بحث قانوني ودراسة هامة عن القواعد الآمرة والقواعد المكملة
مقدمة:
القانون ينظم سلوك الأشخاص في المجتمع، غير أن القانون لا يسلك سبيلا واحدا، بل تتعدد مسالكه ن فهو قد ينظم هذا السلوك على نحو معين لا يرتضي بغيره بديلا. وقد ينظمه على نحو يترك فيه الأفراد حرية تنظيمه على وجه قانوني آخر، و عليه نجد في بعض القواعد القانونية أن القانون يقيد حرية الأفراد بحيث بمنعه من مخالفة نصوصها و حينئذ تكون هذه القواعد آمرة، أما في بعضها الآخر فنجد أن القانون يمنح الفرد نوعا من الاختيار في تنظيم نشاطه، و حينئذ نكون أمام القواعد المكملة.
فما المقصود بكل من هذين النوعين من القواعد ؟ و ما معيار التفرقة بينهما ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث الذي يتضمن خطة تحتوي على مبحثين، و كل مبحث ينقسم بدوره إلى مطالب.
المبحث الأول: المقصود بكل من ؟
المطلب الأول: المقصود بالقواعد الآمرة règle impérative
هي تلك القواعد التي تأمر بسلوك معين، أو تنهي عنه بحيث لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلاف الحكم الذي تقرره، فإن هذا الاتفاق لا يعد به و يعتبر باطلا، و يتضح من ذلك أن هذه القواعد تمثل القيود على حرية الأفراد و هي قيود ضرورية لإقامة النظام العام في المجتمع، و تفرض تحقيقا للمصلحة العامة…
و من أمثلة هذه القواعد:
– القاعدة التي تنهى عن القتل أو السرقة أو التزوير أو الرشوة أو غير ذلك من الجرائم.
– القاعدة التي تأمر بأداء الضرائب أو تلك التي تأمر بأداء الخدمة الوطنية
– القاعدة التي تضع حدا أقصى لسعر الفائدة و تنهي عن تجاوزه.
– القاعدة التي تنهي عن التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة، فهي قاعدة آمرة لا تجيز للشخص أن يتعامل في المال على أساس أنه سيرثه في المستقبل، فمثل هذا التعامل يعد مضاربة على حياة المورث.
فاستخدام اصطلاح القواعد الآمرة لا يعني أن كل القواعد التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها و مخالفة الحكم الذي تقرره تتخذ صورة الأمر. فهناك قواعد تتخذ صورة النهي و تعد قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها كقانون العقوبات مثلا:
القانون الذي ينهى عن ارتكاب الجرائم المختلفة، و لذلك استعمل بعض الفقهاء اصطلاح القواعد المطلقة règle absolues و هو اصطلاح يظم داخله القواعد الآمرة و الناهية و رغم ذلك فنحن نستعمل اصطلاح القواعد الآمرة الأكثر شيوعا مع مراعاة أن المقصود به الأمر و النهي.
المطلب الثاني: المقصود بالقواعد المكملة règle supplétives :
الفرع الأول: معنى بالقواعد المكملة règle supplétives
هي تلك القواعد التي تنظم سلوك الأفراد على نحو معين، لكن يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف حكمها، و من الواضح أن هذه القواعد على خلاف القواعد الآمرة لا تمثل قيودا على حرية الأفراد، إذ يجوز لهم الاتفاق على خلاف ما تقرره في تنظيم علاقاتهم في المجالات التي لا تمس فيها هذه العلاقات بمصلحة عامة، فالقواعد المكملة تنظم علاقات يترك تنظيمها في الأصل لإرادة الأفراد و لكن احتمال تصور إرادة الشعب عن تنظيم علاقاتهم سيشمل القانون على قواعد احتياطية يكمل
ما اتفاقات الأفراد من نقص، أي تنطبق حيث لا يوجد اتفاق على خلاف الأحكام التي تقررها تنظيما لمسائل تفصيلية كثيرا ما لا تنتبه الأفراد التي تناولها بالتنظيم في اتفاقاته و من أمثلة القواعد المكملة ما يلي:
– القاعدة التي تقرر أن الثمن يكون مستحق الوفاء في المكان و في الوقت الذي يسلم فيه المبيع ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك.
– القاعدة التي تفرض على المؤجر التزاما بصيانة المكان المستأجر ما لم يقضي الاتفاق بغير ذلك.
– القاعدة التي تجعل نفقات عقد البيع و التسجيل و نفقات تسليم المبيع على المشتري ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك.
فهناك قواعد و ما يماثلها يجوز الاتفاق على خلاف الأحكام التي تقررها. فيمكن مثلا الاتفاق على الوفاء بالثمن في وقت لاحق لتسليم المبيع أو الاتفاق على تحمل البائع كل النفقات عقد البيع أو جزء منه.
و يطلق عليها بعض الفقهاء القواعد النسبية règle relatives بالمقابلة لاصطلاح القواعد المطلقة الذي اقترحوه على القواعد الآمرة، و لا يعني جواز الاتفاق على خلاف أحكام القواعد المكملة أن تتحول لقواعد اختيارية موجهة للأفراد على سبيل النصح، و إنما هي قواعد قانونية بمعنى الكلمة لها صفة الإلزام التي تميز قواعد القانون و قواعد الأخلاق.
ملاحظة: فيما يتعلق بالقواعد المكملة يجب أن يكون موضوع الاتفاق مشروع.
الفرع الثاني:
جدوى القواعد القانونية المكملة:
إذا كانت القاعدة القانونية المكملة هي التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها فلماذا لم يترك لهم في بداءة أمر تنظيم علاقاتهم على النحو الذي يرغبون فيه ؟ أي ما هي الـغاية من وجـود هذه الـقاعدة التي تـتـرك حريـة مـخـالفـتها للأفـراد إن شاءوا ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تكون من زاويتين:
الأولى:
رغبة المشرع في جعل الأفراد يستغنون عن البحث عن المسائل التفصيلية التي تنظم علاقاتهم دفعته إلى إيجاد القواعد الكفيلة بحكم تلك العلاقات.
الثانية:
كثيرا ما قد يكون الأفراد على غير خبرة ببعض المسائل القانونية أو كثيرا ما لا ينتبهون إلى تنظيم بعض المسائل التفصيلية أو أنه لا وقت لديهم للبحث عن مثل هذه التفصيلات فما عليهم سوى الاتفاق على المسائل الجوهرية و ترك ما عداها من مسائل تفصيلية لحكم القواعد القانونية المكملة، فالقاعدة المكملة تطبق حيث لا يوجد اتفاق من الأفراد على مسألة معينة، فمن يرم عقد بيع مثلا: ما عليه سوى الاتفاق على المبيع و الثمن فقط، أما ما دون ذلك من يبان لم كان تسليم المبيع و زمانه و كيفية دفع الثمن و التزامات البائع بضمان الاستحقاق، أو بضمان العيوب الخفية، فكلها أمور وفرت القواعد المكملة على الأفراد مشقة البحث عليها.
الفرع الثالث:
قوة الإلزام في القواعد المكملة:
سبق أن ذكرنا في خصائص القاعدة القانونية أنها قاعدة ملزمة و ها نحن نقول الآن
إن القاعدة المكملة يجوز الاتفاق على ما يخالفها أفلا يوجد تعارض بين ناحية إلزامية القاعدة القانونية و جواز مخالفة القاعدة القانونية المكملة ؟ و بعبارة أخرى هل تبقى القاعدة المكملة صفة القاعدة رغم إمكان الخروج على أحكامها باتفاق ذوي الشأن؟
لا نزاع بيت الشرّاح في أن القواعد المكملة شأنها في ذلك شأن القواعد الآمرة هي قواعد قانونية ملزمة و ليست قواعد اختيارية يجوز للأفراد مخالفتها مع عدم الاتفاق على تنظيم آخر غيرها لحكم علاقاتهم، غير أنهم بعد ذلك في كيفية التوفيق بين حقيقة أن القاعدة المكملة قاعدة قانونية بالمعنى الصحيح و إمكان مخالفة حكمها باتفاق الأفراد.
فذهب بعض الفقهاء: إلى أن القواعد المكملة تكون اختيارية إبتداءا و ملزمة انتهاءا. أي أن الأفراد إلى إبرام العقد أحرار في الاتفاق على ما يخالفها. و في هذه الفترة تكون القاعدة اختيارية بالنسبة إليهم و لكنهم متى أبرموا العقد دون أن يستعملوا حقهم في الاتفاق على حكم آخر يخالفها فإنها تصير ملزمة أي تنقلب من اختيارية إلى ملزمة بمجرد عدم الاتفاق على ما يخالفها
* الرد على هذا الرأي :
انتقد هذا الرأي من أغلب الشرّاح لأن القول بأن القاعدة المكملة اختيارية قبل العقد و ملزمة بعده. يعني أن تتغير طبيعة القاعدة القانونية تبعا لعنصر خارج عن القاعدة نفسها و هو عدم اتفاق الأفراد على ما يخالفها و هو ما لا يجوز.
2- و ذهب آخرون: إلى أنه و إن كانت جميع القواعد القانونية ملزمة فإن درجة إلزامها ليست واحدة فالإلزام أشد في القواعد الآمرة منه في القواعد المكملة و هذا ما يبرر جواز مخالفة هذه الأخيرة .
* الرد على هذا الرأي :
أخذ على هذا الرأي أن درجة الإلزام واحدة لا تندرج فالقاعدة إمّا أن تكون ملزمة أو لا تكون.
3- و ذهب غيرهم: إلى أن القاعدة القانونية المكملة قاعدة ملزمة و كل ما في الأمر
أنها على عكس القاعدة الآمرة، لا يمكن تطبيقها إلا إذا لم يتفق الأفراد على استبعادها بمعنى أنه إذا لم يستبعدوها أصبح ما تقرره ملزما لهم أما إذا اتفقوا على مخالفتها فإنها لن تطبق على علاقاتهم القانونية فالمشرع وضع شرطا لتطبيق القاعدة المكملة و هذا شرط هو عدم وجود اتفاق على مخالفتها. فإذا تحقق هذا الشرط أي لم يتفق الأفراد على مخالفتها طبقت القاعدة و إلا فلا. و عدم تطبيقها لا يرجع إلى كونها غير ملزمة بل يرجع إلى تخلف شرط تطبيقها.
و نخلص إلى أن كل القواعد القانونية ملزمة، غير أن المشرع وضع شرطا لتطبيق القاعدة المكملة دون القاعدة الآمرة و هو ألاّ يتفق الأفراد على حكم يغاير ما تقضي به تلك القاعدة.
اترك تعليقاً