تطور قانون العقوبات :
لم تكن المبادئ التي تحكم قانون العقوبات اليوم وليدة الساعة، ولا هي نشأة مرة واحدة، بل انها نتاج سنين بل قرون عديدة، كانت ولا تزال تحاول ان تتلاءم مع مقتضيات عصرها وتتفق مع الأفكار السائدة فيه. ولسهولة دراسة تلك المبادئ في تطورها يقسم علماء قانون العقوبات الحقبة التي مر بها هذا القانون في تطوره منذ نشاته حتى الان الى مراحل أربعة. غير ان هذا لا يعني ان هذه المراحل كانت متتابعة متتالية، لان البشرية في تطورها لا تعرف النظام الآلي، بل هي على الاغلب متداخلة متكاملة وتطورها على الاغلب تختلف باختلاف الزمان والمكان ومع ذلك فان هذا لا يمنع من القول بوجود هذه المراحل وهي :-
أ – مرحلة الانتقام الفردي (الخاص) Periodo Dela Vengence Privee
وهي أولى مراحل العقاب، وتشمل وقت ان كان الناس يعيشون في قبائل متفرقة مستقبل كل منها عن غيره تمام الاستقلال. في هذا العصر كانت كل قبيلة تكون وحدة مشتركة نتيجة للتضامن التام بين افرادها. فاذا ما وقع اعتداء. على احد أفراد القبيلة من قبيلة أخرى اعتبر هذا الاعتداء وكأنه قد اصاب القبيلة باسرها. مما يؤدي الى ان يهب جميع أفراد قبيلة المجني عليه للانتقام من الجاني وقبيلته التي تعتبر بدورها مسؤولة بالتضامن مع الجاني عن الاعتداء. وهكذا تنشب الحرب سجالا بين القبيلتين واساسها الانتقام. وليس للانتقام هنا حد وغرض الهم الا ارضاء عاطفة المنتقمين او مصالحة الطرفين على شروط يرتضيانها. ان هذا لا يمكن ان يوصف بانه نواة لقانون عقوبات، ذلك لان القوة هي التي كانت تسود علاقات القبائل فيما بينها. اما داخل القبيلة، فقد كان لكل قبيلة شيء من النظام نستطيع ان نعتبره المبادئ الأولى لقانون العقوبات. كان فيه رئيس القبيلة هو الذي يباشر سلطة القضاء بين افرادها، بان يطبق فيهم ما تعارفوا عليه من وسائل التأديب والتكفير متدرجا من الضرب البسيط الى القتل او الطرد من العشيرة، وهذه الأنظمة شيء من التطور فظهرت انظمة جديدة كنظام القصاص وهو أخذ الجاني بمثل ما فعل بالمجني عليه Systeme Du talion ثم نظام الدية La Composition وقد ظهر هذان النظامان منذ عهد استقلال القبائل وقبل تكون الدولة وكان اللجوء اليهما اختياريا لا يتم الا برضاء الطرفين ثم صار هذان النظامان اجباريان عند نشوء الدولة حيث كانت تفوضهما بما لها من سلطان. ولم يكتف الاوائل بهذا التخفيف من وطأة الانتقام الفردي بل لجؤوا الى نظم أخرى، كنظام نفي الجاني، ونظام التخلي عن الجاني لأهل المجني عليه ليتولو مؤاخذته. L’ABANDON NOXAL ونظام تحريم القتال في أوقات معينة. وهكذا يظهر ان العقاب في هذه الحقبة من الزمن كان يقوم على أساس الانتقام من الجاني لشخص المجني عليه بالذات.
ب – مرحلة الانتقام للدولة Periode De La Vengeance Puplique
تبدأ هذه المرحلة بنشوء الدولة واستقرار سلطانها، حيث انتقل نتيجة لذلك حق العقاب اليها فانفردت به ومارسته نيابة عن الجماعة. وقد كان هذا الحق أول الأمر مقصورا على الجرائم التي تمس كيان الجماعة، ثم تدرج حتى شمل جميع الجرائم، وهكذا لم يبق محل لانتقام الافراد لاشخاصهم، اذ حل محله انتقام الدولة للافراد من الجاني. في هذه المرحلة كانت اشد الجرائم خطورة هي ما يمس الدين من الأفعال كالسحر وتدنيس أماكن العبادة لما للدين في هذا الوقت من اثر واضح في حياة الدولة. لذلك كان عقاب هذه الجرائم بالغا في القسوة والشدة وغايته (التكفير) عن ذنب المجرم وارضاء الآلهة بالانتقام لها منه، ولذلك قيل ان فكرة العقاب في هذه الحقبة كانت تقوم على أساس (التكفير). وبعد ذلك زالت هذه الفكرة بزوال الصبغة الدينية للقوانين وحلت محلها فكرة الانتقام للجماعة ممثلة بالدولة حيث اصبح العقاب يوقع على المجرمين انتقاما للجماعة ممثلة في شخص الملك. وكانت العقوبات في هذه المرحلة على درجة كبيرة من الصرامة والشدة والقسوة، خالية من كل فكرة اصلاحية للمجرم. وكانت السجون في حالة يرثى لها يحتشر فيها المساجين حشرا دون مراعاة للقواعد الصحية ولا اهتمام بإرشادهم اخلاقيا او دينيا متروكين لتحكم السجانين فيهم. وكان السجين يرسل الى السجن من غير ان تحدد مدة محكوميته. وكانت الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالاعدام تنيف على المائة وخمس عشرة جريمة كما لم يكن الناس في هذا العصر متساويين امام القانون، فقد كانت العقوبات تختلف باختلاف مركز المذنب في الهيئة الاجتماعية، ولم تكن محددة بل كانت متروكة لتحكم القضاة (1).
جـ – مرحلة الإنسانية Periode Homanitaire او المرحلة الفلسفية كما يسميها البعض
استمر قانون العقوبات على تلك الصورة البشعة التي تقوم على أساس فكرة الانتقام من الجاني ليس غير بما تجره من قسوة وشدة في العقاب، حتى القرن الثامن عشر حيث ظهر كتاب ومصلحون حملوا حملة شعواء على النظام العقابي القائم عاملين على هدم اساسه الانتقامي محاولين تشييده من جديد على أساس من الرحمة والإنسانية وقد بدأ هذه الحملة منتسكيو Montesquieu في كتابه (روح القوانين)
L، Esprit de SLois، فانتقد بشدة وعنف قسوة العقوبات معللا بان الغرض منها هو كبح الاجرام وتقليله لا الانتقام، وتبعه (روسو) Rousseau في كتابة (العقد الاجتماعي)، Le Contrat Social مناديا بوجوب رد العقوبات الى الحد الادنى الذي به تتحقق حماية الجماعة من المجرم ومنعه من ايذاء غيره. وهو ما يعادل ما تنازل عنه الفرد من حريته الطبيعية الى المجتمع عندما تعاقد مع أفراد الجماعة بان يتنازل لها عن حقه في الدفاع عن نفسه مقابل ان تقوم الجماعة، ممثلة بالدولة بالدفاع عنه ورد الاعتداء عليه عن طريق معاقبة المعتدي. والشخصية البارزة في هذه الحملة كانت شخصية العلامة الايطالي (سيزاري بيكاريا) Becaria صاحب كتاب (الجرائم والعقوبات Des Delits Et Des Perines الذي نشره في ميلانو عام 1764 فأحدث ضجة في جميع أنحاء اوروبا، وقد كان له من الاثر ما جعله أساس الاصطلاحات التي حققها رجال الثورة الفرنسية في مجال قانون العقوبات. لقد ضمن (بيكاريا) كتابه هذا النظرية كاملة في تحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة وما يستتبعه من صياغة المبادئ العامة التي يهتدي بها الشارع في توجيه سياسة التجريم والعقاب، لذلك اعتبر ظهوره بدء انطلاقة جديدة في تاريخ قانون العقوبات. وتتلخص اراء هذا العالم في ان أساس قانون العقوبات، او حق العقاب، هو المصلحة العامة للجماعة، أي حق الجماعة في المحافظة على كيانها وصيانة النظام الاجتماعي، ذلك أنه اذا كان من حق الجماعة ان تحيا فانها تملك بحكم الضرورة حق العقاب لانه وسيلتها في الدفاع عن نفسها. اذن يجب ان يحدد بما يحقق هذا الدفاع ليس غير مما يترتب عليه ان العقوبة يجب ان تهدف الى منع المجرم من العودة الى الاجرام والى منع الاخرين من الاقتداء به وبالتالي يجب ان لا تنزل بالمجرم من الالم الا بالقدر اللازم لصرفه هو والاخرين عن الاجرام. أي الضرر الذي تتطلبه الضرورة القصوى لتحقيق المصلحة الاجتماعية (2). وهكذا يصل بياكريا الى هدم فكرة الانتقام كأساس لحق العقاب. ومن شخصيات هذه المرحلة الفيلسوف الانكليزي (بنثام) حيث نشر آراءه بهذا الصدد في كتابه (مبادئ الأخلاق التشريع) Pronciples of Morais and Legislation ضمنه نظريته في (المنفعة) كأساس لتحديد العقاب حيث قال ان الذي يبرر العقوبة وهي شر في ذاتها، المنفعة الموجودة منها. ومن ثم يجب ان تحدد العقوبات بالقدر اللازم لكي تحول بين المذنب والاضرار بغيره وتصلحه وتمنع من تماديه في الاجرام ويكون فيها ارهاب لغيره كي لا يقلدونه. ولا يتحقق هذا الا اذا كان العقاب يفوق المنفعة التي حصل عليها الجاني من الجريمة (3). ويطلق كتاب قانون العقوبات على مجموعة الاراء التي نادى بها بيكاريا وبنتام وغيرهم من مفكري القرن الثامن عشر اسم المدرسة التقليدية L، Ecoled Classique.
ويمكن تلخيص أسس تعاليمها مما يلي
1.انها تنظر الى سلوك الإنسان نظرة نفعية، وترى ان قانون العقوبات يستمد اسسه من ضرورة محافظة الجماعة على كيانها وصيانة أمنها ونظامها. وان وظيفة العقوبة تتجلى بتحقيق المنفعة العامة بمنع المجرم ذاته من العودة الى الاجرام وبمنع الاخرين من الاقتداء به مما يعني ان العقاب يجب ان يوجه نحو المستقبل لمنع جرائم يحتمل وقوعها لا نحو الماضي للتفكير والانتقام.
2.ان هذه المدرسة بالإضافة الى انها نفعية فهي أيضاً موضوعية مادية تقيس العقوبة بمقياس جسامة الجريمة لا بمقياس خطورة المجرم.
3.ان هذه المدرسة وان كانت نفعية مادية في سياستي التجريم والعقاب الا انها لم تغفل المبدأ الاخلاقي (حرية الارادة) حيث بنت عليه سياسة التأثيم أي المسؤولية الجنائية.
لقد لاقت أفكار المدرسة التقليدية نجاحا كبيرا ظهرت آثار في تشريعات ما قبل الثورة الفرنسية بل وتشريعات الثورة نفسها حيث أقامت حدودا للعقوبات وأنهت السلطة التعسفية للقضاة وخففت من العقوبات وألغت بعضها (4).
مذهب الفيلسوف كانت Kant
وظهر في هذه الحقبة من الزمن مذهب الفيلسوف الالماني (كانت) في العدالة، وخلاصته، ان العقوبة ليست مجرد وسيلة لتحقيق منفعة اجتماعية، وهي حماية المجتمع من المذنب وارهاب غيره، انما هي اجراء ولو لم يكن من ورائها آية فائدة ويكفي في هذا الشان ارضاء الشعور بالعدالة. والعدالة أمر نسبي يدخل في تقديره حالة الجانبي ودرجة مسؤوليته.
المدرسة التقليدية الجديدة L، Ecole Neo Classique
لم يكن ثمة بد من التوفيق بين آراء المذهب النفعي الذي قال به (بيكاريا) وبنثام واتباعهما، والمذهب الأخلاقي القائم على فكرة العدالة الذي جاء به (كانت) قبيل نهاية القرن الثامن عشر، وقد قام بمحاولة التوفيق هذه في النصف الأول من القرن التاسع عشر بعض الكتاب منهم (كيزو) Quizot و (روسي) Rossi وقد انبثق عن ذلك ظهور مذهب جديد سمي (بمذهب التوفيق) Electique له مدرسة سميت (بالمدرسة التقليدية الجديدة). ومن خصائص هذه المدرسة، وهي تنزع الى التوفيق بين المذهبين سالفي الذكر، اتصافها بالميل الى الاعتدال في العقاب، اذ ترى فيه في آن واحد ارضاء للمفاهيم الخلقية وحماية لمصالح الجماعة. حيث جاء شعارها في رسم سياسة العقوبة / ان العقوبة يجب ان لا تكون أكثر مما تستلزم المصلحة ولا أكثر مما تقتضيه العدالة. ولذلك قالوا بان على القاضي ان يتصرف في العقوبة بحيث يجعلها تتلاءم مع حالة كل فرد. كما نادت ببناء المسؤولية الجنائية على أساس مبدأ حرية الاختيار. وقد كان لتعاليم هذه المدرسة اثرها في قانون العقوبات الفرسي لعام 1832.
د – المرحلة الحديثة periode Contemporaine او العلمية كما يسميها البعض:-
بدأت هذه المرحلة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر على اثر فشل سياسة المدرسة التقليدية الجديدة في مكافحة الجريمة، حيث لوحظ ازدياد الاجرام منذ منتصف القرن التاسع عشر في البلدان التي تسربت الى تشريعاتها تعاليم تلك المدرسة ونظمها وبالمقابل ذيوع الفلسفة الوضعية التي مقتضاها ان الحقائق المتخلصة عن طريق المشاهدة والتجربة هي كل ما يتسنى للمرء ان يعرفه من الحقائق على وجه الدقة وتحت تاثيرها مما نبه الاذهاب الى ضرورة إعادة النظر في مشكلة الاجرام على أساس جديد اقرب الى الواقع منه الى المبادئ الفلسفية.
أساس يقوم على دراسة مشكلة الاجرام على أساس بنفس الاساليب المتبعة في دراسة العلوم الطبيعية وهي المشاهدة واستقراء الواقع. لقد نشأت هذه النظرية في ايطاليا ولذلك سميت بالمدرسة الايطالية وقد اسماها البعض بالمدرسة الواقعية او الوضعية نسبة الى الاسلوب الذي انتهجته في دراسة الجريمة ومشكلاتها. وكان دعاة هذه المدرسة الاوائل هم لومبروزو Lombersso وكان أستاذا للطب العدلي في جامعة تورينو في ايطاليا، وفيري Ferrei وكان أستاذا لقانون العقوبات في جامعة روما وجاروفالو Garofali وكان قاضيا. وتقوم هذه المدرسة على أساس الاهتمام بالجاني باعتباره مصدر الجريمة وفي شخصه يكمن الخطر، اما الأفعال المادية فتأتي في المقام الثاني من الأهمية ولا يجب النظر اليها الا باعتبارها مظهرا الخطورة الجاني ان نشاط الجاني الاجرامي هو نتيجة عوامل حتمية بعضها داخلي يتعلق بتكوين المجرم العضوي والنفسي وبعضها خارجي يتعلق بظروفه البيئية والاجتماعية، متى توافرت فان ارتكاب المجرم لجريمته يعتبر امراً حتمياً لا مفر منه. لذلك انكرت هذه المدرسة مبدأ حرية الاختيار واخذت بمبدأ المسؤولية الاخلاقية كأساس للمسؤولية الجنائية. نادت بوجوب حماية المجتمع من الجريمة باتخاذ (تدابير) تتناسب مع خطورة كل مجرم على حدة ويراعى عند تطبيقها الملائة بموجب التعرف على أسباب اجرامه سواء كانت شخصيته ترجع الى تكوينه العضوي او النفسي او الاجتماعي ترجع الى ظروف بيئته ونشأته. وعلى هذا قسم اقطاب هذه المدرسة المجرمين الى طوائف تبعا لغلبة الأسباب الشخصية او الاجتماعية في اجرامهم ووضعوا لكل طائفة أساليب مناسبة لعلاجها. فهناك المجرم بطبيعته، وهو الذي يولد مجرما وله صفات عضوية ونفسية تميزه، وهناك المجرم نتيجة اصابته بمرض عقلي ثم هناك المجرم بالعاطفة، وهو الذي يرتكب الجريمة تحت تأثير عاطفة جانحة ثم يندم على ما اقترفه وهناك المجرم بالمصادفة وهو الذي يرجع اجرامه الى ظروف خارجية دفعته الى الجريمة وهناك المجرم المعتاد الذي ارتكب الجريمة للمرة الأولى. تحت تأثير ظروف اجتماعية ثم اعتادها وكثر تردده على السجون ومخالطته للمجرمين. واخيرا ذهبت هذه المدرسة الى ان الخطورة الاجرامية لدى الشخص يمكن الكشف عنها حتى قبل ارتكاب الجريمة، وفي هذه الحالة يمكن اتخاذ التدابير المناسب الذي يتلافى وقوع الجريمة.
تقدير النظرية الايطالية:-
الحق انه ينسب الى النظرية الايطالية فضل كبير في توجيه الاهتمام الى شخصية المذنب وجعلها الأساس والمحور في تقدير العقاب او المعاملة المناسبة، كما ينسب اليها فضل الدعة الى نظام التدابير الاحترازية التي تهدف اساسا الى الدفاع عن المجتمع، ولقد كان لهذه النظرية تأثير بالغ المدى على التشريعات الحديثة في كثير من الدول، فاصبح الاهتمام بشخص الجاني عند تقرير العقوبة مبدأ مسلما به فدخلت نظم التدابير الاحترازية ووقف التنفيذ والافراج الشرطي والعقوبة غير محددة المدة في كثير من التشريعات.
ومع ذلك فإنه يؤخذ على هذه النظرية تطرفها ومغالاتها في كثير من الأمور. فقد أخذ عليها مغالاتها في الاهتمام بشخص الجاني واهمال الجريمة كواقعة مادية تحدث ضررا بالمجتمع يختلف من واقعة الى أخرى. كما يؤخذ عليها انكارها لحرية الاختيار، وهو مبدأ مستقر في اذهان الكافة ومن المصلحة الابقاء عليه. كما ان تقسيم المجرمين الى طوائف مختلفة ليس عليه دليل علمي حاسم ولا يصح ان يكون اساسا لمعاملة تتفاوت بين اشد الجزاءات واخفها (5).
مدارس التوفيق Doctritnes eclectiques
لقد ترتب على الانتقادات التي وجهت الى المدرسة الوضعية، من جانب الفقهاء التقليدين والرد عليهم نشوء بعض المدارس الفكرية التي حاولت التوفيق بين الفكر الوضعي والفكر التقليدي منها / المدرسة الوضعية الانتقادية والمدرسة القانونية الفنية والمدرسة الجنائية الإنسانية. وأوضح ما يمثل اتجاه مدارس التوفيق هذه هو (الاتحاد الدولي لقانون العقوبات) والجمعية الدولية لقانون العقوبات. اما التحاد الدولي L’union international de Droit panal فقد انشأه ثلاث من كبار اساتذة قانون العقوبات هم (فون ليست) Von Lisz أستاذ قانون العقوبات بجامعة برلين و(فون هامل) Von Hamil أستاذ قانون العقوبات بجامعة أمستردام و(برنس) Prince أستاذ قانون العقوبات بجامعة بروكسل وذلك عام 1889. وقد عقد عدة مؤتمرات لبحث المسائل المختلف عليها محاولا التقريب بين وجهات النظر وكان آخر هذه المؤتمرات في كوبنهاكن عام 1913 ثم توقفت أعماله بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى. وما تميز به هذا الاتحاد ان كان اتجاهه عمليا دون اغراق في النظريات والافكار الفلسفية. فأخذوا عن المدرسة التقليدية الاهتمام بالعقوبة والاعتراف لها باغراض متعددة واخذوا من المدرسة الوضعية الاهتمام بشخص الجاني وتفريد العقوبة لتناسب كل محكوم عليه وتصنيف المجرمين بحسب العوامل التي ادت الى اجرامهم كما اخذوا بالتدابير الاحترازية الى جانب العقوبات. اما الجمعية الدولية لقانون العقوبات L. association International De Droit Panal فقد انشأت عام 1924 في بارسي لتخلف الاتحاد الدولي وتسعى الى نفس مساه وكان آخر مؤتمراتها عام 1937 ثم اختفت بسبب الحرب العالمية الثانية. ويؤخذ على تعاليم الاتحاد وكذلك الجمعية انها لا تكون مدرسة فكرية وانما هي مجموعة من الحلول العملية الملائمة (6). مدرسة الدفاع الاجتماعي L، Ecole De La defense Sociale لقد ظلت مبادئ المدارس التوفيقية، آنفة الذكر، تؤثر في تطور قانون العقوبات طيلة فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وما ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها او كادت حتى عمد الفقيه الايطالي (كراماتيكا) Grannarica أستاذ قانون العقوبات في جامعة جنوه في ايطاليا الى انشاء مركز للدراسات التي تدور حول نظرية الدفاع الاجتماعي، كما أصدر مجلة تنطق باسم المركز سماها مجلة الدفاع الاجتماعي وعقد أول مؤتمر دولي للدفاع الاجتماعي عام 1947 في مدينة سان ريمو ثم تلته مؤتمرات أخرى. وتهدف حركة الدفاع الاجتماعي الى ارساء أسس سياسة جنائية تدخل في اعتبارها حماية المجتمع وإصلاح المذنب وتأهيله. ولهذه الحركة جناحان احدهما متطرف يتزعمه مؤسس الحركة الاستاذ (كراماتيكا)، وهو يرى استبدال قانون الدفاع الاجتماعي بقانون العقوبات والاستغناء عن فكرة الجريمة والتعبير عن الانحراف بالافعال المضادة للمجتمع والاستعانة عن العقوبات بتدابير الدفاع الاجتماعي. اما الجناح الاخر فهو جناح معتدل يتزعمه القاضي الفرنسي (مارك انسل). وهذا يبقي على الأنظمة الجنائية القائمة وان كان يدخل عليها من التطور الى جانب قانون العقوبات، ويدعو الى ضرورة الاهتمام بشخصية الجاني وفحصها على أساس علمي وضرورة وجود ملف للشخصية الى جانب ملف الدعوى. ويلقى هذا الجناح، الذي يطلق عليه (حركة الدفاع الاجتماعي) تأييد وقبولا أكثر من الجناح المتطرف.
وقد نتج عن الصراع الفكري بين جناحيه الوصول الى برنامج للحد الادنى لمبادئ الدفاع الاجتماعي تلتزم به (جمعية الدفاع الاجتماعي). والواقع ان حركة الدفاع الاجتماعي إنما تحاول تأصيل الاصلاحات الحديثة في القانون الجنائي والمعاملة العقابية وترسم خطوطا عامة لتوجيه المشرعين ولكنها ليست مدرسة فكرية تستند الى أساس منطقي يجمع بين آرائها وإنما هي مجرد حركة اصلاح (7).
وتتلخص الاسس التي تقوم عليها مدرسة الدفاع الاجتماعي بما يأتي
1.ان وظيفة قانون العقوبات هي حماية المجتمع وصيانته من مضار السلوك الاجرامي لا معاقبة الخاطئ والاقتصاص منه فقط مراعاة للقواعد القانونية.
2.ان العقاب لا ولن يؤمن حماية المجتمع انما تؤمنها وسائل أخرى غير جنائية بالمعنى الدقيق ترمي الى شل فعالية المذنب الاجرامية كان يحتجز او يعزل او
يصلح. لذلك نرى ان هذه المدرسة تعادي بصراحة أساليب العقاب التقليدية لأنها لا تؤمن بجدواها بل ترى فيها عاملا من عوامل الاجرام.
3.ان الهدف الاسمى الذي تضعه هذه المدرسة لسياستها الجنائية، هو ان تعيد المجرم الى حظيرة الحياة الاجتماعية وان تجعل منه عضوا اجتماعيا صالحا.
4.ان عودة المجرم الى الحياة الاجتماعية لا تتم الا اذا بعثنا فيه الثقة بنفسه واحيينا في كيانه القيم الإنسانية (8).
________________________________
1-Donnede De V aberes، Traite، DeDroit Criminel p.30 – Vidal et Magnol، Cours de droit Criminal T.I.N. 15.
2-من هذا يظهر ان بيكاريا بعد ان يستخلص أصل العقاب من فكرة العقد الاجتماعي ويعترف بان حق العقاب ما هو الا حق الدفاع للجماعة يفيد هذا الحق بقيدين هما المصلحة العامة للجماعة والضرورة، انظر في تفصيل ذلك كتابنا الوسيط ص22.
3-ويؤمن (فيرباخ) في ألمانيا بوجوب قيام العقاب على أساس فكرة المنفعة، غير انه يعلل ذلك تعليلا آخر يقوم على أساس الاكراه النفسي، انظر كتابنا مار الذكر ص24.
4-انظر في تفصيل ذلك، كتابنا الوسيط ص26 وما بعدها – فيدال ومانيول، المرجع السابق ج1 ن 20 وما بعدها.
5-الدكتور علي أحد راشد، مبادئ القانون الجنائي ص52 ن69 – فيدال ومانيول، المرجع السابق ج1 ن34 الى 45.
6-انظر في تفصيل ذلك الوسيط، المرجع السابق ص42 وما بعد – دونديه دي فابر، المرجع السابق ن 81 الى 83 والموجز، طبع دالون ص55
7-انظر الدكتور سمير الجنزوري، مبادئ قانون العقوبات القسم العام ص15.
8-انظر الدكتور محمد الفاضل، المبادئ العامة في قانون العقوبات ج1 ص75 – الدكتور علي حسين الخلف، الوسيط ص47، والموجز ص32.
تطور قانون العقوبات العراقي :
اثبت علماء الاثار ان العراق كان مهدا لاقدم الشرائع في العالم، فقد كان ملوك دويلات المدن في العراق القديم يتغنون بالعدالة واحلال النظام ويتفاخرون باحترامهم للقانون مما يدل على عمق نظرتهم له وشغفهم بتطبيقه. وبسبب ذلك كان (سرجون الاكدي) يدعي ملك العدالة والرجل الذي ينطق بالعدل. وقال : أوركاجينا) ملك الجش انه نشر قوانين العهود الغابرة، وقد حاول بعض ملوك الدويلات تجربة التشريع فاصدروا بعض القوانين، فكانت اللبنة الأولى في القانون العراقي القديم، منهم اوركاجينا (ملك) (الجش) (2400ق.م) و(جوديا) ملك (الجش) (2100 ق.م) ولبث عشتار ملك (أيسن) (1885 – 1875 ق.م) و (بلالاما) ملك (أشنونا) (1930 ق.م). وكانت من أشهر تلك الشرائع بل من اشهر الشرائع القديمة في العالم شريعة حمورابي التي وضعها الملك حمورابي سادس ملوك بابل وسليل السلالة البابلية الأولى الذ2ي حكم بابل ثلاثة وأربعون عاما (1728 – 1686 ق.م). فقد أنجز وقد جاءت هذه الشريعة متقدمة متشبعة بروح العدالة، اذا ما قيست بعصرها اذ نلمس في ثناياها الاحكام الصارمة لحماية الضعيف من ظلم القوي الأمر الذ2ي جعل الشرائع السماوية فيما بعد تقر بعض احكامها، مما يدل على اصالة راي واضعها ورجاحة عقله وبعد نظره. وقد وضعت نصوص هذه الشريعة الانتقام الفردي وانعدام آثار التعويض الاختياري فيها. وكانت المبدأ الأساس الذي سارت عليه هذه الشريعة في الأمور الجنائية هو مبدأ انزال نفس العمل بالجاني أي (القصاص)(1). ومنذ عام 1520 ق.م. توالى الغزو للعراق فحكمه الحيثيون والكشيون، وهم أقوام هندية اوروبية، والآشوريون وغيرهم، ومع ذلك فقد بقيت شريعة حمورابي المصدر المهم للقوانين الوضعية فيه مدة تزيد على الألف عام (2). وفي عصر الجاهلية، كان القضاء عند أهله من الأمور الفطرية الساذجة فقد كانوا يكتفون فيه بالشرائع الالهامية التي كانت توحيها ضمائر حكامهم وكهانهم، مما يعني مرحلة متواضعة من الرقي القانوني. فقد كان النظام السائد في هذا العصر هو مبدأ الانتقام الفردي بما يحوي من نظم القصاص والدية والخلع أي اعلان البراءة من المجرم. وعند ظهور الإسلام ودخول أهل العراق فيه، اصبحت الشريعة الإسلامية هي قانون العقوبات للبلاد. وقد سلكت الشريعة السمحاء في تحديدها ما يعتبر من الأفعال جرائم وفي بيان عقوباتها مسلكين مختلفين هما :
1.مسلك التعيين بالنص / حيث عينت بالنص بعض الجرائم وحددت لها عقوباتها، وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية.
2.ومسلك التفويض للإمام / حيث تركت الشريعة للإمام، بعد جرائم الحدود والقصاص، وفوضته بان يحدد ما يراه من الأفعال جرائم ويعين لها ما يراه من عقوبات مراعيا المصلحة العامة، وسميت هذه الجرائم وعقوباتها (بالتعازير). وبقيت الشريعة الإسلامية هي قانون العقوبات للبلاد حتى عام 1858 ميلادية، حيث صدر قانون الجزاء العثماني وطبق في جميع ارجاء الإمبراطورية العثمانية ومنها العراق. وقد بقي هذا القانون يحكم العراق من الناحية الجنائية حتى الحرب العالمية الأولى حيث دخل الانكليز العراق محتلين، وعندها اصدر القائد العام لقوات الاحتلال في 21 تشرين الثاني 1918 قانون عقوبات جديد سماه (قانون العقوبات البغدادي) (3). وأمر بتطبيقه في جميع إنحاء العراق في أول كانون الثاني 1919.
إن قانون العقوبات البغدادي، كان قد وضع على عجل كقانون وقتي للعمل به في المحاكم التي انشأتها السلطات العسكرية البريطانية المحتلة. لذلك جاء غير دقيق في مصطلحاته ولغته ناقص في أحكامه عتيق في مبادئه بالإضافة الى الاختلاف البين في مواد عديدة في القانون يبين الاصل الانكليزي له، حيث وضع أولا باللغة الانكليزية، وبين الترجمة العربية التي وضعت بعد ذلك الأمر الذي كان يتطلب تغيير بعد وقت قصيرمن صدوره، وقد اعلن ذلك حتى واضعه في المذكرة الايضاحية لهذا القانون. وقد جرت عدة محاولات لذلك ووضعت عدة مشروعات قوانين لتحل محله غير ان الحظ لم يكن حليف أي منها حتى عام 1969 حيث تم انجاز قانون العقوبات الحالي ونشره في الجريدة الرسمية تحت رقم 111 لعام 1969 في 15 أيلول 1969 على أن ينفذ بعد مرور ثلاثة اشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية. وفي 6 آذار 1977 صدر قانون اصلاح النظام القانوني رقم 35 لسنة 1977 ضمنته وزارة العدل خطتها لإصلاح النظام القانوني في العراق بالشكل الذي يجعله اهلا لان يواكب الثورة في مسيراتها الظافرة، بان يتلاءم مع التحولات الاشتراكية ويساعد على ارساء أسس ومقومات الديمقراطية الشعبية ويخدم متطلبات عملية التنمية القومية، ومنها التشريعات الجزائية (4). وقد شكلت في وزارة العدل عدة لجان لهذا الغرض ومنها لجنة لقانون العقوبات بدأت عملها لوضع مشروع قانون عقوبات جديدة مهتدية بما تضمنه قانون اصلاح النظام القانوني من مبادئ وأسس ومنطلقات وأهداف ومستعينة بأحدث قوانين العقوبات العربية والأجنبية وأحدث ما توصل إليه الفقه والقضاء بهذا الصدد.
__________________________
1-انظر الدكتور هاشم الحافظ، مذكرات في تاريخ القانون العراقي ص 10-24
2-مونيه، تاريخ النظم والوقائع الاجتماعية 28- الدكتور هاشم الحافظ، المرجع السابق ص34.
3-سمي هذا القانون بهذا الاسم لان الفكرة التي كانت تسيطر على واضعه عند وضعه هي تطبيقه على ولاية بغداد فقط.
-4انظر الفصل الرابع من قانون اصلاح النظام القانوني.
المؤلف : علي حسين خلف + سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً