التوكيل في الخصومة في الفقه الإسلامي
د. محمد بن إبراهيم بن علي الغامدي
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة
كلية الشريعة وأصول الدين – جامعة الملك خالد
ملخص البحث
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده
أما بعد :فيتكون البحث من مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة
بينت في المقدمة أهمية الموضوع والأسباب الداعية للكتابة فيه ، وفي التمهيد عرفت بالوكالة، والخصومة ، وبينت حكم الوكالة بوجه عام
أما في الفصل الأول : فقد بينت حكم التوكيل في الخصومة .
وفي الفصل الثاني تحدثت عن شروط التوكيل بالخصومة وقد جعلت كل شرط في مبحث مستقل .
وفي الفصل الثالث : تحدثت عن تصرفات وكيل الخصومة ،ما يجوز منها بلا نزاع ،ومالا يجوز بلا نزاع وما فيه خلاف أوضحت فيه آراء الفقهاء وأدلتهم ورجحت ما يقتضيه الدليل.
أما الفصل الرابع : فقد تحدثت فيه عن العوض في الوكالة .
وفي الفصل الخامس : تحدثت عن صفة عقد الوكالة وأسباب الفسخ .
وفي الخاتمة أوردت نتائج البحث ، وذيلت البحث بفهارس للمراجع وآخر للموضوعات
والله أسأل أن يجعل عملي فيه خالصاً لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين
* * *
مقدمة :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين ، أمَّا بعد :
فإن من أعظم نعم الله علينا أن جعلنا من المسلمين وجعلنا من أمة خاتم النبيين وسيد المرسلين ووفقنا أن جعلنا ممن يعنى بدراسة علم الفقه في الدين وهو من أشرف علوم الدين ، هذا العلم الذي يعتبر بحق معجزة من معجزات هذا الدين بما تضمنه من تشريعات هي الخير كل الخير للناس أجمعين ، وبما اشتمله من أمور تنظم حياة البشر ، حتى لم يترك شيئاً أو تنظيماً أو تشريعاً يحقق مصالح العباد إلاَّ بينه أكمل بيان ، ومن تلك التشريعات ما يهدف إلى إيصال الحقوق إلى أهلها ورفع الظلم عن المظلومين .
لقد عني الإسلام بذلك عناية فائقة واعتبره من مهمات هذا الدين وحث عليه نبينا بالقول وبالفعل ، وشرع من الأسباب ما يؤدي إلى ذلك ، كتولية القضاء للفصل في الخصومات التي تقع بين الناس، ووضع القواعد التي تمكن صاحب الحق من الوصول إلى حقه وترد المبطل عن باطله، ولما كانت الدعوى والجواب عنها من تلك الوسائل التي توصل الحق إلى مستحقه وترد المبطل عن باطله فقد جاء التشريع الإسلامي فيها بأسمى نظام وأكمل تشريع ، ولما كان صاحب الحق قد لايتمكن من الدعوى أو من الجواب عنها بنفسه إمَّا لشرفه ، أو لعجزه ، أو لغير ذلك من الأسباب ،
فقد شرع التوكيل في الخصومة من جانب المدعي ومن جانب المدعى عليه ليتمكن كل منهما من الوصول إلى حقه، وإذا كان قد وجد في زماننا من تخصص في التوكل عن المتخاصمين ويختار لذلك الألد الخصم الذي يجيد الحيل بحيث يتمكن من إظهار المجرم العنيد في صورة المظلوم المفترى عليه مقابل ما يأخذه من المال عوضاً على وكالته فإن التشريع الإسلامي يعتبر التوكل عن الغير في المخاصمة مبدأ من مبادئ التعاون على البر والتقوى إذا كان الغرض منه إيصال الحق إلى مستحقه ونصرة المظلوم ، كما يعتبر تعاوناً على الإثم والعدوان ؛ إذ كان الغرض منه إعانة الظالم وتلبيس الحق، ولذا فقد استنبط فقهاؤنا الإجلاء القواعد والشروط التي تكفل تحقيق الغرض الشرعي من هذا النوع من أنواع الوكالات هذه القواعد والشروط مستنبطة من كتاب الله – عَزَّ وَجَلَّ – وسنة رسوله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – .
ولَمَّا كانت أحكام الوكالة بالخصومة متناثرة في كتب الفقه فقد حاولت في هذا البحث جمع مسائل هذا الموضوع ، وإيضاح آراء الفقهاء في مسائله ، وبيان أدلتهم وما يرد عليها من المناقشات ؛ للوصول إلى الرأي الراجح وقد عنونته بـ (( التوكيل في الخصومة في الفقه الإسلامي )) .
وقد كان الداعـي إلى الكتابة في هذا الموضــوع بجانب ما مر من أهميته ما يلي:
1 – أني لم أجد فيما أمكنني الاطلاع عليه من بحث هذا الموضوع بحثاً فقيهاً مستقلاً يجمع مسائله ويوضح أحكامه ، وإنَّما يأتي الكلام عليه متفرقاً في كتب الفقه عند كلام الفقهاء عن الوكالة بوجه عام .
2 – إظهار تميز التشريع الإسلامي فيما يتعلق بهذا الجانب جانب التوكيل في الخصومة .
منهج البحث :
يتمثل منهج البحث في النقاط الآتية :
أولاً : الاقتصار في البحث على المذاهب الأربعة ، مع ذكر أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء السلف ما أمكن ذلك .
ثانياً : ترتيب الأقوال ترتيباً زمنياً مبتدئاً برأي الحنفية ومن وافقهم ، ثم المالكية ومن وافقهم وهكذا ، ولم أترك هذا الترتيب إلاَّ فيما ندر لسبب ، كأن أجد المسألة منصوصاً عليها عند بعض الفقهاء ولم ينص عليها غيرهم ، فأبدأ بالمذهب الذي نصّ على حكم المسألة ، ثم أخرج من أقوال الفقهاء الآخرين ما يناسب حكم المسألة .
ثالثاً : أذكر عقب كل قول أدلته من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، إلى آخره ، ثم أذكر عقب كل دليل ما ورد عليه من المناقشات ، والجواب عنها ، حتى أصل إلى الرأي الراجح في المسألة .
رابعاً : أعزو الآيات إلى سورها ، وأخرج الأحاديث من مصادرها ، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اقتصرت عليه ؛ إذ الغرض معرفة صحة الحديث ، وإن لم يكن فيهما فإني أذكر من رواه من غير استقصاء ، وأورد ما ذكره أهل العلم في الحكم عليه .
خامساً : أورد ترجمة موجزة للأعلام غير المشهورين الوارد ذكرهم في صلب البحث ، أمَّا المشهورين من الصحابة والتابعين فلم أترجم لهم ؛ استغناءً بشهرتهم ؛ وحتى لا أثقل هوامش البحث بالترجمة مع كثرة الأعلام الوارد ذكرهم في البحث .
سادساً : اعتمدت على المراجع الأصلية لكل مذهب فلا أنقل قولاً لمذهب إلاَّ من كتب فقهاء المذهب .
سابعاً : لم أغفل ما كتبه الفقهاء المتأخرون لاسيما أهل الفتوى في زماننا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً .
ثامناً : جعلت الهوامش والحواشي في آخر البحث .
تاسعاً : ذيلت البحث بفهارس للمراجع وآخر للموضوعات حتى يستطيع القارئ أن يجد بغيته في أقصر وقت ممكن .
خطة البحث :
لقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة:
أولاً : المقدمة : بينت فيها أهمية الموضوع وأسباب الكتابة فيه ومنهج البحث وخطته .
ثانياً : التمهيد في شرح العنوان وبيان حكم الوكالة .
ثالثاً : فصول البحث :
الفصل الأول : حكم التوكيل في الخصومة .
الفصل الثاني : شروط التوكيل في الخصومة .
وفيه ستة مباحث :
المبحث الأول : كون الفعل الموكل فيه مِمَّا يجوز التوكيل فيه .
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : التوكيل بالخصومة في حقوق الله عزّوجل من جانب المدعي.
وفيه فرعان :
الفرع الأول : التوكيل بالخصومة في حقوق الله لإثباتها .
الفرع الثاني : التوكيل في استيفاء الحدود .
المطلب الثاني : التوكيل بالخصومة في حقوق العباد من جانب المدعي .
المطلب الثالث : التوكيل من جانب المدّعى عليه .
المبحث الثاني : ثبوت الوكالة .
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي ( وكالة الحاضر ) .
وفيه فرعان :
الفرع الأول : حكم إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي .
الفرع الثاني : إثبات وكالة الحاضر .
وفيه مسألتان :
الأولى : إثبات الحاضر وكالته عند القاضي وهو يعرفه .
الثانية : إثبات الحاضر وكالته عند القاضي والقاضي لايعرفه .
المطلب الثاني : إثبات وكالة الغائب .
المطلب الثالث : اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق .
المطلب الرابع : وسيلة إثبات الوكالة .
المبحث الثالث : أن لايكون الموكِّل مبطلا .
المبحث الرابع : أن لايكون توكيله إضراراً بخصمه .
المبحث الخامس : العلم بالوكالة .
المبحث السادس : أن يكون وكيل الخصومة واحداً لا أكثر .
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعدد وكلاء الخصومة .
المطلب الثاني : تصرف الوكيلين .
الفصل الثالث : تصرفات وكيل الخصومة .
وفيه تَمْهيدٌ فيما يجوز لوكيل الخصومة من التصرفات وما لايجوز بلا نزاع .
المبحث الأول : إقرار الوكيل وإنكاره .
المبحث الثاني : قبض وكيل الخصومة المال الذي وكل بالمخاصمة فيه .
المبحث الثالث : توكيل وكيل الخصومة لآخر .
الفصل الرابع : العوض في الوكالة .
الفصل الخامس : صفة عقد الوكالة وأسباب الفسخ .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الوكالة بين اللزوم والجواز .
المبحث الثاني : أسباب الفسخ .
رابعاً : الخاتمة في نتائج البحث .
واللهَ أسأل أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به ، وأن يغفر ما فيه من التقصير والزلل ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
التمهيد وفيه ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : تعريف الوكالة :
الوكالة لغة : تطلق ويراد بـها الحفـظ ، ومن ذلك قول الله جلّ وعلا : ) وَقَالُوا حَسـْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيْلُ (([1]) أي الحافظ ، وقال تعالى : ) فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (([2]) قال الفـراء : أي حفيظاً . وتذكر ويراد بها الاعتماد وتفويض الأمر ، قال الله – عَزَّ وَجَلَّ – : ) وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (([3]) ، وقال – عَزَّ وَجَلَّ – مخبراً عن هود – عَلَيْهِ السَّلاَم – : )إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ (([4]) أي اعتمدت على الله وفوضت أمري إليه([5]) .
وفي الشرع : تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل([6]) .
هذا تعريف الكاساني([7]) من الحنفية ، ويلاحظ من خلال هذا التعريف أن الوكالة استعملت في المعنيين اللغويين .
وفي العناية : هي إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم([8]) .
والفرق بين تعريف الكاساني وصاحب العناية أن تعريف الكاساني لم يقتصر على التصرف بل شمل الحفظ فيدخل في ذلك الوديعة فإنها تفويض الحفظ إلى المودَع .
أمَّا تعريف صاحب العناية فقد اقتصر على التوكيل في التصرف ، وهذان التعريفان يدخل فيهما الوصية بالتصرف بعد الموت([9]) فيرد عليهما أنهما غير مانعين .
وعرفها ابن عرفة([10]) المالكي : بأنها نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته([11]) .
ومعناه : أن الوكالة هي أن ينيب صاحب الحق غيره في ذلك الحق حالة كونه ليس صاحب ولاية عامة أو خاصة ، ولا إمام صلاة ، فإن ذلك لايسمى وكالة ، وليست هذه النيابة مشروطة بموت المنيب ؛ لأنها إذا كانت مشروطة بموته فهي وصية وليست وكالة .
فيخرج بقوله : نيابة إمام الطاعة أميراً أو قاضياً ، أو صاحب صلاة ، والوصية .
وقوله : (( غير ذي إمرة )) أخرج به الولاية العامة والخاصة كنيابة إمام أميراً أو قاضياً .
وقوله : (( ولا عبادة )) أخرج به إمام الصلاة .
وقوله : (( لغيره )) متعلق بنيابة ، والضمير عائد على المضاف إليه .
وقوله : (( غير مشروطة بموته )) أخرج به الوصي ؛ لأنه لايقال فيه عرفاً وكيل .
ولذا فرقوا بين فلان وكيلي ووصيي([12]) .
وعرفها الرملي من الشافعية بقوله : تفويض شخص لغيره ما يفعله عنه حال حياته مِمَّا يقبل النيابة شرعاً([13]) .
ونفى الرملي أن يكون في هذا التعريف دوراً .
لكن قال الشبراملسي([14]) في حاشيته عليه : الظاهر أن الدور المنفي هو أن النيابة هي الوكالة وقد أخذت في تعريف الوكالة ، وحينئذٍ ففي اندفاعه بقوله : أي شرعاً نظر ؛ لأن النيابة شرعاً هي الوكالة ، فإن أجيب بأن النيابة شرعاً أعم من الوكالة فلا دور كان التعريف غير مانع .
قال : ويُمكن أن يجاب بأنه يُمكن أن يتصور ما يقبل النيابة شرعاً بوجه أنه ما ليس عبادة ونحوها ، وهذا الوجه لايتوقف على الوكالة فلا دور([15]) .
وعرفها الحجاوي([16]) في الإقناع : بأنها استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة([17]) .
قال في كشاف القناع : وهذا باعتبار الغالب ، أو المراد جائز التصرف في ذلك الفعل الذي وكل فيه ، وإن لم يكن مطلق التصرف فلايرد صحة توكيل نحو عبد فيما لايتعلق بالمال([18]) .
وقال في حاشية المنتهى : أو نقول على حقيقته أعني : الحر المكلف الرشيد، والتعريف بحسب الغالب ، وفيه ما فيه([19]) .
وبالنظر في هذا التعريف نجد أنه صرح بذكر جائز التصرف مع أن جواز التصرف شرط ، وأيضاً قوله : فيما تدخله النيابة يحتاج إلى بيان .
ويدخل فيه الوصية ، فهو غير مانع .
ولذلك أرى أن تعريفي المالكية والشافعية أفضل لولا ما في تعريف المالكية من الغموض في العبارة وما في تعريف الشافعية مِمَّا يحتاج إلى بيان وإيضاح وهو قولهم مِمَّا يقبل النيابة شرعاً ؛ ولذا فإني أرى أن يقال في تعريفها : هي عقدٌ يقيم بمقتضاه شخصٌ غيرَه مقامَه في حالِ حياته لفعل ماله فعله .
المسألة الثانية : تعريف الخصومة :
الخصومة لغة : الجدل خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه ، وهو شاذ ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عَيْنُه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخرة مفخرة يفخره ، وأمَّا المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلاَّ ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كرضيته فرضوته أرضوه ، وخاوفني فخفته أخوفه ، وليس في كل شيء يقال : نازعته ؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته ، واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم ، والجمع الخصوم ، وقد يكون للجمع والاثنين والمؤنث ، والخصم المخاصم والجمع خصماء([20]) .
وأمَّا في الاصطلاح : فهو الجواب بنعم أولا هذا تفسير ابن نجيم([21]) في البحر .
ونقل عن الجوهرة : أنها الدعوى الصحيحة أو الجواب الصريح([22]) .
وفي المبسوط : هي اسم لكلام يجرى بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاحة([23]) .
وعرفها الغزالي : بأنها لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود ، وتارة تكون ابتداءً وتارة تكون اعتراضاً([24]) .
وفي المطلع : هي إثبات الحق([25]) ، والتوكيل في الخصومة أي في إثبات الحق.
والاختصام : ردّ كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر من جهة الإنكار له، فقد يكون أحدهما محقاً ، والآخر مبطلاً ، كاختصام الموحِّد والملحد ، وقد يكونان جميعاً مبطلين كاختصام اليهود والنصارى([26]) .
والخصم : هو الطالب الذي نازع في الأمر ، وهو يقع على الواحد والاثنين والجمع على صيغة واحدة ؛ لأن أصله المصدر([27]) .
ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول : خصمان وخصوم([28]) .
إذا نظرنا في تعريف ابن نجيم للخصومة : بأنها الجواب بنعم أو لا لوجدنا بأن التعريف غير مانع إذ أن الجواب بنعم أو لا يصدق على ما ليس بخصومة ، والتعريف الآخر الذي نقله عن الجوهرة : بأنها الدعوى الصحيحة أو الجواب الصريح يحتاج إلى معرفة معنى الدعوى ومتى تكون صحيحة ، وكذلك الجواب.
وأيضاً الخصومة تطلق على مطلق الدعوى سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة ، وكذا على الجواب صريح أو غير صريح .
وأمَّا تعريف المبسوط فهو شامل لجميع أنواع الخصومات سواء كانت في المطالبة بالحقوق أو بغيرها .
وأمَّا تعريف الغزالي فهو يقصر الخصومة على ما كان من المدعي ولايشمل التعريف ما كان من الطرف الآخر .
وكذلك تعريف المطلع أنها إثبات حق ، فهذا يقصر الخصومة على ما كان من أحد الجانبين .
ولذا أرى أن يقال : هي اسم لكلام يجري بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاحة لإثبات حق أو الجواب عمّن يدعيه .
فهذا يشمل ما يحصل من جانب المدعي ومن جانب المدعى عليه ، ويقصر الخصومة على ما كان متعلقاً بإثبات الحقوق إذ هي مجال البحث .
المسألة الثالثة : حكم الوكالة :
الأصل في الوكالة هو الجواز ، وقد دلّ على جوازها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .
فأمَّا الكتاب فمنه :
1 – قوله الله – عَزَّ وَجَلَّ – : ) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (([29]) .
2 – قوله جلّ وعلا : ) فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَو ضَعِيفًا أَو لاَيَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ (([30]) .
ووجه الاستدلال من الآيتين : أنه لما جاز نظر الأولياء ، ونظرهم إنَّما يكون بتوصية أب أو تولية حاكم وهما لايملكان كان توكيل المالك من باب أولى([31]) .
3 – قوله تعالى : ) فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ (([32]) .
ووجه الاستدلال : أنه لما أضاف الوَرِقَ إلى جميعهم وجعل استنابة أحدهم ، دلّ على جواز الوكالة([33]) .
4 – قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام للعزيز : ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (([34]) ، أي : وكلني على خزائن الأرض .
5 – قوله تعالى : ) فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (([35]) والحكم وكيل .
6 – قوله تعالى : ) إِنَّمَا الصَّدَقــَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَســَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (([36]) .
ووجه الاستدلال : أنه يجوز العمل على الصدقات ، وذلك بحكم النيابة عن المستحقين([37]) .
ومن السنة :
1 – حديث عروة بن الجعد قال : عرض للنبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – جلب فأعطاني ديناراً فقال : يا عروة ، ائت الجلب ، فاشتر لنا شاة … الحديث([38]) .
وهو دليل على جواز التوكيل في الشراء ويقاس عليه غيره مِمَّا تدخله النيابة .
2 – حديث حكيم بن حزام أنّ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ
وَسَلَّمَ – فتصدق به ودعا له أن يبارك له في تجارته([39]) .
3 – روى جابر قال : أردتُ أن أخرج إلى خيبر فأتيت النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – وقلتُ : إني أريد الخروج إلى خيبر فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته([40]) .
4 – روى أنه – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة([41]) وعمرو بن أمية الضمري في نكاح أم حبيبة([42]) .
وأمَّا الإجماع :
فقد حكى ابن قدامة وغيره إجماع الأمة على جواز الوكالة في الجملة([43]) .
وأمَّا المعقول :
فإن الحاجة داعية إليها ، فإنه لايُمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها([44]) .
هذا هو الأصل فيها ، لكن ذكر بعض أهل العلم أن الوكالة بحسب متعلقها تأتي عليها الأحكام الخمسة :
فتكون مندوباً إليها ، وهذا هو الأصل فيها لما فيها من التعاون ، والقيام بمصالح الغير أو كان التوكيل طريقاً لمندوب .
وتكون محرمة : إذا كان فيها إعانة على محرم كالتوكيل في الخطبة على الخطبة أو الشراء على الشراء ونحو ذلك .
وتكون مكروهة إذا كان فيها إعانة على مكروه .
وقد تجب إذا توقف عليها دفع ضرر الموكِّل ، كتوكيل المضطر في شراء طعام قد عجز عنه .
وتتصور فيها الإباحة كما إذا لم يكن للموكِّل حاجة في الوكالة وسأله الوكيل من غير غرض([45]) .
* * *
الفصل الأول : حكم التوكيل في الخصومة
اتفق الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – على جواز التوكيل في الخصومة في الجملة وإن اختلفوا في شروط صحتها([46]) .
واستدلوا على جوازها بما يلي :
أولاً : العمومات السابقة في الاستدلال لجواز الكفالة بوجه عام ، إمَّا بالعموم وإمَّا بالقياس عليه .
ثانياً : ما روي أن علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وكل أخاه عقيلاً وقال : إن للخصومات قحماً([47]) ، وإنها لتخلف وإن الشيطان يحضرها ، وإني إن حضرت خفت أن أغضب ، وإن غضبت خفت ألا أقول حقاً ، وقد وكلت أخي عقيلاً فما قضي عليه فعليّ وما قضي له فلي([48]) .
قال الشافعي – رَحِمَهُ اللهُ – : ولا أحسبه كان توكيله إلاَّ عند عمر بن الخطاب ، ولعله عند أبي بكر الصديق – رَضِيَ اللهُ عَنْهُـمَا([49]) – .
وروي أن علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وكل عبدالله بن جعفر عند عثمان لما كبر عقيل في شرب كان ينازع طلحة بن عبيدالله فركب عثمان في نفر من الصحابة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ – إلى الموضع الذي كانا يتحاكمان فيه حتى أصلح بينهما في الشرب([50]) .
قال في الحاوي : فصار هذا إجماعاً منهم على جواز الوكالة([51]) .
وقال في المغني : وهذه قصص انتشرت ؛ لأنها في مظنة الشهرة فلم ينقل إنكارها([52]) .
ثالثاً : الحاجة تدعو إليها فإنه قد يكون له حق ، أو يدعى عليه ، ولايحسن الخصومة أو لايحب أن يتولاها بنفسه([53]) .
إذا تبين هذا فإن البعض يجري على الوكالة في الخصومة الأحكام الخمسة كما هو الحال بالنسبة للوكالة في غيرها .
فتكون واجبة مثل أن يرى القاضي ضرورة للتوكيل كأن يكون بين الخصوم امرأة شابة ذات جمال وفتنة أو كان المدعى عليه عليلاً أو ضعيفاً في مقابلة خصمه([54]) .
أقول : قد يسلم في المثال الأول لذلك نص الفقهاء على أن الدعوى إذا كانت على امرأة غير برزة أمرت بالتوكيل .
لكن ضعف المدعي أو المدعى عليه في مقابلة خصمه أي كونه لايحسن من الكلام ما يحسنه خصمه لايوجب التوكيل بدليل قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلايأخذها )) رواه البخاري ومسلم([55]) .
فالنبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – لم يأمر الخصم في مثل هذه الحالة بالوكالة لكونه أضعف بياناً فدل على أن الوكالة ليست واجبة ، لكن يُمكن أن يمثل لهذا بما لو كان المدّعى عليه مريضاً لايُمكنه الحضور لمجلس القضاء فيجبر على التوكيل ؛ لأن إيصال الحق إلى مستحقه أمر واجب فإذا كان التوكيل طريقاً إليه وجب إعمالاً لقاعدة ما لايتم الواجب إلاَّ به فهو واجب .
وقد تكون الوكالة مندوباً إليها في حق ذوي المروءات ، فينبغي أن يوكلوا لأنفسهم في الحقوق ولايباشروا الخصومة بنفوسهم([56]) .
ولايسلم بكونها مندوبة هنا ؛ لأن المندوب هو ما يثاب فاعله ولايعاقب تاركه ، فهل من ترك الخصومة لكونه من ذوي المروءات ووكل لذلك يثاب ؟ .
فلو قيل بالندب في حق من تشغله الخصومة عن مندوب لكان أولى ، وقد خاصم عمر أبيّ إلى زيد – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ – وتخاصم علي وطلحة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُـمَا – إلى عثمان .
يقول السرخسي – رَحِمَهُ اللهُ – في المبسوط : ( وفيه دليل على أنهم كانوا يختصمون فيما بينهم ولانظن بواحد منهم سوى الجميل لكن كان يستبهم عليهم الحكم فيختصمون إلى الحاكم ليبين لهم )([57]) .
وفي الخبر المروي عن علي – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – دليل على أنه ينبغي التحرز عن الخصومة ما أمكن لما أشار إليه – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أنه موضع لحضرة الشيطان وأن للخصومة قحماً أي مهالك .
يقول السرخسي – رَحِمَهُ اللهُ – : وفيه دليل على أن التحرز عن الخصومة واجب ما أمكن([58]) .
وكره مالك – رَحِمَهُ اللهُ – لذوي الهيئات الخصومات ، وقال : كان القاسم بن محمد يكره لنفسه الخصومة ، ويتنـزه عنها ، وكان إذا نازعه أحد في شيء ، قال : إن كان هـذا الشيء لي فهـو لك ، وإن كان لك فلا تحمدني عليه .
وكان ابن المسيب إذا كان بينه وبين رجل شيء لايخاصمه ، ويقول : الموعد يوم القيامة .
وقال مالك : من علم أن يوم القيامة يحاسب فيه على الصغير والكبير ، ويعلم أن الناس يوفون حقوقهم من الحسنات ، وأن الله عزّوجل لايخفى عليه شيء فليطب بذلك نفساً ، فإن الأمر أسرع من ذلك ، وما بينك وبين الآخرة وما فيها إلاَّ خروج روحك حتى تنسى ذلك كله حتى كأنك ما كنت فيه ولا عرفته .
وقال أيضاً : من خاصم رجل سوء([59]) .
وقال ابن مسعود : كفى بك ظلماً أن لاتزال مخاصماً([60]) .
وروت عائشة – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم([61]).
فمن المكروه إذاً الاشتغال بالمخاصمة سواء كان في ذلك أصيلاً أو وكيلاً .
ويُمكن أن يستدل لهذا بما روي عن علي – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – .
وتكون مكروهة أيضاً إذا كانت فيها إعانة على مكروه كأن يحاول الوكيل الالتواء بالدفاع لتضييع وقت المحاكمة([62]) .
وتكون محرمة في حال الدفاع عن الباطل .
وتكون مباحة في حالة ما إذا لم تكن حاجة للموكل فيها ولا معونة له من الوكيل كما لو وكل غيره ترفها([63]) .
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رَحِمَهُ اللهُ – عن العمل بالمحاماة ، وأنه قد يعرض الإنسان لمناصرة الشر والدفاع عنه ؛ لأن المحامي يريد البراءة مثلاً للمذنب الذي يدافع عنه … إلخ([64]) .
فأجاب : المحاماة مفاعلة من الحماية إن كانت حماية شر ودفاع عنه فلاشك أنها محرمة ؛ لأنه وقوع فيما نهى الله عنه في قوله تعالى : ) وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( ، وإن كانت المحاماة لحماية الخير والذود عنه فإنها حماية محمودة مأمور بها في قوله تعالى : ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ( ، وعلى هذا فإن من أعدّ نفسه لذلك يجب عليه قبل أن يدخل في القضية المعينة أن ينظر في هذه القضية ويدرسها فإن كان الحق مع طالب المحاماة دخل في المحاماة وانتصر للحق ونصر صاحبه ،
وإن كان الحق في غير جانب من طلب المحاماة فإنه يدخل في المحاماة أيضاً ، لكن المحاماة تكون عكس ما يريد الطالب بمعنى أنه يحامي عن هذا الطالب حتى لايدخل فيما حرم الله عليه وفي دعوى ما هو عليه ، وذلك لأن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – قـال : (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) قالوا : يا رسول الله هذا المظلوم فكيف ننصره إذا كان ظالماً قال : (( تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ))([65]) ، فإذا علم أن طالب المحاماة ليس له حق في دعواه فإن الواجب أن ينصحه وأن يحذره وأن يخوفه من الدخول في هذه القضية ، وأن يبين له وجه بطلان دعواه حتى يدعها مقتنعاً بها .
الفصل الثاني : شروط التوكيل في الخصومة
وفيه ستة مباحث :
المبحث الأول : أن يكون الفعل الموكل به مِمَّا يجوز التوكيل فيه
إن هذا الشرط متفق عليه من حيث الجملة ، أمَّا من حيث التفصيل فإن الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – قسـموا الحقوق باعتبار من تضاف إليه إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : حقوق الله – عَزَّ وَجَلَّ – الخالصة ، والمراد بها : الحقوق التي ليس لأحد من المكلفين إسقاطها ، ولا مدخل للصلح فيها ، ولاتستباح بإباحة أحد ، وتقوم على المسامحة فيما بين العبد وربه مثل الإيمان ، وتحريم الكفر، والعبادات ، و غير ذلك .
القسم الثاني : حق العبد : وهو ما تعلقت به مصلحة خاصة دنيوية ، ويقبل الصلح والإسقاط ، والإباحة من صاحبة ، وأمثلة هذا النوع كثيرة جداً ، منها: المداينات ، وبدل المتلفات ، وغير ذلك .
ومِمَّا ينبغي أن يعلم أنه ما من حق للعبد إلاَّ وفيه حق لله تعالى وهو التعبد بامتثال أوامره بإيصال الحقوق إلى مستحقيها .
القسم الثالث : الحقوق المشتركة : وهي ما اجتمع فيه حق الله-عَزَّ وَجَلَّ- وحق الآدمي ومرة يغلب حق الله – عَزَّ وَجَلَّ – ، ومرة يغلب حق العبد .
ويُمكن تقسيم هذا النوع إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما اختلف في تقديم أحد الحقين على الآخر مثل حد القذف ، فمن غلب حق الله تعالى قال : لايسقط بالعفو ، ومن غلب حق العبد قال : يسقط بعفوه .
الثاني : ما قطع فيه بتقديم حق العبد كجواز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه .
والثالث : ما قطع فيه بتقديم حق الله – عَزَّ وَجَلَّ – فلايتأتى فيه الإسقاط أبداً حتى لحق العبد ، وأمثلة ذلك كثيرة منها تحريم الزنا ، وإيجاب الحد على مرتكبه ، وتحريم المسكرات والمخدرات ، وتحريم إضاعة الأموال أو سرقتها ، وغير ذلك كثير([66]) .
وهذه الحقوق ترجع في الحقيقة إلى قسمين رئيسيين هما :
الأول : حق الله المحض ، ويلحق به الحق الذي يغلب فيه حق الله – عَزَّ وَجَلَّ – .
والثاني : حق العبد ويلحق به ما اشترك فيه الحقان وترجح فيه حق العبد([67]) .
والتوكيل في هذه الحقوق إمَّا بإثباتها وإمَّا باستيفائها ، ولذا سوف يكون الكلام في هذا المبحث في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : التوكيل بالخصومة في حقوق الله من جانب المدعي .
وفيه فرعان :
الفرع الأول : التوكيل بالخصومة في حقوق الله عزّوجل بإثباتها
قسم الكاساني([68]) الحنفي – رَحِمَهُ اللهُ – حقوق الله عزّوجل إلى قسمين : قسم يحتاج في إثباته إلى الخصومة كحد السرقة وحد القذف([69]) .
وقسم لايحتاج في إثباته إلى الخصومة كحد الزنا وحد الشرب .
وسوف أتبع في الكلام على التوكيل بحقوق الله عزّوجل هذا التقسيم نظراً لشموله مع أنه قد يكون في التقسيم نظر ذلك أن حد القذف من حقوق الآدميين وإن كان فيه حق لله عزّوجل ، وسوف يكون الكلام إذن في مسألتين :
المسألة الأولى : التوكيل بإثبات حقوق الله عزّوجل التي لاتحتاج في إثباتها إلى الخصومة :
اختلف الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في حكم التوكيل بإثبات حقوق الله عزّوجل التي لاتحتاج في إثباتها إلى خصومة على قولين :
القول الأول : أن الوكالة بها لاتصح ، وبهذا قال الحنفية([70]) والشافعية([71]) وقول عند الحنابلة([72]) .
اختاره أبو الخطاب([73]) ، إلاَّ أن الشافعية استثنوا إثباتها بالوكالة تبعاً فيقع([74]) ، مثل أن يقذف شخص آخر فيطالبه بحد القذف فله أن يدرأ عن نفسه بإثبات زناه بالوكالة وبدونها ، فإذا ثبت الزنا أقيم عليه الحد .
واستدلوا بما يلي :
1 – أن هذا النوع من الحدود يثبت عند القاضي بالبينة أو الإقرار من غير خصومة فلا حاجة إلى التوكيل([75]) .
2 – أن الحدود تدرأ بالشبهات وقد أمرنا بدرئها بها بقول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ))([76]) .
والتوكيل تأكيد لها وتوصل إلى الإيجاب([77]) .
ونوقش الدليل : بأن الوكيل يقوم مقام الموكّل في درئها بالشبهة([78]) .
ويُمكن أن يناقش الأول : بأنه يحتمل أن تحتاج إلى الخصومة فيها فتحتاج إلى الوكالة كغيرها من الحقوق .
القول الثاني : تصح الوكالة بإثبات الحدود ، وهو قول عند الحنابلة قال في الإنصاف : ( هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب )([79]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( واغد يا أنيس([80]) إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) ، فغدا أنيس فاعترفت فأمر بها فرجمت . متفق عليه([81]) .
ووجه الاستدلال : أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – وكل أنيساً في إثبات الحد واستيفائه جميعاً بقوله : (( فإن اعترفت فارجمها )) ، وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت([82]) .
ونوقش : بأن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – لم يبعثه لأجل إثبات الحد عليها ، بل لأنها لما قُذفت بالزنا بعث إليها لتنكر فتطالب بحد القذف أو تقر بالزنا فيسقط حد القذف عن الرجل .
يقول النووي([83]) – رَحِمَهُ اللهُ – : ( واعلم أن بعث أنيس محمول عند العلماء من أصحابنا وغيرهم على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قد قذفها بابنه فيعرفها بأن لها عنده حد القذف فتطالب به أو تعفو عنه إلاَّ أن تعترف بالزنا فلايجب عليه حد القذف بل يجب عليها حد الزنا وهو الرجم ؛ لأنها كانت محصنة فذهــب إليها أنيس فاعترفــت بالزنا فأمر النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – برجمها فرجمت ، ولابد من هذا التأويل ؛ لأن ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنا، وهذا غير مراد ؛ لأن حد الزنا لايحتاج له بالتجسس والتفتيش عنه بل لو أقر به الزاني استحب أن يلقن الرجوع )([84]) .
ويُمكن الجواب بأن هذا تأويل متكلف ، ذلك أن والد العسيف قد سأل وأخبره الناس بأن على ابنه الرجم وأخبره أهل العلم إنَّما على ابنه جلد مائة وتغريب عام وأنّ على امرأة هذا الرجم فأقسم النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – ليقضين بينهما بكتاب الله ثم قال : (( واغد يا أنيس … )) الحديث .
وكان زوج المرأة حاضراً … فالظاهر من هذا أن المرأة كانت معترفة من قبل بدليل أن والد العسيف لما أخبر أن على ابنه الرجم افتدى منه بمائة شاة ووليدة ، ويظهر أنهم قد أخذوها بدليل قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ -: (( الوليدة والغنم رد )) .
قال النووي : ( أي مردودة ومعناه يجب ردّها إليك )([85]) .
فهذا زنا قد ظهر واشتهر لكن أراد النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أن يعرف هل هي باقية على إقرارها ؛ لأن ذلك شرط وجوب الحد أو أراد تثبيت إقرارها على الوجه المشروع ، والله أعلم .
الدليل الثاني : أن الحاكم إذا استناب دخل في ذلك الحدود فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم ، وجب أن تدخل بالتخصيص بها أولى([86]) .
والقول الراجح في نظري هو القول الثاني وهو جواز التوكيل بإثبات الحد ؛ إذ ليس في التوكيل بإثباتها محظور ، ولايمنع ذلك من درئها بالشبهة ، ولايسلم أنه لايحتاج إلى الخصومة بل قد يحتاج إليها في أحوال كما يشهد لذلك الواقع ، وقد لايستطيع المخاصمة بنفسه فيحتاج إلى التوكيل ، والله أعلم .
المسألة الثانية : التوكيل في حقوق الله عزّوجل التي تحتاج إلى خصومة :
هذا هو النوع الثاني من حقوق الله عزّوجل على تقسيم الكاساني – رَحِمَهُ اللهُ – وهو ما يحتاج إلى خصومة كحد السرقة والقذف([87]) ، وهذا النوع اختلف العلماء في حكم التوكيل بإثباته على قولين :
القول الأول : أن التوكيل في إثباته يصح ، وبه قال أبو حنيفة ومحمد([88]) والشافعية([89]) ، وقول عند الحنابلة ، وهو المذهب واختاره القاضي([90]) وغيره ، وقدمه في المغني وغيره([91]) .
واستدلوا بما يلي
:
1 – أنه حق يجوز التوكيل فيه مع حضور الموكِّل فجاز مع غيبته كسائر الحقوق .
2 – ولأن من جاز توكيله في غير الحدود جاز توكيله في الحدود كالحاضر([92]) .
القول الثاني : لاتصح الوكالة في إثبات الحدود كحد السرقة والقذف ، وهذا قول أبي يوسف([93]) .
ووجهه : أن الحدود لايصح التوكيل باستيفائها فلايصح التوكيل بإثباتها إذ الإثبات وسيلة الاستيفاء([94]) .
ونوقش : بالفرق بين الاستيفاء والإثبات ، والفرق أن امتناع التوكيل في الاستيفاء لمكان الشبهة وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات([95]) .
ويُمكن أيضاً مناقشته بأنه قياس على مختلف فيه ، ولايصح القياس على مختلف فيه إذ للمخالف أن يقول نحن نمنع الحكم في الأصل فلايتم القياس ، والله أعلم .
والراجح في نظري – والله أعلم – هو القول الأول وهو جواز التوكيل بإثبات الحدود لما قلنا في الذي قبله من أن ذلك لايمنع من درئها بالشبهة ، ولما قلنا في الرد على دليل أبي يوسف – رَحِمَهُ اللهُ – من أنه قياس مع الفارق ، فبقي دليل الأول سليماً من المعارضة .
الفرع الثاني : التوكيل في استيفاء الحدود :
التوكيل في استيفاء الحدود كحد السرقة والقذف والزنا ، ونحو ذلك لايخلو إمَّا أن يكون الموكّل حاضراً أو غائباً ، فإن كان الموكِّل حاضراً صح التوكيل ، والتوكيل هنا معناه الأمر بالاستيفاء ، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ -([96]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – قوله – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – : (( واغدو يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) فغدا أنيس فاعترفت فأمر بها فرجمت . متفق عليه([97]) .
ووجه الاستدلال : أن هذا توكيل في استيفاء حد الزنا ، ويقاس عليه سائر الحدود .
2 – قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – في قصة ماعز : (( اذهبوا به فارجموه )) متفق عليه([98]) .
3 – أن عثمان – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وكّل علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – في إقامة حدّ الشُّرب على الوليد بن عقبة ، ووكل عليٌّ الحسنَ في ذلك فأبى الحسن فوكل عبدالله بن جعفر فأقامه وعليٌّ يَعُدّ . رواه مسلم([99]) .
4 – ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ؛ لأن الإمام لايُمكنه تولي ذلك بنفسه ، والمستحق قد لايحسنه([100]) .
أمَّا التوكيل في استيفائها مع غياب الموكِّل فاختلف فيه على قولين :
القول الأول : لايجوز التوكيل في استيفاء الحدود مع غياب الموكِّل ، وهو قول بعض الحنفية([101]) ، واختلف قول الشافعي فيه فظاهر كلامه في باب الوكالة : أنه لايجوز وكلامه في باب الجنايات يدل على الجواز فخرج الشافعية المسألة على قولين لاختلاف الموضعين :
أحدهما : أنه لايجوز([102]) ، وبه قال بعض الحنابلة ، وأومأ إليه أحمد([103]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – أن الموكل يحتمل أن يعفو في غيابه – فيما للعفو فيه أثر – فيقام الحد مع عفوه ، إذ لايُمكن تداركه ، وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاسيتفاء([104]) .
2 – أن الحدود تدرأ بالشبهات ، ولذلك لاتستوفى بمن يقوم مقام الغير لما في ذلك من ضرب شبهة ، ولذلك لاتقام بكتاب القاضي إلى القاضي ، ولا بالشهادة على الشهادة ولا بشهادة النساء مع الرجال([105]) .
3 – أن العفو مندوب إليه ، فإذا حضر الموكّل احتمل أن يرحم الجاني فيعفو([106]) – أي فيما للعفو فيه أثر أمَّا ما ليس للعفو فيه أثر كحد الزنا والسرقة – فلم تستقم هذه الحجة .
4 – أنه إذا كان لايحتمل العفو والصلح فيحتمل الإقرار والتصديق – أي يحتمل أن يقر المقذوف بما قذفه به أو يصدقه فيسقط عن القاذف الحد ، وهذه الشبهة لايجوز معها التوكيل باستيفاء الحد مع غياب الموكل([107]) .
5 – أنه ليس كل أحد يحسن الاستيفاء إمَّا لقلة هدايته ، أو لأن قلبه لايحتمل ذلك ، فلو منع التوكيل بالاستيفاء لانسد باب الاستيفاء فجاز التوكيل في حضوره استحساناً لئلا ينسد باب الاستيفاء([108]) .
بخلاف حال غياب الموكّل .
ونوقشت هذه الأدلة بما يلي : بالنسبة لاحتمال العفو فهو بعيد ، والظاهر أنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله بعفوه ، والأصل عدمه ، ألا ترى أن قضاة رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – كانوا يحكمون في البلاد ، ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهة مع احتمال النسخ .
وكذلك لم يحتط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو تغير اجتهاد الحاكم([109]) .
القول الثاني : يجوز التوكيل باستيفاء الحدود مع حضور الموكِّل وغيابه ، وهو قول بعض الحنفية([110]) ، وهو مذهب مالك([111]) ، وقول عند الشافعية ، قال في الحاوي : وهو أصحهما([112]) ، وهو قول عند الحنابلة ، ونص عليه أحمد([113]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – أن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكِّل جاز في غيبته كسائر الحقوق([114]) .
ونوقش : بأن القياس على سائر الحقوق قياس مع الفارق ؛ إذ الشبهة لاتمنع من استيفاء سائر الحقوق بخلاف ما نحن فيه([115]) .
ويُمكن الجواب عن هذا الاعتراض بما تقدم في مناقشة أدلة القول الأول .
2 – القياس على القصاص فيجوز التوكيل باستيفائه مع غياب الموكِّل([116]).
ونوقش : بأنه قياس على مختلف فيه فقد خالف في جواز التوكيل في استيفاء القصاص مع غياب الولي الحنفية لاحتمال العفو([117]) .
ويُمكن الجواب عنه : بأن غياب الولي لايمنع من العفو ، والظاهر عدمه ، ولو عفا لبعث به فاحتمال العفو لايمنع من صحة التوكيل .
ولذا فالراجح في نظري – والله أعلم – هو القول الثاني القاضي بصحة التوكيل في استيفاء الحدود ، وذلك للنصوص الصحيحة الدّالة على جواز التوكيل كحديث : (( واغد يا أنيس … )) وحديث ماعز ، وقول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( اذهبوا به فارجموه … )) ؛ ولأن الاستيفاء يكون بعد ثبوت موجب الحد ثبوتاً تنتفي معه الشبهة فلايلزم أن يكون الموكل حاضراً ، والقول بأنه يحتمل أن يقر المقذوف بالزنا أو يصدقه فيسقط الحد عن القاذف بعيد ، والله أعلم .
المطلب الثاني : التوكيل بالخصومة في حقوق العباد
وفيه فروع :
الفرع الأول :التوكيل بإثبات القصاص واستيفائه
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : التوكيل بإثبات القصاص :
اختلف الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في حكم التوكيل بإثبات القصاص على قولين :
القول الأول : لايصح التوكيل بإثبات القصاص ، وبه قال أبو يوسف من الحنفية([118]) .
وحجته :
أولاً : أن الوكيل بمنزلة البدل عن الأصل ، ولا مدخل للأبدال في باب القصاص ؛ ولهذا لاتجوز فيه الشهادة على الشهادة ، ولا كتاب القاضي إلى القاضي ، ولا شهادة النساء ، ولا من الأخرس ؛ لأن إشارته بدل عن العبارة([119]) .
ثانياً : ولأن المقصود من الإثبات الاستيفاء ، فإذا لم يصح التوكيل بالاستيفاء مع غياب الموكل لم يصح بالإثبات([120]) .
القول الثاني : يصح التوكيل بإثبات القصاص ، وهو قول أبي حنيفة والجمهور من الحنفية غير أبي يوسف([121]) وهو قول المالكية([122]) والشافعية([123]) والحنابلة([124]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – بأن التوكيل تناول ما ليس بحد ولا قصاص ، ولايضاف الوجوب فيهما إلى الخصومة فيصح التوكيل فيهما كما في سائر الحقوق ، وهذا لأن وجوب الحد مضاف إلى الجناية ، وظهوره مضاف إلى الشهادة ، والخصومة شرط محض ، لا أثر لها في الوجوب ، ولا في الظهور ، إذ الحكم لايضاف إلى الشرط([125]) .
2 – أن القصاص من حقوق الآدميين فيجوز التوكيل فيه كسائر الحقوق([126]) .
والراجح في نظري هو قول الجمهور القاضي بصحة التوكيل بإثبات القصاص ، وذلك لأن ما احتج به أبو يوسف من أن الوكيل بمنزلة البدل عن الأصل ولا مدخل للأبدال في باب القصاص ، بدليل أنه لاتجوز فيه الشهادة على الشهادة … إلخ يُمكن أن يجاب عنه بأن القصاص لم تقبل فيه الشهادة على الشهادة ولم يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لمكان الاحتياط في الدماء ، فلذا لم يثبت بهذه الأمور والوكالة لايثبت بها القصاص وإنَّما يراد بها المطالبة وإقامة البينة فافترقا .
وأمَّا الدليل الثاني لأبي يوسف وهو القياس على الاستيفاء في حال غياب الموكِّل فهو قياس على مختلف فيه فلايصح([127]) ، والصحيح جوازه وشبهة العفو لاتمنع منه ، والله أعلم .
المسألة الثانية : التوكيل باستيفاء القصاص :
اختلف العلماء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في حكم التوكيل في استيفاء القصاص على ثلاثة أقوال :
القول الأول: لايصح التوكيل في استيفاء القصاص إلاَّ بحضور الموكِّل، ولايصح مع غيبته ، وهذا قول الحنفية([128]) ، وقول عند الشافعية([129]) .
واستدلوا بما يلي :
أولاً : أن القصاص يندرئ بالشبهة ، فلايستوفى بمن يقوم مقام الغير كالحدود ، ولهذا لايستوفي بكتاب القاضي إلى القاضي ، ولا بشهادة النساء مع الرجال .
وتوضيح ذلك : أنه لو استوفى في حال غياب الموكِّل كان استيفاء مع تمكن شبهة العفو لجواز أن يكون الموكِّل عفا والوكيل لم يعلم بعفوه ، بل العفو هو الظاهر للنــدب الشرعــي إليه بقــول الله عزّوجل : ) وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (([130]) .
فإذا كان الموكِّل حاضراً يجوز للوكيل أن يستوفي ؛ لأنه لاتتمكن فيه شبهة العفو([131]) .
ونوقش: بأن القصاص يستوفى مع غياب الشهود مع احتمال رجوعهم([132]).
وأُجيب : بأن الشبهة في غياب الشاهد هي الرجوع فقط أي رجوع الشاهد عن شهادته فيسقط القصاص ، وليس هذا قريباً في الظاهر ، ولا الغالب؛ لأن الأصل الصدق خصوصاً مع العدالة([133]) .
ونوقش الدليل أيضاً : بأن احتمال العفو بعيد ، والظاهر أنه لو عفا لبعث بعفوه وأعلم به وكيله ، والأصل عدمه([134]).
الدليل الثاني : أن الموكِّل يحتاج إلى التوكيل لعدم معرفته بالاستيفاء ، أو لأن قلبه لايحتمل ذلك ، ولو منع لانسد باب الاستيفاء أصلاً ، فجاز الاسيتفاء بحضرة الموكِّل استحساناً([135]) .
ونوقش : بأن هذا المعنى موجود أيضاً مع غيبة الموكِّل فيلزمكم إجازته في غيبته أيضاً .
وأُجيب : بأن شبهة العفو مع غياب الموكِّل قائمة بخلاف حضوره فلاتتمكن فيه شبهة العفو([136]) .
القول الثاني : يصح التوكيل باستيفاء القصاص مطلقاً ، أي في حال حضور الموكِّل وغيبته ، وهو قول المالكية([137]) ، وأصح القولين عند الشافعية([138]) وقول الحنابلة([139]) .
واستدلوا بما يلي :
أولاً : أن القصاص من حقوق الآدميين فجاز التوكيل فيه مع ا لحضور ، ومع الغيبة .
ونوقش : بأنه عقوبة تندرئ بالشبهة ففارق سائر الحقوق .
ويجاب عنه : بأن كونه يندرى بالشبهة لايمنع من صحة التوكيل ويكون الوكيل قائماً في ذلك مقام الأصل .
ثانياً : أن الحاجة تدعو إلى التوكيل ؛ لأن من له حق قد لايحسن الاستيفاء ، أو لايحب أن يتولاه بنفسه([140]) .
ثالثاً : القياس على استيفاء القصاص مع غيبة الشهود فإن احتمال رجوعهم قائم ، ومع ذلك يستوفى .
ونوقش : بأن الظاهر في الشهود عدم الرجوع إذ الأصل الصدق لاسيما في العدول([141]) .
رابعاً : القياس على الاستيفاء بحضوره .
ونوقش : بأن مع حضور الموكّل شبهة العفو منتفية إذ العفو في حضوره مِمَّا لايخفى بخلاف حال الغيبة([142]) .
ويُمكن الجواب عنه : بأن العفو مع غيابه يُمكن أن يعلم كذلك .
والراجح في نظري – والله أعلم – هو القول الثاني بجواز التوكيل في استيفاء القصاص مع حضور الموكل وغيابه ؛ إذ ليس للمانعين معتمد غير أن شبهة العفو قائمة في حال غياب الموكِّل ، ولذلك أجازوا التوكيل مع حضوره ؛ لأن شبهة العفو غير موجودة إذ يُعلم بعفوه لو حصل ، لكن شبهة العفو في نظري لاتصلح مانعاً من صحة التوكيل ، إذ يُمكن العلم بها في حال غيابه كما في حال حضوره ، كما أنّ الأصل هو الاستيفاء ، والعفو نادر ، والله أعلم .
الفرع الثاني :
التوكيل بالخصومة في حقوق العباد غير القصاص :
المراد بحقوق العباد هنا : الديون والأعيان وسائر الحقوق ، وهذا النوع لايخلو التوكيل بالخصومة فيه أن يكون برضا الخصم أو بغير رضاه ، فإن كان برضا الخصم صح عند الحنفية([143]) والمالكية([144]) والشافعية([145]) والحنابلة([146]).
والأصل فيه :
1 – ما روي عن عبدالله بن جعفر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُـمَا – أن علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – كان لايحضر الخصومة ، وكان يقول إن لهما قحماً يحضرها الشيطان ، فجعل الخصومة إلى عقيل – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فلما كبر ورَقَّ حولها إلي ، وكان علي يقول : ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي([147]).
قال الكاساني : ( ومعلوم أن سيدنا علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – لم يكن ممن لايرضى أحد بتوكيله ، فكان توكيله برضا الخصم ، فدل على الجواز برضا الخصم )([148]) .
وأمَّا إن كان التوكيل بغير رضا الخصم فقد اختلف الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : لايجوز التوكيل من موكل حاضر إلاَّ برضا الخصم ولايجوز التوكيل بغير رضاه إلاَّ من عذر المرض والسفر مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، ونحو ذلك من الأعذار([149]) ، وهذا قول الإمام أبي حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ([150]) – والرجال ، والنساء ، والثيب ، والبكر في ذلك سواء في قول أبي حنيفة([151]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – أن الحق هو الدعوى الصادقة والإنكار الصادق ، ودعوى المدعي خبر يحتمل الصدق والكذب ، والسهو ، والغلط ، وكذا إنكار المدعى عليه فلايزداد الاحتمال في خبره بمعارضة خبر المدعي فلم يكن كل ذلك حقاً فكان الأصل أن لايلزم به جواب إلاَّ أن الشرع ألزم الجواب لضرورة فصل الخصومات وقطع المنازعات المؤدّية إلى الفساد وإحياء الحقوق الميتة ، وحق الضرورة يصير مقتضياً بجواب الموكل فلاتلزم الخصومة عن جواب الوكيل من غير ضرورة .
2 – أن الموكّل قصد بهذا التوكيل الإضرار بخصمه فيما هو مستحق عليه فلايملكه إلاَّ برضاه كالحوالة بالدين ، وكالعبد المشترك يعتقه أحد الشريكين فتخير الآخر بين الإمضاء والفسخ لدفع الضرر .
ومعنى هذا الكلام : أن الحضور والجواب مستحق عليه بدليل أن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضره ليجيب خصمه ، وإنَّما يحضره لإيفاء حق مستحق عليه ، والناس يتفاوتون في الخصومة ، فبعضهم أشد خصومة من بعض كما دل عليه قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنَّما هي قطعة من نار … ))([152]) .
والظاهر أن الموكل إنَّما يطلب من الوكيل ذلك الأشد الذي لايتأتى منه لو أجاب الخصم بنفسه فهو إذن إنَّما يقصد عادة من التوكيل استخراج الحيل والدعاوى الباطلة ليغلب ، وإن لم يكن الحق معه كما أفاده الحديث فإذا كان الوكيل ألحن بحجته بحيث يعجز من يخاصمه عن إحياء حقه فيتضرر به الآخر فيشترط رضا الخصم ليكون لزوم الضرر بالتزامه([153]) .
ونوقش : بأن الخصومة حق للموكل لو أتى به بنفسه كان مقبولاً وصحة التوكيل باعتبار ما هو حق للموكل دون ما ليس بحق له .
ورُدّ : بأن الإمام أبا حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ – بنى على العرف الظاهر هنا وقال : الناس إنَّما يقصدون بهذا التوكيل أن يشتغل الوكيل بالحيل الأباطيل ليدفع حق الخصم عن الموكّل ، وأكثر ما في الباب أن يكون توكيله بما هو من خالص حقه ، ولكن لما كان يتصل به ضرر بالغير من الوجه الذي ذكر قال لايملك بدون رضاه كمن استأجر دابة لركوب أو ثوباً للبس لايملك أن يؤجره من غيره مع أنه يتصرف في ملكه إذ هو يملك المنفعة ، لكن يتصل بهذا التصرف ضرر بملك الغير وهي العين ؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فكان لابد من رضا صاحب العين([154]) .
ونوقش أيضاً : بأن قولهم إن ( الحضور والجواب مستحق عليه ) إنَّما يكون في جانب المدعى عليه ؛ لأنه هو الذي يلزم بالحضور أمَّا المدعي فلايلزم إحضاره، ولايُلْزَم بالجواب إذ لايجبر على الخصومة بخلاف المدعى عليه فإنه يجبر على الجواب .
وأُجيب : بأن هذا يندفع بأن يقال إضافة إلى ما سبق في الاستدلال : إن توقع الضرر اللازم بالمرض والسفر من الموت وآفات التأخير أشد من الضرر اللازم بتفاوت الناس في الخصومة فيتحمل الأدنى دون الأعلى([155]) .
أي أنه إنَّما لم نعتبر الرضا في حال المرض والسفر لكون الضرر الناتج عنهما أشد من الضرر الناتج عن تفاوت الناس في الخصومة ، وبهذا يشمل الدليل المدعي والمدعى عليه .
3 – أن الموكل إذا كان مريضاً أو مسافراً فهو عاجز عن الدعوى وعن الجواب بنفسه فلولم يملك النقل إلى غيره بالتوكيل لضاعت الحقوق وهلكت وهذا لايجوز([156]) .
وأمَّا التقييد بثلاثة أيام فلأن ما دونها في حكم الحاضر([157]) .
والمراد بالمريض هنا : المريض الذي لايقدر على المشي على قدميه إلى مجلس القاضي مدعياً كان أو مدعى عليه ، وإن قدر على الحضور على ظهر دابة أو ظهر إنسان ، فإن زاد مرضه بذلك صح توكيله ، وإن لم يزد فقيل هو على الخلاف .
لكن قال في البحر : والصحيح لزومه .
وفي بعض كتب الحنفية : أن المريض الذي لايمنعه المرض من الحضور كالصحيح([158]) .
ثم بعد هذا اختلف فقهاء الحنفية في تفسير قول الإمام أبي حنيفة ؛ لأنه مرة قال : لاتقبل ، ومرة قال : لايصح ، فلذلك اختلفوا هل رضا الخصم شرط لصحة الوكالة أو شرط للزومها على قولين :
الأول : أنه شرط لزوم الوكالة – أي أن الوكالة بغير رضا الخصم صحيحة لكنها لاتلزم حتى لايلزم الخصم الحضور والجواب لخصومة الوكيل إلاَّ أن يكون الموكل مريضاً مرضاً لايُمكنه الحضور بنفسه مجلس الحكم ، أو غائباً مسيرة سفر فحينئذٍ يلزمه .
ولهذا قال صاحب الهدايـة ( ولا خـلاف في الجواز إنَّما الخلاف في اللزوم )([159]) .
وقد سبق صاحبُ الهداية إلى هذا التعبير شمس الأئمة كما حكاه في فتح القدير فقال : ( التوكيل بالخصومة عنده بغير رضا الخصم صحيح ، ولكن للخصم أن يطلب الخصم أن يحضر بنفسه ويجيب ) .
وقال في فتح القدير : ( ونحو هذا كلام كثير مِمَّا يفيد أنه المراد مِمَّا ذكروه، وسبب ذلك أنه لما لم يعــرف لأحد القول بأنه إذا وكل فعلم خصمه فرضي لايكون رضاه كافياً في توجه خصومة الوكيل ولاتسمع حتى يجدد له وكالــة أخرى على ما هو مقتضى الظواهر التي ساقها علموا أن المراد بلا تجوز إلاَّ برضاه أنها لاتمضى على الآخر وتلزم عليه إلاَّ أن يرضى )([160]) ، واختار ابن الهمام هذا التفسير في شرحه وصححه في الفتاوى الهندية ونقل تصحيح خزانة المفتــين له([161]) .
والثاني : أنه على ظاهره من نفي الصحة([162]) ، لكن هذا خلاف قول الأكثر بل البعض يحكي الاتفاق على خلافه .
تنبيه : من الأعــذار التي تســـقط رضا الخصم على قول أبي حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ – : الحيض والنفاس إن كانت المدعية أو المدعى عليها امرأة ، وكان القاضي يقضي في المسجد([163]) ، لكن إن كانت هي المدعية قبل منها التوكيل ، وإن كانت مدعى عليها فإن أخرها المدعي حتى يخرج القاضي من المسجد لم يكن لها أن توكل ، وإن لم يؤخرها قبل منها التوكيل([164]) .
وأيضاً : المرأة المخدرة ، أي : التي لم تجر عادتها بالبروز ومخالطة الرجال فلها أن توكل ؛ لأنها لو حضرت لايمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها دفعاً للحرج .
قال في البحر الرائق : ( وهذا شيء استحسنه المتأخرون كذا في الهداية وظاهرة أن المخدرة لا نص فيها في المذهب ، ولهذا قال في فتح القدير : أمَّا على ظاهر إطلاق الأصل وغيره عن أبي حنيفة فلا فرق بين البكر والثيب والمخدرة والبرزة والفتوى على ما اختاروه من ذلك )([165]) .
فهذه يلزم توكيلها ؛ لأن في إلزامها بالجواب تضييع لحقها([166]) .
واستثنوا أيضاً من كان محبوساً عند غير القاضي الذي تحاكما إليه كمن كان محبوساً عند الوالي ولايمكّنه الوالي من الخروج فيقبل منه التوكيل([167]) .
واستثنوا أيضاً الحاضر الذي يريد السفر ، إلاَّ أن القاضي لايصدقه في دعواه بإرادة السفر فينظر إلى زيه وعدة سفره ويسأله مع من يريد أن يخرج فيسأل رفقاءه عن ذلك([168]) .
ووجه استثنائه : أن توكيله لولم يلزم للحقة الحرج بالانقطاع عن مصالحه .
القول الثاني : أن القاضي إذا علم من المدعي التعنت في إباء الوكيل فلايُمكنه من ذلك ويقبل التوكيل من الخصم ، وإذا علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعى في التوكيل لايقبل ذلك منه إلاَّ برضا الخصم ، وبهذا قال شمس الأئمة السرخسي صاحب المبسوط([169]) . أي أنه كان يفتي بقول الإمام في حال وبقول الصاحبين الآتي في حال([170]) .
ووجهه : أن في ذلك دفعاً للضرر من الجانبين([171]) .
القول الثالث : يصح التوكيل من الحاضر من غير رضا الخصم ويلزم ، وهذا قول الجمهور من المالكية([172]) ، والشافعية([173]) ، والحنابلة([174]) ، وأبي يوسف ، ومحمد من الحنفية ، وبه كان يفتي الفقيه أبو الليث([175]) ، وأبو القاسم الصفار([176])([177]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – ما روي عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أنه سمع دعوى حويصة([178]) ومحيصة([179]) على يهود خيبر أنهم قتلوا عبدالله بن سهل ، وذلك نيابة عن عبدالرحمن بن سهل([180]) ، ووليه حاضر فما أنكر دعواهم له مع حضوره فلو كانت وكالة الحاضر غير جائزة لأنكرها حتى يبتدئ الولي بها ألا ترى أنه أنكر على محيصة حين ابتدأ بالكـلام قبل حويصة وقال له : (( كبر كبر )) ، وليس تقديم الأكبر بواجب وإنَّما هو أدب فكيف يكف عن إنكار ما هو واجب([181]) .
ويُمكن أن يناقش : بأنه يحتمل أن سماعه من غير الولي لكون الولي لم يكن متأهلاً للدعوى فأقام الحاكم قريبه مقامه في الدعوى وإمَّا لغير ذلك([182]) .
وقال النووي في شرح مسلم : ( واعلم أن حقيقة الدعوى إنَّما هي لأخيه عبدالرحمن لا حق فيها لابني عمه ، وإنَّما أمر النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أن يتكلم الأكبر وهو حويصة ؛ لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وكيف جرت فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها ويحتمل أن عبدالرحمــن وكَّل حويصـة في الدعوى ومسـاعدته أو أمر بتوكيله )([183]) .
إذن لايصلح دليلاً على أن رضا الخصم غير معتبر في الوكالة ؛ لأن ما في الحديث يحتمل الوكالة ويحتمل غيرها ومع الاحتمال لايصح الاستدلال ، والله أعلم .
2 – إجماع الصحابة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ – فإن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وقال : ما قضي له فلي ، وما قضي عليه فعلي ، ووكل عبدالله بن جعفر عند عثمان وقال : إن للخصومة قُحَماً ، وإن الشيطان ليحضرها … ) قال في المغني : ومثل هذه القصص انتشرت لأنها في مظنة الانتشار فلم ينقل إنكارها([184]) .
وفي الحاوي : أن علياً كان حاضراً فكان ذلك منهم إجماعاً على وكالة الحاضر([185]) .
أقول أيضاً لم ينقل أنّ علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – طلب موافقة أو رضا خصمه بالتوكيل فدل على أن الوكالة من الحاضر لايعتبر لها رضا الخصم .
ويُمكن أن يناقش بما ذكره في البدائع أن علياً – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – لم يكن ممن لايرضى أحد بتوكيله([186]) .
ويجاب عنه : بأن رضا الخصم لو كان شرطاً لطلبه علي – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، ولقال خصمه : لم يكن التوكيل برضاي إذ الحالة حالة خصومة ومنازعة ، والله أعلم .
3 – أن التوكيل بالخصومة صادف حق الموكّل فلايقف على رضا الخصم كالتوكيل في استيفاء الدين .
والدليل على أنه صادف حقهما أن الدعوى حق المدعي والإنكار حق المدعى عليه فقد صادف التوكيل من المدعي والمدعى عليه حق نفسيهما فلايقف على رضا خصمه كما لو كان خاصمه بنفسه([187]) .
ونوقش : بعدم التسليم أنه تصرف في خالص حقه ، ذلك أن الجواب مستحق على الخصم ، ولهذا يستحضره في مجلس القاضي والمستحق للغير لايكون خالصاً له .
ولو سلم خلوصه له لكن تصرف الإنسان في خالص حقه إنَّما يصح إذا لم يتضرر به غيره ، وههنا ليس كذلك ؛ لأن الناس يتفاوتون في الخصومة فعلى القول بلزوم الوكالة من غير رضاه يتضرر بالتوكيل فتوقف على رضاه([188]) .
4 – أن الخصومة حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه كحال غيبته ومرضه ، وكدفع المال الذي عليه([189]) .
تنبيه :
فقهاء المالكية لم يعتبروا رضا الخصم إذا وكل في ابتداء الدعوى ، أمَّا إذا خاصم الرجل عن نفسه ، وقعد مع خصمه ثلاثة مجالس اتفاقاً أو اثنين على المشهور فليس له بعد ذلك أن يوكل إلاَّ برضا خصمه إلاَّ أن يكون له عذر من مرض أو سفر ويُعْرَفُ ذلك ، ولايمنع من السفر إذا أراده لكن يحلف أنه لم يسافر من أجل أن يوكل ، قاله ابن العطار([190]) ، وقال ابن الفخار([191]) : لايحلف .
ومن العذر كذلك أن يشاتمه خصمه ويحرجه فيحلف أن لايخاصمه بنفسه ، فإن حلف لايخاصمه من غير عذر لم يكن له أن يوكل إلاَّ برضا خصمه([192]) .
وقال ابن عبدالبر : (( وإذا شرع المتخاصمان في المناظرة بين يدي الحاكم لم يكن لأحدهما أن يوكل ؛ لأن ذلك عند مالك ضرب من اللدد إلاَّ أن يخاف من خصمه استطالة بسبب أو نحوه ))([193]) .
فيحتمل أن يكون ما ذكره ابن عبدالبر قولاً آخر أنه يمنع من حين الشروع، ويحتمل أن ما ذكروه تفسيراً له فلايكون خلافاً .
وعلى أي حال فالمعتمد في المذهب ما ذكروه .
ووجهه : أن في التوكيل حينئذٍ إعنات وشر ولايجوز إدخال الإعنات والشر على المسلمين .
وتوضيح ذلك : أنّ من شأن انعقاد الثلاثة المجالس بينهما أن يظهر الحق فالتوكيل حينئذٍ يوجب تجديد المنازعة وكثرة الشر([194]) .
ولم يفرق غيرهم بين التوكيل في ابتداء الدعوى أو بعد مجالسة الخصم مجلسين أو ثلاثة ؛ لأن الحاجة كما تدعو إلى التوكيل في ابتداء الدعوى تدعوا إلى التوكيل في أثنائها .
والراجح في نظري هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم اعتبار رضا الخصم لجواز وكالة الحاضر ولزومها ، وذلك لأن الدعوى والجواب عنها حق للمدعي والمدعى عليه فلكل منهما أن يباشر هذا الحق بنفسه ، وله أن يقيم غيره مقامه كسائر حقوقه التي تدخلها النيابة وسواء كان ذلك في ابتداء الدعوى أو في أثنائها إذ قد يحتاج إلى ذلك ، والضرر المتحقق يمنع منه.
المطلب الثالث : التوكيل من جانب المدّعى عليه
بعد أن عرفنا في المطالب السابقة حكم التوكيل من جانب المدعي بقي أن نتكلم عن التوكيل من جانب المدعى عليه .
وقد أجاز الجمهور من الفقــهاء للمدعى عليه ولو كان بما يوجــب حداً أو قصاصاً أن يوكل ، وهذا قـول الحنفــية حتى قالــوا : إن كلام أبي حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ – في هذا أظهر([195]) ، وبه قال المالكية([196]) في القول المشهور والشافعية([197]) والحنابلة([198]) .
ووجه هذا القول : أن الحاجة تدعو إلى التوكيل من جانب المدعى عليه كالمدعي .
وخالف في هذا سحنون([199]) من المالكية فكان لايقبل من المدعى عليه وكيلاً إلاَّ أن يكون امرأة لايخرج مثلها ، أو مريداً سفراً ، أو مريضاً ، أو كان في شغل الأمير ، أو على خطة لايستطيع مفارقتها ونحو ذلك من الأعذار .
جاء في التبصرة قوله ، قال ابن سهل([200]) وغيره : والذي جرى به العمل أن التوكيل جائز لمن شاء من طالب أو مطلوب ، وكان سحنون لايبيح للمطلوب أن يوكل إلاَّ لعذر كمرض ، أو امرأة محجوبة أو رجل واقف في باب الحاكم ، كالحجاب ونحوه ، ويرى أن ذلك من باب الضرورة ، وأمَّا من سائر الجبابرة فلا([201]) .
والراجح والله أعلم هو جوازه منهما معاً للحاجة إلى ذلك .
المبحث الثاني : ثبوت الوكالة
لا نزاع بين الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في اشتراط ثبوت الوكالة بالخصومة في الجملة ، فمن ادّعى أنه وكيل فلان فلابد من إثبات الوكالة([202]) .
ثم بعد ذلك اختلفوا في مسائل :
الأولى : في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي .
الثانية : إثبات وكالة الغائب .
الثالثة : اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق .
الرابعة : وسائل إثبات الوكالة .
وسوف يكون الكلام على هذه المسائل في أربعة مطالب :
المطلب الأول : في اشتراط حضور الخصم لسماع البينة بالوكالة إذا كان التوكيل في مجلس القاضي ( وكالة الحاضر ) .
وفيه فرعان :
الفرع الأول : حكم إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي .
اختلف الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في إحضار شاهدين عند توكيله عند القاضي على قولين :
القول الأول : لايلزم إحضار شاهدين ، وهذا قول الحنفية([203]) ، وقول عند الشافعية مبني على القول بجواز قضاء القاضي بعلمه هكذا خرجه ابن القاص([204]) على مذهب الشافعية([205]) .
القول الثاني : يلزم إحضار شاهدين ، وهو قول آخر عند الشافعية مخرج على القول بعدم جواز قضاء القاضي بعلم نفسه([206]) ، وهو المفهوم من كلام الإقناع ، وهو مبني أيضاً على مسألة عدم جواز قضاء القاضي بعلمه كما هو ظاهر المذهب .
ففي الإقناع قوله : وإذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكله ولم يسمعه شاهدان مع الحاكم ثم غاب الموكِّل وحضر الوكيل فقدم خصماً لموكِّله وقال : أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيلاً لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته ؛ لأن الحاكم لايحكم بعلمه )([207]) .
وبناه على القولين في حكم قضاء القاضي بعلمه أيضاً صاحب المغني([208]) .
الفرع الثاني : إثبات وكالة الحاضر :
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إثبات الحاضر وكالته عند القاضي وهو يعرفه :
إذا حضر عند القاضي رجلٌ يعرفه وأراد أن يثبت وكالته عند القاضي ، فإن القاضي يسمع منه ذلك ويثبت وكالته وإن لم يكن معه خصم إذا عرف الموكِّل ، وبهذا قال الإمامان أبو حنيفة([209]) والشافعي([210]) .
ووجهه : أن هذا ليس فيه أكثر من إقامة الموكّل الوكيل مقام نفسه وللموكل أن يفعل ذلك([211]) .
وفي هذه الحالة إذا غاب الموكِّل فللقاضي أن يسمع من الوكيل الدعوى ولا حاجة إلى إقامة البينة على الوكالة([212]) ؛ لأن الوكالة هنا ثبتت بإقراره .
والذي يفهم من كلام المالكية في قضية إقرار الخصم في مجلس الحكم أنه لابد من إقامة شاهدين على إقراره([213]) ، فيمكن أن يتخرج في مسألتنا كذلك مثل ذلك ، إذ المعنى فيهما واحد هذا مع قولهم بأن القاضي لايقضي بعلمه إلاَّ في التعديل والجرح([214]) .
وكذلك يفهم من قول الحنابلة أن القاضي لايقضي بعلمه أنه لابد من الإشهاد([215]) على وكالته ، والله أعلم .
والذي يظهر لي أنه لابد من الإشهاد على وكالته لما يأتي بعد هذا من الأدلة الدالة على أن القاضي لايقضي بعلمه ؛ ولأنه رُبَّمَا أنكر الوكالة حين يرى أن الحق قد لزمه ، فيحتاج إلى إثبات وكالته ولايتم ذلك إلاَّ بإقامة البينة ، والله أعلم .
المسألة الثانية : إثبات الحاضر وكالته عند القاضي والقاضي لايعرفه :
إذا حضر عند القاضي رجل وأراد أن يوكل رجلاً ويثبت عنده وكالته والقاضي لايعرفه فقد اختلف الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – على قولين :
القول الأول : أن القاضي إذا لم يعرف الموكِّل اسماً ونسباً فلايحكم بوكالته، وهذا قول الإمام أبي حنيفة([216]) .
ووجهه : أن القاضي إذا لم يعرف اسم الموكِّل ونسبه فيمكن أن يأتي شخص ويتسمى باسم صاحب الحق ونسبه ويوكّل عند القاضي فإذا غاب الموكِّل المسمى باسم غيره حضر الوكيل وأخذ الحق لمن تسمى باسم صاحب الحق ، وهذا تزوير يفضي إلى إبطال حقوق الناس ، وهذا التزوير ، وهذه الحيلة لايقدر عليها إذا كان القاضي يعرف الموكّل اسماً ونسباً([217]).
القول الثاني : أن القاضي يسمع ذلك ويثبت توكيله ، وبه قال ابن أبي ليلى([218]) .
وبنى فقهاء الحنابلة المسألة على حكم القاضي بعلمه فعلى القول بأنه يحكم بعلمه ، وكان يعرف الموكل باسمه وعينه ونسبه صدقه ومكنه من التصرف ؛ لأن معرفته كالبينة ومفهومه أنه لو لم يكن يعـرف ذلك لم يصدقه ، ولذلك قال في المغني ، وإن عرفه بعينه دون اسمه ونسبه لم يقبل قوله حتى تقوم البينة بالوكالة ؛ لأنه يـريد تثبيت نسبه عنده بقوله فلم يقبل )([219]) ا هـ .
فيكون الحنابلة في هذا موافقين لقول الإمام أبي حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ – .
وعلى القول بأنه لايقضي بعلمه لايسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته([220]) ، فيكون هذا قولاً ثالثاً في المسألة .
وظاهر المذهب أن القاضي لايقضي بعلمه في حد ولا غيره ، ولا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها([221]) ، فيكون المعتمد في المذهب على هذا هو القول الثاني أنه لايسمع دعواه حتى تقوم البينة بالوكالة .
والدليل على أنه لايقضي بعلمه ما يلي :
1 – قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( إنَّما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ))([222]) .
ووجه الاستدلال : أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – ذكر أنه لايقضي إلاَّ بما يسمع لا بما يعلم .
2 – قوله – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – في قضـية الحضرمـي والكندي : (( شاهـداك أو يمينه ليس لك منــه إلاَّ ذلك ))([223]) .
ووجه الاستدلال : أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – لم يحكم بعلمه ، وإنَّما جعل الحكم مبنياً على أسبابه الظاهرة من الشاهدين أو يمين المدعى عليه .
3 – ما روت عائشة – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل على فريضة ، فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – فأعطاهــم الأرش ، ثم قال : (( إني خاطب الناس ، ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم )) ؟ قالوا : نعم ، فصعد النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – المنبر فخطب ، وذكر القصة ، وقال : (( أرضيتم ؟ )) قالوا : لا . فهمّ بهم المهاجرون ، فنزل النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – فأعطاهــم ، ثم صعد فخطــب الناس ثم قال : أرضيــتم ؟ قالوا : نعم ))([224]) .
ووجه الاستدلال : أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – لم يأخذ بعلمه في هذه القصة .
4 – روى عن أبي بكر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أنه قال : لو رأيت حدّاً على رجل لم أحُدّه حتى تقوم البينة([225]) .
5 – ولأن تجويز القضاء بعلم القاضي يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه([226]) .
والراجح في نظري أنه لابد من إقامة البينة على الوكالة ، وأن يشهد الشهود أن الموكل فلان ابن فلان يذكرون اسمه ونسبه للمعنى الذي ذكره الإمام أبو حنيفة – رَحِمَهُ اللهُ – من أنه يُمكن أن يتسمى شخص باسم صاحب الحق ويوكل في المطالبة به ، وهو في الحقيقة ليس المستحق وإنَّما من باب التزوير فيفضي ذلك إلى أخذ حقوق الآخرين بهذه الطريقة لاسيما مع فساد الزمان ووجود من لايتورع عن التزوير وأخذ حقوق الآخرين ، والله أعلم .
المطلب الثاني : إثبات وكالة الغائب
وصورة ذلك : أن يدعي رجل أن رجلاً وكله ليطالب بحقه وحضر عند القاضي وجاء بالبينة على الوكالة والموكِّل غائب ، فإن كان الخصم حاضراً فلا نزاع بينهم أن بينة الوكيل بالوكالة تسمع ويحكم بإثبات وكالته .
وإن كان الخصم غائباً فقد اختلف العلماء – رَحِمَهُمُ اللهُ – هل يشترط حضور الخصم في إثبات الوكالة بالخصومة أم لا ؟ ، على قولين :
القول الأول : أنه لايقبل من الوكيل شهادة على الوكالة إلاَّ ومعه خصم حاضر ، وهذا قول الحنفية([227]) ، وهو قول عند الشافعية ، قال به القاضي حسين([228]) .
ووجهه : أن الدعوى والإنكار شرط قبول البينة فكما أن انعدام الدعوى يمنع قبول البينة فكذلك انعدام الإنكار ، ولايتحقق ذلك – أي الإنكار – إلاَّ من خصم حاضر أشبه القضاء على الغائب([229]) .
ونوقش : بعدم التسليم بأنه قضاء على غائب ، ذلك أن الوكالة حق للموكل وعليه ، وليس للخصم فيها حق ولا عليه فيها حق ، بدليل أنه لايثبت له بحضور الوكالة حق ، ولايثبت عليه حق([230]) .
ورُدَّ : بأن البينة إنَّما سميت بذلك لكونها مبنية في حق المنكر ، وذلك لايتحقق إلاَّ بمحضر من الخصم([231]) ، ومع هذا فقد قال الحنفية : إذا قبل القاضي البينة بغير خصم حاضر ، وقضى بها جاز قضاؤه ؛ لأنه قضى في فصل مختلف فيه فيكون القاضي قد أمضى فصلاً مجتهداً فيه باجتهاده فلهذا لايفسد قضاؤه([232]) .
القول الثاني : أن البينة على الوكالة في الخصومة تقبل من غير حضور الخصم ، وبهذا قال المالكية([233]) ، والأصح عند الشافعية([234]) ، والحنابلة([235]) ، وابن أبي ليلى([236]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – خبر علي – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فقد وكل عقيلاً وعبدالله بن جعفر ولم يكن عند توكيله إياهما خصم ، وهذه حالة مشهورة في الصحابة وكل أقر عليها ولم يخالف فيها([237]) .
2 – أنه موكّل في حق نفسه فلم يعتبر حضور الخصم كالوكالة في استخراج الديون .
3 – ولأنه توكيل فوجب أن يتم بالموكل والوكيل كالتوكيل في العقود .
4 – ولأن ما تنعقد به الوكالة في العقود تنعقد به في مطالبة الخصوم كوكالة المريض والمسافر .
5 – ولأنه توكيل لم يشترط فيه رضا الخصم فلايشترط فيه حضوره ، وأصله إذا أقر بالوكالة أو وكل عند حاكم .
6 – ولأنه مستعان به في الخصومة فلم يشترط فيه حضور الخصم كإشهاد الشهود([238]) .
7 – ولأنه لايعتبر رضا الخصم في سماع البينة فلايعتبر حضوره كغيره([239]).
والقول الثاني في نظري هو الراجح إن شاء الله ؛ لأن ما استدلوا به من الأقيسة صحيح وليس هناك ما يدفعه ، وأمَّا استدلال الحنفية فمع أنهم أجابوا عن الاعتراض الوارد على حجتهم لكن يبقى قضية الحكم على الغائب لو سلم الدليل فهو محل نزاع ، ولايصح القياس على أمر مختلف فيه ، والله أعلم .
المطلب الثالث : اشتراط ثبوت الوكالة قبل سماع الدعوى بالحق
اختلف العلماء – رَحِمَهُمُ اللهُ – هل يشترط لسماع الدعوى بالحق من الوكيل ثبوت الوكالة أو لا ؟ أم يُمكن أن تسمع بينة الوكالة وبينة الحق معاً على قولين :
القول الأول : لاتسمع دعوى الحق من الوكيل قبل أن يثبت الوكالة وهو القياس عند الحنفية ، وبه قال زفر ، وخرجه البعض على قول الإمام أبي حنيفة([240]) .
قال الخصاف([241]) في أدب القاضي : ( على قول أبي حنيفة لايقبل حتى تثبت الوكالة أولاً ) .
وقال أيضاً : وهذا أقيس على أصولهم ؛ لأن ههنا خصومتين أحدهما : إثبات الوكالة ، والثانية : إثبات المال والخصومة ، وإثبات المال مرتب على الوكالة .
وبهذا أيضاً قال المالكية([242]) والحنابلة([243]) .
ووجهه :
1 – أنه ما لم تقم البينة على كونه خصماً لاتقبل بينته على إثبات المال كما لاتقبل بينة ممن ليس بخصم على إثبات شيء للمعين([244]) .
2 – أن الدعوى لاتسمع إلاَّ من خصم يخاصم عن نفسه أو عن موكله ، وهذا – الذي لم تثبت وكالته – لايخاصم عن نفسه ، ولم يثبت كونه وكيلاً لمن يدعي له ، فلاتسمع دعواه كما لو ادّعى لمن لم يدّع وكالته([245]) .
3 – القياس على من اشترى معيباً وأراد ردّه بذلك العيب فإن خصومته في الرد لاتقبل حتى يثبت العيب([246]) .
القول الثاني : أن الشهادة تقبل على الأمرين جميعاً أي تسمع بينة الوكالة وتسمع الشهادة على الحق ويقضى به وينفذ الجميع ، وهذا قول أبي يوسف([247]) استحساناً .
وقاله ابن سريج([248]) تخريجاً على مذهب الشافعي([249]) .
والقول الأول هو الراجح في نظري ؛ لأن جواز المخاصمة عن الغير فرع عن ثبوت الوكالة فما لم تثبت الوكالة فليس له الحق أن يخاصم عن غيره ، والله أعلم .
المطلب الرابع : وسائل إثبات الوكالة
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إثبات الوكالة بالبينة :
بعد أن عرفنا أنه لابد من إثبات الوكالة فطريق ثبوتها محل نزاع بين أهل العلم ، وفيما يلي تفصيل أقوالهم في هذه المسألة:
القول الأول : أنها تثبت بشاهد وامرأتين ، أو شاهد ويمين إذا كانت الوكالة في مال ، وهو رواية عن أحمد – رَحِمَهُ اللهُ – فإنه قال في الرجل يوكِّل وكيلاً ، ويشهد على نفسه رجلاً وامرأتين : إذا كانت المطالبة بدين ، فأمَّا غير ذلك فلا([250])
ووجهه : أن الوكالة في المال يقصد بها المال فتقبل شهادة النساء مع الرجال كالبيع والقرض وكالحوالة([251]) .
القول الثاني : أنها لاتثبت إلاَّ بشاهدين ذكرين عدلين ، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد نقلها الخرقي([252]) ، وقال في المغني : الثاني : ( ما ليس بعقوبة كالنكاح ، والرجعة ، والطلاق ، والعتاق ، والإيلاء ، والظهار ، والنسب ، والتوكيل ، والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا ، فقال القاضي المعول عليه في المذهب أن هذا لايثبت إلاَّ بشاهدين ذكرين ، ولاتقبل فيها شهادة النساء بحال )([253]) .
وبهذا قال الشافعي أيضاً([254]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – أن الله تعالى نص في الشهادة فيما سوى الأموال على الرجال دون النســاء في ثلاثــة مواضع في الطـلاق والرجعة والوصية، فقال تعالى : ) فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنكُمْ (([255]) ، وقال في الوصية : ) إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ (([256]) فنص على شهادة الرجال فلم يجز أن يقبل فيه شهادة النساء كالزنا .
2 – روى مالك عن عقيل عن ابن شهاب قال : مضت السنة من رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أنه لايجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق([257]) .
قال في الحاوي : وهذا وإن كان مرسلاً فهو لازم لهم ؛ لأن المراسيل حجة عندهم – يعني أبا حنيفة وأصحابه – .
3 – أن ما لايقصد منه المال إذا لم يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد لايقبلن فيه مع الرجال كالقصاص([258]) .
واعترض بأن الوكالة يتعلق بها المال ، فلماذا لايجوز إثباتها بشاهد وامرأتين.
وأُجيب : بأنه ليس في عقد الوكالة مال وإن أريد بها التصرف في المال ، وإنَّما هي تولية أقيم الرجل فيها مقام غيره ثم إن الحقوق على ضربين حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فلما وقع الفرق في حقوق الله بين أعلاها وأدناها في العدد فأعلاها الزنا وأدناها الخمر ، وجب أن يقع الفرق في حقوق الآدميين بين أعلاها وأدناها في الجنس فأعلاها حقوق الأبدان وأدناها حقوق الأموال([259]) .
4 – أن الوكالة إثبات التصرف([260]) .
5 – أن الوكالة في نفسها ولاية وسلطنة ومن ادّعاها فإنَّما يدعي ويثبت قولاً للغير لا مال([261]) .
وعلى هذا فلايقبل شهادة رجل ويمين المدعي ؛ لأنه إذا لم تثبت بشهادة رجل وامرأتين فلئلا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى ، وعلى الأول يقبل فيه شهادة رجل ويمين المدعي ، وهما روايتان مخرجتان([262]) .
القول الثالث : أن الوكالة تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتان سواء كان الحق مالاً أو غير مال ، وهذا قول الحنفية([263]) .
واستدلوا بما يلي :
1 – قوله تعالى في باب المداينات : ) فَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضُونَ مِنَ الشُّهَدَاء (([264]) .
ووجه الاستدلال : أن الله – عَزَّ وَجَلَّ – جعل لرجل وامرأتين شهادة على الإطلاق ؛ لأنه سبحانه وتعالى جعلهم من الشهداء ، والشاهد المطلق من له شهادة على الإطلاق ، فاقتضى أن يكون لهم شهادة في سائر الأحكام إلاَّ ما قيد بدليل([265]) .
ونوقش : بأن الآية نص في الأموال فلايصح استعمال العموم فيها([266]) .
2 – ولأن عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أجاز شهادة النساء مع الرجال في النكاح والفرقة ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد من الصحابة فيكون إجماعاً([267]) .
ويقاس على ذلك سائر الحقوق .
ويُمكن أن يناقش بأنه قد روى أيضاً عن عمر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أنه لاتجوز شهادة النساء في الطلاق والنكاح والحدود والدماء([268]) .
3 – ولأن شهادة رجل وامرأتين في إظهار المشهود به مثل شهادة رجلين ؛ لرجحان جانب الصدق فيها على جانب الكذب بالعدالة ، إلاَّ أنها لم تجعل حجة فيما يدرأ بالشبهات لنوع قصور وشبهة فيها بخلاف الشهادة على الوكالة ونحوها من الحقوق فهي تثبت بدليل فيه شبهة كالأموال([269]) .
ويُمكن مناقشته بأن الأولى قياس الوكالة على سائر الحقوق التي يطلع عليها الرجال وليست بمال .
القول الرابع : إن كانت الوكالة بغير المال فلاتثبت إلاَّ بشاهدي عدل ، وهذا قول المالكية ، وهذا موضع اتفاق بينهم([270]) ، واختلفوا إن كانت الوكالة بطلب مال في وسيلة إثباتها ، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب : يجوز فيها شاهد وامرأتان وشهرة ابن الحاجب ، وقال أشهب وعبدالملك : لايقبل فيها إلاَّ رجلان([271]) .
ودليل الأول : أنها شهادة على مقصود به المال كالشهادة على البيع والإجارة .
ووجه الثاني : أن الشاهد واليمين لايقبل فيهما فكذلك الرجل والمرأتان ؛ لأن أحدهما لايقبل إلاَّ حيث يقبل الآخر([272]) .
أمَّا الشاهد واليمين فحكى ابن رشد([273]) الاتفاق على أنه لايجوز في إثبات الوكالة .
لكن ذكر الحطاب([274]) أن فيها خلافاً نقله اللخمي([275]) والمازري([276]) .
والمشهور أنه لايقضى بهما .
ونقل الحطاب عن المازري : أن معروف المذهب أن الشاهد واليمين لايقضى به في الوكالة لكن منع القضاء بها ليس من ناحية قصور هذه الشهادة في القضاء بها في الوكالة بل لأن اليمين مع الشاهد فيها متعذرة ؛ لأن اليمين لايحلفها إلاَّ من له نفع والوكيل لا نفع له فيها .
قال : وإن كان وقع في المذهب أن الوكيل يحلف مع شاهده بالوكالة وقبض الحق فتأول الأشياخ هذه الرواية على أن المراد بها وكالة بأجرة يأخذها الوكيل أو يقبض المال لمنفعة له فيها([277]) .
والذي ذكره ابن فرحون([278]) في التبصرة عند الكلام على الوكالة بالخصومة أنها تثبت بشاهدين عدلين أو بشاهد ويمين على قول مالك وابن القاسم([279]) .
وما دام أنه يقبل فيها شاهد ويمين فيقبل فيها رجل وامرأتان([280]) ، والله أعلم .
وبعد بيان آراء الفقهاء – رَحِمَهُمُ اللهُ – في هذه المسألة على وجه التفصيل يتبين ما يلي :
أولاً : لا نزاع بين الفقهاء في أن الوكالة تثبت بشهادة عدلين ذكرين .
ثانياً : اختلفوا في شهادة رجل وامرأتين .
فمنهم من قال تقبل إذا كانت الوكالة متعلقة بالمال مثل أن يوكله في المطالبة بدين له ، ولايقبل في غير ذلك إلاَّ رجلين ، وهذا رواية عن أحمد وقول مالك وابن القاسم وابن وهب .
ومنهم من قال : يقبل فيها رجل وامرأتان مطلقاً سواء تعلقت بالمال أو بغيره ، وهذا قول الحنفية .
ومنهم من قال : لايقبل فيها إلاَّ رجلين مطلقاً ، وهو رواية عن أحمد وقول الشافعي وقول أشهب وعبدالملك من المالكية
ثالثاً : اختلفوا في إثباتها بالشاهد واليمين فمن لم يقبل إلاَّ شهادة عدلين لايقبل الشاهد واليمين .
ومن يقبل شهادة رجل وامرأتين فهو يقبل الشاهد واليمين باستثناء المالكية على القول بأنها تثبت بشهادة رجل وامرأتين لكن المعروف من المذهب على ما ذكره الحطاب أنها لاتثبت بالشاهد واليمين لا لقصور في هذه الشهادة لكن لأن اليمين مع الشاهد فيها متعذرة ؛ لأن اليمين لايحلفها إلاَّ من له نفع ، والوكيل ليس له نفع من الوكالة ، ولو كان له نفع لثبتت الوكالة بهما كما في الوكالة التي بعوض .
والراجح في نظري – والله أعلم – هو القول بأن الوكالة التي تتعلق بالمال يقبل فيها رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي ؛ لأن المال يثبت بهما فثبوت الوكالة بهما أولى .
وأمَّا فيما عدا ذلك فلايقبل إلاَّ رجلان عدلان لأن الوكالة مِمَّا يطلع عليه الرجال ، ويُمكن إقامة البينة عليه فلايقبل فيه إلاَّ رجلان .
والأدلة التي استدل بها من يرى إثباتها برجل وامرأتين ، أو برجل ويمين المدعي هي مخصوصة بالمال ، والله أعلم .
المسألة الثانية : إثبات الوكالة بتصديق الخصم :
إذا ادّعى شخص أنه وكيل فلان وصدقه الخصم ثبتت الوكالة عند الحنفية([281]) والشافعية([282]) .
وعند المالكية الظاهر من كلامهم أنها لاتثبت بتصديق الخصم وإنَّما لابد من إثباتها بوسيلة من وسائل الإثبات السابقة .
ففي مواهب الجليل للحطاب قوله : وإذا حضر الوكيل والخصم وتقاررا على صحة الوكالة فلايحكم بينهما بمجرد قولهما ؛ لأنه حق لغيرهما يتهمان على التواطؤ ، ولو صدق الخصم الوكيل في الدعوى واعترف بالمدعى به لم يجبره الحاكم على دفعه على المشهور حتى يثبت عنده صحة الوكالة )([283]) .
قال – رَحِمَهُ اللهُ – : وهذا موافق لما في المعونة وتبصرة اللخمي لكنه مخالف لما ذكره ابن فرحون في الفصل السادس من تبصرته من أن الخصم إذا صدق المدعي للوكالة لزمه دفع الدين إليه ، وما ذكره أيضاً في الباب السبعين في القضاء بالإمارات وقرائن الأحوال مِمَّا يؤيد هذا([284]) .
والحنابلة في هذا يوافقون المالكية ، ففي المقنع قوله : ( فإن كان عليه حق الإنسان فادّعى رجل أنه وكيل صاحبه فصدقه لم يلزمه الدفع إليه … )([285]) .
قال في الشرح : ( إلاَّ أن تقوم به بينة ، وإن لم تقم به بينة لم يلزمه الدفع إليه وإن صدقه )([286]) .
والراجح في نظري أنها لاتثبت بتصديق الخصم ؛ لأن الوكالة يتعلق بها حق للغير ، وهو الموكل فلم يعتبر إقرار الخصم فيما يتعلق به حق الغير ، ولما ذكره المالكية من خشية التواطؤ عليها لأخذ حق الغير ، والله أعلم .
المبحث الثالث : الشرط الثالث : أن لايكون الموكّل مبطلاً
اشترط الفقهاء لصحة الوكالة في الخصومة أن لايكون الموكِّل مبطلاً سواء كان المدعي أو المدعى عليه ، وقد نص على هذا الشرط فقهاء المالكية([287]) والحنابلة([288]) .
قال في تبصرة الحكام : ( ولاتجوز الوكالة عن المتهم بدعوى الباطل ولا المجادلة عنه )([289]) .
وفي الفروع قال : ( ولايصح ممن علم ظلم موكله في الخصومة قاله في الفنون ، فظاهره يصح إذا لم يعلم ، فلو ظن ظلمه جاز ، ويتوجه المنع ، ومع الشك يتوجه احتمالان ، ولعل الجواز أولى كالظن فإن الجواز فيه ظاهر وإن لم يجز الحكم مع الريبة في البينة )([290]) .
واستشهد بما ذكره في المغني في الصلح عن المنكر يشترط أن يعلم صدق المدعي فلايحل دعوى ما لم يعلم ثبوته([291]) .
وعند الحنفية قال الجصاص([292]) في تفسير قوله تعالى : ) وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (([293]) .
قال : ( وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره …)([294]).
وقد جاء في كتب فقهاء المذهب أن الوكالة التي تضر بالخصم بأن كان الوكيل يجتهد في الحيل لإبطال حق المدعي لاتقبل
قال في البحر : ( وإن علم منه قصد الإضرار بالحيل كما هو صنيع وكلاء المحكمة لايقبل )([295]) .
وفي تكملة حاشية رد المحتار قوله : ( وإن علم من الموكّل قصد الإضرار لخصمه بالحيل كما هو صنيــع وكلاء المحكمة لايقــبل منه التوكيل إلاَّ برضاه … )([296]) .
ومن المعلوم أن من أعظم الضرر التوكل عن المبطل لتبرئته مِمَّا هو عليه من الباطل .
وقال الغزالي من الشافعية بعد أن ذكر بعض الأحاديث في ذمّ الخصومـة : ( فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل ، والذي يخاصم بغير علم ، مثل وكيل القاضي ، فإنه قبل أن يتعرف أن الحق في أي جانب ، هو يتوكل في الخصومة من أي جانب كان ، فيخاصم بغير علم )([297]) .
الأدلة :
استدل الفقهاء على عدم جواز التوكل في الخصومة بالباطل بما يلي :
1 – قول الله عزّوجل : ) وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (([298]) .
قال القرطبي([299]) – رَحِمَهُ اللهُ – في التفسير : ( في هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لاتجوز ، فلايجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلاَّ بعد أن يعلم أنه محق )([300]) .
وقال : ( الخصيم هو المجادل … فنهى الله عزّوجل رسوله عن عَضُدِ أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة )([301]) .
وقال ابن العربي([302]) : ( إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لاتجوز ، بدليل قوله عزّوجل لرسوله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : ) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيمًا ( )([303]) .
وقال الجصاص : ( قوله تعالى : ) وَلاَتَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ( روي أنه أنزل في رجل سرق درعاً فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها ، وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ، ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مِمَّا كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق ، وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه ، وهو غير عالم بحقيقة أمره ؛ لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه ، وهذه الآية وما بعدهـا في النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكـره كله تأكيد للنهي عن معونـة من لايعلمه حقاً )([304]).
ثانياً : عن ابن عمـر – رَضِيَ اللهُ عَنْهُـمَا – عن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – قال : (( من خاصـم في باطل وهـو يعلم لم يزل في سخـط الله حتى ينـزع ))([305]) .
وفي لفظ : (( من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله )) رواهما أبو داود([306]) .
قال الشوكاني([307]) : هذا ذم شديد له شرطان :
أحدهما : أن تكون المخاصمة في باطل .
والثاني : أن يعلم أنه باطل فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد ، وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلاً([308]).
وأمَّا قوله([309]) : ( من أعان على خصومة بظلم فهو في معنى ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس بن شرحبيل أنه سمع رسولَ الله يقول : من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام )([310]) .
وقال أيضاً : ( في الحديث دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصماً أو معيناً على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه لينتهي )([311]) .
ثالثاً : روى عروة بن الزبير أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أمها أم سلمة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُـمَا – زوج النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أخبرتها عن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال : (( إنَّما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك ، فمن قضيتُ له بحق مسلم فإنَّما هي قطعة من النَّار فليأخذها أو فليتركها )) رواه البخاري وبوب له : ( باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه )([312]) .
قال ابن حجر([313]) : ( وفيه أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبــها على تزيين الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم فإن المراد بقوله : ( أبلغ ) أي أكثر بلاغة ، ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم وإنَّما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق )([314]) .
وقال أيضاً : وفي هذا الحديث من الفوائد : إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئاً هو في الباطن حرام عليه .
وفيه : أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقاً في الظاهر ، ويحكم له به أنه لايحل له تناوله في الباطن ، ولايرتفع عنه الإثم بالحكم([315]) .
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن من قصد التوكل عن المبطل من أجل تبرئته من باطله وإعانته على ظلمه وهو يعلم بذلك أو يظنه ، فهذا لايجوز وفعله محرم ، وهذه الأدلة تدل عليه .
أمَّا من قصد من التوكل له إظهار باطله ورده عن ظلمه وإعادة الحق إلى مستحقه فيجوز ويدخل في عموم قــول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) ، وقد بين النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – معنى نصره ظالماً بأن يرده عن ظلمه فهذا نصره ، والله أعلم .
المبحث الرابع: في الشرط الرابع : أن لايكون توكيله إضراراً بخصمه
لقد نص على هذا الشرط جماعة من الفقهاء .
ففي التبصرة لابن فرحون([316]) المالكي قوله : ومن وكل ابتداءً إضراراً لخصمه لم يُمكن من ذلك .
ونقل عن محمد بن لبابة([317]) قوله : ( كل من ظهر منه عند القاضي لدد تشغيب في خصومته فلاينبغي له أن يقبله في وكالة ، إذ لايحل إدخال اللدد على المسلمين ) .
وقال ابن سهل([318]) : ( والذي ذهب الناس إليه في القديم والجديد قبول الوكلاء إلاَّ من ظهر منه تشغيب ولدد فذلك يجب على القاضي إبعاده وأن لايقبل به وكالة على أحد )([319]) .
وقد مرّ أن الإمام أبا حنيفة – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – يشترط لصحة التوكيل رضا الخصم لئلا يتضرر بالوكالة .
والمحققون من فقهاء المذهب يرون الأخذ بقول الإمام إذا كان هناك ضرراً على الخصم .
فيفهم من ذلك أنهم يعتبرون هذا الشرط في الجملة .
ويُمكن أن يستدل لهذا بما يلي :
1 – ما في الصحيحين من قوله – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – : (( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم )) متفق عليه([320]) .
قال النووي : ( والألد شديد الخصومة مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه ؛ لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر ، وأمَّا الخَصِمُ فهو الحاذقُ بالخصومة ، والمذمـوم هو الخصومـة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل )([321]) .
قلتُ : وهذا شأن كثير من الوكلاء إنَّما يقصدون لهذا المعنى ولذا فإن من توكل في باطل فهو داخل في هذا الحديث .
قال النووي : فإن قلت لابُدّ للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه فالجواب ما أجاب به الغزالي من أن الذم إنَّما هو لمن خاصم بباطل أو بغير علم كوكيل القاضي فإنه يتوكل قبل أن يعرف الحق في أي جانب ، ويدخل في الذم من يطلب حقاً لكن لايقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد والكذب لإيذاء خصمه ، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر خصمه وكسره ، ومثله من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي وليس إليها ضرورة في التوصل إلى غرضه ، فهذا هو المذموم ، بخلاف المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة في الحجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموماً ولا حراماً لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا .
وعلل ذلك بأن ضبط اللسان على حد الاعتدال متعذر ، والخصومة توغر الصدور ، وتهيج الغضب ، وينتج عن ذلك الحقد بينهما والطعن في العرض وانشغال المرء حتى في صلاته بالمخاصمة فلايبقى حاله على استقامة ، والخصومة مبدأ الشر ، فينبغي التحرز منها إلاَّ لضرورة([322]) .
ثانياً : قوله – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – : (( أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر )) متفق عليه([323])
ووجه الاستدلال من الحديث : أن من توكل في باطل أو قصد الإضرار بخصمه فهو لايخلو من خصلتين من هذه الخصال أن يكذب في حديثه ، وأن يفجر في خصومته ، وهذا من أعظم الضرر بالمسلمين .
ومعنى فجر : أي مال عن الحق ، وقال الباطل والكذب ، قال أهل اللغة : وأصل الفجور الميل عن القصد([324]) .
وقال ابن رجب([325]) : ( يعني بالفجور : أن يخرج عن الحق عمداً حتى يصير الـحق باطـلاً والباطـل حقاً ، وهذا مِمَّا يدعـو إليه الكـذب كما قال النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – : (( إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النَّار )) )([326]) .
وقال : ( فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ، ويخيل للسامع أنه حق ، ويوهن الحق، ويخرجه في صورة الباطل ، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق )([327]) .
وقال النووي : ( اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه ، أي هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه ، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي – صَلَّى اللهُ عَلَـيْهِ وَسَلَّمَ – بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النَّار )([328]) .
ثالثاً : يُمكن أن يستدل له أيضاً بقوله – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَم – : (( لا ضرر ولا ضرار ))([329]) فإنه عام في نفي جميع أنواع الضرر .
ومِمَّا ألحقه فقهاء المالكية بهذا الشرط توكيل العدو على عدوه في الخصومة فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للخصم ، فإذا كان الذي وكل هو المدعي فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للمدعى عليه ، وإن كان الموكل هو المدعي عليه فلايجوز أن يكون الوكيل عدواً للمدعي بل تعدى المالكية إلى أبعد من ذلك فقالوا : لو وكل كُلُّ واحد من المتداعيين وكيلاً وبين الوكيلين عداوة لم يباح ذلك([330]) .
قال ابن فرحون : وللحاكم عزله([331]) .
ووجهه : ما ورد من النهي عن الضرر والضرار .
ولأنه مع العداوة لايسلم من دعواه الباطل لعداوته لخصمه([332]) .
اترك تعليقاً