تطور اللامركزية الإدارية (فرنسا والجزائر نموذجا)
كاهنة شاطري جامعة مولود معمري –تيزي وزو- الجزائر
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
ملخّص
تعد اللامركزية أحد الآليات الضرورية التي يجب أن تقوم عليها النظم الديمقراطية الحديثة، كونها أساس قياس الحكم الراشد في الدّول، بحيث أضحى من الصعب على الدّولة لوحدها (النظام المركزي المتشدد)، على استيعاب مجمل متطلبات وتطلعات المواطنين، ومن هنا، تشغل اللامركزية المجال العام بين الدولة والمواطنين، وتكمن أهميتها انطلاقا من أنّها تهدف إلى إشراك المواطنين في عملية التنمية المحلية، كما وتمنح الفرد فرصة المساهمة في اختيار أسلوب وكيفية تسيير الجماعة الإقليمية، مع العلم أنّ درجة الأخذ باللامركزية يختلف من دولة إلى أخرى، وسنتطرق في بحثنا هذا إلى تطور اللامركزية في كل من النموذجين الفرنسي والجزائري، نظرا لأنّ الأخير أخذ بالنموذج الأول، مع التركيز على تقييم اللامركزية في النّموذج الجزائري.
مقدّمة
يستدعي ارساء الديمقراطيات الحديثة، مجموعة من الأسايب والمقاربات، ومن بينها تبني النظام اللامركزي، بهدف تنويع اقترابات وسبل تحقيق التنمية المحلية في الدول، بين الدّور الوحيد والمركزي للدّولة في تحقيق التنمية، واقتراب المشاركة المجتمعية، إلى جانب الحكومة بوسائل تمويل مستقلة للمساهمة إلى جانبها في تحقيق التنمية المجتمعية في ظل: المساءلة، النّزاهة والشفافية، بدل من أن تكون الحكومة المركزية الطرف المهيمين في إدارة شؤون الدّولة والمجتمع وصنع السياسية العامة وحدها، مما يُنتج خطط تنتموية بعيدة عن تطلعات المواطنين.
منه، تعمل اللامركزية على تحقيق جملة من المزايا منها: المشاركة الشعبية الواسعة وتمكين الشعب من تسيير شؤونه عن طريق ممثليه في المجالس المنتخبة، بالإضافة إلى تقريب الادارة من المواطن، والأهم من كل ذلك إشراك المواطنين في عملية التنمية المحلية، وتحقيق التوازن بين المطالب الشعبية والسياسات الحكومية.
بالتالي، بات الاهتمام بتفعيل ونشر تطبيقات اللامركزية، الموضوع الأكثر أولوية في أجندة التنمية بالنسبة للدول المتقدمة والنامية معا، خاصة أنّ تجسيد التنمية الشاملة تتطلب مشاركة حقيقية من قبل الجماعات المحلية التي يستند وجودها إلى إطار قانوني يتحدّد حسب كل دولة، وقد حظيت اللامركزية بمكانة مهمة من خلال تطبيقاتها، سواء في الضفة الشمالية للمتوسط (فرنسا)، أو الضفة الجنوبية له (الجزائر)، مستندة في تطورها وتنظيمها الى مجموعة من القوانين لتحديد صلاحياتها واختصاصاتها.
وعلى ضوء ما سبق نطرح الإشكالية التالية:
ماهي مراحل التطور القانوني للامركزية في كل من فرنسا والجزائر؟ وهل يمكن الحديث عن استقلالية الجماعات المحلية في حدود الصلاحيات التي تتمتع بها للقيام بالأدوار التنموية المرجوة؟
الفرضية
كلما كان هناك شراكة حقيقية بين السلطات المركزية والجماعات المحلية، تعزّزت سبل خدمة الصالح العام وترسيخ التنمية المستدامة.
المحور الأول: ضبط مفاهيمي
يعد الضبط المفاهيمي للمصطلحات أساس كل بحث علمي، وعليه ارتأينا في البداية تحديد مجموعة من المفاهيم المفتاحية:
تعريف اللامركزية
يمكن تعريف النظام اللامركزي بأنّه: “ذلك النّظام الذي يقوم على أساس تفتيت وتوزيع سلطات الوظيفة الإدارية في الدّولة بين الإدارة المركزية (الحكومة) من جهة، وبين هيئات ووحدات إدارية أخرى مستقلة ومتخصصة على أساس إقليمي جغرافي من ناحية، وعلى أساس فني موضوعي (مصلحي) من ناحية أخرى، مع وجود رقابة وصائية إدارية على هذه الوحدات والهيئات اللامركزية لضمان وحدة الدّولة السياسية والدستورية والوطنية، ولضمان نجاح عملية التنسيق بين رسم السياسة العامة والخطط الوطنية وبين عملية تنفيذها وإنجازها”[1].
كما يُعرّفها الدكتور “سامي جمال الدين” على أنّها: “توزيع الوظيفة الإدارية بين أجهزة الحكم المركزية وأشخاص معنوية أخرى”[2].
عرف نظام اللامركزية تعريفات عديدة وصياغات مختلفة، ولكنّها تجتمع وتلتقي عند حقيقة حصر أهميته كأسلوب من أساليب توزيع سلطة الوظيفة الإدارية للنظام الإداري السائد في الدّولة، إذن، اللامركزية هي تفتيت وتقسيم الوظائف والمهام بين السلطات الحكومية والهيئات الاقليمية الأخرى لتجسيد وتنفيذ خطط تنموية تعتمد على محورية اشراك المواطنين.
مفهوم الجماعات المحلية
هي عبارة عن مجموعة من السكان يقطنون حدودا ترابية معينة من خريطة الدّولة، يتميّزون بخصائص محدّدة وبقيم اجتماعية، لها علاقة بالعادات والتقاليد التي تعزّزها الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للجماعة التي تنتخب من بين أعضائها من يمثّلها في المجلس الجماعي الذي يشرف على تنظيم الشؤون العامة للجماعة، وتساعد المواطنين على تنظيم شؤونهم الخاصة، كما يعمل على إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية من أجل النهوض بالجماعة على جميع المستويات في إطار التنسيق مع الإقليم وعلى المستوى الوطني[3].
مفهوم التنمية المحلية
ظهر مفهوم التنمية المحلية بعد ازدياد الاهتمام بالمجتمعات المحلية لكونها وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة على المستوى القطري، فالجهود الذاتية والمشاركة الشعبية لا تقل أهمية عن الجهود الحكومية في تحقيق التنمية، عبر مساهمة السكان في وضع وتنفيذ مشروعات التنمية، مما يستوجب تضافر الجهود المحلية الذاتية والجهود الحكومية لتحسين نوعية الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والحضارية للمجتمعات المحلية، ويقوم مفهوم التنمية المحلية على العناصر التالية[4]:
المشاركة الشعبية في جهود التنمية المحلية، والتي تقود إلى مشاركة السكان في جميع المبذولة لتحسين مستوى معيشتهم ونوعية التي يعيشونها معتمدين على مبادراتهم الذاتية.
توفير مختلف الخدمات ومشروعات التنمية المحلية بأسلوب يشجّع الاعتماد على النّفس والمشاركة.
أمّا من حيث الأهداف المرجوة منها فإنّ التنمية المحلية تهدف إلى الاتي:
تطوير عناصر البنية الأساسية كالنقل والكهرباء والمياه، حيث يعتبر النهوض بهذه القطاعات أساسا لعملية التنمية ولتطوير المجتمع المحلي.
زيادة التعاون والمشاركة بين السكان، مما يساعد على نقل المواطنين من حالة اللامبالاة إلى حالة المشاركة الفاعلة.
زيادة حرص المواطنين على المحافظة على المشروعات التي يساهمون في تخطيطها وتنفيذها
تعمّق التنمية المحلية من مبدأ المشاركة في التنمية بهدف تحقيق ديمقراطية التنمية المحلية، فمنطلق التنمية المحلية إذن هو تبني مبدأ البناء من الأسفل، بأن نجعل من تنمية الجماعات المحلية نقطة الانطلاق الأساسية لتنمية المجتمع ككل.
مفهوم الاستقلالية المحلية
عرّفت الاستقلالية المحلية على أنّها حق الوحدات المحلية في القيام بنوع من الاختيار أو المبادرة، كما عُرّفت على أنّها: “حق الجماعات المحلية في اتّخاذ القرارات والقيام بالمبادرات المحلية للنهوض باختصاصاتها المحدّدة بمقتضى القوانين والتنظيمات تحت اشراف وتوجيه السلطة الوصية”[5].
كما عرّفها الفقيهين “ماسيتول” و “لاروك” على أنّها:”الاستقلالية القائمة على تمتع الوحدات المحلية بالشخصية المعنوية وباختصاصات تباشرها بنفسها”[6].
مفهوم الرقابة
الرقابة هي الوجه المقابل للاستقلالية، ولذلك فإنّ الاستقلال جزئي ونسبي[7]:
جزئي: لا يتعلق إلا بوظيفة واحدة من وظائف الدولة وهي الوظيفة التنفيذية، أما الوظائف التشريعية والقضائية فتبقى في ظل اللامركزية الاقليمية مركّزة في العاصمة، وهذا هو ما يميّز اللامركزية الإدارية واللامركزية السياسية.
نسبي: لأنّ الجماعات المحلية تخضع بمناسبة ممارستها لوظائفها التنفيذية المخولة إليها إلى رقابة تمارس على مستوى عمالها، هيئاتها وأعمالها، وهي رقابة متعدّدة.
المحور الثاني: أركان اللامركزية الإدارية ومبررات قيام النظام اللامركزي وأبعاده
تقوم اللامركزية الادارية على العديد من العناصر والأركان يمكن اعتبارها كشروط لقيام النّظام اللامركزي، مثلما توجد مجموعة من الدوافع التي على أساسها يتم اللجوء إلى اللامركزية، وهو ما سنبينه فيما يلي.
أركان اللامركزية الادارية
يتحقق وجود وإقامة النظام الإداري اللامركزي بوجود وتوفر أركانه ومقوماته الأساسية التالية:
أوّلا: منح الشخصية المعنوية لجزء من إقليم الدّولة
ينص القانون في اللامركزية على منح الشخصية المعنوية لجزء من إقليم الدّولة الأمر الذي يترتب عليه النتيجتين الآتيتين:
الإعتراف بوجود مرافق عامة محلية متميزة عن المرافق العامة الوطنية: إنّ وجود مرافق عامة محلية تخص سكان جزء من إقليم الدّولة، باعث أساسي لتطبيق النظام اللامركزي الإداري لأنّه هناك مرافق عامة تقدّم خدمات إلى السكان المحليين، لا يمكن أن تقوم بعملها بالشكل المطلوب إلا إذا كانت بين السكان المحليين الذين يعرفون احتياجاتهم أكثر من السلطة المركزية، كمرفق تجهيز الكهرباء ومرفق تجهيز الماء ومرفق الصحة، أما فيما يخص الجهة التي تحدد المرافق المحلية، هي السلطة التشريعية[8].
استقلال الهيئات المحلية عن السلطة المركزية: إنّ استقلال الهيئات المحلية عن السلطة المركزية هو نتيجة طبيعية لمنح هذه الهيئات الشخصية المعنوية، فالنتائج المترتبة عن منح الشخصية المعنوية العامة هو استقلال هذه الشخصية بذمتها المالية عن السلطة المركزية واستقلالها بالمسؤولية ومشاركة السلطة المركزية بجزء من سلطتها.
ومدى استقلال الهيئات المحلية ليست مطلقة بل نسبية، إذ أنّ هذا الاستقلال يمكن أن يكون واسعا، ويمكن أن يكون محدودا ويمكن أن يكون بينهما، وذلك راجع إلى عوامل عدّة أبرزها:
كيفية اختيار أعضاء الهيئات المحلية: إنّ طريقة اختيار أعضاء الهيئات المحلية لها أثرها الكبير على استقلال هؤولاء الأعضاء، وهنالك طريقتان لاختيار أعضاء الهيئات المحلية، وهي طريقة الانتخاب وطريقة التعيين، فقد تكون المجالس المحلية ورؤسائها ورؤساء الوحدات الإدارية كلّهم منتخبين، أو يكون جزء منهم منتخب وجزء آخر معيّن. وعليه فاستقلال الهيئات المحلية عند الكثير من الفقهاء مرتبط بعدد الأعضاء المنتخبين وعدد الأعضاء المعينين، فكلّما زاد عدد الأعضاء المنتخبين، كانت الهيئات المحلية أكثر استقلالا عن السلطة المركزية، ويقل هذا الاستقلال كلما ازداد عدد الأعضاء المعينين، بحيث هناك فريق من الفقهاء من يرى في أسلوب الانتخاب هو ركن من أركان اللامركزية الإدارية الإقليمية[9].
الوصاية الإدارية أو الرقابة الإدارية: إنّ حصول الهيئات المحلية على الشخصية المعنوية ينتج عنه استقلال هذه الهيئات عن السلطة التنفيذية أو ما يطلق عليه بالسلطة الإدارية المركزية، وذلك عندما تمارس النشاط الاداري، لكن هذا لا يعني الانفصال عن هذه السلطة، وإنّما هو استقلال بجزء من الاختصاصات في مجال الوظيفة الإدارية، وتبقى السلطة المركزية هي مسؤولة دستوريا بشكل نهائي عن الوظيفة الإدارية في جميع إقليم الدولة، أي أنّها المسؤولة عن سير المرافق العامة في الدّولة بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك فإنّ منح الشخصية المعنوية لوحدات إقليمية لا يؤدي إلى إعفاء السلطة الإدارية المركزية بشكل نهائي عن أداء المرافق العامة المحلية، وعليه فإنّه يجب أن تراقب سير المرافق العامة في كل إقليم الدولة. إضافة إلى ذلك، فالسلطة المركزية مسؤولة عن مراقبة عدم خرق القانون من قبل الهيئات المحلية، لذل فإنّ الوصاية الإدارية هي رقابة السلطة الإدارية المركزية على الهيئات المحلية من الناحية الفنية ومن الناحية القانونية، إضافة إلى أنّها ضمان لوحدة الدولة[10].
ثانيا: توزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة التنفيذية والأشخاص المعنوية العامة الإقليمية
يكفي وجود الشخصية المعنوية لتمييز اللامركزية الإدارية عن المركزية الإدارية، إذ أنّ الأخيرة تختلف عن الأولى بعدم وجود الشخصية المعنوية، وهو معيار التفرقة بين هاذين النظامين الإداريين، وأنّ معيار التمييز بين اللامركزية الإدارية واللامركزية الفيدرالية، يتمثّل في كون اللامركزية الإدارية تعني توزيع للوظيفة الإدارية بين السلطة التنفيذية وأجزاء من إقليم الدّولة، أما اللامركزية السياسية أو الفيدرالية فهي توزيع للسلطات العامة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بين السلطة المركزية وأجزاء من إقليم الدّولة[11].
وعليه، يجب أن يتوفر في النظام الإداري اللامركزي ركن أساسي وهو تفتيت سلطات وامتيازات الوظيفة الإدارية في الدولة وتوزيعها بين الهيئات والسلطات الإدارية المركزية والهيئات والسلطات الإدارية اللامركزية، ويتم ذلك عن طريق إقامة وتكوين إدارة ذاتية مستقلة عن السلطات والوحدات الإدارية المركزية لتقوم بإدارة وتنظيم و تسيير مجموعة المصالح المشتركة والمترابطة-الإقليمية الجهوية أو المصلحية الفنية، ويتم هذا بواسطة وجود نظام قانوني[12].
إذن، تقوم اللامركزية على أساس مجموعة من المقومات، التي يتم على أساسها الحكم على نجاعة النظام اللامركزي، وهي التمتع بالشخصية المعنوية من ناحية، وتفتيت سلطات الوظيفية الادارية في الدولة وتوزيعها بين السلطة التنفيذية والأشخاص المعنوية العامة الإقليمية من ناحية أخرى، وأي خلل يحدث في الركنين، فنحن أمام إشكالية حول حقيقة وجود نظام لامركزي في بلد ما.
مبررات قيام النظام اللامركزي وأبعاده
يقف وراء قيام دولة ما بتبني النظام اللامركزي جملة من الدوافع، والعديد من الأبعاد والأهداف لتحقيق الأهداف المرجوة.
أولا: مبررات وأسباب قيام النظام الإداري اللامركزي
سبق تقرير وتأكيد حقيقة حتمية الجمع بين أسلوبي النظام الإداري المركزي والنظام الإداري اللامركزي، وتطبيقهما معا في الدولة الحديثة، نظرا لأنّهما أسلوبان وعنصران متكاملان ومتساندان في أسسهما وأهدافهما.
ومن ثم كان النظام الإداري المركزي كأسلوب من أساليب تنظيم سلطة الوظيفة الإدارية، أسلوب عاجز وناقص في تنظيم وتوزيع وتقسيم سلطة الوظيفة الإدارية في الدّولة، فكان من الحتمي إقامة وتطبيق النظام اللامركزي ليكمل ويساعد السلطة المركزية في تنظيم نظام الدولة. فكان لأسلوب النظام اللامركزي في الدولة الحديثة أسسه ومبرراته الإيديولوجية والدستورية والسياسية والاجتماعية والفنية، التي تؤسسه وتدعم وجوده في أي نظام من التنظيمات الإدارية السائدة في الدولة الحديثة، ومن أبرز مبررات قيام النظام اللامركزي، ما يلي:
يعتبر نظام اللامركزية الإدارية الوسيلة القانونية والفنية التي تجسّد مبدأ الديمقراطية[13].
يعتبر نظام اللامركزية الوسيلة القانونية والفنية المثلى لانجاز تطبيق مبادئ النظام الاشتراكي في الدولة الاشتراكية، ومبدأ مركزية مثل الجزائر –مبدأ الديمقراطية الاشتراكية-، ومبدأ مركزية التخطيط ولامركزية التنفيذ، ومبدأ الديمقراطية المركزية.
يعدّ أسلوب اللامركزية الإدارية وسيلة فنية عملية ناجعة لتوعية وتكوين الجماهير والمواطنين سياسيا واجتماعيا، وتكوين وتربية الروح والأخلاقيات الديمقراطية لديهم عن طريق ممارسة حق المشاركة في تنظيم وتسيير إدارة شؤونهم العامة على مستوى الهيئات والجماعات المحلية اللامركزية.
إنّ أسلوب اللامركزية وسيلة قانونية وفنية لتفتيت وتوزيع سلطة الوظيفة الإدارية في الدّولة بين السلطات الإدارية المركزية والسلطات الادارية المحلية اللامركزية.
يؤدّي تطبيق اللامركزية إلى تفجير قوى الابداع والابتكار والانتاج لدى القواعد العريضة لجماهير ومواطني الدّولة، فاللامركزية تحرّك وتفجّر عبقرية الزمان والمكان في الدّولة.
يصطدم التصور لدور الجماعات المحلية كأطراف حصرية للتعاون اللامركزي بتنوع التنظيمات الإدارية للدول المختلفة، وتخلّفها في الدّول النامية المستقلة حديثا.
ثانيا: أبعاد النّظام اللامركزي
للامركزية أبعاد عديدة، أهمها[14]:
البعد المكاني: ويُقصد به تشكيل الوحدات الجغرافية اللامركزية، فإذا تم ذلك بموجب الدّستور تكون اللامركزية قوية، وإذا حصل ذلك وفق قانون تكون اللامركزية متوسطة، أمّا إذا تشكلت هذه الوحدات بموجب قرار إداري فتكون اللامركزية ضعيفة.
البعد التنظيمي: ويعني مدى استقلالية الوحدات الادارية المحلية في وضع نظامها الدّاخلي، فإذا كانت هذه الوحدات تتمتع في ذلك بالاستقلال الكافي، تكون اللامركزية قوية، وإذا ما قامت الحكومة بتحديد إطار عام للنظام الداخلي للسلطات المحلية فتكون اللامركزية متوسطة، وإذا وضعت الحكومة المركزية النظام الداخلي للوحدات الادارية المحلية أو حدّدت تعليمات تفصيلية لهذه الغاية فتكون اللامركزية ضعيفة.
البعد المؤسسي: إذا توفرت للوحدات الادارية المحلية البناء المؤسسي المعتاد للحكومات من برلمان وقضاء مستقل، فتكون اللامركزية قوية، وإذا توفرت جميع المؤسسات باستثناء القضاء وبعض المؤسسات الأخرى فتكون اللامركزية متوسطة، إذا كانت الإدارات المحلية مجرّد سلطة إدارية عندئذ تكون اللامركزية ضعيفة.
تعيين المسؤولين: إذا كان تعيين المسؤولين في الوحدات الادارية المحلية يتم بواسطة الانتخاب من قبل السكان تكون اللامركزية قوية، وإذا تم تعيين المسؤولين في هذه الإدارات بموافقة السلطة المركزية فتكون اللامركزية عندئذ متوسطة، وفي حالة تعيين المسؤولين من قبل الحكومة المركزية تكون اللامركزية ضعيفة.
صلاحية التشريع: إذا تمتعت الوحدات الادارية المحلية بصلاحية التشريع كاملة في جوانب معيّنة تكون اللامركزية قوية، وإذا كانت صلاحية التشريع في جوانب معينة موزعة ما بين الإدارة المحلية والسلطة المركزية فتكون اللامركزية متوسطة، وفي حالة عدم امتلاك الوحدات الادارية المحلية لأي سلطة تشريعية تكون اللامركزية ضعيفة.
فرض وجمع الضرائب: إذا كانت من صلاحيات الوحدات الادارية المحلية استيفاء ضرائب الدولة المختلفة في المناطق التي تمارس فيها صلاحياتها تكون اللامركزية قوية، أما إذا اقتصرت صلاحياتها في هذا المجال على استيفاء الضرائب المحلية فتكون اللامركزية متوسطة، وإذا لم تمتلك هذه الوحدات أي صلاحيات في استيفاء الضرائب تكون اللامركزية ضعيفة.
صلاحية الإنفاق: وهو تمتع الوحدات الادارية المحلية باستقلالية في الصرف وبدون شروط.
تمثيل المصالح المحلية على المستوى الوطني: إذا كانت المصالح الإقليمية المحلية ممثلة بمؤسسات على المستوى الوطني، مثلا في مجالس برلمانية تكون اللامركزية قوية، وإذا اقتصر تمثيل المصالح المحلية على المستوى الوطني بشخص أو أكثر تكون اللامركزية متوسطة، وإذا غاب الشرطان تكون اللامركزية ضعيفة.
المحور الثالث: تطور اللامركزية في الجزائر وفرنسا
عرف تطور اللامركزية العديد من المراحل، سواء في النموذج الفرنسي الذي كرس نظام الادارة المحلية عبر العديد من الفترات، أمّا من ناحية التأطير القانوني للامركزية الفرنسية، فبدأ مع دستور 1958 وصولا إلى قانون 2 مارس 1982، وهو أول قانون مؤسس للامركزية (تدشين اللامركزية)، أما اللامركزية في الجزائر فقد ورثت الكثير من الإدارة الفرنسية، اما ترسيخ اللامركزية بعد الاستقلال، جاء بعد الإصلاح في المجال التشريعي، الذي كرسه دستور1963.
تطور الامركزية في فرنسا
من ناحية نشأة نظام الإدارة المحلية في فرنسا، يمتد إلى ما قبل الثورة الفرنسية 1789، حيث كان هناك برلمانات إقليمية تقوم بسن التشريعات المحلية وجباية بعض الضرائب وفض النزاعات، وأعضائها ينتخبون مباشرة من الشعب، وعليه فسلطات الحكم قبل الثورة الفرنسية كانت مركزة في يد الملك حيث ساد نظام الملك، ولقد حلت هذه البرلمانات بمجرّد ممارستها للسيطرة الرجعية، ويمكن تلخيص أهم تحولات هذه المرحلة في[15]:
الإدارة القاضية Administration juge: تأكيدا لاتجاه الثورة الفرنسية في الفصل بين السلطات، صدر قانون 16-24 أوت 1790، الذي نص على إلغاء المحاكم القضائية (البرلمانات)، وإنشاء ما يسمى بالإدارة القاضية أو الوزير القاضي، ومهمته استقبال شكاوي المواطنين.
انشاء مجلس الدولة الفرنسية: وذلك بتاريخ 12 ديسمبر 1797 في عهد نابليون بونابرت، وهنا وُضعت اللبنة الأولى للقضاء الإداري الفرنسي، وتمّ إنشاء مجالس الأقاليم (les conseils de préfectures)، يقوم بفحص المنازعات.
مرحلة القضاء المفوض Justice délégué: صدر في 24 ماي 1872 قانون يمنح مجلس الدّولة الفرنسي اختصاص البث نهائيا في المنازعات الادارية دون تعقب جهة أخرى، وتوالت إصدارات المراسيم بسبب تراكم العديد من العقبات أمام مجلس الدّولة لإصلاح القضاء الإداري.
أمّا من ناحية التأطير القانوني للامركزية الفرنسية، نص دستور 1958 الذي نص على أنّ الجهوية في الجمهورية الفرنسية تتكون من الجماعات المحلية والأقاليم بالإضافة إلى أقاليم ما وراء البحار، وأشار علاوة على القواعد المتعلقة بالعلاقات بين السلطات العامة المختلفة، ونجد تلك القواعد المتعلقة بالمنظمات الدستورية للجمهورية، وهذه تتعلق بالهيكل الاداري والمحلي للدولة، فجد في المادة الأولى: “فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة، مع الاعتراف بوجود الجماعات المحلية”، وهذا موجود في المواد: (72)، (73)، (74)، (75)[16].
وتنص المادة (74) صراحة في دستور 4 أكتوبر 1958 على أنّ: “الجماعات المحلية للجمهورية الفرنسية هي: البلديات (les communes)، المحافظات (les départements)، المناطق (les régions)، بالإضافة إلى مناطق أعالي البحار (les collectivité d’outre-mer) “[17].
ومع مقارنة هذه المواد وتحليلها المواد (72، 73، 74،75)، نستنتج أنّ إقليم الدّولة الفرنسية منظم وفق ركنين يضمنان من جهة وحدته (المركزية)، ومن جهة أخرى التنوع (اللامركزية)، وبالرغم من الامتيازات التي حُصنت بها اللامركزية في دستور 1958، إلا أنّ اللامركزية في هذه المرحلة عرفت عدّة عواقب منها: الثقافة اليعقوبية التي تستند إلى قاعدة أنّ: “الجمهورية الفرنسية غير قابلة للتجزئة”، بالإضافة إلى السلطة المركزية الشديدة التي كانت تُمارس في عهد نابليون.
توالت التشريعات إلى آخر تعديل في قانون 2 مارس 1982، وهو أول قانون مؤسس للامركزية (تدشين اللامركزية)، ولقد منح الأقاليم الشخصية المعنوية الاعتبارية، إلى جانب المحافظات والبلديات، وتمتاز الإدارة بمقتضى هذا القانون بوحدة بنائها القانوني، أي تخضع هيئاتها المحلية لقانون واحد، بالإضافة إلى شمولية وعمومية اختصاص هذه الهيئات، بعدها تلتها عدّة تعديلات من خلال عدّة قوانين، منها[18]:
جانفي 1984: قانون يحمل خلق الوظيفة المحلية.
6 جانفي 1992: سجلت اللامركزية تطورا هاما، كما توضحه هذه الأهداف: تطوير الديمقراطية المحلية لكي لا تكون اللامركزية في خدمة المنتخبين فقط، إيجاد أشكال جديدة للتعاون بين الجماعات المحلية، وإعادة تنظيم الدولة في ظل اللامركزية الجديدة.
وعليه يشكل قانون 2 مارس 1982 ميلاد اللامركزية الفعلية في فرنسا، والمؤسس لحقوق وحريات البلديات، المحافظات والمناطق.كما أعطى قانون 6 فيفري 1992 صلاحية توقيع الجماعات المحلية الفرنسية اتفاقيات مع جماعات محلية أجنبية، مع احترام القدرات الدولية الفرنسية الخاصة بالتعاون اللامركزي، بالإضافة إلى احترام حدود اختصاصاتها[19].
ومنه، تُقسّم الوحدات المحلية في فرنسا إلى ثلاث مستويات متدرجة، تكون هذه الوحدات المحلية متماثلة، أو ما يُعرف بــ “أسلوب وحدة النمط” بمقتضى أحكام الدستور الفرنسي لعام 1958، وبعد مراجعة مارس 2003، وبمقتضى أحكام القانون 82-213 المتضمّن حقوق وحريات البلديات والمحافظات والأقاليم، تتمثّل هذه الأقاليم في[20]:
البلديات les communes: وتمثل الجماعات الإقليمية القاعدية تتواجد بها حوالي 36500 بلدية
المحافظات (المديريات) les départements: وهي وحدات أكبر حجما من البلديات، وتمثل المستوى الثاني للجماعات الإقليمية، عددها حوالي 100 محافظة.
الأقاليم les régions: تمثل المستوى الثالث، وهي الأكبر حجما، عددها الإجمالي حوالي 26 إقليم، منها 4 أقاليم وراء البحار، هذه الأقاليم أصبحت جماعات محلية إقليمية بموجب المادة (59) من القانون 82-213.
وهناك شكلين من الرقابة بهدف ضمان سير المصالح العامة، وهي: الرقابة المالية (يمكن بواسطتها استدعاء أو استجواب الفرق الإقليمية للمداخيل”les chambres régionales des comptes”)، والرقابة الادارية العادلة (تسمح للمحافظ “le préfet” بتعيين القاضي الإداري، والرقابة هنا بعدية)[21].
إذن، لقد شهدت اللامركزية الفرنسية في الدولة النابليونية عهد الانحطاط، وهذا نظرا للتهميش الذي عاشته الجماعات المحلية، وهذا النّظام اليوم يعتبر بمثابة هدم للقانون بالنسبة لاستقلالية الجماعات المحلية، لكن بعد قانون 1982، أصبحت الجماعة المحلية إقليمية وشخص معنوي من أشخاص القانون العام، أين السلطات منتخبة وفق اقتراع على مستوى المواطنين المحليين المعنيين، كما جاء هذا القانون ليلغي الوصاية الادارية، المالية والنفسية.
تطور اللامركزية في الجزائر
تأخذ الجزائر في إدارة الجماعات المحلية بالأسلوب اللامركزي، حيث اقتضى ذلك تقسيم الإقليم إلى وحدات متدرجة وفي قمة هذا التدرج توجد الولاية وعلى رأسها الوالي، وتقسيم الولاية إلى دوائر والدوائر إلى بلديات، وهذا هو الأسلوب الذي اعتمده المشرع الجزائري، وهو يقوم على أساس توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية والهيئات الإقليمية المستقلة، وتأخذ الدّولة الجزائرية بأسلوب اللاّمركزية إلى جانب أسلوب المركزية، رغبة في التوازن الاقتصادية والاجتماعي بين جميع الأقاليم، وتوزيع النشاط وإشراك المواطنين في إدارة شؤونهم. ولقد عرف التنظيم الإداري المحلي في الجزائر عدة تطورات عبر مراحل تاريخية معينة.
أوّلا: التنظيم الإداري المحلي في الجزائر إبان العهد العثماني: تتميز هذه المرحلة بتنظيم إداري خاص يتسم بالسعي إلى ضمان السيطرة المستبدة للدّولة على جميع مرافق الدّولة، لاسيما مرفق الأمن، حيث عرفت هذه المرحلة نظاما مركزيا شديدا، سيطر فيه القادة العسكريون (البايات) على مقاليد الحكم والإدارة سيطرة تامة، و هذا بسبب الصراع الدّاخلي والخارجي الموجود[22].
ثانيا: التنظيم الإداري المحلي في الجزائر أثناء فترة الاحتلال الفرنسي: لقد اندلعت الثورة العالمية الأولى سنة 1914، وكان من أهم نتائجها انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتوقيع اتفاقية سايس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، والتي نصت على أن تكون منطقة المغرب العربي ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ الفرنسي، وعليه خضعت الجزائر إبان المرحلة الاستعمارية للتشريع الفرنسي، وكان أوّل نص تنظمي صدر في هذا الشأن هو قرار الماريشال “دوبرمون” المؤرّخ في 6 جويلية تضمّن: إنشاء لجنة لسير الأملاك والمصالح والمرافق المدنية بالعاصمة من طرف السلطات الفرنسية، وبعد ذلك تم تحديد قواعد للنظام الإداري الإقليمي والمحلي في الجزائر.
شكلت الولاية دعامة أساسية استندت إليها الإدارة الفرنسية لفرض وجودها من خلال سياستها، فعمدت في شهر مارس 1848 إلى إصدار قانون يضم الجزائر إلى فرنسا، وقسمتها إلى ثلاث ولايات، وهي: الجزائر، وهران وقسنطينة، ويرأس كل منها والي يساعده مجلس للولاية، على غرار النّمط الذي كان سائدا في فرنسا[23]. بالتالي، كانت البلدية والولاية أداة لتحقيق طموحات الإدارة الاستعمارية، وفرض هيمنها ونفوذها، وكان يديرها مواطن من الإدارة الاستعمارية، وكانت البلدية في خدمة الإدارة الفرنسية، دون خدمة تطلعات الشعب الجزائري.
ثالثا: التنظيم الإداري المحلي في الجزائر بعد الاستقلال
لقد جاءت أولوية وسرعة التفكير في إقامة نظام للإدارة المحلية بعدما تبيّن إفلاس التنظيم الموروث عن العهد الاستعماري، رغم الإصلاحات التي أُدخلت عليه، وبرزت اللامركزية الإقليمية كأولوية من خلال الاهتمام بإرساء نظام لها منذ الاستقلال، ولقد ورثت الجزائر غداة الاستقلال أجهزة إدارية فرنسية كانت منظمة حسب المستويات التالية: الدوائر (les arrondissement)، المحافظات ( les département)، النواحي ( les régions)، البلديات (les communes)[24].
لكن الإصلاح في المجال التشريعي، فقد كرسه دستور1963، حيث اعتبر البلدية القاعدة الأساسية للمجموعة الترابية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، كما ورد في المادة (09) منه، وفي هذا السياق ذهب الميثاق الجزائري لسنة 1964، حيث جاء فيه: “ضرورة إعطاء الجماعات المحلية سلطات تتطلب مراجعة إدارية جذرية هدفها جعل مجلس البلدية قاعدة التنظيم السياسي والاجتماعي للبلاد…”، وبعد ذلك صدر الأمر رقم 67/25 في 18 جانفي 1967 والمتضمّن قانون البلدية، ثمّ صدور الأمر رقم 69/38 المؤرخ في 23 ماي 1969 والمتضمن لقانون الولاية، ومن خلال هذين القانونين أوكلت للبلدية والولاية عدّة مهام أساسية منها: سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية، وبعد نظام التعددية الحزبية، تماشيا مع هذا الاصلاح، جاء القانون البلدي رقم 1990/08 وقانون الولاية رقم 1990/09 ليحدّد مسار التنظيم المحلي[25]. وتتمثل المستويات المحلية في: البلدية* والولاية*.
إنّ مركز الوالي المميّز في التنظيم الاداري، جعله يتوسّط المستويين المحلي والمركزي، مما ينعكس على علاقته بمختلف الأجهزة في الدّولة، فنجده يخضع للإدارة المركزية عن طريق السلطة السلمية (الرئاسية) باختلاف درجاتها بداية من رئيس الجمهورية، ونزولا إلى مختلف الوزارات من جهة، ومن جهة أخرى نجده في مركز الهيمنة على الحياة الإدارية والسياسية في المستوى المحلي ولائيا وبلديا، وذلك بداية من العملية الانتخابية للمجالس الشعبية، والرقابة التي يمارسها على أعضاء هذه المجالس التي يصل إلى حد السلطة الرئاسية على رؤساء المجالس البلدية، بينما نجد في المقابل أنّ الرقابة الممارسة على الوالي تكون ضعيفة في حالات ومنعدمة في اغلبها، مما يضفي الخصوصية الفعلية على هذا المركز، ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في مسألة الرقابة المتبادلة بينه وبينم المجالس المحلية لتحقيق التوازن بين التسيير الإداري، وبين التسيير الشعبي القائم على المبادئ والأسس الديمقراطية[26].
المحور الرابع: الرقابة في النظام اللامركزي الفرنسي والجزائري
شهدّ نظام الرقابة على الجماعات المحلية في فرنسا مرحلتين، الاولى مرحلة الرقابة الادارية الشديدة، والثانية مرحلة إلغاء الرقابة الادارية والاكتفاء برقابة القضاء، اما في الجزائر، تمارس السلطة المركزية رقابة إدارية على المجالس الشعبية للبلديات والولايات، وهي رقابة صارمة على المجلس ككل، الأعضاء والأعمال.
الرقابة في النظام اللامركزي الفرنسي
مرّ نظام الرقابة على الجماعات المحلية في فرنسا بمرحلتين، الاولى مرحلة الرقابة الادارية الشديدة، والثانية مرحلة إلغاء الرقابة الادارية والاكتفاء برقابة القضاء (وهو الاتجاه الجديد).
أولا: النموذج التقليدي: فضلا عن خضوع قرارات الجماعات المحلية للطعن القضائي، فإنّها تخضع لرقابة ادارية شديدة تمارسها السلطة المركزية، وتشتمل هذه الرقابة أعضاء المجالس المحلية، كما تشمل أعمالها، فعلى مستوى الأعضاء، تتمتع السلطة المركزية بحق إيقاف وحل أعضاء المجالس طبقا للشروط التي يحدّدها القانون، كما تتمتع بحق إيقاف وحل المجالس المنتخبة طبقا للشروط والإجراءات المحددة في القانون، أما على مستوى الأعمال، فتتمتع السلطة المركزية بجملة من السلطات تجعلها في نهاية الأمر ليست فقط شريكا للمجموعات المحلية في تسيير شؤونها، وإنّما أيضا في مركز أقوى من المجالس المعنية، ويظهر ذلك من خلال تقنيات[27]:
التصديق: إنّ سلطة التصديق هي إحدى الكيفيات المتقدمة جدا للتدخل في الشؤون المحلية، حق فيتو شبه مطلق يؤدي في نهاية الأمر إلى ما يسمى بالإدارة المشتركة للشؤون المحلية بين السلطة المركزية والسلطة المحلية.
الإلغاء: وهو حق السلطة المركزية في إعدام قرارات الجماعات المحلية الصادرة خلافا للقانون ودون اللجوء إلى القضاء، يؤكد هذا الحق سمو السلطة المركزية على السلطة المحلية، حتى عندما يتعلق الأمر بالشؤون المحلية.
الحلول: الصورة الغالبة لحلول السلطة المركزية محل السلطة المحلية في أداء العمل، هي في النفقات الإلزامية وإعادة توازن الميزانية المحلية، حيث تتدخل السلطة المركزية بنفسها في النفقات الإلزامية، وإعادة توازن الميزانية عندما تنبه السلطة المحلية إلى ذلك وترفض الحلول، يعني في نهاية الأمر التسيير المباشر للشؤون المحلية من قبل السلطة المركزية (نمط تسيير مركزي).
الوصاية: من مظاهر التدخل في الشؤون المحلية أو إدارتها بالاشتراك، إجراءات التنفيذ التي ابتكرتها الوصاية التقنية، وهي بمثابة تصرفات أو أعمال تملي الدولة بموجبها على الجماعات المحلية السلوك الواجب اتباعه في التسيير حتى قبل اتخاذ القرار، ويؤدي هذا الأسلوب إلى اصطدام لامركزية سلطة القرار بمركزية وسائل التنفيذ وإجراءاته.
وعليه، لقد جعلت صور الوصاية هذه مبدأ الاستقلالية مفرغا من محتواه لصالح تبعية شبه مطلقة للسلطة المركزية.
إنّ المطالبة بمراجعة نظام الوصاية الإدارية لا ينصرف فقط غلى جعلها أكثر مرونة، وإنّما أيضا إلى إشراك البلدية في مستقبل البلاد، وترتيبا على ذلك تضمّن قانون 1982، المشار إله سابقا إلغاء نظام الوصاية الإدارية أو الاستغناء عنها بنظام الرقابة القضائية (وهو الاتجاه الجديد).
ثانيا: الاتجاه الجديد: ويتسم بما يلي[28]:
إلغاء الوصاية الإدارية: وتعويضها برقابة قضائية، حيث تعتبر قرارات الجماعات المحلية، نافذة بمجرد نشرها أو تبليغها وممثل الدولة اللجوء إلى القضاء لطلب الإلغاء بالنسبة للقرارات المحلية التي يراها غير شرعية، وتحريك دعوة الإلغاء ليس وقفا على ممثل الدّولة، فهو أيضا حق للأشخاص الطبيعية والقانونية لممارسة مباشرة أو بواسطة ممثل الدّولة عندما تطلب منه تحريك الدّعوى.
إلغاء الوصاية المالية: تحويل اختصاص تقدير الحسابات الخاصة بالميزانية والرّقابة على تسييرها إلى الغرف الجهوية les chambres régionales des comptes، وهي هيئات قضائية توجيهية إرشادية تستهدف الأخذ بيد المجموعات المحلية، ولذلك تقوم محكمة la cour des comptes، بناءا على ملاحظات الغرف الجهوية، بتخصيص جزء من تقديرها السنوي إلى كيفية التسيير المحلي.
تخفيف الوصاية التقنية: نص القانون على عدم جواز فرض السلطة المركزية على الجماعات المحلية أية إجراءات إلا إذا كانت صادرة تطبيقا لقانون، ولا ينبغي أن ترفق القروض والمساعدات المقدمة للجماعات المحلية شروط تتعارض مع هذه المبادئ.
الرقابة في النظام اللامركزي الجزائري
تمارس السلطة المركزية رقابة إدارية على المجالس الشعبية للبلديات والولايات، والسلطة المركزية القائمة بالرقابة هي: رئيس الجمهورية في حالات معينة، وزير الدّاخلية بصفة أساسية على الولاية، وزير المالية، إذا كان الموضوع جوانب مالية، الوزراء المعينون إذا ما تعلق الأمر بالقطاع الذي يشرفون عليه، وأخيرا ممثلا السلطة المركزية في الولاية (الوالي بالنسبة للبلديات خصوصا)، وتأخذ الرّقابة الإدارية عدة صور[29]:
أولا: الرّقابة على المجلس ككل: وتتمثل في حل المجلس ونظرا لخطورة إجراء الحل وحرصا على استقرار الأوضاع، يشترط القانون في حالة حل المجلس ضرورة اجراء انتخابات في مهلة أقصاها ستة (06) أشهر بالنسبة للبلدية، أو لمدّة يحدّدها مرسوم الحل بالنسبة للولاية (م.36 ق ب/م. 45. ق.و)، وحرصا على المصلحة المحلية فإنّ قانون البلدية يشترط تشكيل مجلس مؤقت خلال الفترة الواقعة بين قرار حل المجلس وتنصيب المجلس الجديد، ويكلف المجلس المؤقت بتسيير الشؤون الإدارية للبلدية في حين يغفل قانون الولاية النص على مثل هذا الإجراء (م.36. ق.ب).
ثانيا: الرقابة على الأعضاء: تم تخفيف هذه الرقابة وحصرها على حالة واحدة، وهي وقف النائب المحلي عند المتابعة الجزائية، حيث يوقف النائب البلدي بقرار من الولاية عند الإدانة، بعد إعلان المجلس عن ذلك، ويوقف النائب في الولاية بقرار من وزير الداخلية بعد إعلان من المجلس ونفس الشيء بالنسبة للإقصاء.
ثالثا: الرقابة على الأعمال: وتتناول التصديق، الإلغاء والحلول
التصديق: القاعدة العامة أنّ قرارات البلديات واولاية قابلة للنفاذ دون حاجة الى موافقة السلطة الوصية، فتنفّذ قرارات المجلس الشعبي البلدي بعد مضي خمسة عشر (15) يوما من ايداعها دار الولاية، وتنفذ قرارات المجلس الشعبي الولائي بعد مضي 15 يوما من قيام الوالي بنشرها أو تبليغها للمعنيي، والإستثناء من القاعدة هو اشتراط تصديق السلطة الوصية على بعض القرارات لتصبح نافذة، وقد حدّد القانون هذه المواضيع على سبيل الحصر، وسلطة الوصاية في هذه المواضيع هي الوالي بالنسبة للبلديات، ووزير الداخلية بالنسبة للولايات.
الإلغاء (الابطال): ويشمل نوعين: القرارات الباطلة بحكم القانون، وقرارات قابلة للإبطال:
البطلان المطلق: تعتبر باطلة بحكم القانون، وهي تشمل: القرارات المخالفة للدستور أو المرسوم (عيب عدم الشرعية)، القرارات التي تتخذ خارج الاجتماعات الرسمية والقرارات التي تتناول موضوعا خارج عن اختصاص المجلس (عيب عدم الاختصاص).
البطلان النسبي: تكون قابلة للبطلان القرارات التي يشارك فيها أعضاء المجلس الشعبي ذوي المصلحة فيها شخصيا أو بصفتهم وكلاء الغير في القضية. يصدر قرار الإلغاء مسببا عن سلطة الوصاية، الوالي بالنسبة للبلديات ووزير الداخلية بالنسبة للولايات.
الحلول: الصورة الغالبة للحلول هي في عمليات توازن الميزانية وإدراج المصاريف الالزامية، حيث تتدخل السلطة الوصية، فتدرج بنفسها النفقات الالزامية التي يرفض ادراجها المجلس المحلي بالرغم من تنبيهه أو تضبط بنفسها الميزانية غير المتوازنة بالطريقة التي حدّدها القانون.
إنّ نظام اللامركزية في الجزائر ملوث، وهذا نظرا للتعديلات التي طرأت على مختلف قوانين المالية، والتي تصب في مجملها إلى أنّ الجماعات المحلية تعتمد على نفسها، والقروض التي تقدمها الدولة لتمويل مشروعاتها، وبالنظر إلى الجماعات المحلية فأزمة التمويل المحلية تخلق لامركزية، فالدولة هي سيدة اللعبة، وهذا ما ينعكس على عدم قدرة البلديات لمتابعة التطورات والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية[30].
منه، فتردد كل من ميثاق البلدية والولاية بصدد الاستقلال المحلي، هو ما ترجمه المشرّع في نصوص القانون إلى رقابة صارمة مستوحاة من النموذج الفرنسي التقليدي للرقابة، فجاءت صور الرقابة على البلديات والولايات شديدة واسعة على مستوى النصوص التي أخذت بجميع تقنيات الوصاية الإدارية الفرنسية، وفي الواقع تتسع الرقابة أكثر بحيث تظهر تبعية المجموعات المحلية أمرا واقعا مسلما به في أكثر من مجال.
يجب أن تقف وسائل الرقابة التي تعتمدها السلطة المركزية في مراقبة مالية البلديات، عند المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فكرة اللامركزية الإدارية، فلابدّ أن تكون هذه الرقابة مضبوطة بشكل دقيق، لأنّ أي تجاوز لها يؤدي حتما إلى فقدان اللامركزية[31].
خاتمة
نخلص إلى أنّ الإشكالية المطروحة في اللامركزية هي محدودية الموارد المالية المحلية، وضعف استقلالية الجماعات المحلية، في الوقت الذي تتزايد فيه متطلبات الحياة، الأمر الذي يتطلب المزيد من النفقات في سبيل إشباع الخدمات العامة.
في الجزائر، لم يحترم مبدأ اللامركزية لعدّة اعتبارات سياسية بالدرجة الأولى، وأيضا باعتبار أنّ الجزائر عانت من مخلفات الاستعمار، ولم تعرف الديمقراطية إلا حديثا، إضافة إلى طغيان المصلحة السياسية الشخصية أكثر من المصلحة العامة من قبل صناع القرار السياسيين، على اعتبار أنّ الشخص القانوني المعنوي الوحيد الذي يتمتع بالسيادة هي الدولة، وبالتالي الجماعات المحلية الإقليمية في الجزائر لا تخرج عن إطار الدّولة.
وعليه، فتعزيز اللامركزية في الجزائر مرتبط بمدى شمولية وفعالية الأطر القانونية لها ومدى تطبيقها على ارض الواقع، من خلال تعزيز القوانين المتعلقة بالبلدية والولاية لتحقيق تنمية جهوية متوازنة، من خلال ضرورة تمتع الجماعات المحلية بمصادر تمويل ذاتية وبعث الاستقلالية فيها وتخفيف نظام الرقابة، والرهان الأساسي المطروح هو: كيفية الموازنة بين اللامركزية والمركزية بما يتماشى وظروف كل دولة؟
[1] – عوابدي عمار، القانون الإداري، ديوان المطبوعات الجزائرية، الجزائر، د.س.ن، ط4، ص ص 239-240.
[2] – مجلة الكوفة للعلوم السياسية والقانونية، حاتم فارس عبد الرحيم ، اللامركزية في العراق في ظل قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم 21 لسنة 2008، ، جامعة الكوفة (العراق)، العدد 02، 2008، ص 117.
[3] – عوابدي عمار ، مرجع سابق الذّكر، ص 17.
[4] – ولد حامدون سليمان ، اللامركزية الإدارية ومساهمتها في التنمية المحلية، تم الاطلاع عليه بتاريخ: 18/04/2016، على الرابط الالكتروني التالي: http://www.siironline.org/alabwab/derasat%2801%29/598. htm
[5] – مجلة معارف، بوعمران عادل، دعاس كمال، استقلالية الجماعات المحلية: مدلولها، معاييرها وبيان مسترلزماتها، العدد 8، جوان 2010، ص 25.
[6] – المرجع نفسه، ص 26.
[7] – مجلة مجلس الأمة، شيهوب مسعود ، المجموعات المحلية بين الاستقلالية والرقابة، العدد 3، جانفي-جوان 2003، ص 48.
[8] – حاتم فارس عبد الرحيم ، مرجع سابق الذّكر، ص 118.
[9] – المرجع نفسه، ص 121.
[10] – المرجع نفسه، ص ص 123-124.
[11] – المرجع نفسه، ص128.
[12] – عوابدي عمار ، مرجع سابق الذّكر، ص 240.
[13] – المرجع نفسه، ص 248.
[14] – ولد حامدون سليمان ، مرجع سابق الذّكر.
[15] – حاتم فارس عبد الرحيم، مرجع سابق الذّكر، ص ص 119- 120.
[16] – Revue du conseil d’état, Pavia Marie-Luce, la décentralisation : principe d’organisation territoriale de la république Française, , N°3, janvier-juin 2003, p89.
[17]- collectivités territoriale Française, consultation le : 13 /10/2015, sur le site web suivant: www.marche-public.fr
[18] – Pavia Marie-Luce, Op.Cit, pp 89-90.
[19] – le code des collectivités territoriales Française, sur le site web suivant: consultation le : 12/6/2015, sur le site web suivant : www.cncd.fr
[20] – Pavia Marie-Luce, Op.Cit, p 101.
[21] – Ibid, pp 90-91.
[22] – كواشي عتيقة ، اللامركزية الإدارية في الدول المغاربية دراسة تحليلية مقارنة، مذكرة ماجستير، جامعة قاصدي مرباح، ورقلة (الجزائر)، 2010-2011، ص 82.
[23]- المرجع نفسه، ص 84.
[24] – المرجع نفسه، ص ص 86-87.
[25] – المرجع نفسه، ص ص 88-89.
*- بمقتضى القانون رقم 09-03 المؤرخ في 23 فيفري 2009، في المادة الأولى (01): “البلدية هي الجماعة الاقليمية القاعدية للدولة، وتتمتع بالشخصية المعنوية والذمة المالية المستقلة وتحدث بموجب القانون”، وبمقتضى هذا القانون البلدية هي القاعدة الاقليمية للامركزية، ومكان لممارسة المواطنة، وتشكّل إطار مشاركة المواطن في تسيير الشؤون العمومية، وتمارس البلدية صلاحياتها في كل مجالات الاختصاص المخوّلة لها بموجب القانون، وتساهم مع الدولة بصفة خاصة ادارة وتهيئة الاقليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمن، وكذا الحفاظ على الاطار المعيشي للمواطنين وتحسينه، وحسب المادة (15) تتوفر البلدي على هيئتان وهما: المجلس الشعبي البلدي ورئيس المجلس الشعبي البلدي، للمزيد أنظر: المواد من 1 الى 15 من القانون رقم 09-03 المؤرخ في 25 فبراير 2009، الجريدة الرسمية، السنة 48، العدد 37، يوليو 2011.
* – بمقتضى قانون رقم 12-06 المؤرخ في 12 يناير 2012، وحسب المادة (01): “الولاية هي هيئة أو مجموعة محلية لا مركزية إقليمية فهي ذات شخصية معنوية واستقلال مالي، ولها اختصاصات سياسية، اقتصادية، ثقافية، وهي أيضا تنظيم إداري للدّولة”. وبمقتضى المادة (03) انّ ” الولاية بصفتها الجماعة الاقليمية اللامركزية، تتمتع بميزانية خاصة بها لتمويل الأعمال والبرامج المصادق عليها من المجلس الشعبي الولائي، ولا سيما تلك المتعلقة بالتنمية المحلية ومساعدة البلديات تغطية أعباء تسييرها، والمحافظة على أملاكها وترقيتها”، وحسب المادة (02) للولاية هيئتان: المجلس الشعبي الولائي: وهو مجلس منتخب، والوالي وهو معين. للمزيد أنظر: المواد 1-3 من القانون رقم 12-06 المؤرخ في 12 يناير 2012.
[26] – عشي علاء الدين ، والي الولاية في التنظيم الإداري الجزائري، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2006، ص 85.
[27] – مجلة مجلس الأمة، مرجع سابق الذّكر، ص ص 48-49.
[28] – المرجع نفسه، ص 50.
[29] – المرجع نفسه، ص ص 51-55.
[30]- Revue IDARA , Boumoula Samir, contribution à l’identification des contraintes financières des communes en Algérie, , volume 20, N° 02, 2010, p.20.
[31] – مجلة أبحاث اقتصادية وإدارية، موفق عبد القادر، الاستقلالية المالية للبلدية في الجزائر، العدد 02، ديسمبر 2007، ص 108.
اترك تعليقاً