أن “لا عقوبة إلا بناء على قانون ، أو لا عقوبة إلا بنص”. ومن ثم يكون تطبيق عقوبات لم تصدر من السلطة التشريعية أو من السلطة التي فوضتها في ذلك عمل يمس ب شرعية العقوبة مما يبطلها.
ولهذا المبدأ قيمة دستورية في النظام القانون ي المصر ي . حيث نص دستور 197 1 في المادة 66/2 على أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء ً على القانون … ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون” Nullum crimena, nulla poena sine lege . كما أكدته المادة الخامسة من قانون العقوبات الحالي لسنة 1937 إذ قررت أن “يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها”.
وينتشر هذا المبدأ في كافة القوانين المعاصرة ، ومنها قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو 1992 ، والذي نص في مادته 111-2 على أن ” يحدد القانون الجنايات والجنح، ويحدد العقوبات المطبقة على مرتكبيها ، وتحدد اللائحة المخالفات وتقرر في الحدود وبحسب التفرقة التي يحددها القانون العقوبات المطبقة على المخالفين”. وتعود المادة 111-3 لتؤكد على المبدأ قائلة ً “لا يعاقب أحد عن جناية أو جنحة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للقانون ، أو عن مخالفة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للائحة. ولا يعاقب أحد بعقوبة لم ينص عليها قانونا إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة ، أو لم ينص عليها في اللائحة إذا كانت الجريمة مخالفة”.
ويفرض مبدأ شرعية العقوبة (وكذلك شرعية الجريمة) ، في ضوء مضمون ه هذا ، عدداً من الالتزامات في جانب المشرع وفى جانب القضاء :
22- أ : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب المشرع :
تلزم السلطة القائمة على تحديد العقوبات أن تبدأ بتحديد موضوع العقوبة .L’objet de la peine ويقصد بهذا الموضوع قيام المشرع بتحديد قصده من العقوبة ، وما إذا كان الهدف منها مجرد الإنذار أم أنه يقصد التقويم والإصلاح ، أم يقصد أخيرا ً أن يكون لها طابع إ قصائ ي . وهى كلها تندرج ضمن أهداف الردع الخاص لثلاثة سالفة الذكر.
كما أن على المشرع أن يقوم بتحديد طبيعة العقوبة La nature de la peine ، أي تحديد الحق الذي تنال من ه من بين حقوق المحكوم عليه . فمن العقوبات ما يسلب المحكوم حقه في الحياة ( ك الإعدام) ، ومنها ما يسلب حقه في الحرية بصفة نهائية أو مؤقتة ( ك العقوبات السالبة للحرية) ، ومنها ما يقيد تلك الحرية (كالوضع تحت مراقبة الشرطة وخطر الإقامة) ، ومنها ما ينال من الذمة المالية لهذا المحكوم عليه (كال غر ام ة والمصادرة) ، ومنها ما يم س ب الحقوق السياسية أو الوظيفية له (كالمنع من الترشيح لعضوية المجالس النيابية والعزل) ، ومن العقوبات ما ينال أخيرا ً من الشرف والاعتبار (كالنشر في الصحف لبعض الأحكام كأحكام الإفلاس والغش التجاري مثلا). كما قد يؤدى تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في ظهور أنواع أخرى من العقوبات ، كسحب الرخص وغلق المنشأة التجارية أو الاقتصادية وحظر مزاولة مهنة أو نشاط تجار ي أو اقتصاد ي لفترة مؤقتة أو دائمة.
وعلى المشرع ألا يقصد عند تحديده لطبيعة العقوبة أن تمتد إلى غير المحكوم عليه إعمالا ً لمبدأ شخصية العقوبة ، كما سنوضح بعد قليل.
وأخيرا ً فإن على المشرع أن ي ر اع ي عند تحديد العقوبة مقدار ج سا م تها ، والتناسب بينها وبين الج س امة الموضوعية للجريمة ، ومدى نصيب إرادة الجان ي من الخطأ. وعلى هذا الأساس يقيم المشرع تفرقة مثلا ً في العقوبة من حيث كونها عقوبة جناية أم جنحة أم مخالفة ، وإقامته تفرقة عقابية داخل كل طائفة من هذه الجرائم ( المواد 9 ، 10 ، 11 عقوبات مصر ي ) [24].
23- ب : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب القاضي :
يفرض مبدأ الشرعية في جانب القاض ي عدد من الالتزامات منها : الالتزام بالعقوبات المقررة للجرائم وفق ما تحدده نصوص التشريع ، طبقا لدرجة وطبيعة العقوبة . فيمتنع عليه أن ي ضيف إلى النص عقوبات لم ترد به ، ولا أن يطبق عقوبة من نوع أو مقدار مختلف. ولا يخل بذلك أن يكون المشرع بنفسه قد أعطى للقاض ي سلطة ل لإ عمال التفريد ال ق ضائ ي ، إذا ما وضع له عقوبة بين حد أدنى وحد أقصى ، أو يكون قد خيره بين أكثر من عقوبة ذات طبيعة ومقدار مختلف. فليس في ذلك عدوان على مبدأ الشرعية ، لأن المشرع هو الذي أناب القاض ي في أمر التحديد.
كما على القاض ي أن يمتنع عن إ عمال القياس في تقرير العقوبات . فالقانون الجنائ ي لا يعرف التفسير بطريق القياس L’interprétation par l’analogie لا في مقام التجريم ولا مقام العقاب ، فما سكت المشرع عن تجريمه فلا يجرم ، وما سكت عن تحديد عقوبته فلا يتقرر له عقاب ، حتى و إ ن بد ا للقاض ي أن هناك تجريم قريب يتحد في العلة مع السلوك الذي لم يوضح له المشرع عقاب. فما ترك على إباحته يظل مباح ، وإلا فتحنا باب التحكم والهوى من قبل القضاء ، ولا يخفى ما لذلك من أثر على حريات وحقوق المواطنين.
24- ثانياً : عمومية العقوبة الجنائية La généralité de la peine :
يقصد بعمومية العقوبة المساواة فيها ، أي سريانها في حق جميع الأفراد دون الأخذ في الاعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية. وهذا ما يسمى في الفقه الجنائي الحديث بمبدأ المساواة في العقاب L’égalité de la punition ، وهو مبدأ لم تكن تعرفه الشرائع القديمة حيث كانت تختلف العقوبات التي توقع على الأشراف عن تلك التي توقع على العبيد. وهذا المبدأ يستمد عموما ً من القواعد الكلية للقانون ، التي توجب أن تتصف قاعدة القانون بالعمومية والتجريد.
ولقد حثت الشريعة الإسلامية الغراء على تلك المساواة والعمومية لقول سيدنا رسول الله “إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف ترك و ه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ” [25] .
غير أ نه لا يوجد تعارض بين هذا المبدأ وبين ما يخوله المشرع للقاض ي من ا مكانية إعمال قواعد التفريد العقاب ي ، أو ما يسمى بالتفريد القضائ ي . فالمساواة والعمومية في العقوبة لا تعن ي وجوب تطبيق ذات العقوبة على كل من يرتكب جريمة من نوع معين. فالقاض ي له أن يعمل سلطته التقديرية في وزن العقوبة حسب ظروف الجريمة الموضوعية (المتعلقة بمادياتها) والشخصية (المتعلقة بشخص الجاني). فالمساواة في العقاب ت عن ي أن القاعدة العقابية إذا كانت تقدر عقابا ً مشددا ً أو مخففا ً ، أو تقدر عقابا ً بين حد أدنى وحد أقصى ، فإن تلك الأمور ت نطبق على الكافة وللكل أن يستفيد من ذات القاعدة.
25- ثالثاً : قضائية العقوبة الجنائية :
إذا كانت شرعية العقاب تعن ي أن يترك للمشرع وحده أمر تحديد العقوبة كما ً ونوعا ً ، فإن قضائي ة هذه الأخيرة تنصرف إلى أن يترك للقاضي وحده أمر تطبيقها . وهذه الضمانة تعد تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات في مجال القانون الجنائ ي La séparation des pouvoirs . فالعقوبة بحسبانها نوعا ً من الألم وانتقاص للأحد الحقوق اللصيقة بالشخصية الجوهرية ، كان لابد من أن يوكل أمر تطبيقها إلى جهة محددة يتوافر بشأنها ضمانات الحيدة والنزاهة والاستقلال. وهو ما يوجب بداءة أن تكون جهة التطبيق محدد ة سلفا ً في التشريع ، لا أن تخلق خلقا ً لمواجهة جرم ما بعينه.
ولهذه الضمان ة قيمتها الدستورية في النظام القانوني المصر ي ، حيث نصت المادة 66/2 من دستور 1971 على أنه ” … لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائ ي “. وفى ضوء ذلك اعتمد قانون الإجراءات الجنائية في مادته 459 ذات المبدأ حين نص على أنه “لا يجوز توقيع العقوبات المقررة بالقانون لأية جريمة إلا بمقتضى حكم صادر من محكمة مختصة بذلك” . وهو ما يستتبع ألا يترك لجهة الإدارة أو بعض الفنيين سلطة تطبيق العقوبات. و غني عن البيان أن القاض ي عند تطبيقه للعقوبة يلتزم بذات الالتزامات التي تتفرع عن مبدأ الشرعية والتي أوضحناها سالفا.
26- رابعاً : شخصية العقوبة الجنائية :
يقصد بشخصية العقوبة الجنائية La personnalité de la peine عدم جواز توقيعها إلا على الجان ي نفسه مرتكب الواقعة الإجرامية ، فاعلا ً كان أم شريكا ً . فالمسئولية الجنائية شخصية ، لا تضامن فيها ، والعقوبة التي تترتب على قيامها لها ذات السمة الشخصية. فلا يجب أن تمتد العقوبة أو أثرها – بحسب الأصل وكأمر مقصود – إلى أشخاص آخرين خلاف الجاني ، كأفراد أسرته أو ور ث ته أو من يربطهم به ص له ما.
وهذا المبدأ يعد من ركائز التشريع الجنائي المعاصر حيث لم يكرس تشريعياً إلا من عهد قريب. ففي الشرائع القديمة كانت للعقوبة أثرا ً ممتدا ً ، يصيب الجاني نفسه وأفراد أسرته. ففي ظل القانون الفرنسي القديم ، كانت عقوبة التآمر ضد الملك أو الحكومة هى الإعدام والمصادرة لأموال المتآمر وأفراد أسرته ونفيهم خارج البلاد [26]. وكان هذا هو الحال القائم في التشريع المصر ي في فترة سريان قانون المنتخبات وقبل الإصلاح القضائي في عام 1883 ، فكان العقاب يمتد ، بالإضافة إلى فاعل الجريمة ، إلى شيخ ه أو على القائم م قام حسب الأ ح وال (م21 من قانون المنتخبات) [27]. ولقد مضت تلك العهود إلى غير رجع ة وأصبح مستقرا ً أن المسئولية الجنائية شخصية ولا تمتد إلى فعل الغير ، وأن العقوبة التي تتولد عنها شخصية ولا تمتد إلى غير الجان ي ، حتى ولو كانت العقوبة الجنائية تافهة (كالغرامة البسيطة مثلا). وه ذا الأمر هو ما حرص الدستور المصري في المادة 66/1 على التأكيد عليه عندما قال “العقوبة شخصية”. كما رددته محكمة النقض المصرية في عبارات بليغة عندما قالت : “من المبادئ الأساسية في العلم الجنائ ي أن لا ت ز ر وازر ة وزر أخرى ، فالجرائم لا يؤخذ بجري ر تها غير جناتها ، والعقوبات شخصية محض ة ، لا تنفذ إلا في نفس من أوقعها القضاء عليه. وحكم ة هذا المبدأ أن الإجرام لا يحتمل ا لاستناب ة في المحاكمة وأن العقاب لا يحتمل الاستنابة في التنفيذ” [28] .
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية الغراء المشرع الوضع ي بكل طبقاته في التأكيد على هذا المبدأ. فقد قال رب العزة “ومن يكسب إثما ً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما ً حكيما ً ، ومن يكسب خطيئة أو إثما ً ثم ي ر م به بر ي ئا ً فقد احتمل بهتانا ً وإثما ً مبينا ً ” [29] . ويقول المولى عز وجل “كل نفس بما كسبت رهينة” [30] . ويقول الحكم العدل ” ومن اهتدى فإنما يهتد ي لنفسه ومن ضل فإنما ي ض ل عليها ولا تزر وازر ة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” [31] .
ولما كانت العقوبة شخصية فإن من الطبيع ي أنه إذا توفى المتهم م ن قبل الحكم عليه وأثناء نظر الدعوى فإن تلك الأخيرة تنقضي بوفاة المتهم ، و إ ذا ما توفى بعد الحكم وقبل التنفيذ ، سقط الحكم وامتنع التنفيذ. كذلك فإن ال م شرع المصر ي يمنع تنفيذ حكم الإعدام على المرأة الحامل حتى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات جنائية) ، حتى لا يؤخذ الوليد بذنب أمه.
ولا يخل بمبدأ شخصية العقوبة كون تلك الأخير ة قد ت ُ حدث في بعض الحالات الفردية أثارا ً غير مباشرة تمتد إلى غير الجاني أو المحكوم عليه. فمثلا ً كون حكم الإعدام الذي نفذ على شخص قد حرم أسره من عائلها الوحيد الذي كان ينفق عليها لا يعن ي أن مبد أ الشخصية قد تم المساس به ، فهذه آلام غير مقصود ة من المشرع أو من القاضي [32].
27- خامساً : تفريد العقوبة الجنائية :
يتصل ب ضمان ة العمومية السابق بيانها أن الفقه الجنائ ي الحديث لم يعد يعرف العقوبة الثابتة أو المحددة تحديدا ً جامدا ً . بمعنى أنه إذا كانت العقوبة معروفة مقدما ً إلا أنها أصبحت متدرجة من حيث النوع والمقدار حتى تتلاءم مع جسامه الجريمة وخطورة الجاني. هذا الأمر الذي يعرف بتفريد العقوبة الجنائية L’individualisation de la peine . ولهذا التفريد مستويات ثلاثة :
28- أ : التفريد التشريعي:
يكون التفريد تشريعيا ً L’individualisation législative حين يراع ي المشرع في إنشاءه للعقوبة تدريجها بحسب ظروف كل مجرم ، في ف رض على القاض ي تطبيق نص معين عقوبته أشد أو أخف من العقوبة العادية المقررة لنفس الفعل إذا وقع في ظروف معينة أو من جناه محددين. ومثال ذلك وجوب تشديد العقوبة إذا اتصل السلوك ا لإ جرام ي بواقعة إكراه مادي أو معنوي ( م. 268 عقوبات مصري) ، أو إذا وقع هذا السلوك من طائفة معينة (كالإجهاض الواقع من طيب أو صيدلي أو جراح أو قابلة م. 263 عقوبات مصري) . ومثال ذلك تقرير الإعفاء من العقاب في ح اله إخبار أحد الجناة ع ن بقية شركاءه م تى أوصل هذا الإخبار السلطات إلى القبض على بقية الجناة ( الأمر المقرر في جرائم العدوان على المال العام وجرائم الإرهاب م88 مكرر هـ و م. 101 و م. 118 مكرر ب عقوبات مصري ).
29- ب : التفريد القضائي:
يكون التفريد قضائيا ً L’individualisation judiciaire إذا تم عن طريق الإنابة من قبل المشرع . فالأخير يضع العقوبة بين حد أدنى وأخر أقصى ثم يترك للقاض ي إعمال سلطته التقديرية بين هذين الحدين حسب ظروف الجريمة والمجرم. ومن صور التفريد القضائ ي أيضا ً أن يترك المشرع للقاض ي الخيرة بين عقوبتين من نوعين أو درجتين مختلفتين ، كالخيرة بين ا لإ ع د ام والسجن المؤبد في الجنايات ، أو بين الحبس وال غ را مة في الجنح ؛ أو إمكانية النزول بالعقاب درجة أو درجتين وفقا لما تقتضيه ظروف الجريمة (م 17 عقوبات مصر ي ). وصورة ذلك أيضاً الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها أو بنفاذها حسب الأ ح وال.
30- ج : التفريد التنفيذي:
يكون التفريد تنفيذيا ً L’individualisation exécutoire حين يتاح ل لإدارة العقابية نفسها ، حال تنفيذها للحكم الصادر بالعقوبة ، أن تعدل من طبيعة العقوبة أو من مدته ا أو من طريقة تنفيذ ها حسب ما يطرأ على شخصية المجرم ومدى استجابته للتأهيل والإصلاح.
فمثلا إذا كان نوع العقوبة يقتض ي تط ب يقها في الليمانات فيمكن لجهة التنفيذ بعد فترة أن تنقل المحكوم عليه إلى أحد السجون العمومية إذا رأت أن التطور الايجابي الذي طرأ على شخصيته لم يعد يناسب ظروف الليمانات. ومثال هذا النوع من التفريد أيضا ً إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقا لنظام الإفراج الشرطي أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إ بدالها بأخف منها ، متى كان سلوك المحكوم عليه ينبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة مرة أخرى [33] .
31- سادساً : إنسانية العقوبة الجنائية:
يقصد بإنسانية العقوبة الجنائية Peine humanitaire ، ألا يكون للعقوبة أثر سالب لكرامة الإنسان. فليس لكون الفرد قد هوى في طريق الجريمة أن يعاقب ويعامل بما يهدر كرامته وأدميته. وعلى هذا أكدت المادة الخامسة من الإعلان العالم ي لحقوق الإنسان حينما نصت على أنه “لا يجوز إخضاع شخص للتعذيب أو لعقوبات قاسية أو غير إنسانية أو حاطه بالكرامة ” . وإلى هذا أشار المشرع الدستور ي المصري في عام 1971 في المادة 42 بقوله “كل مواطن … .يحبس … تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا ً أو معنويا ً . كما لا يجوز … حبسه في غير الأماكن الخاض عة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون”. وهذا أيضا ما رددته المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية حين نصت على أنه “لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر … كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا ً أو معنويا ً “. وإلى هذا استجاب المشرع المصري مؤخرا ً بإلغائه للمادة 43/7 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 التي كانت تنص على الجلد كعقوبة تأديبية توقع على السجون [34].
اترك تعليقاً