بحث في المراقبة الخاصة
نصت المادة التاسعة من قانون المتشردين والمشتبه فيهم الصادر في 29 يونيه 1923 على أنه (إذا حدث بعد إنذار البوليس أن حكم مرة أخرى بالإدانة على الشخص المشتبه فيه أو قدم ضده بلاغ جديد على ارتكابه جريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفقرتين أولاً وثانيًا من المادة الثانية أو عن شروعه في ارتكاب إحدى تلك الجرائم أو إذا وجد مرة أخرى في الأحوال المنصوص عليها في الفقرة رابعًا من تلك المادة أو إذا كان لدى البوليس من الأسباب الجدية ما يؤيد ظنونه عن أميال المشتبه فيه وأعماله الجنائية يطلب تطبيق المراقبة الخاصة عليه طبقًا لأحكام الباب الثالث).
جرى قضاء محكمة النقض المصرية على أن المراقبة الخاصة المقصودة بهذه المادة هي المراقبة التي يحدد مكانها وزير الداخلية وأصدرت بهذا المعنى أحكامًا في 21 نوفمبر 1929 و26 ديسمبر 1932، و30 مارس 1936 [(1)] وفي الحكم الأخير استعرضت نواحي الموضوع وتناولته بالبحث حتى خرجت إلى تلك النتيجة وهى تقول في سياق الحكم (من حيث إن عبارة (المراقبة الخاصة) الواردة في المادة التاسعة من قانون المتشردين والمشتبه فيهم قد أثارت كثيرًا من اللبس فيما يتعلق بمدلولها وذلك لانفراد المادة التاسعة بذكرها دون سائر مواد ذلك القانون
ولما يشوبها من غموض لم يساعد على جلاء الباب الثالث من القانون الذي أحالت عليه المادة التاسعة في ختامها بما قد يفيد أن ذلك الباب قد تكفل بتوضيح معنى المراقبة الخاصة وتحديد مدلولها على حين أن أحكام هذا الباب جاءت خلوًا من كل ما يمكن أن يساعد على جلاء غامضة لكن محكمة النقض قد استقر رأيها على تفسير هذه العبارات بأنها يراد بها ما أرادته المادة السادسة من القانون في فقرتها الرابعة أي المراقبة التي يوضع فيها الشخص المراقب في جهة يعينها وزير الداخلية ويكون الغرض من وصف هذه المراقبة بكلمة الخاصة هو تمييزها عن المراقبة العادية التي يترك فيها للمحكوم عليه اختيار الجهة التي ينوي الإقامة فيها مدة المراقبة)،
ثم استطردت إلى القول بأن المراقبة مفروضة في هذه المادة كعقوبة أصلية أسوةً بالحالة المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من المادة السادسة بالنسبة للمتشردين وذكرت (أنه لوحظ أن المشرع المصري في جميع أدوار تشريعاته المختلفة الخاصة بالمتشردين والمشتبه فيهم كان كلما اختار أن يقضي بالمراقبة كعقوبة أصلية تخير لذلك المراقبة التي يقضيها المحكوم عليه في جهة تعينها له الحكومة وأنه لم ينص مطلقًا على المراقبة العادية كعقوبة أصلية)
تراجع الفقرة الثانية من المادة الثانية من الأمر العالي الصادر في 13 يوليه سنة 1891 المعدل بالأمر العالي الصادر في 13 فبراير سنة 1894 وكذا الفقرة الثالثة من المادة الرابعة من الأمر المذكور تعين القول بأن المراقبة المنصوص عليها في المادة التاسعة من القانون رقم (24) سنة 1923 كعقوبة أصلية لا يمكن أن تكون إلا من نوع المراقبة التي تختار الحكومة فيها للمحكوم عليه جهة خاصة يقضي فيها هذه المراقبة ومن أجل ذلك عبر عنها القانون في المادة المذكورة بالمراقبة الخاصة وأن الشك الذي قام حول المعنى المراد بهذه العبارة إنما كان منشأه أن القانون اختار للتعبير عن هذا المعنى بعينه في نصوص أخرى منه عبارات أوضح دلالة من العبارة التي تخيرها في المادة التاسعة.
وأضافت محكمة النقض إلى الحجتين السابقتين حجة ثالثة حيث قالت:
(ومن حيث إن لاختيار المراقبة الخاصة كعقوبة أصلية دون المراقبة العادية حكمة ظاهرة لأنها تؤدي غرضين في آنٍ واحد ففيها معنى اعتقال الشخص وإبعاد عن مسكنه وذويه وهو المعنى المستفاد من الحبس كما أن فيها معنى وضع المحكوم عليه تحت ملاحظة البوليس ففي الحكم بالمراقبة الخاصة الغناء عن الحكم بالحبس كعقوبة أصلية ثم الحكم بالمراقبة كعقوبة تكميلية لذلك كان من المعقول أن يقضي بها باعتبارها عقوبة أصلية أما المراقبة العادية فلا غناء فيها عن العقوبة الأصلية).
وقد أثار هذا الموضوع الجدل الكبير بين المحاكم حتى أن بعضها رفض الأحد برأي محكمة النقض في حكميها الصادرين قبل الحكم الأخير وذلك رغم منشور من لجنة المراقبة القضائية بلفت نظر المحاكم إلى ضرورة العمل برأي محكمة النقض وليس من شك في أن الموضوع غامض ويثير كثيرًا من الشبهات وجدير بأن يطرح المشتغلون بالقضاء آراءهم لتمحصها محكمة النقض ولكي يسترشدوا بوفير حكمتها وعظيم خبرتها – وما حدا بي للكتابة في هذا الموضوع إلا رغبة ملحقة في الوصول إلى الحقيقة وإن كنت أعلم أن الحقيقة القانونية ليست كالحسابية قابلة للتحديد النافي لكل تجهيل.
فأما عن التفسير اللفظي لعبارة (الخاصة) التي حددت بها المراقبة فأميل إلى القول بأنه قصد بها المراقبة التي هي من نوع خاص لأنها ليست عقوبة تبعية كعهد الشارع بها وإنما هي عقوبة أصلية والشارع في قانون العقوبات الصادر سنة 1904 لا يعرف المراقبة إلا كعقوبة تبعية وقد نصت المادة (28) من قانون العقوبات على الحالات التي يجب فيها وضع المحكوم عليه تحت المراقبة بعد قضائه العقوبة الأصلية التي حكم عليه بها كما نصت المادة (24) في الفقرة الثالثة منها على اعتبار مراقبة البوليس من العقوبات التبعية أي العقوبات التي لا يحكم بها مستقلة وإنما يحكم بها تبعًا لعقوبة أصلية ترتبط بها.
فلمت جاء المشروع سنة 1923 وجمع شتات القوانين واللوائح المعمول بها خاصةً بالمتشردين والمشتبه فيهم وكانت موزعة قبل ذلك في الأمر العالي الصادر في 13 يوليه سنة 1891، و13 فبراير سنة 1894، و29 يونيه سنة 1900 والقوانين نمرة (15)، ونمرة (16)، ونمرة (17) لسنة 1909 أدمج هذه الأحكام الواردة في تلك القوانين ونظمها وجعلها متفقة نوعًا مع روح التشريع حينذاك وخرج منها بالقانون نمرة (24)، واستبقى من بين أحكام هذا القانون عقوبة المراقبة كعقوبة أصلية ينص عليها في بعض الحالات وبديهي أنها وإن سميت مراقبة إلا أنها مخالفة تمام المخالفة للمراقبة التي يعرفها القانون العام تلك المراقبة التي يجب أن تكون تبعية وهذا هو المعنى حسب اعتقادي الذي قصده الشارع.
ولو أن الشارع قصد بالمراقبة الخاصة المراقبة التي يحدد مكانها وزير الداخلية لنص على ذلك صراحةً كما سبق أن نص عليه في الفقرة الرابعة من المادة السادسة وهى سابقة للمادة التاسعة وليس من سبب يدعوه إلى التصريح بها أو بحكمها في المادة السادسة ثم هو بعد ذلك في المادة التاسعة يتركها مجهلة كما أنه ليس من سبب يدعو إلى هذا التفسير الذي لا يحتمه اللفظ من جهة ولا يتفق مع بقية نصوص القانون من جهة أخرى ولا مع سوابقه التشريعية وهذا ما يتعين معه بحث الحجة التاريخية التي لجأت إليها محكمة النقض لتعزيز رأيها فإذا رجعنا إلى الأمر العالي الصادر لسنة 1891
وجدنا أنه يتكلم في الباب الأول منه عن المتشردين، وينص في المادة الثانية على عقوبة التشرد بالحبسي من 15 يومًا إلى 45 يومًا عقب الإنذار ويضيف إلى ذلك ملاحظة البوليس لمدة قدرها من ستة شهور إلى سنة واحدة ويسوغ للقاضي أن يستبدل هاتين العقوبتين بالإبعاد في جهة تعينها الحكومة داخل القطر لمدة سنة واحدة هذا فيما يختص بالمتشردين أما الباب الثاني من الأمر العالي المذكور فيتكلم عن الأشخاص المشتبه في أحوالهم ويحيل العقوبة التي توقع عليهم إلى العقوبة التي توقع على المتشردين في بعض الحالات ويتكلم في الباب الثالث عن تنظيم أمر ملاحظة البوليس فيما يختص بالمحكوم عليهم بها وبجهة البوليس التي تباشرها.
وقد أضاف الشارع بالأمر العالي الصادر سنة 1894 حكمًا خاصًا بالأشخاص المشتبه فيهم الذين مع كونهم أقوياء البنية لا يمارسون في العادي حرفة مقررة ثم في 29 يونيه سنة 1900 أصدر دكريتو بتعديل بعض مواد من قانون العقوبات خاصةً بملاحظة البوليس وذكر في ديباجة الدكريتو أن الغرض منه تجديد مدة الملاحظة وحصر الأحوال التي يحكم فيها بهذا العقاب في دائرة لا تتعدى الحدود اللازمة رعايةً للصالح العام وفي نفس هذا الدكريتو عدل الطريقة المتبعة في ملاحظة البوليس وذلك (لضرورة تعديل طريقة هذه الملاحظة يجعل أحكامها قاصرة على ما لا يقيد حرية الإنسان إلا فيما يكون لازمًا حتمًا وكافلاً للأمن العام وفي هذا السبيل ألغي عدة مواد من الأمر الصادر في 13 يوليه سنة 1891 وهى المواد من (9) إلى (16)).
وفي سنة 1909 صدر القانون نمرة (15) الخاص بوضع بعض الأشخاص تحت ملاحظة البوليس وأنشئت لجنة خاصة للفصل في الأشخاص الذين اشتهر عنهم الاعتياد على الاعتداء على النفس والمال فذكر في المادة الأولى أنه يجوز وضعهم تحت مراقبة البوليس وحددت الملاحظة بالمادة السادسة يجعلها في محل إقامة المتهم
ثم نظمت إجراءات خاصة لضمان شخص يجوز أن يقدمه المتهم لضمان حسن سيره مستقبلاً ونص في المادة الحادية عشرة على أنه إذا عجز المحكوم عليه عن تقديم الضمان أو قدم ضمانًا لم يقبل أو قبل ثم أخلى من الضمان ولم يستبدل في الميعاد المحدد في المادة التاسعة فيحدد له محل إقامة في جهة من القطر يعينها وزير الداخلية لتمضية مدة الملاحظة فيها – كذلك نص في المادة الثانية عشرة على أنه إذا حكم على الشخص الموضوع تحت المراقبة لارتكابه جناية ما أو جنحة سرقة أو شروع في سرقة إلخ يعين له بعد انتهاء مدة العقوبة محل إقامته بالجهة بادية الذكر،
وفي القانون نمرة (16) عدلت بعض مواد الأمر العالي الصادر سنة 1900 كما أنه في قانون نمرة (17) نظمت أحكام المتشردين في ثلاث مواد وألغيت الأوامر الصادرة في سنة 1891 وسنة 1894 وسنة 1906 وقد ورد في المادة الثالثة من هذا القانون بأنه في حالة العود للتشرد يجوز للجنة أن تصدر قرارًا بتمضية المحكوم عليه مدة الملاحظة في جهة معينة طبقًا للمادة (11) من قانون سنة 1909.
نخرج من هذا الاستعراض التاريخي إلى أنه في جميع الحالات وحينما أراد الشارع النص على أن تكون المراقبة في جهة خاصة ذكر ذلك صراحةً بل إنه في بعض الأحيان عبر عنها بلفظة الأبعاد كما سبق بيانه ولم يستبقِ حكم هذه المراقبة إلا للمتشردين العائدين أما بخصوص المشبوهين فلم يستبقها إلا في حالة الضمان الشخصي كما سبق بيانه، وفي حالة أخرى هي خليط من المراقبة التبعية والمراقبة الأصلية وهى الحالة المنصوص عنها في المادة الثانية عشرة من القانون نمرة (5) لسنة 1909 إذا حكم على الشخص الموضوع تحت المراقبة أصلاً أو لارتكابه جناية أو جنحة خاصة نص عليها في تلك المادة فقد ذكر أنه بعد انتهاء مدة العقوبة يعين له محل إقامة في جهة يعينها وزير الداخلية وتقرر له اللجنة مدة الملاحظة فيها.
جاء بعد ذلك الشارع في القانون رقم (24) لسنة 1923 فأراد أن يضمنه جميع الأحكام الخاصة بالمتشردين والأشخاص المشتبه فيهم فحدد حالات التشرد وحالات الاشتباه ونظم الإجراءات التي تتخذ في حق المتشردين أو المشتبه في أمرهم واستلزم الإنذار في الحالتين ثم تكلم على مراقبة البوليس واستبقى في العقوبة الخاصة بالمتشردين عقوبة المراقبة في جهة خاصة، وفيما يختص بالمشبوهين ألغى حالة الضمان الشخصي فسقطت تبعًا لذلك عقوبة إبعاد المشتبه فيهم إلى مكان خاص ولم يحدد للمشتبه فيهم إلا عقوبة المراقبة بدون ذكر مكانها.
فمن العسير بعد ذلك القول بأن الشارع يقصد بصفة عامة أن تكون المراقبة في مكان يحدده وزير الداخلية هذا الشارع الذي حرص في جميع الحالات على النص صراحةً على هذا الحكم عند وجود مقتضياته والذي اتجه في سنة 1891 إلى (أن يجعل تقييد حرية الإنسان قاصرًا على ما يكون لازمًا حتمًا وكافلاً للأمن العام)،
فلا يمكن بعد ذلك أن يقال إنه قصد عقوبة خاصة لم ينص عليها صراحةً وإذن فالشارع لا يقضي بالمراقبة كعقوبة أصلية في الجهة التي تعينها الحكومة للمحكوم عليه فقط بل قد تكون المراقبة كما في الحالة المنوه عنها آنفًا – حالة المادة (12) قانون نمرة (15) سنة 1909 – عقوبة تبعية ومع ذلك تكون في المكان الذي تحدده الحكومة وإذا أرادت محكمة النقض أن ندلها على حالة تكون فيها المراقبة عقوبة أصلية ولكن لا يحدد مكانها وزير الداخلية فهذه الحالة هي المنصوص عنها في المادتين الأولى والسادسة من قانون رقم (15) سنة 1909 إذ ذكر أنه إذا ثبت للجنة أن المتهم من ضمن الأشخاص الذين اشتهر عنهم الاعتداء على النفس أو المال تقرر بوضعه تحت الملاحظة لمدة خمس سنوات في محل إقامته لا في المكان الذي يحدده وزير الداخلية ولهذا تسقط الحجة التاريخية التي اعتمدتها محكمة النقض.
وهل أدل على نية الشارع واتجاهه هذا من أنه في المادة الرابعة عشرة من قانون رقم (24) سنة 1923 ذكر بأن المحكوم عليه تحت مراقبة البوليس باعتبار مشتبهًا فيه أو متشردًا يجب أن يتقدم في ظرف 24 ساعة لمكتب البوليس ليحدد مكان إقامته فلو كان جميع الأشخاص المشتبه في أمرهم يراقبون في مكان خاص لما كانت هناك فائدة من هذا النص ولذلك نرى محكمة النقض تواجه هذه الحجة بالاعتراض عليها بأنها تشمل أيضًا حالة المتشردين العائدين
قائلة في هذا الصدد (إنه لو أخذ بعموم نص المادة لوجب أن يترك لجميع من يحكم عليهم بالمراقبة للتشرد حق اختيار الجهة التي ينوون اتخاذها محلاً لإقامتهم وهو أمر ظاهر بطلانه) وبديهي أن القياس بين حالة المتشردين وحالة المشتبه فيهم قياس مع الفارق لأن حالة المتشردين العائدين منصوص عنها في صلب القانون فليس من سبيل إلى تشبيهها بحالة المشبوهين، ومتى كان الحق ممنوحًا للمشبوهين لتحديد محل مراقبتهم فيجب ألا يحرموا منه إلا بنص صريح خاص كما هو شأن المتشردين وكما كان دأب الشارع في التنويه به في جميع أدوار التشريعات التي صدرت بهذا الخصوص.
وهذا ما يجعلنا نعتقد بضرورة تدخل المشرع عاجلاً للحسم في هذا النزاع بنصوص جلية صريحة لا يحوطها اللبس والغموض وإلى أن يأتي ذلك الوقت فعسى أن تعدل محكمة النقض عن رأيها تحت ضوء الحجج التاريخية التي سقناها فيما سلف به القول وقد سبق أن غيرت قضاءها في مسائل هامة لا تخفي على المشتغلين بالقضاء.
محمد مختار عبد الله
وكيل نيابة الإسكندرية الكلية الأهلية
اترك تعليقاً