مدخل لدراسة حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
فائز صالح محمود أللهيبي، أستاذ الفكر السياسي، كلية العلوم السياسية، جامعة الموصل، العراق
ملخص
نستطيع القول، بأنّ العالم المعاصر يعيش حقبة من تاريخ البشرية يسمى ( عصر حقوق الإنسان)، وأنّ الإسلام كان له الدور الريادي في التأكيد على أهمية حقوق الإنسان، التي هي جزء لا يتجزأ من تكريم الله تعالى للإنسان عموماً، قبل أن يتنبه المجتمع الدولي ممثلاً في منظمة الأمم المتحدة، لذلك، وقد أصدرت الشريعة الإسلامية العديد من الأفكار التي تؤكد على تلك الحقوق قبل صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان المدنية والاقتصادية والاجتماعية، والبروتوكولات الملحقة، وغيرها من الصكوك الدولية بعقود من الزمن.
والشائع في الكتابات القانونية والسياسية، وفي الدراسات الاجتماعية، أنّ عهد الإنسان بالوثائق والعهود التي بلورت حقوقه الإنسانية، أو تحدثت عنها، مقننةً لها ومحددةً لأبعادها، قد بدأ منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789م، وهذا التاريخ لو تأملناه، وجدناه: التاريخ الأوربي لحقوق الإنسان، فليس فيه إشارة إلى الأفكار والشرائع التي عرفتها حضارات عديدة، ومنها شرائع الحضارة الإسلامية، عن حقوق الإنسان.
فالشريعة الإسلامية تؤكد على أنّ حقوق الإنسان ترتبط بالغاية الكبرى من مقصود الشريعـة الإسلامية، وهي تحقيق عبودية الخلق لله تعالى، والمحافظة على ضروريات وجود الإنسان التي حددها علماء الأصول: بحفظ الدين والنفس والعقل، والمال والعرض، فضلاً عن حفظ حاجيات هذا الوجود، وذلك بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيراً، حفظ تحسينات الوجود الإنساني من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
إنّ الإسلام أوصى بالحرية والمساواة، وحرر المرأة من العادات الجاهلية، وشجع على طلب العلم، وجعل الناس سواسيةً كأسنان المشط، فأذاب الفوارق بين الأغنياء والفقـراء، وشجـع على عتـق العبيد وتحريرهم، فضلاً عن عنايته بالصحة وأساليب العمران، مع التأكيد على حق الحياة والتملك وغيرها كثير، وهذه الفرضية هي التي انطلق منها البحث.
Abstract
We can say that the modern world lives an era of human history which is called (The Age of Human Rights), and that Islam has had a leading role in emphasizing the importance of human rights, which is an integral part of honoring God to man in general, before paying it attention by the international community represented by the United Nations. Shari’ a has produced many ideas that emphasize these rights before the two international human rights Covenants on civil, economic, and social rights, besides the attached protocols, and other international instruments in decades.
It is common in the legal and political literature, and in the social studies, that man’s commitment with the documents and covenants, which crystallized his human rights or spoke about them, codifying and defining their dimensions, has started since the French revolution in 1789. If we took a close look at this date we would find it as: the European history of human rights, not a reference to ideas and canons known to many civilizations, including the Islamic civilization, about human rights.
Islamic Shari ‘a asserts that human rights are linked to its essential end, which is achieving the servitude of the creation to God, and to maintain the necessities of human existence determined by scholars of principles of religion: keeping religion, soul, mind, money, and honor, as well as the conservation of the needs of this existence, through applying human relations in all other transactions, and finally, preserving the improvements of human existence such as good manners and habits.
Islam has recommended freedom and equality, freed woman from pre-Islam customs, encouraged to seek knowledge, and made people as equal as the teeth of a comb through thawing disparities between the rich and the poor, encouraged to free the slaves and liberate them, as well as paying attention to health care and construction methods, with emphasis on the right to life, property, and many others. From this hypothesis this research has set out.
مقدمة
نستطيع القول، بأنّ العالم المعاصر يعيش حقبة من تاريخ البشرية يسمى ( عصر حقوق الإنسان)، وأنّ الإسلام كان له الدور الريادي في التأكيد على أهمية حقوق الإنسان، التي هي جزء لا يتجزأ من تكريم الله تعالى للإنسان عموماً، قبل أن يتنبه المجتمع الدولي ممثلاً في منظمة الأمم المتحدة، لذلك، وقد أصدر الفكر الإسلامي العديد من الأفكار التي تؤكد على تلك الحقوق قبل صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان المدنية والاقتصادية والاجتماعية، والبروتوكولات الملحقة، وغيرها من الصكوك الدولية بعقود من الزمن.
إنّ الشائع في الكتابات القانونية والسياسية، وفي الدراسات الاجتماعية، أنّ عهد الإنسان بالوثائق والعهود التي بلورت حقوقه الإنسانية أو تحدثت عنها، مقننةً لها ومحددةً لأبعادها، قد بدأ منذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789م، وهذا التاريخ لو تأملناه، وجدناه: التاريخ الأوربي لحقوق الإنسان، فليس فيه إشارة إلى الأفكار والشرائع التي عرفتها حضارات عديدة، ومنها شرائع الحضارة الإسلامية، عن حقوق الإنسان.
وفي عصرنا الحديث برز العديد من المفكرين الإسلاميين الساعين إلى التوفيق بين العقيدة الدينية وبين مطالب الحضارة الحديثة، وقد حاولوا من خلال تصديهم لدعوات المبشرين والمستشرقين، إزالة شبهة منافاة تعاليم الإسلام لمقتضيات الحضارة والتطور، مع إثبات مرونة الأحكام الإسلامية، وسهولة مسايرتها للحاجات الإنسانية المتغيرة باختلاف الزمان والمكان. وقد شهدت العقود الأخيرة كتابات جيدة ومثمرة تبرز حديث الإسلام وسبقه في التقنين لحقوق الإنسان، وهو ميدان خصب وهام ما زال ينتظر الكثير من الجهود التي يمكن أن تسلح الإنسان المسلم بثقافة حقوق الإنسان، التي سماها الفكر الإسلامي ( ضرورات )، وهي مرتبة تجاوز مرتبة ( الحقوق )، ثمّ أدخلها الفكر في إطار( الواجبات ).
إنّ الإسلام أوصى بالحرية والمساواة، وحرر المرأة من العادات الجاهلية، وشجع على طلب العلم، وجعل الناس سواسيةً كأسنان المشط، فأذاب الفوارق بين الأغنياء والفقـراء، وشجـع على عتـق العبيد وتحريرهم، فضلاً عن عنايته بالصحة وأساليب العمران، مع التأكيد على حق الحياة والتملك وغيرها كثير.
ولابد لنا من القول، أنّ الكثير من حقوق الإنسان بمفهومها الشائع اليوم، قد نصّ القرآن الكريم عليه، أو أشارت السنة النبوية الصحيحة إليه، واتخذها المجتمع المسلم نبراساً له في العصور جميعها، بدءً من عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نبراساً له، وهادياً يهتدي به، ولا ننسى أنّ المجتمع الإسلامي، بفضل الدين، كان من أوائل المجتمعات التي حرمت التمييز على أساس العرق.
إشكالية البحث: تخضع أي دراسة أو بحث لأي مفهوم إنساني معاصر في الفكر الإسلامي وخصوصا المتعلقة بحقوق الإنسان لضرورة مقارنتها بالمحددات الشرعية ومدى موافقتها للشرع من عدمه، لذا حاول البحث الإجابة على الأسئلة الآتية: هل تناولت الشريعة الإسلامية مفاهيم حقوق الإنسان المتداولة في يومنا الراهن ؟ وهل هناك ماهية محددة وواضحة لتلك الحقوق في الإسلام ؟، ثم أخيراً ما هي المزايا والخصائص لتلك الحقوق وما هي طبيعتها ؟، وما هي الأركان الأساسية لتلك الحقوق ؟ .
فرضية البحث: أنّ الكثير من حقوق الإنسان بمفهومها الشائع اليوم، قد نصّ القرآن الكريم عليه، أو أشارت السنة النبوية الصحيحة إليه، واتخذها المجتمع المسلم نبراساً له في العصور جميعها، بدءً من عهد الرسول محمد رسول الله نبراساً له، وهادياً يهتدي به، ولا ننسى أنّ المجتمع الإسلامي، بفضل الدين، كان من أوائل المجتمعات التي حرمت التمييز على أساس العرق.
هيكلية البحث: تناول البحث الموضوع في ثلاثة مباحث، يدور المبحث الأول حول تعريف الحق لغةً واصطلاحاً، أمّا المبحث الثاني فيبحث حول ماهية حقوق الإنسان في الإسلام، أمّا المبحث الثالث فسيركز على مزايا وخصائص وطبيعة الحقوق الإنسانية في الشريعة الإسلامية، وأخيراً الخاتمة.
المبحث الأول: تعريف الحق لغةً واصطلاحاً:
تعريف الحق:
ابتداءً نشير إلى أنّ مسألة التعريف بالمصطلحات تثير التباساً، لاختلاف رؤية الأشخاص لها تبعاً لمشاربهم الأكاديمية، أو مدارسهم الفكرية، أو اختصاصاتهم، أو معتقداتهم الشخصية، أو غيرها من الأسباب .
إنّ السلامة في التفكير تجاه أي موضوع تأتي إذا كانت معالم الموضوع واضحة، وتتضح معالم الموضوع بوضوح المصطلحات فيه، لذا لابد من تقديم محاولة لتعريف معنى الحق لغةً واصطلاحاً.
أولاً: الحق لغةً:
الحق في اللغة العربية كلمة تطلق على ( الموجود الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ) (1)، وأنّ المعنى العام لكلمة الحق يعني الثبوت والوجوب، فيقال: ( حق الشيء إذا وجب وثبت، وحق الأمر إذا صحّ وصدق ) (2). ويقال أيضاً: حق الأمر يحق حقاً، وحقوقاً، صار حقاً وثبت وحق الأمر، ويحق حقـاً، أي صحّ وثبت وصدق، وتحقق الأمر، صحّ ووقع، وحقّ الأمر: ثبّته وصدّقه (3).
ويستعمل لفظ الحق في معاني عدّة، باختلاف السياق الذي يرد فيه لفظ الحق، فالحق كلمة غامضة في حد ذاتها، فقسم من الدارسين يشير إلى أنّ الحق عادةً ما يتم استعماله في إطاره الضيق والمتعلق بأنّ حامل الحق مخول بشيء ما مقابل واجب معين، ويشير قسم آخر إلى أنّ كلمة الحق في معناها العام تشتمل على مجموعة معايير تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر وتأمين المصالح الإنسانية، وقد أورد الفقهاء معاني مقاربة لما ورد أعلاه، ومنها:
الثبوت والوجوب: ويفيد هذا المعنى بثبوت الحكم ووجوبه، مثل ما جاء في القرآن الكريم: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} سورة يــس /7، لقد قضى في أمرهم، وحقّ قدر الله تعالى على أكثرهم، حقيقةً وثباتاً ووجوباً، بما علمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم (4).
الحق ضد الباطل: مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة/42، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في بني إسرائيل الذين زاولوا هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحـق في كل مناسبة عرضت لهم، بينما الحق بيّن وهو بالضد من الباطل (5).
الحق بمعنى اليقين: جاء في القرآن الكريم: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} سورة الذاريات/23، يحلف الرحمن أنّ الحق يقين ثابت، مثل ثبات النطق عند الإنسان، التي هي حقيقة بين أيدي البشر، لا يجادلون فيها ولا يمارون ولا يرتابون (6).
الحق بمعنى العدل: قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سورة غافر /20، وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} سورة الأنعام /151. يوحي الله تعالى من خلال اعتباره قتل النفس بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنمّا قتل الناس جميعاً، فالاعتداء يقع على حق الحياة ذاتها، وعلـى النفس البشرية في عمومها، وفي هذه القاعدة كفل الله تعالى حرمة النفس ابتداءً لكي تسود العدالة، هذا الأمر يعطي طمأنينة للمجتمع، ويجعل كل فرد يعمل وينتج آمناً على حياته، ولا يؤذي فيها إلاّ بالحق والعدل، ولم يترك الأمر للتقدير والتأويل (7).
الحق بمعنى الواجب أو الحكم، قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} سورة الذاريات/19، في هذه الآية وصف للكرم والجود، وتخليص القلب من أوهـان الشـح، وأثقال البخـل، وعوائـق الانشغال بالرزق. والإنسان بذلك يمنح ويعطي السائل والمحروم لكي يفر إلى الله تعالى للحصول على الفوز المبين من خلال قيامه بواجب المحتاجين في الحياة الدنيا، فيجعل نصيب السائل الذي يسأل فيعطى، ونصيب المحروم الذي يسكت ويستحي، ويجعلون نصيب هذا وهذا حقاً مفروضاً وواجباً في أموالهم (8).
ويستعمل لفظ الحق في معاني عدّة باختلاف السياق الذي يرد فيه، فقد يستعمل في كل ما يترتب عليه جلب مصلحة أو درء مفسدة، فضلاً عن استعماله في الالتزامات التي يلتزم بها الفرد قبل ربه، وقبل نفسه وقبل الآخرين، كما يستعمل الحق فيما هو مطلوب شرعاً سواء كان واجباً أو مندوباً، وسواء كان وجوبه وجوب عين، أو وجوب كفاية.
ثانياً: الحق اصطلاحاً:
الحق عند فقهاء القانون:
تنقسم الحقوق إلى حقوق عامة وحقوق خاصة، عند فقهاء القانون، وهو تقسيم يقوم على أساس التفرقة الأساسية المعروفة بين القانون العام والقانون الخاص.
وتعتبر فكرة الحق من الأفكار التجريدية التي يصعب تحديد معناها تحديداً يكشف عن طبيعة الحق وجوهره، ولهذا اختلف فقهاء القانون بشأنها اختلافاً كبيراً حتى ذهب بعضهم إلى إنكارها، وعلى رأسهم الفقيه الألماني ( ديجي ) (9).
ولكن هذه الصعوبة لم تمنع فقهاء ورجال القانون من إعطاء مفهوم إجمالي وغير محدد للحق ممّا أدى إلى ظهور اتجاهات عديدة في تعريفه، منها ما يسمى بالمذهب الفردي الإرادي أو الشخصي، لأنه يجعل الحق شيئاً متصلاً ويحميه (10)، وهذا التعريف هو التعريف الذي اختاره جمهور فقهاء القانون لبيانه جوهر الحق أولاً المتمثل بالاستئثار وإيجاد الحماية القانونية لهذا الاستئثار، إذْ بدون هذه الحماية لا يمكن تحقيق المصلحة المقصودة من استئثار الشخص بأي قيمة مادية كانت أو معنوية.
وتنقسم حقوق المواطنين العامة إزاء الدولة إلى حقوق سياسية وحقوق عامة مدنية، والمراد بالأولى هي الحقوق التي تمكن المواطنين من المساهمة في تكوين أو اكتساب عضويـة المجالس التشريعية أو الحكومية، أمّا الحقوق المدنية، فيراد بها تلك التي تتعلق بالفرد بوصفه عضواً في الدولة، وتجعل له بالتالي ما يستحقه في مجال ما تلزم الدولة بتوفيره للأفراد من خدمات أو مزايا أو ضمانات.
وذلك على أساس أنّ الغاية الرئيسية لأي نظام سياسي هي حماية الحقوق العامة، وعدم تقييدها إلاّ بقانون، وأن يكون ذلك في أضيق الحدود، ولأمس الضرورات، مع مراعاة كافة الحقوق الدستورية والإجراءات القانونية المقررة في هذا الخصوص.
الحق عند فقهاء المسلمين:
مع ملاحظة أنّ لحقوق الإنسان في الإسلام حيزاً رحباً وفسيحاً، ولهذه الحقوق مفردات مختلفة، إلاّ أنّ تعريف الحق لم يحظ باهتمام فقهاء المسلمين بالرغم من كثرة وروده، وتعدد معانيه، وكثرة استعمالهم إياه في المواضيع المختلفة، فكأنّهم اكتفوا بمعناه اللغوي فاستعملوه على هذا الأساس، فأطلقوه في أبحاثهم الفقهية على كل ما هو ثابت وواجب بحكم الشريعة، وبالتالي لا يكون صحيحاً ولا يترتب عليه ما يترتب على ما هو ثابت وصحيح شرعاً (11).
وعلى الرغم من أنّ تعريف الحق من الناحية الشرعية لم يحظ باهتمام الفقهاء المسلمين نظراً لوضوحه من جهة، واعتمادهم على معناه اللغوي من جهة ثانية، إلاّ إنهم لم يتعرضوا له بتعريفات كان الغرض منها بيان المعنى الإجمالي للحق، فعرّفه البعض بأنه ( الموجود من كل وجه والذي لا ريب في وجوده ومنه السحر حق والعين حق، أي موجود في أثره )، وواضح أنّ المراد بالحق في هذا التعريف معناه اللغوي (12).
وقد عرّفه الأستاذ ( الزرقاء ) بأنه ( اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً ) (13)، وقد أوضح بأنّ المراد من الاختصاص، العلاقة التي يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة حتى تكون حقاً إذْ لا معنى للحق إلاّ عندما يتصور فيه ميزة ممنوحة لصاحبه وممنوعة على غيـره، وإنّ مـا اعتبره الشرع حـق فهو حق وإلاّ فلا (14).
كما عرفه الشيخ علي الخفيف بأنه ( المصلحة المستحقة شرعاً ) (15)، وقد ذهب في تعريفه للحق بغايته وهي ( المصلحة ).
ويمكن الاستئناس بما ذهب إليه البعض من أنّ ( الحق اختصاص يقر به الشرع سلطة على شيء أو اقتضاء أداء من آخر تحقيقاً لمصلحة معينة ) (16)، وذلك لما اشتمل عليه التعريف من تميز بين موضوع الحق ( الاختصاص ) وغايته ( المصلحة )، واعتباره الحق وسيلة للوصول إلى هذه الغاية ولشموله أنواع الحقوق سواء كانت لله تعالى أو للأشخاص، وسواء كان الأشخاص حقيقيين أو اعتباريين، وتقييده للحق بالغاية التي يقررها الشارع الحكيم، وهي تحقيق المصلحة العامة.
وقد عنى الأصوليين بتقسيم الحق في ( باب المحكوم فيه )، وهو فعل المكلف الذي يتعلق به خطاب الشارع، وقد قسموه إلى قسمين رئيسيين: حق الله عزّ وجل، وهو ( ما يتعلق به النفع العام لجميع العالم فلا يختص به واحد دون واحد، وإضافته إلى الله تعالى لعظيم خطره وشمول نفعه )(17). وحق العبد وهو ما يتعلق به مصلحة خاصة. وبذلك يكون الاصطلاحان الأصوليان تعبيراً عن حق الجماعة وحق الفرد، وما هو حق لأحد الطرفين يعد واجباً على الآخر، ويكون تقرير حق الله تعالى وحق العبد هو تقرير لحقوق الفرد وحقوق الجماعة، أو تقرير للحقوق والواجبات.
المبحث الثاني: ماهية حقوق الإنسان في الإسلام:
أولاً: ماهية حقوق الإنسان:
ينطلق الإسلام من اعتقاد راق في نظرته إلى الإنسان، إذْ جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض، لعمارتها، وإقامة أحكام شريعته فيها، قال عزّ وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } سورة الأنعام /165، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } سورة البقرة /30. ويرى الإسلام لذلك أنّ الإنسان موضع التكريم من الله تعالى الذي حباه بذلك التكريم، ومنحه إياه فضلاً منه تعالى، ويتساوى بهذا التكريم جميع البشر بصفتهم الإنسانية، مهما اختلفت ألوانهم ومواطنهم وأنسابهم، كما يتساوى في ذلك الرجال والنساء (18)، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} سورة الإسراء / 70.
ويؤكد التصور الإسلامي، أنّ ميزان التكريم يعتمد على الارتباط العقائدي للإنسان، إذْ أنّ منزلة التكريم تحددها تقوى الإنسان، وقبوله هداية الرسل، ومنهج الوحي، وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} سورة التين / 4-6، وكما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنّ الله تعالى قـد أذهب عنكـم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنمّا هـو مؤمن تقـي، أو فاجر شقي، الناس كلهـم بنـو آدم، وآدم خلق من تراب ) (19).
ولمّا كان الإسلام خاتم الأديان السماوية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، لذا فالإسلام جاء للبشرية جمعاء، وللتاريخ كلّه دون الاقتصار على شعب بعينه أو منطقة محددة أو حقبة مـن الزمن، ولقد أقر الإسلام بشريعته السمحاء حقوق الإنسان منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
والارتباط العقائدي، يختاره الإنسان بإرادته ورغبته، وليس أمراً طبيعياً مفروضاً لازماً للإنسان، لا يستطيع عنه فكاكاً، جاء في القرآن الكريـم: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} سورة طـــه / 123-124.
وبالرغم من أنّ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تتضمن المبادئ الأساسية التي تنظم حقوق الإنسان، فإنّ هذين المصدرين الأساسيين تسمحان لكل مجتمع بتطبيق هذه المبادئ وفقـاً للظروف وأوضاع هذا المجتمع (20).
ومن هذا الاعتقاد تنطلق حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، والتي يبرز الفرق واضحاً بينها وبين الفكر الغربي المنظّر لحقوق الإنسان، فالإسلام يرى أنّ الإنسان مكرّم لتكريم الله تعالى له، ومنحه إياه ذلك، ويرتبط التكريم بعبودية الإنسان لربه، بينما الفكر الغربي يرى ذلك حقاً طبيعياً، ينبع من السيادة المطلقة للإنسان، التي لا تعلوها سيادة. والتكريم في الإسلام حين ينطلق من كونه منحة ترتبط بالعبودية، يعني أنّ هناك أحوالاً ينتكس فيها الإنسان، ويتجرد فيها من ذلك التكريم، بكفره وبعده عن المنهج الشرعي الحق، الذي تزدان به إنسانيته، بينما لا يقر الفكر الغربي ذلك، إذْ يرى أنّ الإنسان ذو حقوق طبيعية ثابتة، ينالها مهما كان مرتكباً للسوء، طافحاً بالإثم والرذيلة، كما أنّ النظام الغربي، يربط بين حقوق، وسيادة وحريـة الإنسان الفردية دوماً، وينجم عن ذلك قيا النظام الديمقراطي المستند إلى فكرة العقد الاجتماعي، المؤكدة على أسبقية الحقوق الفردية للوجود السياسي، وينجم عنه أيضاً مبدأ الحرية الاقتصادية، الذي يقوم عليـه التنظيم الاقتصادي للمجتمع، بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية، أو البدنية المتعلقة بذلك.
وعلى النقيض من ذلك، فإنّ الآثار التي تنجم عن التصور الشرعي، باعتبار حقوق الإنسان تكريماً له من خالقه، ومنحة من عنده، تجعل الحقوق منوطة بالتحديد الشرعي لها، وليست خاضعة للقوة المادية، ولا يعتمد تفسيرها على المصالح الآنية، والرغبات الخاصة للأفراد، أو الشعوب. ولهذا يكون حق الشعوب في إزالة الاستبداد، والظلم السياسي، حقاً ثابتاً لاعتماده على عدم جواز العبودية لغير الله تعالى، أو الخضوع لغير شرعه، ويكون للضعيف والمسكين حق في الحياة الكريمة، بتوفير ما يحتاجه من نفقة للعيش، كحق مشروع له ثابت من مال الأمة، ولا يحول ضعفه وقصور قوته دون نيل ذلك الحق، كما يكون الاحتكام عند تضارب المصالح للمرجع الثابت في ذلك، من أحكام الشريعة الإسلامية والتي لا تتبدل باختلاف الحكام أو العصور أو الأماكن (21).
ومن ذلك يظهر، أنّ الإسلام يقدم منظوراً واقعياً لحقوق الإنسان في تشريعاته، منسجماً مع الفطرة الإنسانية، وثابتاً في التصور، إذْ حدد الحقوق بأوامره ونواهيه الشرعية، وحدد الكيفية، والضمانات التي يتم بها تأكيد تلك الحقوق، وإبرازها، وبين الأداة التي يناط بها إقامتها. وإنّ الحقوق في الإسلام قد فصلت بغاية الوضوح، ولم تترك لمفاهيم عامة مبهمة، وجاءت النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة محددة للحقوق، ومنعت تجاوزها وانتهاكها، نحو تحريم القتل، لحفظ الحياة الإنسانية، ووجوب الجهاد، لإزالة الاستبداد وعبودية الإنسان، وتحريم الزنا والقذف، حمايةً للأعراض والكرامات وتحريم الربا والاحتكار لضمان ممارسة حق الكسب الحلال، والحيلولة دون سيطرة القوي على الضعيف، وأوجبت على الدولة رعاية الشؤون لكافة الأفراد، ومنع الظلم بين الرعية، وإقرار قواعد العدالة الشرعية في المجتمع.
ورتبت الشريعة الإسلامية على المخالفات التي ينجم عنها ضياع حقوق الإنسان، عقوبات زاجرة، تحول دون ضياع تلك الحقوق، إذْ شرّع الإسلام عقوبات صارمة للفـرد المخالف، كما رتب نزع الشرعية عن الدولة، وخروجها إلى الكفر البواح، إنْ هي أظهرت مخالفة الأحكام الشرعية الصريحة، المنظمة لحقوق الإنسان وواجباته، التي جاء بها الوحي في ذلك، مثل: تعطيل حكم القصاص للقاتل، والذي فيه حياة المجتمع الإسلامي، أو تعطيل حد السرقة أو إباحة الربا، لما فيه من ضياع لحقوق الضعفاء، وغيرها، وبهذا فإنّ الشريعة الإسلامية أظهرت التفصيلات لحقوق الإنسان من الجانب الإيجابي بالتشريع لضمان هذه الحقوق، ومن الجانب السلبي بمنع التجاوزات (22).
إنّ حقوق الإنسان ترتبط بالغاية الكبرى من مقصود التشريع الإسلامي، وهي تحقيق عبودية الخلق لله عزّ وجل، وحفظ مقاصد الشريعة في الوجود الإنساني، والتي هي المحافظة على ضروريات وجود الإنسان، والتي حددها علماء الأصول: بحفظ الدين، والنفس والعقل، والمال والعرض، فضلاً عن حفظ حاجيات هذا الوجود وذلك بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات، وأخيراً حفظ تحسينات الوجود الإنساني، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
ثانياً: أنواع حقوق الإنسان في الإسلام:
إنّ الشريعة الإسلامية لم تميز بين أنواع الحقوق، بوصفها حقوقاً شخصية أو عقيدية، إذْ أنّ الحقوق في الشريعة، إنمّا هي أحكام شرعية، مستنبطة من الكتاب والسنة، ولذلك، ليس هناك فرق بين حق الإنسان في منع التصدي والعدوان والظلم، وحقه في المحاسبة السياسية للحكام، إذْ أنّ كلاً منهما أمر شرعي، دلّ عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. كذلك لا يوجد في الشريعة إهمال لنوع من أنواع الحقوق على حساب نوع آخر. وإنّ من حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي سنذكر بعضها بإيجاز:
حق الحياة:
يمكن القول أنّ أول حق يمكن إقراره للإنسان هو حقه في الحياة، فما أن يولد الإنسان يتقرر له هذا الحق، فحق الحياة هو الحق الأول للإنسان وبه تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية الحقوق وعند انتهائه تنعدم الحقوق.
وحق الحياة، هو حق للإنسان في الظاهر ولكنه في الحقيقة ـ كما ذكرنا ـ منحة من الله تعالى الخالق البارئ، وليس للإنسان فضل في إيجاده، وكل اعتداء عليه يعتبر جريمة في نظر الإسلام. وحياة الإنسان في نظر الإسلام ـ هبة من الله تعالى، ولهذا فهي مقدسة مصونة ومحترمة، لا يجوز لأحد من خلق الله تعالى أن يعتدي عليها (23). وينبني على ذلك أحكام:
تحريم قتل الإنسان: لقد تحدثت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن حرمة قتل النفس التي حرّم الله تعالى إلاّ بالحق وأن القتل من أكبر الكبائر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } سورة الفرقان/68. بل بلغ من تقدير الإسلام لحق الحياة أن جعل قتل النفس الواحدة بغير حق بمثابة الاعتداء على الإنسانية كلّها، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } سورة المائدة /32، وليزيد الأمر تأكيداً ووضوحاً، فإنّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم وضح ذلك في خطبة الوداع بأسلوب قوي ومؤثر، إذْ قال: ( فإنّ دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) (24). وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
تحريم الانتحار: إنّ الحياة ليست في الحقيقة ـ حقاً لصاحبها لأنها في الواقع هبة من الله تعالى ـ والروح أمانة في صاحبها فلا يحل له الاعتداء عليها، ولهذا اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة وأنّ صاحبها إنْ امتنع عقابه في الدنيا، فله أشد الإثم والعقاب في الآخرة (25).
تحريم قتل الجنين: وهو الإجهاض، لقتل الجنين بعد نفخ الروح فيه. فمن عجائب المنهج الإلهي في تقديس حق الحياة أنّه قد أمر بالحفاظ على حياة الإنسان، وهو لم يزل جنيناً في بطن أمه (26)، وإن حصل الإجهاض والاعتداء على الجنين فتوفي الجنين فيجب القصاص من الجاني حسب الشريعة الإسلامية.
إباحة المحظورات للحفاظ على الحياة: إنّ حق الحياة هو واجب على صاحبه أولاً، ولذلك يجب عليه شرعاً أن يتناول الطعام والغذاء والدواء الذي يحافظ على الحياة وإلاّ كان ملقياً بنفسه إلى التهلكة، وهذا حرام، لقوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } سورة البقرة / 195.
وإذا وقع الإنسان في مخمصة أو شدّة وضائقة تهدد حياته، فإنّ الشارع الحكيم أباح له أكل المحرمات كالميتة ولحم الخنزير والخمر ـ إن لم تتوفر الطيبات من الأكل ـ حفاظاً على حياته، بل يجب عليه ذلك، لأنّ صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان والأحكام.
الكرامة الإنسانية: ويتصل حق الحياة بالكرامة الإنسانية لأنّ الإنسان جسد ( فيه الروح ) وروح تتسامى إلى الأعلى، وعقل يقدر الأشياء حق قدره، فلا يقتصر على حق الحياة مع المهانة والمذلة، لذلك كان التلازم قائماً بين الإحساس المادي بالوجود وشخصية الإنسان، وبين الإحساس المعنوي بعزة النفس وعدم خضوعها إلاّ لله تعالى، وأنّه لا معبودية لمخلوق على مخلوق، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} سورة الإسراء/70.
ومن آثار تقديس حق الحياة أنّ الإسلام يأمر بمراعاة الكرامة الإنسانية للميت مسلماً أو غير مسلم، فقد أخرج البخاري بسند عن جابر بن عبد الله t قال: ( مرّت بنا جنازة فقام إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقمنا، فقلنا يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا ) (27).
د- حرمة الإنسان الميت: إنّ تكريم الإسلام للإنسان لم يقتصر على فترة حياته بل اشتمل صيانته ورعايته بعد الوفاة، وأنّ الإسلام كرّم الإنسان حياً وميتاً، واعتبر حرمة الميت واجباً شرعاً وكلفت الشريعة الأقارب والمجتمع والأمة والدولة بحماية جثمان الميت ودفنه وفقاً لأحكام دينه، ومنع التشهير به ونهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن المثلة بالميت والقتيل ولو كان من الأعداء المحاربين في المعركة (28).
2- حق المساواة:
إنّ كلمة المساواة عامة وشاملة، وهي من المبادئ السامية والشعارات الجميلة التي ينادي بها العلماء والمصلحون.
وإنّ الناس وإن كان أصلهم واحد من ذكر وأنثى، ولكنهم مختلفون في التكوين والشكل واللون والعقل والذكاء، ومتفاوتون في القوة والجمال والصحة والعمر والأخلاق والميول والطبائع، فالمساواة متوفرة في التكوين الأساسي والغرائز الفطرية فحسب مع التفاوت الكبير في الصفات (29).
والمراد من حق المساواة ـ كحق أساسي من حقوق الإنسان ـ هو المساواة أمام الشرع والقانون، أي من ناحية الحقوق والواجبات والمشاركة في الامتيازات والحماية دون تفضيل لعرق أو جنس أو صفة أو لون أو نسب أو طبقة أو دين أو مال، فالناس أمام الشرع سواء، ولهم جميع الحقوق ويخضعون لجميع الأحكام، ويمارسون نفس الصلاحيات.
فحق المساواة في الإسلام أصل عظيم، فالإسلام يقرر مساواة البشر جميعاً في أصلهم الأول، ويجعل تفاضلهم على أساس العمل الصالح وما يقدمونه من خير، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات/13.
ونجد المساواة في مظاهر كثيرة من أحكام الشريعة ومبادئها وهو حق يتفرع عنه أمور كثيرة منها:
المساواة أمام القانون: المساواة أمام القانون من مظاهر مبدأ المساواة وهو يقضي به العدل الذي جاء به الإسلام فالقانون يطبق على الجميع دون محاباة لأحد ولا تمييز لفرد على آخر بسبب الجنس أو اللون بل حتى العقيدة أو غير ذلك ممّا يختلف فيه الناس، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) في قصة المرأة المخزومية التي سرقت، وحاول أهلها منع إقامة الحد عليها، وبحثوا عن الشفيع والواسطة ولجئوا إلى أسامة بن زيد t فكلّم النبي محمـد صلى الله عليه وسلم في ذلك فأنكر عليه قائلاً: ( يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟ ) ثمّ بين العلة والسبب فقال:
( إنمّا هلك من كان قبلكم لأنّه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )، وقطع يد المرأة المخزومية (30).
فتطبيق هذه المساواة يشيع في نفوس المواطنين الرضا والاطمئنان على حقوقهم ويجعلهم يحسون بضرورة بقاء دولتهم، فيحرصون على بقائها والدفاع عنها. أمّا إذا خرقت هذه المساواة وطبق القانون على الضعيف دون القوي، فإنّ النفوس ـ نفوس عامة الناس ـ تحس بخيبة مريرة ويضعف ولاؤها للدولة ويشيع الظلم في المجتمع لأنّ الحق للأقوى لا للمحق، وإذا صار أمر الدولة إلى هذه الحالة فلا بقاء لها، ولهذا قيـل ( تبقى الدولة العادلة وإن كانت كافرة، وتفنى الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ) (31).
المساواة أمام القضاء: جميع الناس في الإسلام أمام القضاء، سواء من جهة المرافعة وقواعد الإثبات وتطبيق النصوص وتنفيذ الأحكام ووجوب تحري العدالة بين الخصوم لا فرق بين فرد وفرد، بل حتى الأعداء يظفرون بعدالة القضاء والمساواة أمامه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة المائدة / 8. وقوله تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } سورة النساء / 58.
وقد بلغت المساواة أمام القضاء إلى حد مساواتهم في إقبال القاضي عليهم ونظره إليهم، جاء في كتاب عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) إلى أبي موسى الأشعري t: ( آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك ولقائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ) (32)، وهذا مستوى رفيع من المساواة لم تبلغه القوانين في الوقت الحاضر.
ج – المساواة أمام التوظف: من المعروف أنّ كل حق يقابله واجب، لذا فإنّ الإسلام حينما فرض على الناس مجموعة من الواجبات على أساس المساواة بينهم فإنّه منحهم حقوقـاً في المقابل على أساس المساواة أيضاً.
فشغل الوظائف العامة مفتوحة لكل المخلصين الذين يمتلكون القابلية لشغل الوظائف العامة في دولة الإسلام، ومن دون تمييز بينهم بسبب الأصل أو المركز الاجتماعي. لذا فقد عيّن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح الحبشي وهو ( مولى ) ليكون مؤذناً في المسجد، وعين عبد الله بن مكتوم وهو فقير أعمى ليكون نائباً عنه في المدينة المنورة عدّة مرات أثناء غيابه عنها، كما استخدم أسامة بن زيد وهو ابن مولاه زيد بن حارثة ليكون قائداً لحملة عسكرية كبيرة موجهة إلى بلاد الشام (33).
د- المساواة بين الرجل والمرأة: إنّ حقوق الإنسان تشمل الرجل والمرأة لأنّ لفظ ( إنسان ) يشمل ـ لغةً وشرعاً ـ الرجل والمرأة، وقد عدّ الإسلام النساء مساويات للرجال.
أمّا الحضارات القديمة فقد شككوا بأنّ المرأة إنسان، ومن اعترف بإنسانيتها اعتبرها أقل مـن الرجل ولا تساويه، فهذا سقراط حينما نادى وقال: إنّ الطبيعة لا تهب المرأة أي استعداد عقلي ولذلك ليس لها إلاّ أن تعرف شأن الأمومة وشأن الحضانة وشأن تدبير المنزل، وبعد ذلك يجب أن تعزل عن بقية التصرفات (34).
أمّا في العصر الحديث فقد بقيت المرأة حتى القرن التاسع عشر محرومة من التعليم في أوربا ومنعوها حتى من قراءة الكتاب المقدس (35).
أمّا الإسلام فقد جعل المرأة بمنزلة الرجل، وكيف لا وهي تشترك مع الرجل حتى في ميلاد الرجل، فهما العنصران المتعاونان المتكافلان على إنجاب الجنس الإنساني رجلاً كان أو امرأة، هو وحدتهما في المسؤولية ووحدتهما في العمل المطلق، يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} سورة النحل / 97.
فالمرأة مثل الرجل تماماً، كما إنّها مثله أيضاً، في الكرامة الإنسانية، وفي المسؤوليـة، وتوقيع الجزاء، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} سورة الأنبياء/94. إذن المرأة مثل الرجل تماماً في أنّها مسئولة عن عملها الذي أنيط بها ومجزاة عليه إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر. وقد عدّ الإسلام النساء مساويات للرجال، وقد تمثلت هذه المساواة في المبادئ الآتية:
أكد القرآن الكريم أنّ الرجال والنساء قد انحدروا من أصل واحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء/1، لذا فالنساء والرجال متساوون في طبيعة التكوين والإنسانية، ولا يمكن لأحد الجنسين أن يدعي الأفضلية على الآخر بسبب الأصل.
لم يحمل الإسلام المرأة وزر الخطيئة الأولى التي أخرجت آدم وزوجه حواء من الجنة كمـا فعلت بعض الأديان.
انتقد القرآن المشركين الذين كانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى، ولاسيما أولئك الذين كانوا يعملون على وأد البنات.
أعطى الإسلام المرأة الحق في الميراث، وعدّها كاملة الأهلية في التصرف بأموالها شأنهـا في ذلك شأن الرجل.
حق الحرية:
حق الحرية أكثر الحقوق التصاقاً بحق الحياة، ولذلك يعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان، والحرية حق من حقوق الإنسان الفرد، فضلاً عن أنها حق من حقوق الشعب في التحرر من الاستعمار، والاستبداد، والاحتلال.
فالحرية هي: حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى:
وحق الحرية عام وشامل وأصل لحقوق متعددة تدخل تحت عناوين مختلفة منها:
حرية الاعتقاد والتدين: الإسلام لا يكره الإنسان على تبديل عقيدته، واعتناق الإسلام، وإن كان يدعوه إلى ذلك، ولكن الدعوة إلى الإسلام شيء والإكراه عليـه شيء آخر، فالأول مشروع والثاني ممنوع (36)، قال تعالى في الدعوة إلى الإسلام: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} سورة النحل /125.
الحرية الفكرية: ترك الإسلام المجال فسيحاً أمام الفكر الإنساني في هذا الكون ليستخلص منه كل ما يعود عليه بالنفع العظيم في حياته ورقيه وتطوره.
الحرية السياسية: أكدت الشريعة الإسلامية على ضمان حق الرعية السياسي، من خلال تولي الوظائف العامة ما دام أهلاً لتوليها، وحقه في إبداء الرأي في سير الأمور العامة وتخطئتها أو تصويبها وفق ما يعتقد اعتقاداً جازماً أنّه الحق. فضلاً على وجوب قيام الفرد المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره حق سياسي للمسلم، بل يعتبر هذا الأمر واجباً شرعياً وفرضاً على المسلم، في الوقت ذاته، مصداقاً لقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة التوبة/122. وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} سورة الحـج/41، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة/71، وقد جاء هذا الأمر صراحةً على لسان النبي لقمان ( عليه السلام ) في القرآن الكريم: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} سورة لقمان /17.
الحرية المدنية: ويقصد بها كل التصرفات النابعة من شعور الإنسان بذاته وضرورة اعتراف الجماعة بشخصه وأهليته المطلقة للتصرف وفق ما يريد. وعلى أساس هذه الحرية يملك كل إنسان أن يقيم حيث يشاء، وأن يسافر متى شاء، وأن يحوز من المال ما يكسب، وأن يحترف من المهن ما يهوى، وهذا كلّه بداهةً وفق قانون يمنع الضرر والعدوان حتى لا يشطط أحد في استخدام حريته فيؤذي الآخرين وينال من حرياتهم (37). فالإنسان يولد حراً وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله وإنّ العبودية لله تعالى.
أمّا الرق في الإسلام فالكلام عنه واسع وطويل، ولا نريد الخوض فيه وخاصةً بعد إلغائه وانتهائه، ولكن نوجز نظرة الإسلام للرق بعدّة نقاط هي:
لقد أقر الإسلام الرق على أساس المعاملة بالمثل لانتشار الرق في جميع البلاد حين ظهور الإسلام.
الإسلام اعتبر الرقيق إنساناً كاملاً، وسماه أخا السيد، وهذه أول خطوة نحو احترام العبيد والأرقاء.
أغلق الإسلام أبواب الاسترقاق إلاّ في حالة الحرب المشروعة المعلنة معاملة المحاربين بالمثل عند الوقوع في الأسر.
فتح الإسلام الأبواب الكثيرة للعتق وإنهاء الرق، كطلب العتق عند ارتكاب بعض الجرائم، وكفارة بعض الذنوب، قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} سورة البلد /11-13.
حق التعليم:
إنّ الحديث عن حق التعليم في الإسلام واسع وطويل، وإنّه لم يبق في مجال الوصايا والنظريات، بل ترجمه المسلمون إلى واقع حي، وانقلبوا من الأمية إلى العلم، ومن الجهل إلى الحضارة والمدنية.
وأول كلمة وآية نزلت من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم طلب القراءة والتعلم، فقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} سورة العلق/1-5.
وتوالت الآيات الكريمة التي تحث على العلم والنظر والتفكر والمعرفة، وتبين فضل العلماء، وتقارن بينهم وبين غيرهم، قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} سورة المجادلة/11.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم، ولم يجعله مجرد حق لصاحبه، بل هو واجب وفرض، وواجباً دنيوياً وقضائياً في الدنيا والآخرة، فقال عليه أفضل الصلاة والتسليم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ).
5- حق العمل:
العمل هو الأساس في هذه الحياة، وهو السمة البارزة في الأحياء، وتتوقف عليه المعيشة وكل تقدم وحضارة أو مدنية. ويعد حق العمل من الحقوق المهمة فهو يجسد حق الإنسان في أمنه المادي ويطمأن بموجبه الإنسان على حاضره ومستقبله، ويوفر له العيش الكريم، وينقذه من مذلة الاستجداء والإحسان من قبل الآخرين (38).
وقد جعل الإسلام العمل حقاً للإنسان وواجباً عليه يكسب عيشه، ولا يكون عالة على الناس، واعتبر الإسلام إعالة الوالدين أو الأولاد أو النفس بمثابة الجهاد، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } سورة الملك /15. ولقد اهتم الإسلام بشروط العمل، وطلب من رب العمل أن يعطي أجر العامل دون مماطلة، فلزم رب العمل أن يقوم بإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، فضلاً عن تقرير الإسلام حق العامل في أخذ الأجر العادل بمـا يلاءم عمله من غير بخس لحقـوقـه، قـال تعـالى: { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } سورة الأعراف /85، كما أعطى العامل حق الحماية من الأخطار.
حق التملك:
حق التملك يعني الاعتراف بحق الملكية الفردية للإنسان، وتمكين المالك من سلطة التصرف بالشيء والاستفادة منه أو استغلاله، وهو حق دائم وحق مطلق، والأصل أن يكون في الإعلان ثم قرر في المنافع والحقوق، واليوم شمل الحقوق الأدبية.
وأقر الإسلام حق التملك ونسب المال إلى الإنسان والناس لأنهم يستأسرون به ويعملون على حيازته والاستفادة منه والتصرف فيه، فالإسلام يعترف بحرية التملك للفرد وبحقه في الملكية، ويحترم هذا الحق ويأمر باحترامه ن ويعتبر الاعتداء عليه من المعاصي الكبار، ويرتب عقوبات دنيوية زاجرة على المعتدين (39).
كما أثبت القرآن الكريم حق التصرف بالمال، فقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* َّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} سورة الليل /17-18.
والأصل في الملكية أن تكون للأفراد، وهي الملكية الفردية، كما أقر الإسلام الملكية العامة للدولة في الأموال التي تتعلق بها حاجات الأمة وتهم مصالح جميع الناس، ويتصرف ولي الأمر بما فيه المصلحة العامة، وخاصةً في عصرنا الحاضر، مثل تملك مصادر الثروة ومصانع الأسلحة والصناعات الكبيرة والموارد الطبيعية. ومع احترام الإسلام لحق الملكية فإنّه يجيز نزع الملكية للضرورة والمصلحة الشرعية بعد دفع التعويض العادل، أمّا الحقوق التي أوجبها الإسلام في حق الملكية فكثيرة منها نفقة الأقارب، والزكاة، وعون المحتاجين (40).
المبحث الثالث: خصائص ومزايا وضمانات الحقوق الإنسانية في الشريعة الإسلامية:
إن الحقوق والحريات في النظام الإسلامي تتميز بجملة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من الأنظمة والتي تنبع من علاقة الإنسان بالكون وبخالقه وبالغاية التي من اجلها خلق الإنسان.
والخصائص التي تتميز بها حقوق الإنسان في الإسلام تتطابق مع خصائص الشريعة، لان الحقوق جزء من الشريعة الإسلامية واهم ميزاتها أنها تحمل الصبغة الدينية التي تجعلها تتميز بالكمال والخلو من النقصان ويجعلها تتميز كذلك بقوة الإلزام مع وجود الطاعة الاختيارية والخضوع التلقائي وهذه الحقوق شاملة وعامة وهي منحة إلهية وفقا لشريعة الله تعالى ويجعل الدولة في النظام الإسلامي تحرص على تمكين الأفراد من التمتع بها حرصهم عليها أو يزيد لأنها ما قامت إلا لتمكينه أن يحيوا الحياة الإسلامية التي من مظاهرها تمكينهم من التمتع بتلك الحقوق والحريات بل دفعهم إلى مباشرتها واستعمالها (41).
وتتميز الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية بطبيعة معينة إذ إن لها جملة من الخصائص هي:
اولاً: الصفة الدينية لإحكام حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية:
تقرير الحقوق في النظام الإسلامي مصدر من الله عز وجل الذي هو الحق المبين، وتشريعه هو العدل الذي لا يحابي ولا يتحامل، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } سورة الحديد/ 25، وقال عزّ وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} سورة الشورى / 17.
فالأحكام مبنية على أساس العقيدة الإسلامية التي جعلتها تضفي احتراما وقدسية على حقوق الإنسان، وشكلت ضمانة أكيدة لاحترامها والمحافظة عليها. وجعل ميزان الحق والواجب منصوبا من قبل العدالة الإلهية يعطي تقرير الحق عمقا عقيديا بحيث يطالب المرء بحقه في إصرار وثبات ويجاهد لأجله لأنه من أمر الله تعالى الذي ينبغي ألا يفرط فيه وإلاّ كان من الظالمين أنفسهم الذين قبلوا الاستذلال والهوان(42)، وان ابرز النتائج التي أضفتها الصفة الدينية على الأحكام العامة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية هي:
الكمال والخلو من النقائص:
لان هذه الأحكام قائمة على أساس الحكمة والعدل والرحمة وخالية من الظلم والخطأ والهوى والنسيان مصداقا لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} سورة مريم/64، وقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} سورة الفرقان/33.
أحكام ملزمة:
كونها مبنية على الوحي الإلهي – القران والسنة- حيث منهما تستمد أحكامها وعليها تشيد بنائها خلافا للأنظمة الوضعية. ولوجود القداسة لتلك الأحكام التي تفتقر إليها التشريعات الأخرى قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } سورة الحـج/32.
الطاعة الاختيارية التلقائية المنبعثة من داخل الإنسان لكونها تسليم لشرع الله تعالى وهو شرط الإيمان.
الصفة الدينية لأحكام حقوق الإنسان يجعلها أحكاما مبنية على مبدأ الحلال والحرام والمرتبطة بالثواب والجزاء في الآخرة وهذا ماتفتقر إليه الأنظمة الوضعية.
غير قابلة للإلغاء والنسخ لان نسخ أو إلغاء أي حق من تلك الحقوق يحتاج إلى وحي ينزل بذلك ولا وحي بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ).
بسبب الصفة الدينية واعتمادها على الشريعة الإسلامية تكون خالية من الإفراط والتفريط في حقوق الأفراد أو الجماعة ولا تستطيع الدولة أن تغالي في سلطانها على حساب الأفراد.
ثانياً: حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:
إن هذه الحقوق في النظام الإسلامي ليست حقوقا طبيعية وإنما هي منح إلهية، تستمد من الشريعة الإسلامية، وتستند إلى العقيدة الإسلامية، فالله تعالى خلق الإنسان وبهذا الخلق منحه حق الحياة، وكرم الإنسان وفضله، وبناءً على ذلك منحه حقوقا وحريات ثابتة في شريعته وخلق فيه الإرادة وجعله مسئولاً عن هذه الإرادة التي بها يفعل وبها يكف (43). فالقران الكريم أشار إلى كون الحقوق منحا إلهية فذكر حق الملكية مثلاً بوصفه منحة إلهية في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} سورة يــس /71.
وأشار إلى حق الحياة بوصفة منحة إلهية بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} سورة الملك /23.
ثالثاً: الشمول والعموم في الحقوق:
نقصد بالشمول شمول نظام الحقوق لكل الحقوق والحريات أما العموم فنعني بها أنها عامة لكل المواطنين الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو حتى العقيدة، وهي من المبادئ والخصائص المميزة في مجال حقوق الإنسان في الإسلام.
ونبين فيما يلي أهم الحقوق التي منحها الإسلام والتي تحوي الصفات أعلاه:
العدالة والإنصاف: مصداقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة المائدة /8. وغيرها من الآيات
حق المساواة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات /13.
قدسية الحياة: قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } سورة الأنعام /151.
الحرية والمسؤولية: قال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } سورة الإسراء /15، وقال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } سورة البقرة /256.
الحقوق السياسية قال تعالى: { َشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } سورة آل عمران /159 وقوله تعالى: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } سورة الشورى /38.
الحفاظ على الكرامة الإنسانية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الحجرات /11.
رابعاً: تقييد الأحكام العامة لحقوق الإنسان بالمصلحة العامة:
فالنظام الإسلامي تميز بالاعتدال والوسطية في حماية حقوق الإنسان بما يخدم مصلحة الفرد مع وضع الضوابط التي تحقق المصلحة العامة، لذا فقد ابتعد النظام الإسلامي عن الإفراط في حقوق الأفراد على حساب الجماعة من خلال الالتزام بالشريعة الإسلامية (44). فضلا على إن الشريعة الإسلامية فرضت على صاحب الحق استعمال حقه في الحدود التي يقررها الحق وان لا يتعدى بتصرفه على حقوق الآخرين بحجة استعمال حقه، وقد فرضت الشريعة قيودا على صاحب الحق في التضحية ببعض مصالحه في سبيل المصلحة العامة.
ضمانات الحقوق السياسية في الإسلام:
لم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاسبة، كحق سياسي للمسلمين، وواجب عليهم فقط، بل جاءت الشريعة كذلك بوسائل عملية، لضمان قيام الأمة والأفراد بمزاولة هذا الحق وإقامته، إذْ حددت الشريعة جهات رئيسة تتولى القيام به هي: الدولة، والجماعات، والأفراد.
أمّا من حيث مسئولية الدولة كوسيلة لضمان الحقوق، فالدولة الإسلامية تقع عليهـا مسؤولية إصلاح المجتمع، الذي لا يتم إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكد من إقامة الشرع، وذلك لامتلاك الدولة القوة الضرورية لمتابعة حسن تطبيق أحكام الإسلام (45). قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } سورة الحديد /25، فالمراد من الحديد، كما يذكر المودودي: ( هو القوى السياسية )، ولذلك فغاية بعث الرسل: إقامة نظام العدالة الاجتماعية، فهدف الدولة ليس سلبياً يتمثل في حماية الحرية الفردية، والدفاع عن المجتمع والدولة، وإنمّا غايتها الايجابية إقامة نظام العدالة الاجتماعية، الذي لا يتحقق إلاّ بقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين الرعية من القيام به.
ولذلك ربط ابن تيمية بين الولاية، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث جعل أصل الولاية الأمر بالمعروف.
هذا بالنسبة للدولة، أمّا الجماعات فدورها لضمان القيام بما أوجب الشرع، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومحاسبة، كحق وواجب سياسي على الأمة والأفراد، فينبع من قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} سورة آل عمران/104، إذْ يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله تعالى، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة، يعني المجاهدين والعلماء.. والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه ). وعليه، فإنّ هذه الآية توجب على المسلمين إيجاد جماعات إسلامية، بهدف ضمان الحقوق، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير. ومن الواضح أنّه ليس المراد من الآية هنا، قيام كل المسلمين، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل المراد إيجاد الجماعة التي تتولى هذا الشأن، وتتولى هذه الجماعات التأكد من حسن تطبيق الراعي والرعية للشرع، وهذا الهدف لا يتحقق إلاّ بأمرين هما:
الأول هو مناصحة الحكام ومحاسبتهم للتأكد من التزامهم بأحكام الإسلام.
الثاني هو القيام بمهام النصيحة لأفراد المسلمين وعامتهم، ومراقبة انحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع، وقد ورد في ذلك العديد من الأدلة المؤكدة على مناصحة الحكام ومحاسبتهم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة ) قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )، بل جعل الإسلام محاسبة الحاكم أفضل من الجهاد، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ). أمّا الشق الثاني من عمل الجماعات في المجتمع، فيتعلق بنصح المسلمين، وتنبيههم إلى ضرورة التمسك بالشـرع، والعمل على تثقيفهم، ونشر الأفكار التي تعالج شؤون الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينهم، بهدف النهوض بهم، لتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض.
الخاتمة:
قدم البحث تحليلاً لحقوق الإنسان من منظور سياسي إسلامي، وقد تم التأكيد على خصوصية الشريعة الإسلامية، في تصورها لحقوق الإنسان، وتعد قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا المعاصرة التي تشغل أذهان المفكرين والفقهاء منذ قرون، لأنها من أهم المهمات وأوجب الواجبات التي تتطلع إليها البشرية، وقد عني الإسلام بحقوق الإنسان وحمايتها وبذل علماء الشريعة جهوداً كبيرة لضبطها ووضع القيود التي تضمن هذه الحقوق وحسن استخدامها بما يحقق مصلحة المجتمع.
وكما تبين من خلال البحث، فإنّ الإسلام أول من أعلن احترام حقوق الإنسان، سواء في الحقوق الأساسية التي تتعلق بشخصه، وبعيشه في المجتمع، فالإسلام يقدم منظوراً للحقوق، ينطلق من تكريم الله تعالى للإنسان واستخلافه له في الأرض، ويرتكز على العقيدة التي يعتنقها الإنسان، إذْ قرر الإسلام للإنسان من الجانب الايجابي حقوقاً اجتماعية، تكفلها الدولة لرعاية شؤونه وتأمين الحياة والعيش الكريم له، فضلاً عن تأكيده على صيانة وحماية شخص الإنسان، فأقرّ حق الحياة، وحق المساواة أمام الشرع والقانون، وحق الحرية بأنواعها، أو الحقوق السياسية ( حرية الرأي والتعبير والاجتهاد.. وغيرها )، أو حقوق الأسرة وحق الأمومة وحق الطفولة وحق الشيخوخة، أو حقوق التعليم والتربية، أو الحقوق التبعية مثل حق التملك وحق العمل وبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهذه الحقوق كلّها نابعة من مبدأ الرحمة.
وذلك واضح في آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة، ومنها وثيقة حقوق الإنسان في حجة الوداع، والتي جاء فيها: ( أيها الناس إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكركم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى ). وذلك مستمد من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء/1.
وكذلك من قول الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات/13.
ولم نر مثل القرآن المجيد ما يعظم حق الحياة، فقال الله عزّ وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } سورة المائدة /32. وإنّ هذه النصوص الواردة في القرآن الكريم قد شرّعت للناس جميعاً، ولم يخص بها الله تعالى قوماً دون قوم، أو مجتمعاً دون مجتمع، إذْ أنّ الشريعة الإسلامية هي للناس كافة، قال عزّ وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} سورة سبأ/28.
وكما ثبت قيام القرآن الكريم والسنة النبوية بالتأكيد على الحقوق الأساسية للحقوق، فقد ثبتت كذلك بالسنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن المعلوم قيامه عليه السلام بتنفيذ أوامر الله تعالى، ورعاية شؤون المسلمين، سواء الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والشخصية. يضاف لذلك كلّه، أنّه باجماع الصحابة، زمن الخلفاء الراشدين، وجوب قيام الخلفاء وولاة أمور المسلمين برعاية الشؤون وإيصال الحقوق، ورفع الظلم والحيف، ويروى أنّ عمر بن الخطاب t كان يقول لعماله إذا بعثهم إلى الأمصار: (.. ولكنني بعثتكم لتقيموا فيهم الصلاة، وتقسموا فيأهم، وتحكموا بينهم بالعدل ) ( 46 ).
من كل هذه الأدلة من كتاب وسنة، وسيرة الصحابة، يظهر أنّ مسؤولية الدولة عن ضمان الحقوق الإنسانية لأفراد الرعية، ورعاية شؤونهم، وإيصال الحقوق إليهم، ومنع التظالم بينهم، أمر لا لبس فيه ولا خفاء، وأنّ أحكام وحقوق الإنسان التي جاءت بها الشريعة لا تضاهيها أحكام وتشريعات أي تنظيم اجتماعي آخر.
——————————————————–
الهوامش:
علي بن محمد بن علي الجرجاني، التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1969، ص94.
ابن منظور، لسان العرب، ج3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص255.
عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، دار إحسان، طهران، 1993، ص43.
سيد قطب، في ظلال القرآن، ج7، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط7، 1971، ص12.
المصدر نفسه، ج1، ص84.
المصدر نفسه، ج7، ص582.
المصدر نفسه، ج3، ص424.
المصدر نفسه، ج7، ص575.
جميل الشرقاوي، دروس في أصول القانون، دار النهضة، القاهرة، 1971، ص228.
ساجر ناصر حمد الجبوري، حقوق الإنسان السياسية في الإسلام والنظم العالمية، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص58.
عبد الكريم زيدان، المصدر السابق، ص44.
ساجر ناصر، المصدر السابق، ص59.
مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، ج4، مطبعة جامعة دمشق، ط4، 1960، ص59.
ساجر ناصر، المصدر السابق، ص60.
علي الخفيف، الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية، دار الضياء، بيروت، ( د. ت) ، ص13.
فتحي الدريني، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1977، ص184.
ابن ملك، شرح المنار، المطبعة العثمانية، القاهرة، 1308هـ، ص886.
محمد أحمد مفتي ود. سامي صالح الوكيل، حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي، دار النهضة الإسلامية، ( د. م )، 1992، ص11.
ابن الأثير، جامع الأصول من أحاديث الرسول، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1980، ص346.
رياض عزيز هادي، حقوق الإنسان تطورها ـ مضامينها ـ حمايتها، ( د. د )، بغداد، 2005، ص11.
محمد أحمد مفتي و سامي صالح الوكيل، المصدر السابق، ص ص12-13.
المصدر نفسه، ص ص13-14.
ياسر أبو شبانة، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي والتصور الإسلامي، دار السلام، القاهرة، ط3، 2004، ص518.
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، ج2، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2001، ص605.
محمد الزحيلي، حقوق الإنسان في الإسلام – دراسة مقارنة مع الإعلان العالمي والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان، دار ابن كثير، دمشق-بيروت ،ط4، 2005، ص144.
ياسر أبو شبانة، المصدر السابق، ص502.
علي محمد الصلابي، المصدر السابق، ص504.
محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص148.
المصدر نفسه، ص151.
مأمون حموش، السيرة النبوية على منهج الوحيين القرآن والسنة الصحيحة، ج3، مطبعة وزارة الإعلام، سوريا، ط2، 2000، ص1302.
عبد الكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، مكتبة القدس، بغداد، 1976، ص119.
علي محمد الصلابي، سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، دار المعرفة، بيروت، ط4، 2006، ص337.
هاشم يحيى الملاح، حكومة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) دراسة تاريخية ـ دستورية مقارنة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2007، ص169.
محمد متولي الشعراوي، المرأة كما أرادها الله، مطبعة جامعة الموصل، الموصل، ( د. ت )، ص12.
محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص152.
عبد الكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، المصدر السابق، ص123.
ياسر أبو شبانة، المصدر السابق، ص534.
محمد الزحيلي، المصدر السابق، ص305.
عبد الكريم زيدان، مجموعة بحوث فقهية، المصدر السابق، ص126.
المصدر نفسه، ص127.
منير حميد ألبياتي، النظام الإسلامي مقارنةً بالدولة القانونية، دار وائل للنشر، عمّان، 2003، ص109.
محمد فتحي عثمان، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، دار الشروق، بيروت، 1982، ص17
منير حميد ألبياتي، المصدر السابق، ص ص111-112.
المصدر نفسه، ص115.
محمد احمد مفتي ود. سامي صالح الوكيل، المصدر السابق، ص47.
محمد يوسف الكاندهلوي حياة الصحابة، ج2، الدار العلمية، بيروت، 1987، ص59.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً