الجريمة من وجهة نظر التحليل النفسي (سيغموند فرويد-ألفريد أدلر نموذجًا)
د.خلفة سارة/جامعة محمد لمين دباغين سطيف2،الجزائر
ملخص:
النفس الإنسانية عالم مغلق كتوم على نفسه، لا يعلن عما يتفاعل فيه من مشاعر وعواطف، والظاهرة المعلنة الوحيدة التي تكشف النقاب عن ذلك العالم المغلق، هي السلوك الإنساني، فإذا كان ذلك السلوك هادئا منسجما مع قيم المجتمع وعاداته وأخلاقه، دل ذلك على نفس سوية، وإذا كان ذلك السلوك عنيفا في شكله، متحديا قيم المجتمع وأخلاقه، عابثا بأمنه واستقراره دل ذلك على نفس مريضة أو مضطربة نفسيا.
ولا نستطيع أن نفصل ظاهرة الجريمة عن الأسباب أو العوامل المؤدية إليها، لأن الجريمة تحتاج إلى بواعث ودوافع تهيئ أسبابها النفسية، وتجعل النفس في حالة استعداد لارتكاب الفعل الذي يدخل ضمن دائرة الخطر.
و لاشك أن الظروف النفسية المريحة للإنسان هي البيئة الأقدر على مطاردة الاستعداد الإجرامي…وفي ظل الظروف النفسية القاهرة تنسج الجريمة خيوطها الأولى في خيال الإنسان، وتتراءى له أشباح الجريمة من بعيد إلى أن يعتاد التفكير فيها، ثم يجد نفسه فجأة أما بوابة الجريمة، وعندما يقتحم عالمها المثير يألفه ويعتاده إلى أن يكون السلوك الإجرامي عملا من الأعمال المعتادة.
وقد اهتم الكثير من علماء النفس على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم ا بتفسير السلوك الإجرامي، ونتج عن ذلك كثير من النظريات النفسية المفسرة لها، ومن هذا المنطلق برزت الحاجة إلى دراسة موضوع الجريمة من خلال عرض بعض الاتجاهات النفسية الأساسية المفسرة لها.
الكلمات المفتاحية:الجريمة، النظريات النفسية، السلوك الإجرامي، البيئة، السلوك الإنساني.
مقدمة:
تعد الجريمة ظاهرة اجتماعية يرتبط وجودها بوجود المجتمعات فمتى وجدت المجتمعات وجد الأفراد برغباتهم وأهوائهم وأهدافهم المختلفة التي قد تتضارب وتتعارض أحيانا،مما يجعل البعض يرى في الاعتداء على الآخرين سبيلا لتحقيق أهدافه الخاصة، فالجريمة قديمة قدم الوجود الإنساني.
وتعتبر ظاهرة الإجرام من أكثر المشكلات الاجتماعية تعقيدا وتشابكا، فبالرغم من حداثة الاهتمام بدراستها دراسة علمية،إلا أن الباحث المختص يجد نفسه أمام فيض من الدراسات والنظريات التفسيرية التي تتشعب وتتعارض كما قد تتفق في بعض الأحيان. هذا لأن الفعل الإجرامي ظاهرة تهم كل من علماء الاجتماع والقانون وعلماء النفس والمربيين ويدخل ضمن اختصاص كل منهم لذلك حاول كل منهم أن يفسرها انطلاقا من أطره النظرية وطرقه في البحث فتعددت بذلك النظريات والاتجاهات مع ما تتميز به ظاهرة الإجرام من خصوصيات، ولهذا فان الباحثة سوف تقتصر على معالجة نموذج واحد من مختلف النظريات والمقاربات التي فسرت الجريمة، ألا وهي المقاربة النفسية والتي نهدف من خلالها دراسة الجريمة من منظور نفسي بحت من خلال تسليط الضوء على دوافعها وأسبابها النفسية اعتمادا على رؤى نفسية مختلفة.
تحديد المفاهيم الأساسية:
مفهوم الجريمة وتعريفاتها:
ظهر الاهتمام بالجريمة باعتبارها مفهوما أكثر تحديدا عن غيره من المفاهيم منذ وقت بعيد وقد ارتبط الاهتمام بهذا المفهوم بصورة عامة بالاهتمام بدراسة السلوك الإجرامي.
إن أي سلوك إنساني أو تصرف ناتج عن منشأ نفسي أو مادي أو عاطفي يعاكس الأخلاق أو الأعراف أو يعاكس التقاليد أو القيم أو يعاكس القوانين أو الشرائع أو المعتقدات يعتبر جريمة.
فالجريمة هي سلوك انحرافي وجنوح طارئ لارتكاب عمل ممنوع ارتكابه[1]
التعريف اللغوي للجريمة:
فمن الناحية اللغوية أخذت كلمة جريمة من المجرم: التعدي والجرم هو الذنب، والجمع إجرام و جروم، وهو الجريمة، ويقال جرم فلان أذنب وأخطأ فهو مجرم و جريم، أما في اللغة الانجليزية فتدل كلمة(crime) على الجريمة وأصلها (crimen). وهي كلمة لاتينية اشتقت من (cernere) التي أتت بدورها من أصل يوناني معناه التحيز والشذوذ عن السلوك العادي، أما المجرم فهو شذ عن السلوك العادي.[2]
التعريف الاصطلاحي للجريمة:
هي عدوان شخص على آخر في عرضه أو ماله أو متاعه أو شخصه، إنها بهذا المعنى تعتبر ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع، فحيث توجد حياة اجتماعية توجد جريمة.
كما تعرف أيضا بأنها “كل فعل مباين للإرادة العامة التي يؤكد عليها العقد الاجتماعي، أو هي كل فعل من شأنه فصم عرى العقد الاجتماعي، أو هي ظاهرة طبيعية في المجتمع تجلب سخط الأفراد لها، وتثير اشمئزازهم منها لأنها غالبا ما تثير وعي الجماعة للذود عن تقاليدها ومثلها وأعرافها.[3]
كما تعرف أيضا “بأنها سلوك ينتهك القواعد الأخلاقية التي وضعت لها الجماعة جزاءات سلبية ذات طابع رسمي،إذن فالجريمة هي السلوك الذي يرتكبه الفرد ويقابل بالرفض التام والعقوبة من طرف المجتمع الذي يتواجد فيه.[4]
تعريف الجريمة من المنظور القانوني:
تعرف الجريمة من الناحية القانونية بأنها ” كل عمل مخالف لأحكام قانون العقوبات، وقانون العقوبات هو الذي يتضمن الأفعال المجرمة، ومقدار عقوباتها.
وتعد أيضا الفعل أو الترك المخالف لنص القانون الجزائي المشروع من قبل الهيئة السياسية للمجتمع، والذي يتطلب بالضرورة النص على عقوبة مقررة ومحددة،أو غير ذلك من الإجراءات الاحترازية أو بدائل العقاب مما يتم تنفيذه في حالة الإدانة ضد المرتكب للفعل دون سواه من قبل سلطة شرعية مكلفة بتنفيذ الأحكام.
ومن تعار يف مفهوم الجريمة قانونيا أيضا التعريف الذي يقدمه محمد نجيب حسني “الجريمة فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر القانون عليه عقوبة أو تدبيرا احترازيا”.[5]
تعريف الجريمة من المنظور الاجتماعي:
تعرف الجريمة من المنظور الاجتماعي بأنها:”كل فعل يتعارض مع ما هو نافع للجماعة وما هو عدل في نظرها، أو هي انتهاك العرف السائد مما يستوجب توقيع الجزاء على منتهكيه، أو هي انتهاك وخرق للقواعد والمعايير الأخلاقية للجماعة، وهذا التعريف تبناه الأخصائيون الانثروبولوجيا في تعريفهم للجريمة في المجتمعات البدائية التي لا يوجد بها قانون مكتوب. وعلى هذا فان عناصر أو أركان الجريمة من هذا المنظور هي:
قيمة تقدرها وتؤمن بها جماعة من الناس
صراع ثقافي يوجد في فئة أخرى من تلك الجماعة لدرجة أن أفرادها لا يقدرون هذه القيمة ولا يحترمونها، وبالتالي يصبحون مصدر قلق وخطر على الجماعة.
موقف عدواني نحو الضغط مطبقا من جانب هؤلاء الذين يقدرون تلك القيمة ويحترمونها تجاه هؤلاء الذين يتغاضون عنها ولا يقدرونها.[6]
تعريف الجريمة من المنظور النفسي:
إن فهم الجريمة من وجهة النظر السيكولوجية كان من خلال التقدم الذي أحرزه علم النفس وخصوصا الخطوات التي خطتها مدرسة التحليل النفسي وتقنيات أبحاثها، فكانت هناك دراسات رائدة مركزة على الشعور واللاشعور والكبت الناتج عن وجود صراع نفسي، وقد اعتبرت الجريمة تعبيرا عن طاقة غريزية كامنة في اللاشعور تبحث عن مخرج وهي غير مقبولة اجتماعيا.
– ويعرفsillamy الجريمة بأنها:”مخالفة خطيرة للقانون المدني أو الأخلاقي وحسبه الجريمة نوعان: مرضية وغير مرضية فأما الجريمة المرضية فقليلة الانتشار نسبيا وهي تظهر عند المصابين بالصرع في مرحلة الخلط العقلي التي تتبع النوبة الصرعية حيث بعد النوبة تفقد الذاكرة والوعي فيقوم بأفعال إجرامية خارج إرادته ولا يتذكر أي شيء من تلك الأفعال، القتل غير المتوقع أو الفجائي الذي يقترفه الفصاميون أو العظاميون وكذا الهذيانيون الذين يتوصلون عن طريق استقراءات خاطئة إلى جعل الآخرين مسئولين عن ألامهم وأحزانهم فيقترفون الجريمة لأنها في أعينهم فعل عادل أم الصنف الثاني من الجرائم فيظهر عند الأشخاص لا هم عصابيين ولا مرضى عقليين، لكنهم اختاروا أفعالهم هذه للانعزال عن المجتمع.
-كما تعرف الجريمة من منظور نفسي بأنها: “تعبير عن طاقة غريزية كامنة في اللاشعور تبحث عن مخرج، وهي غير مقبولة اجتماعيا.[7]
2- علاقة علم النفس بالسلوك الإجرامي:
توصل الباحثون في مجال علم النفس وعلاقته بتفسير السلوك الإجرامي إلى الحقائق التالية:
الجريمة هي قبل كل شيء خلاصة التفاعل بين عوامل نفسية عدة، والبحث يجب أن يركز على العوامل النفسية التي قد تكون السبب المباشر للجريمة، حسب أحد علماء النفس الأوائل، الطبيب النفسي سيامانا، الذي كان يعتقد اعتقادا قويا بوجود علاقة وطيدة بين المرض النفسي والإجرام، وطالب بجعل مهمة “تشخيص” المجرمين وعلاجهم من اختصاص الأطباء النفسانيين، وعلماء الأنثروبولوجيا الجنائية
الجريمة على هذا الأساس، هي مظهر من مظاهر النشاط النفساني، ونتيجة للتفاعل الداخلي للفرد، لذلك يجب أن ينصب التركيز على معرفة ميكانيزمات التفاعل الداخلي، ومعرفة العوامل النفسية التي تكون لها علاقة مباشرة، أو غير مباشرة بالجريمة.
العوامل والسمات الجسمية الخارجية للفرد لها تأثير مباشر عن الإرادة الإجرامية للفرد.
خلاصة التفاعل النفسي الداخلي هو الذي يحدد طبيعة السلوك(محصلة التفاعل النفسي) الذي يسلكه الفرد.
الجهود يجب أن تنصب، إذن على معرفة ودراسة التكوين النفساني للفرد، حتى نستطيع معرفة ومعالجة الشخص المجرم.[8]
3- النظريات النفسية المفسرة للسلوك الإجرامي:
يشير مسمى النظريات النفسية إلى مجموعة متعددة من المناحي والمفاهيم النظرية والمفاهيم النظرية التي تشترك جميعها في اعتقاد أساسي مؤداه أن السلوك الإجرامي محصلة أو نتاج لبعض خصال الشخصية الفريدة، أو خصال الشخصية التي توجد لديه بدرجة خاصة أو مميزة له، ومع ذلك توجد فيما بينها فروق واضحة في توجهاتها النظرية والواقعية.[9]
4- الافتراضات التي تقوم عليها النظريات النفسية:
تحتل التفسيرات النفسية للسلوك الإنساني مكانة مميزة في العلوم الاجتماعية وبالذات في علم الجريمة، وتشترك النظريات النفسية في مجموعة من الافتراضات وهي كما يلي:
يعتبر الفرد هو وحدة التحليل الأولية
تعتبر الشخصية الجزء الرئيسي للدافعية للشخص، فالشخصية هي موئل النزاعات والدوافع
الجريمة هي نتيجة السلوك شرطي غير مناسب،أو نتيجة لعمليات عقلية مضطربة أو غير مناسبة في الشخصية
العمليات العقلية غير الطبيعية نتيجة لأسباب متعددة غالبا ما تحدث في الطفولة المبكرة وتشتمل أي الأسباب التالية: العقل المريض- أو التعلم غير المناسب- أو الاشراط غير المناسب.[10]
نظرية التحليل النفسي (psycho-analysis):
1.5مضمون النظرية:
مدرسة التحليل النفسي هي المدرسة التي نشأت تحت تأثير أعمال و أبحاث كل من سيجموند فوريد (1856-1939)، والفرد أدلر (1870-1937)، لكن فرويد كان تأثيره أكثر وضوحا وغزارة، ولهذا سميت “مدرسة التحليل النفسي” أيضا بــ” النظرية الفرويدية”.
و بدأ فرويد بالتأكيد على اللاشعور، وعلى ما أسماه بالدوافع اللاشعورية (القوية) وتأثيرها في سلوك الإنسان، وعلى أهمية مرحلة الطفولة المبكرة لدى الأفراد، وعلى الاضطرابات العاطفية والوجدانية عند الفرد، وعلاقتها بتفسير السلوك الإنساني، السوي منه والمريض على حد سواء. ولكنه ركز على مفعول امتدادات الاضطرابات اللاشعورية وتشعباتها في بروز أو ظهور الشخصية المرضية (نفسيا)، أو بروز و ظهور السلوك غير الوي، أو الشاذ أو الإجرامي.
فمن منطلق التركيز على مرحلة الطفولة المبكرة في تشكيل الشخصية الفرو دية، يرى فرويد في اللاشعور والكبت والحرمان، وعقدة الذنب وعقدة أوديب، وعقدة الكترا، والشعور بالنقص، أحد مظاهر الاضطرابات النفسية التي تؤثر في سلوك الإنسان، وحاول بواسطتها تفسير بعض السلوكيات والانحرافات والاختلالات العصابية والمرضية، بغض النظر عن الوضع والمحيط الاجتماعي وبغض النظر عن تأثيرات المحيط الإجرامي( تأثير الثقافة الإجرامية).[11]
أقسام الشخصية عند سيغموند فرويد:
حسب فرويد، الشخصية تنطوي أساسا على ثلاثة عناصر أساسية متصارعة ومتناقضة وهي:
الــــ”هو” (أو “هي”)ID: أي الدوافع القوية لدى الفرد التي تبحث عن إشباع بأية طريقة، أو هي النزعة الأنانية أو مجموع الرغبات الفردية بشكلها البدائي، وحب الذات واللذات والشهوات، غير المسيطر عليها، وهو ما يعني الذات في صورها البدائية، أو الدوافع الفطرية للفرد، أو أصول الدوافع والغرائز التي تتطلب إشباعا فوريا وتمثل اللاشعور، أو العقل الباطن
الأنا العليا “SUPER EGO”: وهي عبارة عن الصور المثالية والفضائل الأخلاقية التي نتعلمها في الصغر، أو التي تلقنها العائلة للأطفال، وهي بمثابة الضمير الحي، والوازع المثالي. وتمثل “ما فوق الشعور” لدى الأفراد (النزعة العلوية لدى الفرد). وهنا يكون الضبط داخليا وليس خارجيا.
الأنا “ego”: وهي الذات في صورها العاقلة (العقل الظاهر) المسيطرة التي تكبح جماح “الأنا العليا” (التي تهدف إلى الإسراف في المثالية، والتعالي عن الملذات والشهوات، وتدفع إلى الزهد والمزيد من الأخلاق المثل العليا) من جهة، والــ “هو/هي”، أو الرغبة في الملذات والشهوات والنزعة الأنانية، وإشباع الرغبات الفردية بدون حدود أو قيود، من جهة أخرى. وتمثل “الأنا” الإدراك والوعي لدى الفرد.
وإذا عجزت ” الأنا” عن تسيير وتقويم كل من الــ”هو/هي” و”الأنا العليا”، وقع الإنسان في صراع داخلي، حيث يؤدي هذا الصراع في النهاية إلى تغلب إحداهما على الأخرى. فإما أن تتغلب “الأنا العليا” ويتجه الفرد بذلك إلى الزهد والتعبد، أي الابتعاد عن الواقع بطريقة أو بأخرى(وهذا في حد ذاته يعتبر سلوكا شاذا)، وإما أن تسيطر على “هو/”هي، أي الذات المفرطة في الرغبات والملذات، وبذلك يتجه الفرد إشباع رغباته وشهواته وملذاته وبدون قيد أو حدود وبكل الطرق، ومنها الطرق الإجرامية. وهكذا يسلك الفرد سلوكيات غير سوية(ومنها السلوكيات الإجرامية)، كي يلبي كل ما تطلبه ذاته الأنانية.
إن عجز “الأنا” عن أداء دورها الرقابي، التوازني، قد يؤدي إلى ظهور السلوكيات الانحرافية في صور وأشكال ودرجات مختلفة، وذلك يرجع إلى الاستعدادات الفردية(تأثير لمبروزو هنا واضح)، والى المحيط الاجتماعي، أو قد يؤدي العجز عن التوفيق بين ـ”الهو/هي” والأنا العليا”، أي وجود “الأنا” غير المتكيفة في النفس البشرية، إلى الإحباط، ثم الإحباط الشديد، ومنه إلى السلوك العدواني أو الإجرامي حسب أصحاب النظرية.[12].
3.5 تفسير السلوك الإجرامي عند فرويد:
– لقد أكد سيغموند فرويد من خلال نظريته في تفسير الجناح والانحراف أن الجريمة تعزى إلى اختلال في الجهاز النفسي للشخصية المتمثل في الهو والأنا، والأنا العليا من حيث بناء هذا الجهاز، وقوته وضعفه والعلاقة بين عناصره الثلاثة وبين الواقع المحيط من ناحية أخرى. إلى جانب ما ينشأ في النفس من صراع ودوافع مكبوتة تؤدي إلى أساليب سلوكية لاشعورية شاذة للدفاع عن ذات الفرد. وهذا يؤدي إلى السلوك اللاسوي بمختلف صوره (السلوك الذهاني، أو السلوك العصابي، أو السلوك الإجرامي).
– عندما يخفق الأنا في إشباع متطلبات الهو تنمو ميكانيزمات الدفاع، فتستعين بالتعويض والنكوص والإسقاط والكبت. وبذلك يلعب اللاشعور دوره في توجيه السلوك الإنساني. وعليه تكون مظاهر الانحراف عبارة عن حيلة دفاعية ضد القلق كمشكلة الهروب، أو بديلا للاستمناء الذاتي كالسرقة، ويتمثل الصراع في وجود الذات (الأنا) محاطا بثلاث قوى: أولها الدوافع الفطرية وحاجات الإنسان ورغباته، وهي تتطلب إشباعا يستند إلى اللذة دون اعتبار لمقتضيات الواقع، وثانيها هو الضمير الخلقي الذي يفرض حوائل وموانع تحرم تحقيق تلك الدوافع والرغبات استنادا إلى القيم الخلقية والاجتماعية المتمخضة عن الدين أو الحياة في المجتمع. أما ثالث هذه القوى فهو متطلبات البيئة والوضع السائد. وهذا يؤدي إلى حالة من اللاتوازن وعدم الاستقرار النفسي. مما يؤدي بالتالي إلى أن تجد الأنا حلا لها في السلوك غير السوي وبما في ذلك السلوك الإجرامي.
– إن السلوك المنحرف من وجهة نظر التحليل النفسي هو سلوك لاشعوري هدفه التعويض أو الإبدال والتخلص من الصراع الذي يعانيه الفرد من جراء الصراع بين المكونات النفسية الثلاثة للشخصية من ناحية، ومطالب المجتمع وقواعده السلوكية من ناحية أخرى، فمحدودية قدرة الفرد على الكبت الدائم للدوافع (الهو) وغرائزها بصورة كافية يقوي احتمال أن يصبح الفرد منحرفا حتى وان أفلح في كبت دوافعه. ويقوي من ميل الفرد إلى الانحراف استجلابا للعقاب. إن نزعاته الغريزية تكون غير محببة ومحظورة ومستهجنة. فهو ينحرف لكي يعاقب تخفيفا للشعور بالذنب.
– وترى مدرسة التحليل النفسي أن الجانح يلجأ إلى العدوان دفاعا عن قلقه وعدم اطمئنانه، فالإحباط يثير الشعور بالعدوان. و لكن الجانح يعرف أن التعبير عن هذا العدوان سيقابل بعدوان مضاد له، وهو هنا يرى أن خير وسيلة لضبط الخوف والقلق من العدوان المتوقع هي في البدء بهذا العدوان الذي يأخذ صورا وأشكالا عديدة[13]
نقد النظرية:
لا شك في أن هذه النظرية قد نبهت الأذهان إلى جانب هام من جوانب الإنسان، ألا وهو الجانب النفسي، وركزت الأضواء عليه بما ينطوي على إضافة علمية غير مجحودة في ميدان الدراسة الإجرامية، بعد أن كان البحث قاصرا-بصفة رئيسية- على الجانب العضوي فحسب.
إلا أن تفسير النظرية للسلوك الإجرامي لم يكن بمنأى عن كل خطأ. فليس صحيحا من ناحية أولى أن ضعف الضمير أو الأنا العليا يقود دائما إلى طريق الجريمة فمن الناس من يضعف صوت الضمير لديهم ومع ذلك لا يقدمون عليها. فضلا عن أن انعدام أو ضعف الضمير لا يصلح تفسيرا للجرائم العاطفية التي كثيرا ما يحتل ضمير فاعلها مكانة عليا. ويقود منطق هذه النظرية—من ناحية ثانية إلى وجود تميز الشخص المجرم بالفضاضة وغلظة القلب ونبذ العواطف تماما وهو ما لم تثبت الأبحاث صحته- إذ أثبتت عدم تمتع المجرم بقدر كبير من الذكاء وخضوعه للأوهام حتى بالنسبة لجرائم القتل حيث تبين أن المجرم يقدر على ارتكابها دون انفعال ظاهر. وهكذا أخفقت النظرية النفسية في تقديم برهان علمي يؤكد صحتها.[14]
نظرية ألفريد أدلر: (1870- 1937):
1.6 مضمون النظرية:
ينطلق ألفريد أدلر من افتراض أن السلوك الإنساني نابع من تفرد الإنسان الذي تحركه الحوافز الاجتماعية. وهذا التفرد ناشئ عن وجود الذات الخلاقة الهادفة في سلوكها لتحقيق غاية يخطط لها الإنسان بشكل شعوري واضح. ومن هنا كانت نظرية أدلر غائية لأن الأهداف هي السبب الذاتي للأحداث السيكولوجية، فهي تحرك في الإنسان الميل إلى التفوق والتغلب على نواحي النقص فيه بتنمية علاقاته الاجتماعية. وهكذا تتضح الأبعاد النفسية الاجتماعية في نظرية أدلر.[15]
2.6 أدلر والنموذج الغائي لنظرية الإحساس بالنقص:
أكد أدلر سنة 1937 مؤسس علم النفس الفردي ” على ما لدى الإنسان من رغبة الانتماء إلى جماعة وحصوله على مكانة ومنزلة منها، في هذه الحالة أما أن تنمو لديه رغبة اتجاه السلطة والسيطرة أو يصاب بعقد ة نقص وحينما يصبح الفرد على دراية بفشله وقصوره فانه غالبا ما يلجأ إلى تعويض شعوره بالنقص تعويضا مبالغا، وعلى ذلك قد يصبح الانحراف بالنسبة للفرد وسيلة لجذب الانتباه لذاته وتعويضا لما يعانيه من إحساس بالنقص أو الدونية، هذه العقدة إما تنتج عن الشعور بالدونية لوجود إما نقص جسماني أو عقلي أو اقتصادي، مما يثير في الفرد ردود أفعال عنيفة عند الفشل في التعويض عنها” كما عمد أدلر إلى تعديل نظريته، فمع تسليمه بإمكان ارتباط السلوك الفردي بعوامل نفسية معينة، فان هذا السلوك كما يعتقد تمليه الأهداف المقصودة منه، فهو يرى أن كل الظواهر النفسية التي من شأنها أن تعين على تفسير السلوك الفردي يمكن فهمها وإدراكها، إذا نظرنا إليها على أنها تهيئ لتحقيق هدف معين، فالهدف النهائي للسلوك هو تحقيق احترام الذات وقهر الشعور بالنقص، يمكننا القول أن النموذج الغائي الذي يسعى أدلر إيضاحه قد يظهر بطرق مختلفة فحسب رأينا لكل نموذج طموحاته وأحلامه، فقد يظهر في العمل على تحقيق المثل الأعلى الذي يتخذه الفرد لنفسه في الحياة أو للسعي وراء النجاح والعمل والعلم مثلا.[16]
3.6 تفسير السلوك الإجرامي عند أدلر:
بالرغم من انتماء (أدلر) إلى مدرسة التحليل النفسي إلا أنه بدوره يركز هذه المرة في تفسير السلوك الإجرامي على الشعور بالنقص وفطرة الإنسان على حب التفوق، حيث يرى “أن شعور الإنسان بالنقص هو المصدر الأول لكل نشاط إنساني، وأن غاية كل إنسان هي السيطرة والتفوق، والجريمة في نظر (أدلر) شأنها شأن المرض النفسي والشذوذ الجنسي، تأتي نتيجة صراع بين غريزة الذات أي نزعة التفوق وبين الشعور الاجتماعي[17]
نقد النظرية:
رغم أن مدرسة أدلر في التحليل النفسي تبدو محدودة الأثر في تفسير المشاكل السلوكية بوجه عام، إلا أن أفكاره كانت محل انتقاد عند الكثيرين إذ سلموا أن لكل فعل إجرامي له كمبدأ عام –هدف لا شعوري أولا- ولكن تجدر الإشارة هنا إلى تلك الجرائم التي ترتكب بطريق الخطأ والإهمال فما الهدف منها؟ إضافة إلى أن أهداف الفرد من وراء سلوكه دائما لا تكون واضحة، فتبقى كامنة لا تكشف عنها أية مظاهر خارجية.
خاتمة:
في النهاية باستطاعتنا القول إن مدرسة التحليل النفسي ما هي إلا محاولة لتفسير السلوك أو تطور الشخصية الفردية بصورة عامة، أما محاولتها تفسير الجريمة و الإجرام، فإنها لم تنجح باعتقادنا في وضع نماذج تفسيرية صالحة ومقنعة. فهي أحيانا بعيدة عن الواقع وغير صالحة لتفسير بعض أنماط السلوك الإجرامي، وأحيانا أخرى تقدم تفسيرات عامة غير مقنعة وغير مناسبة في الزمان والمكان.
قائمة المراجع:
أبو سمرة محمد عبد الحسين، علم النفس الجنائي، دار الراية للنشر والتوزيع، عمان(الأردن)، سنة 2005.
أسماء بنت عبد الله بن عبد المحسن التويجري، الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للعائدات للجريمة،مذكرة لنيل شهادة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، السعودية، 2011.
يحي خير الله عودة، البيئة والسلوك الإجرامي(دراسة نظرية في الانثروبولوجيا الجنائية)، مجلة الآداب، الجامعة المستنصرية، العدد 107،دس.
لمرزي جميلة وحبة وديعة، قراءة سوسيولوجية لظاهرة الجريمة المعاصرة بالمجتمع الجزائري، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الوادي، العدد 07، جويلية 2014.
صالح بن سليمان بن عبد الله الشعير، الطلاق وأثره في الجريمة، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في تخصص السياسة الجنائية، جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض، سنة 2008.
مزوز بركو، اجرام المرأة في المجتمع الجزائري (العوامل والآثار)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية 2006/2007.
أحسن طالب، الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية، دار الطليعة للطباعة والنشر (بيروت)، لبنان، ط01، سنة 2002، ص ص 84 85.
محمد شحاتة ربيع وجمعة سيد يوسف ومعتز سيد عبد الله، علم النفس الجنائي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، سنة 2004، ص115.
نجيب بوالمان، الجريمة والمسألة السوسيولوجية (دراسة بأبعادها السوسيوثقافية والقانونية)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه علوم، جامعة منتوري قسنطينة،السنة الجامعية 2007/2008.
غريب محمد سيد أحمد، سامية محمد جابر، علم اجتماع السلوك الانحرافي، دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، سنة 2005.
جمال الدين عبد الخالق والسيد رمضان، الجريمة و الانحراف من منظور الخدمة الاجتماعية، مكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، سنة 2001.
خضير خلايفية، التصورات الاجتماعية لدور المدرسة عند الأحداث المنحرفين (دراسة ميدانية بمراكز اعادة التربية)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه علوم في علم النفس الاجتماعي، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية 2011/2012.
سمير يونس، ظاهرة العود الى الانحرافدراسة للظروف الأسرية( دراسة ميدانية بمراكز اعادة التربية)،مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع الجريمة والانحراف، جامعة باجي مختار عنابة، السنة الجامعية 2005/ 2006.
[1]أبو سمرة محمد عبد الحسين، علم النفس الجنائي، دار الراية للنشر والتوزيع، عمان(الأردن)، سنة 2005، ص47.
[2]أسماء بنت عبد الله بن عبد المحسن التويجري، الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للعائدات للجريمة،مذكرة لنيل شهادة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، السعودية، 2011، ص ص28 29.
[3] يحي خير الله عودة، البيئة والسلوك الإجرامي(دراسة نظرية في الانثروبولوجيا الجنائية)، مجلة الآداب، الجامعة المستنصرية، العدد 107،دس، ص ص 390 391.
[4]لمرزي جميلة وحبة وديعة، قراءة سوسيولوجية لظاهرة الجريمة المعاصرة بالمجتمع الجزائري، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الوادي، العدد 07، جويلية 2014، ص173.
[5]أسماء بنت عبد الله بن عبد المحسن التويجري، مرجع سبق ذكره، ص ص 29 30.
[6]صالح بن سليمان بن عبد الله الشعير، الطلاق وأثره في الجريمة، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في تخصص السياسة الجنائية، جامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض، سنة 2008، ص ص 51 52.
[7]مزوز بركو، اجرام المرأة في المجتمع الجزائري (العوامل والآثار)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية 2006/2007، ص ص117 118.
2أحسن طالب، الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية، دار الطليعة للطباعة والنشر (بيروت)، لبنان، ط01، سنة 2002، ص ص 84 85.
[9]محمد شحاتة ربيع وجمعة سيد يوسف ومعتز سيد عبد الله، علم النفس الجنائي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، سنة 2004، ص115.
[10]صالح بن سليمان بن عبد الله، مرجع سبق ذكره، ص65.
[11]نجيب بوالمان، الجريمة والمسألة السوسيولوجية (دراسة بأبعادها السوسيوثقافية والقانونية)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه علوم، جامعة منتوري قسنطينة،السنة الجامعية 2007/2008.
[12]أحسن طالب، مرجع سبق ذكره، ص ص 91 92.
[13]غريب محمد سيد أحمد، سامية محمد جابر، علم اجتماع السلوك الانحرافي، دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، سنة 2005، ص ص30 31.
[14]جمال الدين عبد الخالق والسيد رمضان، الجريمة و الانحراف من منظور الخدمة الاجتماعية، مكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، سنة 2001، ص ص 204 205.
[15]غريب محمد سيد أحمد وسامية محمد جابر، مرجع سابقـ ص 31.
[16]خضير خلايفية، التصورات الاجتماعية لدور المدرسة عند الأحداث المنحرفين (دراسة ميدانية بمراكز اعادة التربية)، أطروحة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه علوم في علم النفس الاجتماعي، جامعة منتوري قسنطينة، السنة الجامعية 2011/2012، ص 172.
[17]سمير يونس، ظاهرة العود الى الانحرافدراسة للظروف الأسرية( دراسة ميدانية بمراكز اعادة التربية)،مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع الجريمة والانحراف، جامعة باجي مختار عنابة، السنة الجامعية 2005/ 2006، ص70.
اترك تعليقاً