بحث قانوني – حكم دلالة العربون – التعاقد بالعربون
بحث قانوني عراقي للكاتب و الباحث لطيف الياسري
حكم دلالة العربون
لطيف الياسري
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
ان عقد البيع من العقود المسماة الواسعة الانتشار في مجال المعاملات اليومية ، وخير تعريف به هو المستفاد من نصوص القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 ، الخاصة بعقد البيع حيث خصته بأنه : عقد رضائي اولا ن وملزم للجانبين ثانيا ، وانه عقد معاوضة ثالثا ، وانه محدد القيمة رابعا ، وناقل للملكية خامسا [1].
وقد يتفق المتعاقدان على جميع المسائل الجوهرية في عقد (البيع) ويبرمانه ويدفع احدهما الى الآخر مقدارا معينا من المال يسمى العربون [2].
ان العربون قديم قدم عقد البيع الا انه يمثل مرحلة تطورية لهذا الاخير فيما بعد ، وهذه الغكرة (أي فكرة العربون) هي الاخرى قد تطورت ونضج مفهومها فأستقامت واضحة في التشريعات المعاصرة أسوة بغيرها من الافكار القانونية وذلك نتيجة لما أصابته الانظمة والعلاقات الاقتصادية في المجتمعات البشرية من تطور هي وابنيتها الفوقية من خلال ذلك ، وبتأثر تطور قاعدتها المادية (أي الاقتصادية) المستمر المتواصل [3]. حيث أنه من المعروف أن النظم الاجتماعية قد تطورت فأستمرت بالتطور من نظام الشيوعية البدائية ، ثم الى الرق ، ثم الى الاقطاع ، ثم الى التجارة والرأسمالية ، وأخيرا الى الاشتراكية .
وحيث يريد كل من اطراف العلاقة القانونية (كعقد البيع مثلا) ان يحقق لنفسه ما يستطيع من الربح وان يتجنب ما قد يحيق به من ضرر، نجد انفسنا امام انماط عديدة من الوسائل العقدية التي يلجأ اليها المتعاقدون … لتحقيق هذا الهدف . ومن هذه الوسائل … العربون [4]. ولهذا الهدف (أي قصد تحقيق الربح وتجنب الخسارة) يرجع اختلاف حكم دلالة العربون أيضا . فالمتعاقدون يفسرون دلالة العربون على المنوال الذي يحقق لهم هدفهم في الربح وتجنب الخسارة . وكذلك لابد أن نشير الى اختلاف حكم دلالة العربون لا بالنسبة الى المتعاقدين فحسب ، وانما بالنسبة للتشريعات والقوانين المدنية ، وآراء الفقهاء في هذا المجال أيضا . وعلى أية حال فان الاختلاف انحصر في مفهومين لدلالة العربون ، الاول وهو مفهوم الدلالة اللاتينية (دلالة العدول) ، والثاني وهو مفهوم الدلالة الجرمانية (دلالة البتات) .
وفي بحثنا هذا سنتطرق الى عرض الآراء المختلفة في تبيان حكم دلالة العربون في عقد البيع ، ومن ثم سنعكف على تقدير هذه الاراء . كل ذلك وفق دراسة مقارنة بالفقه الغربي والاسلامي والقانون المدني العراقي أيضا . مختتمين بحثنا بخاتمة موجزة .
ان بحثنا حكم دلالة العربون سيقتصر على عقد البيع ، ولم نكن ناخذ بذلك الا على سبيل المثال ، من جهة ، ورغبتنا في عدم تشتيت ذهن القاريء بأمثلة متعددة لعقود متعددة ، من جهة ثانية .
والواقع أن البحث يشمل جميع انواع عقود المعاوضة (التي يعطي فيها المتعاقد مقابل ما يأخذ وبأخذ مقابل ما يعطي) التي يصح فيها العربون . لذلك فاذا شئنا تسمية عنوان البحث بـ : ((حكم دلالة العربون في عقود المعاوضة)) ، فليس في ذلك غرابة .
الفصل الاول: دلالة العربون في القوانين اللاتينية
((دلالة العدول))
المبحث الاول: عرض الدلالة اللاتينية
لقد اخذت القوانين اللاتينية والمقتبسة منها والمتأثرة بها بالدلالة التي مفادها : ان دلالة العربون في عقد البيع ان يحتفظ كل من المتعاقدين بحقه في العدول عن العقد ، على ان يتحمل ما يساوي مبلغ (قيمة) العربون للطرف الآخر [5].
فإذا ما تعاقد (زيد) و (عمرو) على ان يبيع الاول سيارته للثاني ، واتفقا في عقد البيع على ان يدفع احدهما (عمرو) الى الآخر (زيد) مقدارا معينا من المال (عربون) فإن دفع هذا المال يعني احتفاظ كل منهما (زيد) و (عمرو) بحقه في العدول عن العقد متى تنازل (عمرو) عن المال الذي دفعه لـ (زيد) او ان يرد (زيد) المال الذي قبضه من (عمرو) مضاعفا . ففي حال تنازل (عمرو) يكون العدول عن العقد من جانبه ، وبالعكس في حالة رد (زيد) المال الذي قبضه مضاعفا فان العدول يكون من جانبه هو .
فمن هذا المثل يبدو ان كلا المتعاقدين قد أرادا من اتفاقهما على العربون في العقد ان يكون العربون وسيلة يعدل بها من يشاء منهم عن الاستمرار في الرابطة العقدية على ان يتحمل العادل ما يساوي قيمة العربون يدفعه للطرف الآخر ، اي ان العربون وسيلة يتحلل بها من يشاء منهما من التزامه .
واذا كان الغرض من العربون هو الحق في العدول (أي الرجوع عنه) فان بالامكان ان تكون تلك المدة التي يجوز فيها الرجوع عن العقد مدة محددة وعلى هذا يكون من حق المتعاقد الرجوع في المدة المتفق عليها ، اذا حددت مدة للرجوع ، فاذا انقضت هذه المدة سقط حق الرجوع وتأكد العقد ، واصبح العربون جزء من الثمن . اما اذا لم تحدد مدة للرجوع ، فللمشتري الرجوع في اي وقت الى يوم التنفيذ ، وجزاء رجوعه هو خسارة العربون [6]. على ان المشتري ، حتى في خلال المدة التي يجوز له الرجوع فيها ، اذا اظهر نيته في امضاء العقد وتنفيذه ، اعتبر مسؤولا عن التعويض فوق خسارته للعربون [7].
واستحقاق الطرف الآخر للعربون من الطرف العادل عن العقد لايقتضي وفقا لمفهوم الدلالة اللاتينية ان يكون هناك ضرر اصاب الطرف الآخر حتى يتحمل الطرف العادل ما يساوي قيمة العربون ، فانه عليه ان يخسر العربون ، حتى وان لم يصب الطرف الآخر بأي ضرر . والدكتور الصراف يقول في هذا الصدد : فليس عربون العدول تعويضا عن الضرر الذي يصيب المتعاقد بسبب عدول المتعاقد الآخر عن العقد وانما هو ثمن او جزاء لاستعمال الحق في العدول … وهذه في الحقيقة ميزة عربون العدول التي يمتاز بها على كل عربون البتات والشرط الجزائي [8].
ان على رأس القوانين اللاتينية التي اخذت بهذه الدلالة هو القانون المدني الفرنسي الصادر سنة 1804 حيث تنص المادة 1590 منه على انه (اذا جرى الوعد بالبيع مصحوبا بالعربون ليثبت الحق لكل من المتعاقدين في ان يعدل عن العقد . فاذا عدل من دفع العربون خسره . واذا عدل من قبضه رده مضاعفا) .
والذي يلاحظ على هذا النص انه يشير الى حالة الوعد بالبيع فقط ولكن اغلب الشراح يعمم حكمه على البيع .[9]وعلى سائر العقود الاخرى [10].
ان القانون المدني الفرنسي في منحاه هذا قد تاثر بالقانون الروماني وخصوصا على ما كان عليه الحال في عهد جستينيان [11]. فهذا الفقيه الروماني تأثر بفكرة العربون عند اليونان وبلاد الشرق الزراعية فأخذها عنها .[12]حتى اصبحت فكرة العربون في عهده تعني دلالة العدول فرضا للعربون واصبح يحق لمن تسلم العربون ان يرده مضاعفا لمن اعطاه ان يتركه مقابل عدم تنفيذه للالتزام العقدي[13] .
ولقد اشرنا سابقا ان هذه الدلالة للعربون اخذت بها ايضا القوانين المقتبسة أوالمتاثرة بالقوانين اللاتينية وخصوصا القانون الفرنسي . ومن هذه القوانين المقتبسة او المتاثرة القانون المدني المصري فقد نصت المادة 103 منه على ان (دفع العربون وقت ابرام العقد يفيد ان لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه ، .. فاذا عدل من دفع العربون فقده ، واذا عدل من قبضه رد ضعفه ، هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر) .
ومن هذا النص يتضح مدى التأثر بوجهة النظر اللاتينية بالرغم من ان النص المصري ادق واوسع من النص الفرنسي . والتقنين المدني السوري في المادة 104 منه ، وكذلك التقنين الليبي في المادة 103 منه ، يطابقان النص المتقدم من التقنين المصري [14].
ومن الجدير بالذكر ان نشير الى ان قسما من فقهاء الشريعة الاسلامية قد عرفوا هذه الدلالة (اي دلالة العدول) وعلى رأس هذا القسم الفقه الحنبلي برئاسة الفقيه احمد بن حنبل وابن القيم الجوزية[15] .
المبحث الثاني: تقدير الدلالة اللاتينية
ان الدلالة اللاتينية (دلالة العدول) منتقدة بالرغم من التبريرات التي جاء بها انصارها ، فهي منتقدة من عدة نواح :
- -1- ان هذه الدلالة لايمكن ان تعبر عن الواقع . فهي بتصورها ان الغرض (الغاية) من دفع العربون – هو الاحتفاظ بحق العدول عن العقد – تجافي المنطق : لانه ليس من داع الى ان يتعاقد شخص – كامل الاهلية وحر الارادة والاختيار – وينوي من وراء تعاقده ان يعدل عن تنفيذ التزامه ، فهوعندما تعاقد عرف مسبقا اوجيدا ما هو في مصلحته وما هو في غيرها نتيجة تعاقده هذا . لذلك سوف لن يعدل عن العقد لانه يعرف الامور حسنها وسيئها مسبقا وهو مريدها بارادته الخاصة واختياره واهليته الشرعية .
- -2- انه لايمكن التصور ان يتعاقد شخصان – من اجل ان لاينفذا التزاماتهما – في نفس العقد الذي انشأ هذه الالتزامات . ولانه لو كان الحال هكذا لكنا امام حالة من العبث يصان العاقل منها بالاضافة الى ان الناس سوف لايأتمنون من ان المعاملات ستسير سرها الطبيعي ولا يتخللها الاضطراب .
- -3- ان المتعاقد الذي يدفع العربون من اجل ان يحتفظ بحقه في العدول ، ومن ثم يعدل ويدفع العربون ، هذا الشخص ، يكون شخصا ، تعاقد من اجل ان يعطي دون ان يأخذ (أي خاسر) ومن دون ان تكون لديه نية التبرع . لذا فانه عابث وبذلك يبطل تصرفه ، لان العابث غير اهل للتصرف بحقوقه ويجب حجره . ولما كانت صفة العبث متأصلة فيه منذ بداية التعاقد وقبله لذلك فهو يعتبر محجورا لذاته فلا حاجة لصدور حكم بالحجر عليه . وقد اخذ المشرع العراقي بهذا الحكم في المادة (94) مدني بالنسبة لحكم أهلية الصغير غير المميز والمجنون والمعتوه [16].
اما الطرف الذي يقبض العربون فانه يأخذ دون ان يعطي (اي رابح) ، وهو لما ربح من شخص غير اهل (اي من الخاسر) . فانه (اي الرابح) يعتبر غابنا (للخاسر) ، وبذلك يبطل العقد ويرجع الى حالة ما قبل التعاقد (وفقا لاحكام الكسب دون سبب) . ومن الواجب ان نشير الى ان الغبن لوحده في هذه الحالة كافيا لابطال العقد . اذ لايشترط ان يصحبه تغرير (المادة 124 مدني عراقي) .
ويعبر فقهاء الشريعة الاسلامية (الحنفية والمالكية والشافعية) عن هذه الحالة بقولهم (ان العربون شرط للبائع بدون عوض فلا يصح)[17] .
- -4- ومن كل هذا يتضح لنا ان العربون في عقد البيع حسب دلالة القوانين اللاتينية سيفقد عقد البيع (وهو من عقود المعاوضة) هذه الخصيصة الهامة ويصبح عقد تبرع . لان الخاسر للعربون (دافعه) سوف يدفع دون ان يحصل على عوض من قبل قابض العربون (الرابح) ومع العلم ان الاخذ بالمفهوم لدلالة اللاتينية يحكم بدفع العربون ولو لم يترتب على العدول عن العقد أي ضرر بالطرف الآخر كما رأينا .
- -5- وقد قيل ان دفع العربون (أي خسرانه) من قبل واحد من الطرفين المتعاقدين ليس خسارة بدو ن عوض بل العوض هو ضمان مصلحة دافع العربون اكثر مما لو فقد عقد البيع او ضمان مصلحة قابض العربون وفي هذا الصدد يقول الاستاذ السنهوري (ان العربون لم يشترط للبائع بغير عوض اذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة) [18].
فالبنسبة للمشتري فان العوض الذي يحصل عليه لقاء خسارته العربون هو عدم تعرضه لخسارة محتملة يقدرها هو ، وربما تزيد (في اعتقاده) على قيمة العربون الذي خسره .
بالرغم من كل هذه التبريرات فان دفع العربون (أي خسرانه) من قبل دافعه يمثل خسارة دون عوض ، لان الخسارة التي يقدرها هو ان نفذ العقد ، والتي ربما ان تكون (في اعتقاده ) اكبر من خسارة قيمة العربون . هذه الخسارة لاتعدو ان تكون خسارة احتمالية في اغلب الاحوال ، ولو كان الحال كذلك لوجب على كل اطراف عقود المعاوضة مهما كانت ان يتفقوا ضمن عقودهم على العربون . حتى يتفادوا الخسارة الاحتمالية هذه والتي لايخلو منها عقد معاوضة . بينما واقع الحال لايجري بهذا النحو المتشائم . فضلا عن ان هذه الحالة تشير الى عدم ثقة في المعاملات التعاقدية ، وليس أشد على العلاقات التعاقدية من مصيبة اكبر من مصيبة عدم الثقة في انشائها واستمرارها وتنفيذها .
اما بالنسبة للبائع فان العوض الذي يحصل عليه ، وهو قيمة العربون ، فانما هو لقاء انتظاره وتفويت الفرصة عليه .
وهذه الحجة هي الاخرى مردودة لانه بالنسبة للبائع ولمسألتي الانتظار وتفويت الفرصة . فخير تعويض لهم جميعا هو الحكم بثبات العقد حتى يكون العوض كاملا غير منقوص والا فالتنفيذ بمقابل ، وليس العربون الذي لايصح الا اذا اعتبرناه شرطا جزائيا ، ولاشك ان هنالك اختلافا بين الاثنين حتى في اعتراف مؤيدي الدلالة اللاتينية نفسها .
- -6- وهنالك نقطة اخرى تثار دفاعا عن الدلالة اللاتينية او تبريرا لها مفادها : لما كان الطرف الذي دفع العربون (خاسره) قد رضي بالخسارة بملء ارادته فليس لنا شأن في اجباره على عدم دفع الخسارة ما دام هو مريدها . أي ان ندعه وشأنه وفي حل من التصرف في امواله كيفما يشاء . وفي هذا الصدد يقول القاضي شريح : من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه [19].
ان امر هذه الحالة ليس من السهولة بمكان تحققه . إذ لو تحقق لخلق فوضى وفردية عمياء على حساب ما يقتضيه المجتمع من مباديء اجتماعية ، ولو كان الحال كهذا لما تدخل المشرع لتنظيم وتحديد السن القانونية للافراد للتصرف بحقوقهم ، ولما منع الصغير غير المميز والمجنون والمعتوه مثلا من التصرف بأموالهم ولما حاسب من يشعل النار في امواله بيده .
ان الواقع على عكس ذلك فالمشرع من اجل ضرورات التضامن الاجتماعي يتدخل في الكثير من حريات الافراد الشخصية شاءوا ام أبوا . فهو يتدخل لينظم ويحدد السن القانونية ويتدخل ليمنع الصغير غير المميز … الخ من التصرف بأمواله ، وهو يتدخل ليحاسب من يحرق امواله بيده 0المادة 307 من قانون العقوبات البغدادي الملغى) ولايجدي من يحرق امواله بيده الادعاء انه يتصرف في امواله [20].
- -7- ان هنالك رأيا يؤيده جميع القائلين بدلالة العدول (صراحة او ضمنا) وهذا الرأي مفاده : ان الاخذ بدلالة العدول يتمشى مع مبدأ سلطان الارادة . الا اننا نرد عليه بقولنا ان هذا المبدأ لم يعد له ذلك السلطان الواسع كما كان عليه سابقا . لان جميع التشريعات العالمية اخذت تحد من نطاق الاخذ به ، وسبب ذلك لا لإزدياد عدد الدول الاشتراكية والمنادية بالاشتراكية وتعزز مواقعها فحسب وانما تغلغل الافكار الاشتراكية (الاصلاحية) الى صفوف النظام الاجتماعي للدول الرأسمالية ايضا .
وبعد … فالقيود الكثيرة التي حدت من نطاق تطبيق مبدأ سلطان الارادة ، هذه القيود ، قد دفعت بعض الفقهاء الى القول بأن العقد الحر (أي الذي مصدره الارادة الحرة) يميل الى ان يصبح عقدا موجها[21] .
- -8- وفي الواقع ان اشتراط العربون على ان يكون ثمنا او جزاءا لاستعمال الحق في العدول شرط مناف لمقتضى العقد (أي عقد البيع) وفي هذا يقول فقهاء الجعفرية (يعتبر في الشرط ان لايكون منافيا لمقتضى العقد) ويستدل الشيخ مرتضى الانصاري [22] على فساد الشرط المنافي لمقتضى العقد بدليل : لزوم التناقض ، لأن العقد يثبت الاثر ، والشرط ينفيه ، وهذا هو التناقض بالذات ، ومعه يستحيل الوفاء بالعقد ، وكل عقد يستحيل الوفاء به فهو باطل .
وعلى هذا فان دلالة العدول (على اعتبار انها شرط يستحيل به الوفاء بالعقد) باطلة [23].
ملحق الفصل الاول
اولا: عرض دلالة العدول البدلي
لقد قال بهذه الدلالة الاستاذ السنهوري ، ولمعرفة رأيه لابد لنا من أن نشير الى ان الاستاذ السنهوري يؤيد ، وفي الاساس القائلين بالدلالة اللاتينية الا انه يبرر الحق في العدول على اساس فكرة الالتزام البدلي – وهذا هو الذي حدا بنا الى ان نخصص ملحقا خاصا نستعرض فيه رأي الاستاذ السنهوري – . ومن اجل هذا لابد ان نطرح قبل كل شيء تكييف الاستاذ السنهوري للطبيعة القانونية للعربون ومن خلال هذا التكييف سوف نتعرف على دلالة العربون وفقا لرأيه (أي دلالة العدول البدلي) .
ان الاستاذ السنهوري يكيف الطبيعة القانونية للعربون تكييفا خاصا حيث يقول [24]: فالعربون اذن هو مقابل للرجوع في البيع [25]. اي بدل عن هذا الرجوع فيمكن تكييفه بانه البدل في التزام بدلي . ويكون المدين – بائعا او مشتريا- ملتزما اصلا بالالتزام الوارد في عقد البيع ودائنا في الوقت ذاته بالحق الذي يقابل هذا الالتزام . ولكن تبرأ ذمته من الالتزام – ويسقط بداهة الحق المقابل تبعا لذلك ان هو أدى العربون – ويترتب على ذلك ان العربون بدل مستحق بالعقد ، فدفعه انما هو تنفيذ للعقد وليس فسخا له ، أي (ان العدول في حالة دفع العربون لايكون عن العقد في جملته ، بل هو عن الالتزام الاصلي والحق المقابل له … فدفعه (اي دفع العربون) انما هو تنفيذ للعقد في احد شطريه وهو البدل ، لاعدول عنه في جملته[26]) .
ان من خلال هذا التكييف للطبيعة القانونية للعربون نستطيع ان نتعرف على دلالة العربون وفقا لرأي الاستاذ السنهوري ، حيث انها ستكون هدف المتعاقدين في ان يعدلا عن تنفيذ العقد والرجوع عنه على ان يكون المتعاقد العادل عن التنفيذ دفع قيمة العربون . وهو بهذا يغير (يبدل) التزامه في تنفيذ العقد (الالتزام الاصلي) بخسارة (دفع) قيمة العربون (الالتزام البدلي) . وبتعبير آخر يمكن القول ان العربون يدل على انه البدل للالتزام الاصلي الوارد في العقد وذلك عن طريق ايجاد محلين للعقد حتى يستطاع ابدال الالتزام الوارد على محل العقد الاصلي بقيمة العربون الذي هو المحل البدلي .
ان الاستاذ السنهوري بالرغم من قوله بصحة كون العربون يدل على الحق في العدول عن العقد الا انه لايبرر هذا الحق على اساس ان العربون هو ثمن او جزاء لاستعمال الحق في العدول ، وانما يبرر ذلك على اساس ان العربون يدل على الالتزام البدلي والذي يبتغي من ورائه الطرفان ضمان الحق في العدول لهما . ومتى ما دفع العربون فانه يعتبر كبدل مستحق في العقد وهو تنفيذ للعقد وليس فسخا له .
ثانيا: تقدير دلالة العدول البدلي
لقد قلنا في عرض (دلالة العدول البدلي) للاستاذ السنهوري ، ان الاستاذ يؤيد صحة كون دلالة العربون هي الاحتفاظ بحق العدول عن العقد ، ولكن كما لاحظنا من رأيه أيضا انه يعطي صفة الالزام البدلي للعربون من اجل تبرير الحق في العدول . ونحن سبق وان عرضنا تقديرنا للدلالة اللاتينية (دلالة العدول) [27]. ولكننا في تقدير (دلالة العدول البدلي) سنضيف اشياء اخرى الى ما قلناه سابقا وهذه الاضافة ناجمة عن ان الاستاذ السنهوري يعطي تبريرا خاصا به لدلالة العدول يختلف عما تقول به الدلالة اللاتينية . ففيما تبرر الدلالة اللاتينية الحق في العدول على اساس ان العربون ثمن او جزاء لاستعمال هذا الحق ، يبرر الاستاذ السنهوري الحق في العدول على اساس ان العربون التزام بدلي .
ومهما يكن من الامر فان (دلالة العدول البدلي ) للاستاذ السنهوري منتقدة هي الاخرى من عدة نواح ، وهي:
- -1- ا ن اول ما يلاحظ على رأي الاستاذ السنهوري تناقضه . إذ انه يجمع بين فقه الدلالة اللاتينية (في الاساس) بقوله : (فالعربون اذن هو مقابل للرجوع في البيع) وبين فقه الدلالة الجرمانية (في النتيجة) حيث يقول : (ويترتب على ذلك ان العربون بدل مستحق بالعقد ، فدفعه انما هو تنفيذ للعقد وليس فسخا له) في الوقت الذي فيه الاختلاف شاسع البون بين فقه الدلالتين اللاتينية والجرمانية .
- -2- ان الاخذ بدلالة العدول البدلي ، هو الآخر ، يفقد عقد البيع خصيصة هامة من خصائصه ، وهي انه عقد معاوضة ، لأن المتعاقد الذي سيبدل التزامه الاصلي (في تنفيذ عقد البيع) بدفع قيمة العربون سيكون قد أعطى دون ان يأخذ شيئا وبذلك يصبح عقد البيع عقد تبرع لا عقد معاوضة .
- -3- هذا بالاضافة الى ان المتعاقد في عقد البيع والذي محله بدليا يأخذ مقابل ما يعطي (سواءا في التزامه بالمحل الاصلي ام بالبدلي) وليس كما هو عليه حال من يدفع العربون دون ان يأخذ شيئا . وخير مثال على الالتزام البدلي هو ما اذا باع شخص سيارته على ان يكون تسليمها بعد ثلاثة ايام ، واحتفظ لنفسه بالحق في ان يسلم للمشتري بدلا من السيارة الف نسخة من كتاب معين خلال الثلاثة ايام المذكورة .ويتضح من هذا المثال ان في كلتا الحالتين سواء نفذ البائع الالتزام الاصلي (تسليم السيارة) ام البدلي (تسليم الف نسخة من الكتاب المعين) ، فانه يأخذ مقابل ما يعطي ، أي ان البائع يقبض الثمن ، وان احتفظ عقد البيع بخصيصته في انه عقد معاوضة ولم يفقدها كما لو أخذنا برأي الاستاذ السنهوري .
وعلى هذا فان عبارة الاستاذ السنهوري (ويسقط بداهة الحق المقابل تبعا لذلك) ، لاتعبر عن الواقع (واقع الالتزام البدلي) في شيء .
- -4- ومن ناحية أخرى فان الخيار في الالتزام البدلي يكون للمدين دائما[28] . وهذا (المدين دائما في الالتزام البدلي) هو البائع (اي الملتزم نقل ملكية المبيع وتسليمه الى المشتري) . في حين ان الخيار بين تنفيذ العقد او دفع العربون في عقد البيع يكون للدائن كما هو للمدين (اي للبائع والمشتري على حد سواء) ، وفي هذا حسبما يبدو اختلاف كبير بين حقيقة الالتزام البدلي وبين ما يقول به الاستاذ السنهوري من أن العربون هو التزام بدلي في عقد البيع .
- -5- ومن جهة اخرى ايضا فان النية الحقيقية للمتعاقدين في الالتزام البدلي انصرفت اليه ابتداءا ورضي الدائن في ان ينفذ له المدين الالتزام البدلي لا الاصلي متى اختار المدين ذلك . اما في عقد البيع فلم تنصرف اليه النية الحقيقية للمتعاقدين الى العربون (الى الالتزام البدلي كما يقول الاستاذ السنهوري) بل انصرفت الى ان تنفذ التزاماتهما كما جاءت في عقد البيع الذي ابرماه (اي الالتزام الاصلي كما يقول الاسناذ السنهوري) ، والا لما تعاقدا ، ولأنه لو انصرفت نيتهما الحقيقية المتوقعة الى العربون (بإعتباره التزاما بدليا) لكانا (أي العاقدان) قد ابرما عقد تبرع لاعقد بيع لانه سيكون بعلمهما مقدما ان احدهما سيدفع العربون للآخر من دون ان يقدم هذا الدافع للعربون أي شيء.
وبالاضافة الى ذلك فإن هذه الحالة تشير الى عبث من قبل دافع العربون لانه سيتحمل خسارة دون ان تكون لديه نية التبرع . وسبق لنا ان بينا حكم مثل هذه الحالة ، ومدى تأثيرها على العلاقة القانونية.
- -6- في الالتزام البدلي لايعنى المدين مقدما بالالتزام الاصلي او البدلي بل ينتظر مدة معينة يسلم فيهاالشيء الذي يرغب في تسليمه او بإيفائه (خلال المدة المقررة او بانتهائها) للالتزام الاصلي او البدلي يكون قد أبرأ ذمته . بينما حقيقة العربون ليست كذلك لان احد العاقدين يفي بالعربون (الالتزام البدلي كما يقول الاستاذ السنهوري) مقدما وبذلك فانه يكون قد اوفى بالالتزام الذي بذمته وبرأت هي الاخرى إذ هو مخير بين الايفاء بالعربون أو تنفيذ العقد وانتهى الامر ، وليس عليه بعد ذلك أن ينفذ الالتزام الاصلي .
إن هذا ليبعث على الخلط حقا بين هذا وذاك .
[1] انظر في ذلك د. العامري ، سعدون ، مذكرات في العقود المسماة البيع والايجار ، الطبعة الاولى ، بغداد ، 1966 ، ص 17. ويعرفه فقهاء الشريعة الاسلامية ، موضحين صفة المعاوضة اكثر من غيرها بقولهم انه : مبادلة مال بمال ، انظر في ذلك مغنية ، محمد جواد ، فقه الامام جعفر الصادق ، الجزء الثالث ، الطبعة الاولى ، بيروت ، تشرين الاول 1965 ، دار العلم للملايين ببيروت ، ص 22 . المادة 343 من مرشد الحيران للمرحوم قدري باشا . المادة 105 من مجلة الاحكام العدلية . المادة 506 من القانون المدني العراقي .
[2] انظر في ذلك ايضا د. الصراف ، عباس ، المقال المنشور في مجلة القضاء (العددان الاول والثاني) لسنة 1958 تحت عنوان (العربون واحكامه في القانون المدني العراقي – بحث مقارن – ص 19 . ومن الجدير بالذكر ان نشير الى ان هنالك رأيا مخالفا لهذا حيث يشترط ان يكون العربون مبلغا نقديا ومن اصحاب هذا الرأي د . الحكيم عبد المجيد راضي ، الموجز في شرح القانون المدني (الجزء الاول) ، الطبعة الثانية ، بغداد ، 1963 ، ص 99 . د . العامري ص 62- 63 .
[3] د . الصراف ، ص 30
[4] د . الصراف ، ص 17
[5] د . الحكيم ، ص 99 – د . العامري ، ص63 – السنهوري ، الوسيط في شرح القانون المدني ، الجزء الرابع ، القاهرة ، 1960 ، ص 86-87 ف 45 ، وكذلك الجزء الاول ، ص 259 وما بعدها ، وكذلك مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، دراسة مقارنة بالفقه الغربي الحديث ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية ، 1960 ، ص 93 – د . الصراف ، ص 24- 25 .
[6] استئناف مختلط 5 ابريل 1938 م 50 ص 215 – يونية 1948 م 60 ص 139 ، نقلا عن السنهوري ، الوسيط ، الجزء الرابع ، هامش ص 89 ، وكذلك مصادر الحق ، ص 93 – 94 . ومن الجدير بالذكر الاشارة الى ان لنا نقدا لهذا الرأي سنبحثه عندما نتطرق لرأي الاستاذ السنهوري في هذا المبحث باعتباره مؤيدا للفقه الحنبلي .
[7] نفس المصدر اعلاه .
[8] د . الصراف ، ص 44 – الا انه مع كل الذي يورده الدكتور الصراف فاننا نستطيع التساؤل : اذن لما كان دفع العربون ليس تعويضا عن الضرر الذي يصيب المتعاقد الآخر ، فعلى أي أساس يدفع الطرف العادل الى الطرف الآخر ما يساوي قيمة العربون ؟ . واما قوله عن العربون : هو ثمن او جزاء لاستعمال الحق في العدول ، فانه قول يدل دلالة قاطعة على ان دفع العربون هو تعويض اتفاقي عن الضرر الذي يصيب الطرف الآخر من جراء تعسف الطرف العادل . وهنا نكون امام شرط جزائي لاعربون وحتى في هذه الحالة ان لم تجد المحكمة داعيا لفرض هذا التعويض ، فإن هذا من حقها ان لاتحكم به وبالتالي يخرج الطرف الآخر صفر اليدين . الا ان هذا ، بالطبع ، لايمنع ، حقه في طلب التعويض اذا تسبب الطرف العادل بغشه الجسيم عدم تنفيذ العقد تنفيذا عينيا . واخيرا وحتى ان كان العربون (حقا) هو ثمن او جزاء لاستعمال الحق في العدول فان ذلك لايبرر دفعه . اذ اننا لو كنا نريد مصلحة الطرف الآخر والذي لايزال راغبا في تنفيذ العقد ، فاننا سوف نجعل العقد باتا وبذلك نضمن له حصوله على حقوقه كاملة . – وانظر كذلك السنهوري ، مصادر الحق ، ص 94 .
[9] راجع تعليقات د . اللوز على المادة 1590 من القانون الفرنسي وكذلك نقض الفرنسي عن دائرة العرائض في 6-12- 1927 . وكذلك د. اللوز 1928-1- 166 وثم بلاينيول وريبير ، المطول هامش ص 752 – نقلا عن د . الصراف ، ص 32
[10] راجع بلاينيول وريبير ، المطول ، ص 208 – وكذلك اوبرري ورو ، الجزء الخامس ف 349 – وكذلك بودري وسينيا ، ف 84 ، نقلا عن د . الصراف ص 32 .
[11] ومن الجدير بالذكر ان القانون الروماني قبل عهد جستنيان (اي في عهده الاول) وكما كانت عليه وجهة نظر الفقيه الروماني (كايوس) كان يقول بان العربون هو ليس الا دليلا على انعقاد العقد – انظر في هذا الصراف ، ص 30 – اي ان الاتفاق على العربون في العقد ودفعه تأكيدا على ان العقد اصبح باتا لايجوز الرجوع فيه ، ذهني ، عبد ااسلام ، النظرية العامة في الالتزام ، ص 93- 94 نقلا عن الصراف ص 30 .
[12] د . الصراف ، ص 31 .
[13] راجع جيرار ، في شرح القانون الروماني ص 526 ، نقلا عن الصراف ، ص 31 .
[14] ذكره السنهوري ، مصادر الحق ، ص 92 .
[15] وسنأتي لشرح ذلك في حينه .
[16] وفي صدد ان يكون العقد خاليا من العبث يقول فقهاء الجعفرية (ان يكون للشرط غرض يقصد به العقلاء ، فلو كان عبثا … يكون الشرط باطلا ، ولكنه لايوجب بطلان العقد) ، انظر في ذلك مغنية ، ص 173 .
[17] د . الصراف ، ص 34 .
[18] السنهوري ، مصادر الحق ، ص 101 .
[19] ذكره الزرقا ، مصطفى ، ص 356 ، نقلا عن الصراف ، ص 34 .
[20] جارو ، المطول ، الجزء السادس ، بند 2361، نقلا عن د. السعدي حميد ، النظرية العامة لجريمة السرقة ، بغداد ، 1968 ، ص 14.
[21] جوسران ، الجزء الثاني ، ف 15 مكرر ، نقلا عن الحكيم ، ص 35 .
[22] مغنية ، ص 173.
[23] بينما دلالة البتات (على اعتبار انها العكس ، بل التأكيد بان العقد اصبح باتا لايجوز الرجوع فيه) صحيحة وملائمة لمقتضى العقد ، وسنوضح ذلك في حينه .
[24] السنهوري ، الوسيط ، الجزء الرابع ، ص 90-91 ف 46 .
[25] لتوضيح ذلك انظر السنهوري ، المصدر اعلاه ، ص 86 – 90 ف 45 – 46 .
[26] السنهوري ، مصادر الحق ، ص 94 .
[27] انظر في ذلك ص 5-7 من هذا البحث .
[28] د . الحكيم ، المصدر السابق ، الجزء الثاني ، الطبعة الاولى ، بغداد 1965 ، ص 188 .
اترك تعليقاً