بحث ودراسة عن الحقوق القانونية للمتهم في القضاء الاسلامي
حقوق المتهم في القضاء الإسلامي
د. ساعد الجابري
الحقوق القضائية هي ما يجب على القاضي توفيره للمدّعي والمدّعى عليه حتى يسير القضاء وفق العدالة التي يتوخاها الجميع، وإذا أخلّت الجهة التي تتولى القضاء بهذه الحقوق، فإنّ الحكم الصادر بحقّ المدّعى عليه يكون حكماً جائراً يمكنه استئنافه. (وقد رعى الإسلام هذه الحقوق في زمن حالك لم تعرف البشرية طعم العدالة والحرية، وفي زمن لم يكن لدى العرب في الجاهلية نظام محكم للقضاء)1.
وتأتي رعاية الإسلام لهذه الحقوق من منظور إنساني واقعي، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو مركب من عقل وهوى، وفيه استعداد للخير كما وانه قابل للانحراف نحو الشر، فاذا ارتكب ذنباً أصبح مجرماً في نظر القانون إلا أنّه يظل انساناً قابلاً للعودة إلى الجادة.
وأفضل صورة واقعية عن الحقوق القضائية هو ما ترجمه الإسلام في قضائه، وفي ممارسات قضاته.
ومن أجل أن ننظم هذه الحقوق تنظيماً منطقياً منسجماً واهداف الإسلام في القضاء نقسّمها إلى أربعة أقسام.
القسم الأول: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم
وهي:
1ـ المساواة في القضاء
يجب أن يتساوى المدعي والمدّعى عليه حتى لا يشعر أحد الطرفين بالغبن، فتضعف حجته، وقد ضرب أمير المؤمنين(ع) أروع الأمثلة في المساواة فقد ساوى بين شخصه واليهودي الذي نازعه في الدرع في القصة المشهورة واقر قضاته بأن يساووا بين الخصمين ذاكراً العلّة أيضا في ذلك، فيقول لأحدهم (واس بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك)2.
وكتب إلى شريح قاضيه: (ثمّ واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك)3.
واكثر أهمية من ذلك هو المساواة بين افراد المجتمع امام القضاء، وقد ضرب أمير المؤمنين(ع) أروع الصور في المساواة عندما عاتب خازن بيت المال علي بن ابي رافع لمّا أعطى إحدى بناته عقد لؤلؤ كعارية مضمونة فقال له: (لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة لكانت اذاً أول هاشمية قطعت يدها في سرقة)4 فاذا كان الحاكم لا يفرق بين الإنسان العادي وأحد أولاده في تنفيذ الاحكام فهو الحاكم الجدير بحكم البلاد، لانه سيسعد شعبه بتطبيق العدالة بينهم وتحقيق المساواة5:
2ـ تدقيق القاضي وعدم الاسراع في إصدار الحكم
يجب على القاضي أن لا يسرع وان يتفحص الشهود بتمعّن ويستمع إلى اقوالهم وأقوال الخصمين بدقة، لأنّ إهمال نقطة صغيرة قد يؤدي إلى كارثة، وهذا حقٌ مسلم لكلا الخصمين، فالعجلة والسرعة تؤديان حتماً إلى هضم الحقوق.
نضرب مثالين عن دقة أمير المؤمنين(ع) وتأنيه وعدم اسراعه في إصدار الحكم:
المثال الأول: نقله العامة والخاصة، ومفاده أن امرأة نكحها شيخٌ كبير فحملت فزعم الشيخ انه لم يصل اليها، وأنكر حملها منه، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة: هل افتضّك الشيخ: وكانت بكراً، قالت: لا، فقال عثمان: أقيموا الحد عليها، فقال له أمير المؤمنين(ع): (إن للمرأة سمّين، سمّ للمحيض وسمّ للبول، فلعلّ الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض فحملت، فاسألوا الرجل عن ذلك. فسئل فقال: قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض، فقال أمير المؤمنين(ع): (الحمل له والولد ولده، وأرى عقوبته في الانكار) فصار عثمان إلى قضائه بذلك.6 ولولا تدقيق الإمام في هذه القضية لكان قد حكم على المرأة بالزنى.
المثال الثاني: روي أن امرأة هوت غلاماً فدعته إلى نفسها فامتنع الغلام، فمضت وأخذت بيضة وألقت بياضها على ثوبها، ثم علقت بالغلام ورفعته إلى أمير المؤمنين(ع)، وقالت: إن هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني، ثم أخذت ثيابها فأرت بياض البيض وقالت: ماؤه على ثوبي، فجعل الغلام يبكي ويتبرأ مما أدعته ويحلف. فقال أمير المؤمنين(ع) لقنبر: من يغلي ماءاً حتى تشتد حراراته، ثم لتأتني به على حاله، فجيء بالماء فقال: ألقوه على ثوب المرأة، فألقوه عليه، فاجتمع بياض البيض والتأم، فأمر بأخذه ودفعه إلى رجلين من اصحابه، فقال: تطعماه والفظاه فطعـــماه فوجداه بيضا، فأمــــر بتخلية الغـــلام وجلد المرأة عقوبة على ادعائها الباطل7.
فلو لا تدقيق الإمام وتأنيه واخذه للفرصة الكافية للتحقيق لكانت تهمة الزنى ثابتة على الغلام من خلال القرائن والظواهر.
3ـ مبدأ علنية جلسات المحاكمة
وهو مبدأ عام في النظام القضائي المعاصر، وهو أيضا حق قضائي لصالح المتهم، سيّما إذا كانت الدولة هي المدّعى عليها، فالقاضي يستطيع أن يتلاعب بالاحكام كيفما يشاء، ولضمان قضاء عادل طالبت الدساتير باجراء المحاكمات العلنية لكي تفوّت الفرصة امام الاغراض الخاصة لبعض القضاة.
كما وأقرّ الاعلان العالمي لحقوق الإنسان مبدأ علنية جلسات المحاكمة، فكل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه8.
وكانت تجري المحاكمات في العهد الإسلامي بصورة علنية، وكان لأمير المؤمنين(ع) مكان خاص في مسجد الكوفة يجلس فيه للقضاء.
وعند تتبع سير القضاء في العهود الإسلامية المختلفة تجد أنه كان يجري علناً بين الناس حتى يأخذ الآخرون العبرة منه.
وكان عليه السلام يعظ الناس وينصحهم أثناء المرافعة، وهذه الحكاية شاهدٌ على ذلك: حدث في زمن عمر أن غلاماً طلب مال ابيه من عمر، وذكر أنّ والده كوفيّ بالكوفة، والولد طفلٌ بالمدينة، فصاح في وجهه عمر وطرده، فخرج يتظلّم منه فلقيه علي(ع) وقال: (ائتوني به إلى الجامع حتى اكشف أمره فجاءوا به، فسأله عن حاله، فأخبره بخبره، فقال(ع): لاحكمن فيكم بحكومة حكم الله بها من فوق سبع سماواته، لا يحكم بها إلا من ارتضاه لعلمه ثم استدعـــى بعض أصحابـــه وقال: هــــات بحجـــر منه، ثمّ قال: سيروا بنا إلى قبر والد الصبي.. إلى آخر القصة9.
وإذا ما دققنا في حكاية المرأة التي زنت وطلبت من الإمام أن يطهّرها، والرجل اللاطي الذي طلب من الإمام تطهيره، لتبيّن لنا ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أن هاتين الحكايتين وقعتا وسط الناس، وفي مكان عام، والطريف في الأمر أن بعض الفقهاء قالوا بكراهة اقامة القضاء في المسجد، لكن بعضهم الآخر استدلّ بعمل أمير المؤمنين(ع) على عدم الكراهية.
فيذكر المحقق الحلي من المكروهات: (وان يتخذوا المسجد مجلساً للقضاء دائماً، ولا يكره لو اتفق نادراً، وقيل: لا يكره مطلقاً التفاتاً إلى ما عرف من قضاء علي(ع) بجامع الكوفة10 وقد ذكر الفقهاء في آداب القضاء استحباب حضور أهل العلم إلى مجلس القضاء لتصويب القاضي إذا أخطأ، فهؤلاء يشكلون عيوناً على القضاء في الاماكن الخاصة لأنها تكون بعيدة عن أعين الناس وسمعهم، فقد بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أن شريحاً يقضي في بيته، فقال: (يا شريح، اجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس، وانه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته)11 لأن المحاكمة في البيت ستكون أشبه بالمحاكمة السرية، وسيكون بمقدور القاضي أن يحكم بما يشاء، فتوجّه إليه الاتهامات، وقد أورد الحر العاملي باباً في كتابه تحت عنوان (كان علي(ع) يقضي بين الناس في الاماكن العامة)12.
4ـ مبدأ حرية الدفاع
وهو مبدأ أقرته الدساتير الحديثة، ولم تعرف البشرية هذا الحق إلا عند أمير المؤمنين(ع).
روي أن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال: وتجرح الشــهود أيضا؟ فقال أمير المؤمنين(ع): (ردّوها واسألوها فلعلّ لها عذراً، فرُدّت) وسُئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبلٌ فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي، فأبيت، فلمّا كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرهاً، فقال أمير المؤمنين(ع): الله اكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) البقرة/ 173، فلما سمع ذلك عمر خلّى سبيلها.13
وهذه الحكاية تؤكد بأن أمير المؤمنين(ع) هو الذي استحدث هذا المبدأ، لأن العرف السائد هو اعتماد رأي الشهود مع وجود الأدلة، فالمؤشرات تدلّ أن المرأة قد زنت، وجاء الشهود ليشهدوا بذلك وقد أخذ عمر بالعرف السائد في مثل هذه القضايا فحكم عليها بالرجم ورفض أن يسمع طعنها في الشهود، لكن مع تطبيق مبدأ حرية المتهم في الدفاع عن نفسه تغيّر كل شيء، حيث ثبت عن دفاع المرأة أنها كانت مجبرة، ولا حدّ على المضطرّ.
القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي
وهو حقٌ لم تر له وجوداً إلا في عهد الإسلام، حيث أُعطي للمتهم الحقّ في الاعتراض على قرار القاضي وإعطاء أدلة جديدة تثبت براءته أو إعطاء أدلة جديدة تثبت حقاً لصالحه، وقد منح أمير المؤمنين(ع) هذا الحق للشاب الذي اعترض على حكم شريح القاضي في تبرئة الرجال الذين شاركوا أباه في رحلة التجارة حيث قتل في الطريق، وكان الشاب على يقين أنّهم هم الذين قتلوه،فاعترض على ذلك الحكم عند أمير المؤمنين(ع) الذي قام بتفريق الشهود ومساءلتهم، كلّ على انفراد، حتى اكتشف التناقض في أقوالهم، وبالتالي ثبت له صحة اعتراض الشاب على حكم شريح.
1ـ مبدأ الاقرار يجب أن يكون عن وعي بالقانون
وهو حقٌ انفرد به أمير المؤمنين(ع)، حتى أن القانون الوضعي أهمل هذا الجانب 14.
فالذي يرتكب عملاً مخالفاً يعتبر مجرماً حتى لو جهل مواد القانون، وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تتباهى به الدول الكبرى في عالمنا اليوم، فإنه غفل عن هذا الحق الذي لا نجد في جميع الشرائع والقوانين أحداً أقرّه غير الإسلام، وبالأخص أمير المؤمنين(ع) الذي نجد في سيرته العطرة مصاديق كثيرة تدلّل على احترامه لهذا الحق. فقد أتي برجل قد شرب الخمر، فقال له ابو بكر: اشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم، فقال: ولم شربتها وهي محرّمة؟ فقال: إنني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونه، ولم أعلم أنها حرام فاجتنبها، قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة، وأبو الحسن لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا عليّاً، فقال عمر، بل يؤتي الحكم في منزله، فأتوه ومعه سلمان الفارسي، فأخبره بقصة الرجل فأقتص عليه قصته، فقال علي(ع) لابي بكر: (ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والانصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء عليه) ففعل أبو بكر ذلك بالرجل قال علي (ع):.. إنما أردت أن أجدد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون)15.
وكان أمير المؤمنين(ع) يسأل من يقرّ على نفسه بذنب، هل سمع آية التحريم في ذلك العمل الذي ارتكبه، فإذا أقرّ بذلك حَكَمَ عليه، والا خلّى سبيله. فالرجل الذي أقرّ على نفسه بالزنى، سأله أمير المؤمنين(ع) بعد إقراره: (أتعرف شيئاً من القرآن؟ فقال: نعم، قال: اقرأ، فقرأ فأصاب، فقال له: (أتعرف ما يلزمك من حقوق الله تعالى في صلاتك وزكاتك) فقال: نعم، ولم يكتف الإمام بهذا المقدار من الأسئلة عن مقدار المعلومات الدينية للمتهم، بل حاول أن يعرف عن حالته الصحية والنفسية ذات الأثر في إمكانية الوعي لديه فسأله: (هل بك من مرض معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك)16.
2ـ مبدأ الإقرار بالذنب بعيداً عن الضغوط
وهو حق يضمن حكماً عادلاً للأفراد، فالمقرّ بالذنب يجب أن يتمتع أثناء اعترافه بذنبه بكامل حريته، وان لا يمارس بحقه أي ضغط من أنواع التعذيب أو الترهيب أو التهييب (استخدام القاضي هيبته لانتزاع الأقوال) وقد ساند أمير المؤمنين(ع) هذا الحق الذي غفل عنه القضاء قبل الإسلام وبعده، وأمامنا حشدٌ من الصور الرائعة يمكن للقاضي أن يضعها نصب عينه، ويمكنها لوحدها أن تشكّل معلماً من معالم القضاء عند أمير المؤمنين(ع).
أتي بامرأة حامل إلى عمر في ولايته، فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، فلقيها علي بن أبي طالب(ع) فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر بها عمر أن ترجم، فردّها علي(ع) فقال: أمرت بها أن ترجم؟ فقال:نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ ثم قال له علي(ع): فلعلك انتهرتها أو اخفتها؟ فقال: قد كان ذلك، قال: أو ما سمعت رسول الله يقول: لا حد على معترفٍ بعد بلاء إنه من قيّدت أو حبست او تهدّدت فلا إقرار لها. فخلّى عمر سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل علي بن ابي طالب. لو لا علي لهلك عمر.17
تبين لنا هذه الحادثة كم للضغط النفسي من اثر على اقرار المتهم، وكم لأسئلة القاضي من انعكاس على سير التحقيق وسير العدالة في القضاء، ونستخلص منها مبدءاً قضائياً عمل به أمير المؤمنين(ع)، ويجب أن يسنّ في التشريعات القضائية في البلاد الإسلامية والمبدأ هو: (لا حدّ على معترف بعد بلاء) وهو حديثٌ سمعه أمير المؤمنين(ع) من رسول الله(ص) فالاقرار الذي يأتي نتيجة للتعذيب النفسي أو البدني هو اقرار باطل ولا يجوز الاعتماد عليه في إصدار الأحكام.
القسم الثالث: الحقوق التي يجب مراعاتها عند إصدار الحكم
وهي القضية الحرجة التي رعاها الإسلام أحسن رعاية، وأعطى لأطراف الخصومة الفرصة الكافية لكي تأتي قرارات القاضي عادلة، وتنقسم هذه الحقوق إلى:
1ـ مبدأ تفسير الأدلة لصالح صاحب الحق
فالادلة التي يحصل عليها القاضي من اقرار أو شهادة أو ما شابه ذلك تمتاز بالمرونة، فيمكن أن تفسّر تفسيرات مختلفة، ولمّا كان همّ القاضي هو احقاق الحقّ، فإذا تعين لديه صاحب الحق فيجب أن يوجّه مرونة الأدلة لصالحه.
روي أن رجلاً أوصى، ودفع إلى الوصي عشرة آلاف درهم، وقال إذا أدرك ابني فاعطه ما أحببت منها، فلمّا أدرك استدعاه أمير المؤمنين، قال له: (كم تحب أن تعطيه؟) قال: ألف درهم.
قال: (أعطه تسعة آلاف درهم، وهي التي أحببت وخذ الألف).
ورووا أن رجلاً حضرته الوفاة، فوصّى بجزء من ماله ولم يعيّنه، فاختلف الوراث في ذلك بعده، وترافعوا إلى أمير المؤمنين(ع) فقضى عليهم باخراج السبع من ماله، وتلا قوله تعالى (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) الحجر/ 44 فقد فسّر الجزء بالسبع، وجاء هذا التفسير لصالح صاحب الحق.
وقضى(ع) في رجل وصّى فقال: اعتقوا عنّي كل عبد قديم في ملكي، فلمّا مات لم يعرف الوصي ما يصنع، فسأل عن ذلك فقال: (يعتق عنه كلّ عبد ملكه ستة أشهر) وتلا قوله جل اسمه (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) وقد ثبت أن العرجون إنما ينتهي إلى الشبه بالهلال في تقويمه بعد ستة أشهر من أخذ الثمرة منه18 لاحظنا من هذين النموذجين كيف ربط أمير المؤمنين بين القضية المراد إصدار الحكم بشأنها وبين الآيات القرآنية التي تعتبر قانوناً عاماً في مختلف شؤون الحياة، مستفيداً من المرونة في الإقرار أو الوصية لصالح صاحب الحق، وهو الموصى له.
من هنا نستطيع أن نضع قاعدة قضائية مهمة هي: يفسّر القانون وأدلة الاثبات لصالح المتهم إذا كان في حدٍ ولصاحب الحق إن كان في مالٍ.
2ـ مبدأ مطالبة القاضي بالدليل
وهو حق محفوظ لطرفي الدعوى، فإذا اراد القاضي أن يصدر حكماً كان عليه أن يثبت الدليل إلى جانبه، فإذا سأل الخصم وطلب منه الدليل فهو على اهبّة الاستعداد لتقديمه ومن يدقق في القضاء الإسلامي يجد أن القاضي يردف الأحكام التي يصدرها بإعطاء الدليل، وحتى قبل أن يسأل، وهذا ما كان يفعله أمير المؤمنين(ع).
مثلاً: أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فحكم عثمان برجمها، فقال أمير المؤمنين(ع): (إن خاصمتك بكتاب الله خصتمك) إن الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) الاحقاف/ 15 ثم قال: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن اراد أن يتمّ الرضاعة) البقرة/ 233 فحولان مدة الرضاع وستة أشهر مدة الحمل، فقال عثمان: ردّوها، ثم قال: ما عند عثمان بعد أن بعث إليها ترد.
وقضى في رجل ضرب امرأة فالقت علقة أن عليه ديته أربعين ديناراً، وتلا قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) المؤمنون/ 12-14.
ثم قال: (في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون ديناراً، وفي المضغة ستون ديناراً)19.
فيجب أن يكون رأي القاضي مدعماً بالدليل الشرعي، وان يكون الدليل حاضراً حتى يستطيع الإجابة عنه متى ما سُئل. طبعاً لم يحصل ولا مرّة أن سُئل أمير المؤمنين عن الدليل، لأن المسلمين كافة يعتقدون به اعتقاداً جازماً، وأنه لا يحكم اعتباطاً، لكن من كان يريد السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده، بل نجده كان يقدّم الدليل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علاقة السؤال وقد ارتسمت في محيا المدّعي أو المدّعى عليه.
القسم الرابع: الحقوق الممنوحة لمن يقام عليه الحد
1ـ مبدأ مراعاة وضع الجاني وحالته أثناء إقامة الحد
فهناك نظرة انسانية إلى من يراد إقامة الحد عليه، فيجب أن يكون في حالة سليمة طبيعية وإلا لا يقام عليه الحد.
يقول أمير المؤمنين(ع): ليس على المستحاضة حد حتى تطهر، ولا على الحائض حتى تطهر، ولا على الحامل حتى تضع.20
وكان الإمام يسأل من يُراد إقامة الحد عليه عن حالته وأوضاعه، سأل مرّة رجلاً زنى وأراد إقامة الحد عليه وهو الرجم، سأله أمير المؤمنين(ع): (هل بك من مرض معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك)21. لأنه لا يكفي للجاني أن يتحمل اذى الحد الذي يجرى عليه، فإذا كانت صحته غير سليمة فإن التبعات تتضاعف، ولمّا كان الإسلام دين الرحمة فلا يريد أن يضيف على من يراد إقامة الحد عليه ألماً أكثر مما يتركه عليه الحد.
2ـ مبدأ العفو عمّن تاب عن جرمه قبل أن تقام عليه البينة
لانّ الإقرار قبل البينة فضيلة، ولأنّه يشكل دليلاً قاطعاً على الندم والتوبة، فقد كان باستطاعته أن يتجنب الحد بعدم اقراره، لكنه يقرّ لإقامة الحد عليه، وهذا حقّ يرتبط بقرار الامام، فهو الذي يعفو ويصفح إذا وجد في ذلك مصلحة عامّة في الاعفاء لإشاعة الصفات الحسنة في الناس، مثلما فعل أمير المؤمنين(ع) بالقاتل الحقيقي الذي جاء ليعترف بأنه قتل شخصاً ورمى به إلى الخربة، ولينقذ ذلك القصّاب الذي وجدوه عند القتيل وبيده السكين، والذي لم ير بداً سوى الاعتراف على نفسه ولو كذباً، لكن الله كشف الحقيقة عندما قذف في نفس القاتل الاصلي الرحمة والشفقة فجاء ليقر امام أمير المؤمنين(ع) بذنبه ولينقذ القصاب من المحنة، وفي النهاية جاءت النتيجة سليمة للغاية حيث عفي عن القاتل الحقيقي بسبب توبته22. والحادثة الثانية التي عفا الإمام(ع) عن مرتكبها حادثة الرجل اللاطي الذي جاء إلى الإمام مقراً بذنبه، تائباً إلى الله، طالباً من أمير المؤمنين(ع) أن يقيم عليه أشد الحدود، وهو الحرق، ثم قام وهو باك حتى جلس في الحفرة التي حفرها له أمير المؤمنين(ع) وهو يرى النار تتأجج حوله، فبكى أمير المؤمنين وبكى اصحابه جميعاً، فقال له أمير المؤمنين(ع): (قم يا هذا، أبكيت ملائكة السماء وملائكة الارض، وإن الله قد تاب عليك، فقم ولا تعاودن شيئاً مما قد فعلت23 فأمير المؤمنين (ع) ومن خلال هذا الموقف، يريد أن يشيع فضيلة الإقرار بالذنب والتوبة النصوح في المجتمع، فهو أفضل من إقامة الحد ـ كما جاء في إحدى كلماته(ع) كما مرّ سلفاً.
وهناك حكاية لها مغزى كبير هي: (جاء رجل إلى أمير المؤمنين(ع) فأقر بالسرقة، فقال له: أتقرأ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، قال: وقد وهبت يدك لسورة البقرة) فقال الاشعث: أتعطل حداً من حدود الله؟ قال: وما يدريك ما هذا إذا قامت البينة فليس للامام أن يعفو، وإذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام، إن شاء عفا وإن شاء قطع24.
واستدلّ الفقهاء من هذه المواقف الإنسانية لأمير المؤمنين(ع): أن للامام أن يعفو عن الحد إذا اقرّ الجاني لا إذا قامت عليه البينة25.
3ـ مبدأ العناية بمن أقيم عليه الحد
وتتجلى انسانية النظام القضائي الإسلامي ـ أيضا ـ في عنايته بمن أقيم عليه الحد، وتظهر صورة بارزة من هذه الإنسانية في تعامل أمير المؤمنين(ع) مع الذين اقام عليهم الحد، وفيما يأتي بعض الصور المشرقة والمواقف الإنسانية للقضاء الإسلامي.
أُتي بسراق فقطع أمير المؤمنين(ع) أيديهم، ثم قال: (يا قنبر، ضمّهم اليك فداو كلومهم، وأحسن القيام عليهم، فإذا برئوا فأعلمني) فلمّا برئوا أتاه فقال: يا أمير المؤمنين: القوم الذين اقمت عليهم الحدود قد برئت جراحاتهم، قال: اذهب فأكس كل واحد ثوبين وآتيني بهم) فكساهم ثوبين ثوبين، وأتى بهم في أحسن هيئة مشتملين كأنهم قومٌ محرمون: فمثلوا بين يديه قبالاً، فأقبل على الأرض ينكثها بأصبعه ملياً، ثم رفع رأسه إليهم، فقال : (اكشفوا ايديكم) ثم قال: ارفعوا إلى السماء فقولوا (اللهم إن عليّا قطعنا) ففعلوا، فقال: (اللهم على كتابك وسنة نبيك) ثم قال: (يا هؤلاء: إن تبتم سلمت أيديكم وإن لا تتوبوا ألحقتم بها، يا قنبر، خلّ سبيلهم، واعط كل واحد منهم ما يكفيه إلى بلده)26.
أتي أمير المؤمنين(ع) بقوم لصوص قد سرقوا فقطع ايديهم من نصف الكف وترك الإبهام لم يقطعها، وأمرهم أن يدخلوا إلى دار الضيافة وأمر بأيديهم أن تعالج، فأطعمهم السمن والعسل واللحم حتى برئوا فدعاهم، فقال: (إن ايديكم سبقتكم إلى النار، فإن تبتم وعلم الله منكم صدق النية تاب عليكم وجررتم ايديكم إلى الجنة، فإن لم تتوبوا ولم تفعلوا عمّا انتم عليه جرتكم ايديكم إلى النار).27
وهذه الحادثة قد تكون رواية عن الحادثة التي سبقتها، على أي حال، يمكننا أن نستنتج منها ومن غيرها من الحوادث التي هي من هذا القبيل، أنّ الهدف من إقامة الحد ليس الانتقام بل هو التنبّه لغرض الاصلاح، وبعد أن يعيش المذنب لحظات الألم يتذوق بعدها حلاوة الرحمة الإسلامية وهي تمد يد الشفقة حتى للمجرم الذي يحكم عليه بالموت، بل حتى للذي ارتكب أعظم جريمة في التاريخ وهي قتل الإمام أمير المؤمنين(ع)، فماذا فعل الإمام بقاتله الذي ضربه على رأسه وهو يؤم المسلمين في صلاة الصبح.
تقول الرواية: (لما ضرب علي(ع) تلك الضربة قال: فما فعل ضاربي اطعموه من طعامي واسقوه من شرابي، فإن عشت فأنا أولى بحقي وإن مت فأضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها)28.
فأين نجد هذا الموقف أين نجد المقتول وهو يوصي بقاتله خيراً: (يا بني عبد المطلب، لا ألفيتكم تخوضون في دماء المسلمين، تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي. انظر يا حسن إذا أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربة ولا تمثل بالرجل فإني سمعت رسول الله(ص) يقول إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)29.
الهوامش
1 ـ الطحاوي السلطات الثلاث، ص33.
2 ـ باب الرسائل، رقم 46.
3 ـ الانصاري، القضاء، ص113.
4 ـ الحر العاملي، الوسائل، الباب 26، حد السرقة، حديث1.
5 ـ تشير مادة 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. كل الناس سواسية أمام القانون، ويذكر أن الكثير من المفكرين استدلوا بموقف الإمام علي على عظمة القضاء الإسلامي. انظر علم القانون والفقه الإسلامي، ص33.
6 ـ المفيد، الارشاد، ص101-102، وابن شهر آشوب مناقب آل أبي طالب، 1/50-51.
7 ـ المصدرين نفسهما، ص105 و1/498.
8 ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ص21.
9 ـ المناقب، 1/491-492.
10 ـ المحقق الحلي، شرائع الإسلام، 2/65.
11 ـ النوري، المستدرك، الباب11، الحديث3.
12 ـ الحر العاملي، الوسائل، 11/157.
13 ـ المفيد، الارشاد، ص99.
14 ـ يذكر ناصر كاتوزيان: بعد انتشار القانون وحلول موعد تنفيذه لا حق لأحد أن يدّعي بعدم إطلاعه عليه.
15 ـ الكليني، الكافي، 7/249.
16 ـ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص25.
17 ـ الأربلي، كشف الغمة، ص33.
18 ـ الارشاد، ص107، ابن شهر آشوب 1/509 والمجلسي 40/266.
19 ـ المفيد، الارشاد، ص107.
20 ـ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص5.
21 ـ المصدر نفسه.
22 ـ الكليني، الكافي، 7/289-290.
23 ـ التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص29.
24 ـ المصدر نفسه، ص39.
25 ـ المصدر نفسه، ص39.
26 ـ الحر العاملي، الوسائل، الباب 3، حد السرقة، حديث 3.
27 ـ المصدر نفسه، حديث 4.
28 ـ كشف الغمة، ص578.
29 ـ المصدر نفسه، ص578.
اترك تعليقاً