التطور التاريخي ( للاعتداء على العملة) في الشريعة الإسلامية :
أما في الشريعة الاسلامية فإن تزييف العملة وغشها كان معروفاً قبل الإسلام وبعده ، حيث كانت الدراهم والدنانير المستعملة قبل الإسلام متباينة الوزن فأدت إلى ارتباك شديد من جراء التعامل بها ، فضلاً عن ما يتعقبها من الغش والزيف ، كما أنها كانت تحمل علامات وأختاماً أجنبية فقد دعت الحاجة إلى إصدار درهم عربي إسلامي واتفق على تحديد الوزن (1). وقد اتخذت دور سك العملة ضوابط ومقاييس خاصة بإصدارها فان نقص عن ذلك اعتبرت مزيفة وكذلك فان جميع العملات التي كانت تضرب خارج دور السك الحكومية كان يقال عنها بأنها نقود غير جيدة نتيجة خلطها بمعادن قليلة القيمة . ولقد تعرضت العملة آنذاك إلى أساليب عديدة من التزييف منها كسر العملة أو ثلمها ، وكذلك برد أو اقتطاع جزء من معدنها ثم التعامل بهذه القطع الصغيرة أو ناقصة الوزن على أساس أنها تامة ، او طلي العملات المصنوعة من معادن قليلة القيمة بمعدن أكثر قيمة كالذهب او الفضة للتمويه على أنها مصنوعة من ذلك المعدن الثمين والتي كان يطلق عليها بالملبسة أو المطلية ، حيث تضرب هذه النقود من النحاس ، ثم تلبس بالذهب بالنسبة للدنانير . أما بالنسبة إلى الدراهم فكان يطلى النحاس المصنوعة منه بطبقة خفيفة من الفضة(2) . وجرائم تقليد العملة وغشها أو إنقاص وزنها تعتبر من ضمن جرائم التعزير وهي الجرائم التي لم ينص عليها بعقوبة مقدرة مع ثبوت نهي الشارع عنها ، والعقاب عليها متروك لولي الامر في نطاق الشريعة الإسلامية وبحسب ما يراه من دفع الفساد في الأرض ومنع الشر ، وقد تبلغ العقوبة فيها أقصاها وقد تنزل إلى حد التوبيخ ، ومن الجدير بالذكر أن الشريعة الإسلامية لم تنص على كل جرائم التعازير كما هو الحال في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية وإنما نصت على بعض جرائم التعازير وتركت القسم الأكبر فيها لأولي الأمر(3) . وهي من جرائم التعزير التي تكون انتهاكاً لحقوق الله أو سببها الاعتداء على حق الله أو بما يسمى اليوم (حق المجتمع) أو (الحق العام)(4). ولم ترد في القرآن الكريم احكام جزائية تشمل النهي عن تقليد العملة او غشها او العقاب على ذلك ، ولكن القرآن الكريم حافل بالأحكام التي تحرم الغش والزور والإضرار بالناس في أموالهم أو أشخاصهم . قال الله تعالى : (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(5). وقال تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)(6). وقال تعالى (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم)(7). وفي كلام الرسول (r) وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الغش وأكل أموال الناس .. وإلحاق الضرر بهم . قال رسول الله (r) (لا ضرر ولا ضرار) (من غشّنا ليس منّا) وقد روي عن النبي محمد (r) قوله (إنفاق درهم زيف اشد من سرقة مائة درهم) ذلك لان السرقة معصية واحدة تمت وانقطعت ولكن الزيف يدعه يستمر العمل بها. وقد كان الإمام مالك وأصحابه ، يرون أن إنقاص وزن العملة بأي وجه ولو بالبرادة سرقة(8). ومن ثم يحكم فيها ما يحكم على السرقة ، أي قطع اليد ، وقال عمرو الناقد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن عون سرين أبن مروان بن الحكم أخذ رجلاً يقطع الدراهم فقطع يده ، قياساً على حكم السارق ، فبلغ ذلك زيد بن ثابت . فقال : لقد عاقبه ، ويقال أن أول من غش الدراهم وضربها زيوفاً هو عبد الله بن زياد حين فر من البصرة عام 64هـ ففشت في الأمصار أيام دولة العجم(9). ولقد كانت مكافحة تزييف العملة من أهم اختصاصات المحتسبين ، وقد حرص أولوا الأمر على التشديد في عقاب المزيفين الذين ينقصون العملات باقتطاع أجزاء منها وقال محمد بن سعد: وقال الواقدي عاقب أبان بن عثمان والي المدينة مزيف الدراهم بضربه ثلاثين جلدة مع الطواف به . ولذلك فإن الرأي الراجح فقهاً وقضاء في الشريعة الاسلامية أن الشخص الذي يقوم بتزييف المسكوكات المتداولة أو كان يقوم في صرف العملة الفاسدة ونشرها ، فانه ارتكب منكراً فيه إضرار وزعزعة للثقة ، وليست لها عقوبات مقدرة فيجب فيها التعزيز ، وينبغي أن يعزز كذلك من انقص قيمة المسكوكات بـأن أخذ جزء من المعدن المصنوعة منه وكذلك من طلى مسكوكات ليجعلها تشبه مسكوكات اكثر قيمة منها(10).
_________________________
[1]- حيث ان الخليفة عمر ابن الخطاب (t) قد أمر بتحديد الدرهم بستة دوانيق وان يكتب عليها عبارات (الحمد لله) و(لا اله إلا الله وحده) و (محمد رسول الله) . د. محمد باقر الحسيني ، العملة الاسلامية في العهد الأتابكي ، مطبعة دار الجاحظ ، بغداد ، 1966، ص27.
2- المارودي ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، ص155 ، واين عساكر تهذيب تاريخ دمشق الكبير ، ج2 ، ص412 ، و د. محمد باقر الحسني ، تطور النقود العربية الاسلامية ، الطبعة الاولى ، 969 ، دار الجاحظ ، بغداد ، ص64 ، هامش 27.
3- أنظر في ذلك د. عبد القادر عوده ، التشريع الجنائي الإسلامي ، 1963 ، ص126 –127 ، وانظر الشيخ محمد أبو زهرة ، الجرائم والعقوبة في الفقه الإسلامي ، ج1 ، ص86-87
4- الشيخ محمد ابو زهرة ، المرجع السابق ، ص17.
5- سورة الشعراء – آية رقم(183).
6-سورة البقرة – آية رقم (188).
7- سورة الشعراء- آية رقم (181-182).
8- انظر ابن الجوزي ، تلبيس أبليس ، ص204 ، وأبو يعلي ، الأحكام السلطانية ، ص167 والمارودي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، ص156.
9- الأب أنستاس الكرملي البغدادي ، النقود وعلم النميات ، 1929 ، ص4.
0[1]- انظر ، عبد العزيز عامر ، التعزير في الشريعة الإسلامية ، الطبعة الرابعة ،1969 ، دار الفكر العربي، 276 .
التطور التاريخي ( للاعتداء على العملة) في العصور القديمة :
لما كانت الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة وجدت منذ عرف الإنسان المجتمعات، ومنذ عرف الناس العملة وسيلة للمبادلات وجدت جريمة الاعتداء على العملة ، وقبل ذلك حين كان الناس يقيمون علاقاتهم التجارية على أساس المقايضة(1) ، وظهر الغش في صنف السلع المتبادلة وطبيعتها ووزنها ، ومع تطور وسائل المبادلة بمرور الزمان، ظهرت النقود السلعية وبدأ سكها من المعادن التقنية ولم يخل الامر أيضاً من تعرضها للعديد من وسائل الغش في اوزانها او بخلطها بمعادن رخيصة أخرى . ولقد بدأ التلاعب أولاً بوزن السبائك المعدنية المستعملة وسيلة للتبادل فكان التجار يتجولون لوزن السبائك المعدنية لدى كل مبادلة ، ثم مع تطور ومرور الزمن اصبحت السبيكة توزن مقدماً مع وضع علامة عليها لتدل على صحة وزنها وقيمتها ولم تكن العلامة الدالة على قيمة النقود وحقيقتها رسمية أول الأمر ، أي لم تتولً السلطات العامة امرها بل كان يقوم بها الافراد من تجار وصيارفة ، وقد تعرضت هذه العلامات او الاوزان للعديد من وسائل الغش والتدليس فاضطلعت الدولة بختم هذه السبائك المعدنية ، بختم حكومي يشهد على جودة السبيكة وعلى درجة نقاء معدنها فكان هذا الختم الذي يحمل شعار الحكومة دليلاً على تأكيد قيمة السبيكة وسلامتها(2). ولذلك فإن تزييف العملة يعتبر من اخطر الجرائم منذ العصور الاولى في التاريخ ، وقد نظرت التشريعات الجنائية القديمة إلى هذه الجرائم على أنها اعتداء على حقوق الملوك والحكام ، لان سك العملة المتداولة كان حقاً من حقوقهم اختصوا به(3)، وقد ذكر بعض المؤرخين أن حوض البحر الأبيض المتوسط كان مهداً لتزييف العملة ، حيث غش المزيفون عيار النقود ووزنها وقلدوا الأختام والعملات التي تحملها والدلالة على صحتها ورسميتها وتنوعت سبلهم في سبيل ذلك . وان أول عملة زيفت هي العملة اليونانية الفضية وذلك عام 450 قبل الميلاد ، وكان اسم العملة التي طرأ عليها التزييف (تيتزا دراخم) أي أربعة دراخمات ، وبعد فحص هذه القطعة النقدية تبين أنها مصنوعة من النحاس ومغطاة بطبقة رقيقة من الفضة ، وهذه القطعة ما زالت محفوظة في المتحف الفرعوني بالقاهرة(4). كما ظهرت في عهد بطليموس سنة 300 قبل الميلاد عملات مزيفة بنفس الطريقة ، وكما تنوعت سبل التزييف تنوعت سبل الحكومات في سك العملة لعرقلة أعمال المزيفين فسكت العملة على هيئة أقراص مستديرة يمكن تغطيتها بالنقوش والأختام حتى إذا ما اقتطع المزيفون جزءاً منها زال معه بعض النقوش والأختام فينكشف أمرها كما أنه عندما لجأ المزيفون إلى قرض حافة العملة لجأت الحكومات إلى تعميم النقش في الحوف أيضاً(5). وعليه فإننا سنحاول بيان موقف التشريعات القديمة من هذه الجرائم كالاتي :
1. في القانون الروماني
كان تزييف العملة جريمة ماسه بالتاج وفرض الشارع لها أشد العقوبات(6) . وإذا رجعنا إلى القانون الروماني نجد انه كان يوجد أمر من البريتور ماريوجراتيدياني ، نص على الدعوة لعقاب تزييف العملة الذي ازداد انتشاره في ذلك الوقت ، ولتجريم تزييف العملة اصل بدائي في مجموعة الألواح الأثني عشر (سنة 450 ق.م) في قانون كورنيليا للمستندات الذي تطور إلى قانون كورنيليا للتزييف ، وهذا القانون الأخير تكون منه تطورات هذا الجزء من قانون العقوبات في روما ، حيث يعتبر حجر الاساس للتشريعات الأوربية القديمة ، وقد كان القانون الروماني يعاقب عليها بالإعدام باعتبار أن للملك وحدة الحق في سك العملة . ويتطرق القانون المذكور إلى افعال التزييف ، وهي صنع العملة المزيفة مهما كانت الوسيلة المستخدمة والتمويه ، والترويج ، والامتناع عن الأخبار في حالة العلم بالتزييف . وفي عهد قسطنطين الثاني فقد نص على جريمة التزييف في الدستور باعتبارها جريمة ضد الذات الملكية ، وعوقب مرتكبوها بالإعدام حرقاً بالنار وتقديم مكافأة مالية لكل من يقوم بالإخبار عنها نظراً إلى خطورتها على المجتمع(7).
2. في العهد الفرعوني
كان التشريع الجنائي في العهد الفرعوني يقوم على إدراج العديد من الجرائم الأخلاقية، والجرائم المنبثقة عن مخالفة القيم والعادات والمبادئ السامية في المجتمع في نطاق (التشريع العقابي) ومنها جرائم تزييف العملة والتزوير فقد كانت عقوبات هذه الجرائم من العقوبات التعبيرية بمعنى انه كان يقطع يد المزيف والمزور . وهذا القول يعني أن وجهة نظر الفراعنة في هذه النوع من الجرائم هي أنها جرائم تمس جسد الإنسان ، إذ يستعمل الجاني في ارتكابها يديه لذا وجب عقاب الشخص في هذا الجزء من الجسد الذي ارتكب الجريمة حتى لا يعود إلى ارتكابها مرة أخرى وإذا لم يرهبه وجود هذه العقوبة واقدم عليها ثم تم ضبطه نفذ فيه عقاب قطع اليد(8).
___________________________
[1]- لم يعرف الإنسان التعامل بالنقود حين كان يعيش حياة الغابات ولكن بعد حياة الاستقرار واشتغاله بالزراعة وانخراطه في سلك الجماعة وجد نفسه مضطراً إلى التفكير بالأخذ والعطاء وساعد على ذلك رغبته الفطرية في المبادلة ، وقد ذكر بعض المؤرخين ان المبادلة قامت في الجماعات البشرية على اختيار مادة او اكثر تؤدي بين الناس مهمة الوساطة في التتابع وكسب الأرزاق . ففي الصين استعملوا (المحار) وسيلة للتبادل وفي الهند اتخذت الماشية مقياساً لتحديد قيمة السلعة ، وفي اليونان (الثور) فكانت بعض الأسلحة تساوي تسعة ثيران أو عشرة ، الجارية عندهم تساوي أربعة ثيران ، انظر في ذلك : د. عبد الرحمن فهمي محمد النقود العربية ماضيها وحاضرها – القاهرة 1964 ص2 .
2- د. عادل حافظ غانم ، جرائم تزييف العملة ، دراسة مقارنة ، المطبعة العالمية ، 1966 ، ص11.
3- الأستاذ محمود إبراهيم إسماعيل ، شرح قانون العقوبات المصري ، جرائم الاعتداء على الاشخاص وجرائم التزوير ، مطبعة الاعتماد بمصر ، 1946 ، ص467.
4- الأستاذ محمد وليد الحكيم ، شرح جرائم التزييف والتقليد والتزوير علماً وعملاً ، حلب سورية ، 1970 ، ص23.
5- د. عبد المحسن الخشاب ، العملة المزيفة في المتحف المصري سنة 1958 ، ص4.
6- د. احمد فتحي سرور ، الوسيط في قانون العقوبات -القسم الخاص- الجرائم المضرة بالمصلحة العامة ، جرائم الاشخاص ، 1979 ، القاهرة ، س23.
7- د. عادل حافظ غانم ، المصدر السابق ، 19.
8- د. عبد الرحيم صدقي ، التزوير والتزييف ، مكتبة النهضة المصرية ، 1994 ، ص807.
التطور التاريخي ( للاعتداء على العملة) في العصور الوسطى :
في العصور الوسطى كان أول ما زيف هو ريال سانت تريز المصنوع من الفضة والذي كان يتداول في شتى أنحاء العالم وكان أول من قام بتزييفه اليهود ، إذ كانوا يجمعون كميات كبيرة من هذه العملة الفضية ويضعونها في أكياس كبيرة من الجلد ويقومون بهزها فترة طويلة فتتآكل الفضة من احتكاك بعضها ببعض ، ويبقى القسم المتآكل في الكيس ، وبذلك يتجمع لديهم كمية من الفضة هي المقدار المتآكل من العملة فتصهر وتباع(1). وعليه لا بد لنا من استعراض موقف التشريعات في العصور الوسطى .
1. القانون الفرنسي
كان القانون الفرنسي في العصور الوسطى يعد جرائم تزييف المسكوكات نوعاً من الخيانة العظمى وقد أورد قانون العقوبات الفرنسي جرائم التزييف بين جرائم الاعتداء على الملكية العامة ، وفرض للتزييف عقوبات مشددة بلغت عقوبة الإعدام على تزييف وتزوير الأوراق التي لها قوة النقد في التداول ، كما امتد العقاب إلى مصادرة أملاك الجاني ، ثم عدلت هذه العقوبات واتجه الشارع بها إلى التخفيف حتى نقلت جرائم التزييف في سنة 1810 إلى باب الجرائم التي ترتكب اعتداء على الامن أو النظام العام(2).
2. القانون الألماني
الاعتداء على العملة له صور عديدة في تزييف العملة واستعمالها حيث عاقب هذا القانون عليها بالحرق بالنار أو بقطع الرأس ولا سيما من يقوم بوضع علامات عملة ذات قيمة كبيرة على اخرى اقل منها بقصد الغش وكذلك الإنقاص من وزن العملة الصحيحة ، أو وضع معدن ردئ بدل المعدن الأصلي ، كما جرم افعال الاستعمال اللاحقة على تزييف العملة كإخراجها أو إدخالها من البلاد وحيازتها او ترويجها ، حيث عاقب عليها بقطع اليدين والغرامة ومصادرة المنزل او المحل الذي تمت فيه افعال التزييف(3).
3. القانون الإيطالي
عاقبت التشريعات الإيطالية القديمة الشخص الذي يزيف عمله من معدن ثمين بالحرق بالنار ، أما من يزيف عملة من معدن رخيص فكانت تقطع يداه فضلاً عن المصادرة العامة(4). أما بالنسبة إلى أفعال إنقاص العملة أو ترويج العملة المزيفة فكانت العقوبة اقل شدة من التقليد (الصنع في لائحة ماليفيكوا الصادر عام 1232م . ولقد نص فيها على معاقبة من يزيف عملة وطنية بالحرق بالنار سواءً ارتكبها داخل المقاطعة ام خارجها . وفي لائحة كونكورد عام 1450م نص على الإعفاء (إذا بدأ أحد في صنع عملة مزيفة ثم سحبها قبل ان يضعها في القالب فانه يعفى من العقاب) . كما حصل تطور هام في تشريعات بعض المقاطعات ، حيث جرمت افعال تزييف العملة الأجنبية الخاصة بمقاطعات اخرى ولكن بعقوبات اقل شدة من تزييف العملة الوطنية(5).
_______________________
[1]- الأستاذ د. محمد وليد الحكيم ، المصدر السابق ، ص23.
2- الأستاذ محمود إبراهيم إسماعيل ، المصدر السابق ، ص467.
-3 Jean nepote، Op. Cit، p. 211.
-4 Louis lambert، cours de droit oenal specieli Appliaue Al Information، denxieme edition، Lyon، p. 847.
5- د. عادل حافظ غانم ، المصدر السابق ، ص20.
التزييف اعتداء على وظيفة العملة :
إذا نظرنا إلى أن التشريعات الجنائية تنص على جرائم التزييف في أبواب منفصلة ويهدف مجرد حماية الاعتداء الواقع على مقومات العملة نفسها مما يخل بوظيفتها ويضر بالعلاقات التي تستخدم فيها العملة ، كما يعرض أمن التداول النقدي للخطر . وحيث أن العملة تشكل السيادة النقدية في كل دولة ، هي جزء من السيادة الوطنية نفسها أيضاً ، إذ أن حق إصدار العملة المحصور بالسلطة الرسمية يندرج في طائفة الأعمال الحكومية التي تزاولها الدولة تنفيذاً للدستور . وللقانون بعد ان اصبح نظام المصارف المركزية المرتبطة مباشرة بالدولة معمولاً به في مختلف أنحاء العالم، وتكتسب العملة الوطنية على أساسه مكانتها ومتانتها في مختلف البلدان التي تقبل رواجها وانتشارها وإجراء الصفقات بوساطتها ، فيكون أي عمل تزييفي لها إساءة مباشرة إلى مكانة الدولة المصدرة بفقدانها ثقة الدول الباقية ، فضلاً عن أن هذه الدولة تقابل إنزال العملات الورقية بنوع من التغطية لها ، ذهبية في معظم الحالات ، وتكفل أخيراً القيمة العددية الموضوعة قيد التداول ، مما يعرضها لخسارة لا ترتقيها ، بدلاً من جني الفوائد التي تعود لها ، كما انه قد ينشأ عن ذلك تعكير للعلاقات بين الدول المتعددة إذا وقع التزييف بقصد الحط والتخريب على عملة إحداها في ارض دولة ثانية، وبعلمها وأحياناً بموافقتها الصريحة أو الضمنية(1) . لذلك فإن الفقه الألماني(2) . يرى أن جرائم تزييف العملة ما هي إلا أفعال غير مشروعة تنال بالاعتداء القيمة الاسمية المحددة للعملة بمعرفة الدولة سواءً أكانت هذه العملة معدنية أم ورقية وان محل الاعتداء ليس الثقة العامة ، وإنما الأمر لا يعدو أن يكون اعتداء أو مخالفة لقوانين أو تشريعات مهنية تهدف إلى حماية تلك القيمة المحددة للعملة والتي تمثل وحدة معينة من القيم. ولذلك يستمد تزييف العملة أهميته من أهمية العملة نفسها ومن الدور الذي تؤديه في حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية ، ذلك الدور الذي يكمن في الوظائف التي تؤديها للمجتمعات الإنسانية . فمن المتفق عليه لدى فقهاء الاقتصاد أن النقود(3) . هي وسيط للمبادلة ذات قوة شرائية عامة تعطي لصاحبها حقاً على جميع السلع والخدمات كما أنها وحدة للحساب ومقياس للقيم وأداة لاختزانها ، فضلاً عن أنها تعتبر أداة ائتمان وادخار . فهي بهذا ترتبط بكل نواحي الحياة وأداة لا غنى عنها لتسيير دفتها ولدفع عجلة النشاط الاجتماعي والاقتصادي . ولأهمية النقود فإن الناس يقبلون عليها إقبالاً شديداً طالما هي قائمة بوظائفها محققة لأهداف وجودها ، فإذا ما شابها عبث أو خلل فقدوا ثقتهم فيها وأصاب ذلك حياتهم بالاضطراب والتوقف بأضرار جسيمة . ولعل اخطر ما تتعرض له العملة من اعتداءات تخل بسلامتها وصحتها وتضر بالمصالح التي تتحقق عن طريق قيامها بوظائفها هو جرائم تزييف العملة ولا سيما إذا وضعنا في الاعتبار مساس هذا الاعتداء بسلطة الدولة التي تحتكر ضرب العملة وإصدارها ، وتحرم ذلك على الأفراد لتضمن سلامتها وتؤكد قيمتها . ومن جهة أخرى فان جريمة تزييف العملة تمثل في ذاتها نشاطاً إجرامياً خطيراً يتمثل في خطورة الأفعال المكونة له وما يتميز به من طبيعة خاصة ومن إصرار من الجناة على ارتكاب جريمتهم وما يترتب على انتشار ترويج العملة بطريقة جماعية من آثار متتابعة تضر المجتمع بأسره . ولذلك فإن من أهداف قانون العقوبات حماية المصالح المشتركة وان هذه المصالح قد تكون مادية أو أدبية ، فإننا نجد أن المصلحة الجوهرية التي تعكسها جرائم التزييف بصفة مباشرة هي مصلحة أدبية تتمثل في الاعتداء على سلطة الدولة أو سيادتها النقدية ، مصلحة أخرى مادية تمسها بصفة غير مباشرة تتمثل في باقي المصالح التي من بينها المصالح المتصلة بذمم الأفراد والأرباح التي تجنيها الدولة من ضرب العملة المعدنية وإصدار العملات الورقية المساعدة وأوراق البنكنوت(4). وأخيراً فإن هذه الجرائم ذات طبيعة تقوم على تغيير الحقيقة ، تلك الحقيقة التي تتمثل في القيمة الاسمية التي تحددها الدولة على وجه العملة المعدنية أو الورقية ، والتي تنتهك عن طريق محاكاتها أو تغيير البيانات الدالة على فئتها أو قيمتها مثلاً ، فهي من فصيلة جرائم التزوير دائماً ، فالتزييف من جرائم التزوير المضر بمصالح السلطة العمومية(5).
________________
[1]- القاضي فريد الزعبي ، المصدر السابق ، ص125.
2- نص على هذه الجرائم في القانون الالماني في القسم الخاص بالجنايات والجنح والمخلفات وعقابها في الباب الثالث عشر تحت عنوان الجنايات والجنح المتصلة بتزييف العملة في المواد من 126-152 . أنظر : د. حافظ غانم ، المصدر السابق ، ص74.
3- د. سامي خليل ، اقتصاديات النقود والبنوك ، شركة كاظمه ، الكويت 1982 ، ص33-35. و د. محمد زكي شافهي ، مقدمة في النقود والبنوك ، سنة 1962 ، ص25. انظر ايضاً د. محمد لبيب شقير ، النقود ، سنة 1956، ص32.
4- د. محمود محمود مصطفى ، قانون العقوبات ، القسم الخاص ، فقرة 6، ص12.
5- د. عادل غانم حافظ ، المصدر السابق ، ص81.
التزييف اعتداء على الثقة العامة :
مفهوم الثقة العامة
يقصد بالثقة العامة تلك الثقة التي يضعها المجتمع في مختلف المظاهر الضرورية لاستقرار العلاقة والروابط الاجتماعية ، هذه الثقة العامة لازمة لضمان وسلامة وصحة المظاهر والأشياء وصدق ما تحويه من أعمال ، لهذا تعتبر الثقة العامة في نظر القانون مصلحة جديرة بالحماية يعاقب من ينتهكها(1). ومن بينها العملة وقد استهدف بذلك حماية الثقة العامة باعتبار ان القانون لا يحمي الأشياء لذاتها ، وإنما في علاقتها بالإنسان ، وعلى ذلك فالثقة العامة هي التي استهدف حمايتها عندما عاقب على الكذب ، اعتداء على مظاهر الحقيقة والثقة اللازمة ، وهذه الحماية تتحقق بتجريم كثير من الوسائل كما هو الشأن في مجال تزييف العملة . وتركز أهمية العملة النقدية ، وخاصة الورقية لا على قيمتها الذاتية وإنما على وظيفتها المالية في كافة المجتمعات الإنسانية كوسيلة مستقرة للتعاطي والتعامل بمالها من قوة شرائية وحسابية فيقبل الناس بها ويقبلون عليها مدفوعين بعامل الأمانة والائتمان الذي توفره لهم في الاختزال والادخار ، واقتناء السلع والخدمات لسلامة تداولها في العالم ، وتحقيق أهداف إصدارها ووجودها ، وتشكل جرائم التزييف بالنهاية ضرب سلامة العملة وصحتها والعبث بها وتعريضها للخلل في فقدان دورها ، مما يؤدي إلى زعزعة الثقة المالية العامة بها ، المبنية على الحالة النفسية الشعورية لدى الأفراد والجماعات ، والى نشر التدهور والاضطراب في المعاملات المادية والأسواق التجارية والمؤسسات المصرفية غير كل الأخطار ، والى قيام فوضى وارتباك نتيجة اختلاط العملة المزورة بالعملة الصحيحة ، وهي واحدة والى امتناع الناس من الإقبال عليها ، مهما صدرت التطمينات المسؤولة عنها ، ومهما اتخذت التدابير الإعلامية والعملية خاصة ، إذا تعلق الشأن بالعملات وان القيمة العالمية في البورصة أو تلك المعتمدة دولياً اكثر من سواها ، أو تتناول الفئات التي تمثل سعراً عالياً ، وهي التي يستهدفها المزورون المجرمون بطبيعة الحال(2) ، ولقد انتقدت فكرة الثقة العامة ، من بعض الفقهاء باعتبارها فكرة غامضة وغير محددة ، ولذلك فهي لا ترقى إلى مرتبة المصلحة . غير انه لا يمكن إنكار قيمة الثقة العامة التي يعطيها عامة الناس ، في مكان وزمان معين ، لبعض الأشياء أو الأوراق أو الروابط ، وخصوصاً في العملة فهذه الثقة حقيقة واقعة وليست مجرد تصور فقهي ، فهذه الثقة لازمة لسير الحياة الاجتماعية في علاقاتها القانونية المختلفة(3)، كما يرى بعض الفقهاء بان العملة بما تتمتع به من مظاهر وعلامات تحمل في طياتها الثقة العامة أو الإقناع بدلالاتها على حقيقة معينة والثقة اللازمة في صحتها أياً كانت قيمتها في الإبراء أو قيمتها التجارية ، فهي لا تعدو أن تكون (علامة) للدولة ومن هنا يكمن السبب في تجريم تزييف العملة(4). أما الفقه الفرنسي الحديث يؤكد ان جرائم تزييف العملة من الجرائم التي تعتبر اعتداءاً خطيراً على الائتمان العام ، ويدلل على ذلك بان وضع كمية معقولة من العملة المزيفة في التداول يحدث آثاراً واضحة على مجموعة الاقتصاد ، الأمر الذي بدأ بشكل ملحوظ في الحرب العالمية الثانية حيث اغرق الألمان أسواق البلاد المعادية بالجنيهات الإسترلينية والدولارات الأمريكية المزيفة بهدف تحطيم اقتصاديات هذه الدول والإخلال بالثقة المالية فيها(5)، وفي الحقيقة ان سك وإصدار العملة ، ليس امتيازاً لسلطة شخصية لفرد أو لبعض الأشخاص ، وإنما هو امتيازاً للدولة لضمان مصالح الجماعة لتسهيل تداول الأموال ، وسواء أكانت هذه العملة وطنية أم أجنبية ، فهي محل لثقة الأزمة ، لما تتضمنه في ذاتها من مظاهر خارجية للصحة الثابتة ، تسهل لها صلاحيتها لأداء وظيفتها في التداول والائتمان ، وتثبيت العلاقات الاقتصادية . ومن ثم فان تزييف العملة يزعزع ثقة الجميع في صحة العملة ، وهذه الثقة العامة لازمة حتى تباشر العملة وظيفتها كأداة للتبادل(6). ولذلك يلاحظ أن بعض التشريعات قد اعتبرت جرائم تزييف العملة من الجرائم المضرة بالثقة العامة كالتشريع البلجيكي الصادر سنة 1867 ، حيث اعتبر ان فكرة تزييف العملة في القانون البلجيكي أساسها انه أينما كانت هناك سلطة سياسية منظمة فان هذه السلطة تحتفظ لنفسها وبحق ضرب العملة ، ويعتبر ذلك عملاً اجتماعياً ، ولذلك اعتبر المشرع البلجيكي هذه الجريمة موجهة ضد الثقة العامة منذ قانون 1867 والقوانين المعدلة له (الباب الثالث من الكتاب الثاني) . وكذلك التشريع الإيطالي لسنة 1930 . أما القانون النمساوي الصادر في 23 يناير 1974 فقد تناول جرائم تزييف العملة في باب أطلق عليه (الجرائم ضد استقرار المعاملات النقدية والقيم المنقولة والطوابع الرسمية ذات القيمة . أما القانون الألماني الصادر في 2 يناير عام 1975 فقد وضع نصوص تزييف العملة في الباب الثامن من القسم الخاص بعنوان (تقليد العملة والأوراق) ، وكذلك الشأن في القانون المصري فقد وضع أحكام تزييف العملة في باب لا يطلق عليه اسماً يحدد المصلحة القانونية محل الحماية وإنما جعل عنوانه المسكوكات والزيوف المزورة (7) . أما القانون العراقي فقد وضع أحكام تزييف العملة في الفصل الثاني من الباب الخامس (الجرائم المخلة بالثقة العامة) بعنوان تزييف العملة وأوراق النقد والسندات المالية.
_________________
[1]- د. محمد عيد الغريب ، الثقة العامة ومدى الحماية التي يبديها لها قانون العقوبات ، مجلة إدارة قضايا الحكومة ، العدد الثاني ، السنة الثامنة والعشرين ، أبريل ، يونيو ، 1984 ، ص9-10.
2- القاضي ، فريد الزعبي ، المرجع السابق ، ص124.
3- د. مأمون محمد سلامة ، قانون العقوبات – القسم الخاص- الجرائم المضرة بالمصلحة العامة ، 1981 م ، دار الفكر العربي ، ص305.
4- د. احمد فتحي سرور ، الجرائم المضرة بالمصلحة العامة ، الطبعة الأولى ، دار النهضة العربية ، 1963 ، 243 ، ص430 وما بعدها .
5- د. عادل حافظ غانم ، المصدر السابق ، ص66.
6- د. محمود محمود مصطفى ، شرح قانون العقوبات الخاص ، الطبعة السابعة ، 1975 رقم 74، ص117. و د. محمود نجيب حسني ، دروس في علم الإجرام والعقاب ، القاهرة ، 1982 رقم 233 ، ص208.
7- د. احمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص233 ، ص208.
التزييف اعتداء على الاقتصاد الوطني :
تتنوع الجرائم الاقتصادية من زمن إلى آخر ومن بلد إلى آخر ، بل من إقليم إلى آخر كما تختلف أنواع هذه الجرائم من نظام اقتصادي إلى نظام آخر . ففي الدول التي تطبق النظام الرأسمالي الذي يعتبر الربح هو الحافز الرئيسي للنشاطات الاقتصادية والحرية الاقتصادية هي الأساس الذي يبنى عليه هذا النظام نجد ان اغلب الجرائم الاقتصادية في هذا النظام هي الاحتكارات والسطو على المصارف والمحلات التجارية والتهرب من الضرائب والمماطلة في سداد الديون وتجارة الرقيق الأبيض وتجارة الأطفال وتلوث واختلاف توازنها . أما في البلدان التي تطبق النظام الاشتراكي القائم على احتكار الدولة للنشاطات الاقتصادية فان اغلب الجرائم الاقتصادية هي الرشوة والاختلاس والسوق السوداء. وهناك جرائم متعددة أخرى تنتشر في معظم دول النظامين الرأسمالي والاشتراكي مثل تجارة المخدرات وتزييف العملة النقدية وجرائم الشيكات والغش والتدليس والسرقات والنصب والاحتيال(1). ويعتمد عالم اليوم سياسة اقتصادية مشتركة على أعلى المستويات يستند ليس فقط إلى تبادل السلع والوسائل والاعتمادات ، وإنما أيضاً على النقد المتداول ، وقد تترتب على أفعال التزييف آثار بالغة في الميزان الاقتصادي الدولي بأكمله الذي يتوقف نموه وازدهاره على الائتمان الموحد في قوة العملات السارية ومتانتها كعمليات الهبوط أو الارتفاع المفاجئة في الأسواق العالمية والإقليمية والمحلية بالنسبة إلى بعض العملات والاختلالات في أنظمة الإنتاج والاستهلاك والاستيراد والتصدير ، ومن ثم تدهور الأوضاع الاقتصادية الذي لا يقتصر على بلد واحد بل على عدة بلدان أصبحت تربط غالبيتها في الوقت الحاضر نوع من الاندماج والاتحاد ، الأمر الذي يجعل من تزييف العملة اشد الجرائم الاقتصادية الدولية خطورة وجسامة(2).
تعريف الجرائم الاقتصادية
بالرغم من مضي وقت ليس بالقصير على ظهور فكرة الجريمة الاقتصادية والا انه لا يوجد حتى الآن اتفاق على تعريف محدد لهذه الجريمة إلى انه يمكن القول ان هناك تعاريف مختلفة للجريمة الاقتصادية نسوقها على النحو الآتي :
يرى البعض أن الجريمة الاقتصادية هي : كل سلوك يؤثر بالاقتصاد الوطني بصفة عامة مثل جرائم اختلاس المال العام وجرائم تزييف العملة وجرائم التهرب الجمركي .
يرى آخرون أن الجريمة الاقتصادية هي كل امتناع من شانه المساس بسلامة البنيان الاقتصادي كما تعبر عنه القواعد الآمرة للنظام الاقتصادي المشمولة بالجزاء الجنائي(3).
ويعرف الدكتور فخري عبد الرزاق الحديثي الجريمة الاقتصادية : بأنها كل فعل غير مشروع مضر بالاقتصاد القومي ، إذا نص على تجريمه في قانون العقوبات وفي القوانين الخاصة بخطط التنمية الاقتصادية الصادرة من السلطة المختصة (4).
هناك تعريف آخر يرى أن الجريمة الاقتصادية هي الجريمة الموجهة ضد إدارة الاقتصاد فقط المتمثلة في القانون الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية أو كليهما معاً (5). ولذلك فان أي فعل يتطاول بشكل أو بآخر على مجال من النشاط الاقتصادي للدولة أو يسبب ضرراً للنظام الاقتصادي يعد جريمة اقتصادية من حيث تعلقها بالموضوع المباشر للجريمة ، وقد يقال عن بعض الجرائم الاقتصادية بأنها جريمة طارئة أو ظرفية ذات طبيعة عارضة ، يقصد بالنص عليها نجاح سياسة اقتصادية معينة طبقاً لخطة زمنية محددة كالجرائم المنصوص عليها في قوانين الرقابة على النقد. ولكن هذا القول مردود ، إذ أن هذه الجرائم في محصلتها النهائية تمس السياسة الاقتصادية ولذلك فهي كثيراً ما تستقل بأحكام تميزها من أحكام القانون العام(6). هناك من الفقهاء(7) من يعتبر جرائم تزييف العملة من الجرائم الاقتصادية التقليدية ، ذلك ان سك العملة وإصدارها يعتبر في أي نظام من سلطات الدولة المقصورة عليها وحدها ، وحماية اقتصاد الدولة يقضي تجريم الأفعال التي تؤدي إلى المساس بمركز العملة المتداولة والثقة فيها ، فتزييف العملة يعتبر اذن جريمة تهدد اقتصاد الدولة . لذلك فان هذه الجرائم ، تعتبر من الجرائم الاقتصادية التي توجد في قانون أي دولة دون النظر إلى طبيعة النظام السياسي والاجتماعي القائم في دولة هذا القانون ، إذ أن حماية اقتصاد الدولة من الوظائف الأساسية التي تضطلع بها الدول قديماً وحديثاً بمختلف اتجاهاتها الفكرية(8). لذلك فان الجرائم الاقتصادية هي من جرائم الخطر الذي يسبق تحقيق الضرر ، وان فكرة الخطر الذي يميز الجرائم موضوع البحث يتعلق بلحظة تمام النشاط الإجرامي ، دون أن يتوقف ذلك على إلحاق ضرر فعلي بمصلحة معينة والعنصر الموضوعي في جرائم الخطر لا يختلف عنه في الجرائم الأخرى ، إذ يتطلب سلوكاً إنسانياً ونتيجة ذات طبيعة خاصة ، ورابطة سببية تربط بينهما ، وقد يترتب على السلوك في تلك الجرائم تهديد مباشر لمصلحة معينة بالضرر ، كما في جرائم تزييف العملة(9).
وقد حظيت الجرائم الاقتصادية بالاهتمام الكبير نظراً إلى ارتباطها بالنظام الاقتصادي في البلد ولمساسها بالمصالح والحاجات المادية والمالية للأفراد فمن الناحية القانونية بدأت الاهتمامات بالجرائم الاقتصادية من خلال التوسع بالنصوص التي تعالج السلوك المنحرف ومظاهره المختلفة في المجال الاقتصادي ، وهذا مبدأ يتوسع به قانون العقوبات بتخصيص مواد قانونية كثيرة لمختلف الجرائم ، في حين نجد ان بعض الدول راحت تفرد لهذه الجرائم قانوناً خاصاً بالجرائم الاقتصادية . وكذلك تفرض بعض القوانين أو التشريعات جزاءات إدارية ، فضلاً عن العقوبات الجنائية ، وكذلك هناك بعض القوانين التي تأخذ بالصيغة الازدواجية للجرائم الاقتصادية ، مثل القانون السوفيتي الملغي واليوغسلافي الملغي والألماني(10). وفي هذا الصدد يعتبر القانون السوفيتي الملغي هذه المجموعة من الجرائم تمثل خطورة اجتماعية كبيرة لأنها تشكل تهديداً على الأسس لإدارة الدولة أو النشاط الاقتصادي للدولة السوفيتية ، ومن ثم تعد من جرائم التخريب الاقتصادي(11). أما الموقف في العراق ، فنجد المادة (15) من الدستور المؤقت لعام 1970 نصت على ما يأتي : (للأموال العامة وممتلكات النظام العام حرمة خاصة ، على الدولة وجميع أفراد الشعب صيانتها والسهر على أمنها وحمايتها ، وكل تخريب فيها او عدوان عليها ن يعتبر تخريباً في كيان المجتمع وعدواناً عليه . ولقد انطلق المشرع العراقي في تحديد الجريمة الاقتصادية من المعنى العام والواسع الذي تمثله هذه الجريمة ، وقد قدم قانون إصلاح النظام القانوني المرقم (35) لسنة 1977 تعريفاً واسعاً أكد فيه ان الجرائم الاقتصادية هي (الانتهاكات التي تمس الملكية العامة والتعاونية ووسائل الإنتاج وتنظيم الإنتاج الصناعي والزراعي وقواعد توزيع الخدمات وسوء استخدام الصلاحيات الممنوحة أو صرفها بشكل يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الوطني ويحقق منفعة شخصية غير مشروعة(12) . ومن هذا التعريف نلاحظ أن المشرع العراقي قد وسع مفهوم الجريمة الاقتصادية لتشمل كل قطاعات أو فروع الاقتصاد الوطني وبناء عليه فالجريمة الاقتصادية يمكن إن تكون :
– أي فعل أو امتناع عن فعل ينتهك الملكية العامة أو التعاونية .
– أي فعل أو امتناع عن فعل ينتهك تنظيم الإنتاج الصناعي والزراعي .
– أي فعل أو امتناع عن فعل يخل بقواعد التوزيع للخدمات والسلع .
– أي فعل أو امتناع عن فعل يسيء استخدام المنصب أو السلطة أو الصلاحيات .
وفي كل هذه الحالات هناك نتيجتان أساسيتان هما : الإضرار بالاقتصاد الوطني وتحقيق منفعة شخصية غير مشروعة . وعلى ضوء هذا التعريف الواسع يمكن ملاحظة إن المشرع العراقي كان ينطلق من الاتجاهات العامة للدولة في التوسع في البناء الاشتراكي والملكية العامة والتعاونية وزيادة دورها في إدارة الاقتصاد الوطني وتوجيهه ومن ثم يكون من الضروري زيادة نطاق التجريم الاقتصادي ، بما يتلاءم مع حاجات الدولة في حماية الملكية العامة ودورها الاقتصادي والاتجاهات الأساسية في تطوير الاقتصاد الوطني(13). ولهذا فان الجرائم الاقتصادية بما فيها تزييف العملة ، لا تهدد السياسة الاقتصادية فحسب ، بل تهدد النظام السياسي فيه أيضاً ، خصوصاً في الدول الاشتراكية والسائرة في طريقة الاشتراكية لأن أسس النظام الاشتراكي كما هو معلوم تملك الدولة وسائل الإنتاج وتوليها إدارة النشاط الاقتصادي ، لذلك فان المشرع العراقي الحديث قد اتجه إلى التشديد في مواجهة الجرائم الاقتصادية(14).
ولذلك فان الفقه الجنائي والاقتصادي يرى في جرائم تزييف العملة أن لها أصداء اقتصادية من حيث تأثيرها بشكل مباشر على الاقتصاد كهبوط سعر العملة أو زعزعة الائتمان في الأسواق ، أو حصول التضخم ، كما ان تزيف العملة يهدد النظام الاقتصادي بأكمله ، حيث يتوقف نموه على أمن التداول النقدي إذا كان تزييف العملة يحرم لتامين الثقة بالعملة ، حتى تؤدي وظائفها لان النظام النقدي بوجه عام وفي أية دولة إنما يقوم على الثقة(16).
______________
[1]- د. احمد محسن عبد الحميد ، الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجريمة المنظمة عبر الدول ومحاولات واجهتها اقليمياً ودولياً ، ص87-89.
د. خلف الشمري ، الجرائم الاقتصادية من منظور الاقتصاد الإسلامي ، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب ، السنة 12 المجلد 12 ، العدد 23 ، محرم 1418هـ ، ص5-55.
2- القاضي فريد الزعبي ، المصدر السابق، ص125.
3- د. خيال محمد وجيه ، صور الجرائم الاقتصادي في النظام الجنائي السعودي ، مجلة الأمن ، العدد الثامن من رمضان 1414 هـ ، ص13.
4- د. فخري عبد الرزاق الحديثي ، قانون العقوبات – الجرائم الاقتصادية – ، مطبعة جامعة بغداد، 1980 –1981 ، ص9.
5- د. عبد الرؤوف مهدي ، المسؤولية الجنائية عن الجرائم الاقتصادية ، القاهرة ، 1976 ، ص78.
6- انظر العميد د. عادل حافظ غانم ، تقييم العقوبات في قوانين الرقابة على النقد ، مجلة الأمن العام المصرية ، ع45 ، 1969 ، ص33.
7- د. جمال العطيفي ، فكرة الجريمة الاقتصادية ، من بحوث الحلقة العربية الأفريقية للدفاع الاجتماعي ، القاهرة ، 1960 ، ص4.
8- انظر د. ضاري خليل محمود ، محاولة للكشف عن دور المشرع في الوقاية من الجرائم الناجمة عن النمو الاقتصادي ، سلسلة الدفاع الاجتماعي ، 74 ، 1987 ، الرباط ، ص170.
9- الأستاذ حسن سعيد عداي ، المصدر السابق ، ص32.
0[1]- د. آمال عبدالرحيم عثمان ، قانون العقوبات الخاص في جرائم التموين ، دار النهضة العربية ، 1969 ، ص 41-48.
1[1]- د. صالح مهدي العبيدي ، تعريب القانون الجنائي السوفيتي ، القسم الخاص ، 1984 ، ص 55.
2[1]- قانون إصلاح النظام القانوني رقم (35) لسنة 1977 ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1979 ، ص 72.
3[1]- د. نجم عبود نجم ، الجرائم الاقتصادية والعقوبة قصيرة المدة واتجاهات العقوبة في العراق ، مجلة البحوث الاجتماعية والجنائية ، العد الأول ، السنة الثالثة عشر ، بغداد ، حزيران ، 1986، ص116-117.
4[1]- د. فخري عبد الرزاق الحديثي ، قانون العقوبات – الجرائم الاقتصادية ، بغداد ، 1987 ، ص86.
5[1]- د. محمد علي الجاسم ، الاقتصاد الدولي – الكتاب الأول – التبادل ، جامعة بغداد ، 1975 ، ص87.
المؤلف : نجيب محمد سعيد الصلوي
الكتاب أو المصدر : الحماية الجزائية للعملة
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً