بحث قانوني متميز عن الحماية الجنائية للآثار ـ دراسة مقارنة
د.أمين أحمد محمد الحذيفي
الملخص :
إن بين الآثار والحضارة تزاوج واضح، فالآثار هي عنوان الحضارة سلباً أو إيجاباً، ويستمد منها الإنسان مقومات الحاضر والمستقبل، فالآثار في أي عصر من العصور تعكس مدى التقدم الحضاري بشقيه المادي والمعنوي.
ولقد اهتم الإسلام بالآثار، وأورد القرآن الكريم قصص من قبلنا من الأخيار والأشرار وآثارهم، حتى نعتبر بهم، كما أن فقهاء المسلمين اهتموا كثيراً بالآثار، واعتبروها كنوزاً(2).
ولذلك كان العرب المسلمين في طليعة الشعوب التي تهتم بالتراث الحضاري ، وتحافظ عليه ، وصولاً إلى خدمة قضايا الأمة الثقافية والقومية والاقتصادية ، ومن ذلك ما نظمه القاضي أبو يعلى المعري عن موقف الرأي العام في البلاد العربية الإسلامية من المخلفات الحضارية ، ومفهوم الحماية لها لدى الفئة الواعية(5). وبالرغم من الاتفاق بين فقهاء الشريعة والقانون الوضعي، فيما يعد كنزاً من معادن وخلافه، إلا أن الخلاف يثور بشأن التماثيل والمعبودات القديمة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حطم الأصنام حول الكعبة، كما فعل ذلك من قبل أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام،وهي مسألة تحتاج إلى بحث موضوعي، خاصة وأن علة التحطيم للأصنام قد زالت في عصرنا الحاضر.
إن تاريخ القانون الجنائي يمثل المرآة التي يعكس عليها التاريخ الحضارة عموماً، كما أن تطوره وتغيره يتأثر بذات الأسباب التي تتطور، وتغير حالة المجتمع، ليس فقط القانون الجنائي الداخلي بل أيضاً القانون الدولي الجنائي، وخير مثال على ذلك موضوع (حماية الآثار)، إذ يعكس مدى التغير والتطور الذي لحق المجتمع الدولي والمجتمع الداخلي في ميدان الاهتمام بالآثار.
فموضوع السياسة الجنائية هو تأمين تماسك وبقاء الكيان الاجتماعي بضمان تأمين حماية الأشخاص الطبيعية والمعنوية بهدف إيجاد حل للظاهرة الإجرامية والحد منها، وانطلاقاً من مفهوم السياسة التشريعية الجنائية التي ترتبط باحتياجات المجتمع كان من المنطقي أن تتجه السياسة التشريعية في معظم دول العالم إلى حماية الآثار عن طريق تحريم الاعتداء عليها أو تشويهها.
وتنطلق فلسفة التجريم والعقاب في الفكر الجنائي المعاصر، لتشمل حماية القيم المادية والأدبية، والحفاظ على مقومات تطوره وموروثه الحضاري، وممتلكاته الثقافية، فأصبح القانون الجنائي يعني بالكثير من الأحكام المتعلقة بالآثار، وهو ما كان صدى واستجابة لتطور علم الآثار.
وبالرغم أن الدراسات والأبحاث التي عنيت بموضوع الآثار كثيرة ومتشعبة في جوانبها العلمية والفنية، إلا أن الجانب القانوني لهذا الموضوع لم يلق اهتماماً كافياً، واتسم بالسطحية وعدم الوضوح.
وقد وضع المشرع الجنائي قوانين تعني بحماية الآثار، وأنشأ هيئة أو مصلحة لها شخصية اعتبارية تختص بتنفيذ قوانين حماية الآثار، تعني بالبحث والتنقيب عنها، وإصدار التراخيص بذلك، وتحديد المواقع الأثرية وتطويرها(1) .. الخ.
وقد جاء قانون حماية الآثار السوداني الجديد(2) متوسعاً في تعريف الآثار، وسار على نهجه قانون حماية الآثار اليمني الجديد(3)، ليتناسب مع مشروع قانون الآثار العربي الموحد ، وتنص قوانين الآثار عموماً على أيلولة ملكية كل الآثار المكتشفة للدولة ، وأفردت عقوبات رادعة للمعتدين على الآثار بالسرقة أو بالتشويه أو … الخ.
ولم يقتصر الاهتمام بحماية الآثار على القوانين الداخلية ، فبرزت اهتمامات دولية انبثقت عنها اتفاقيات دولية، منها على سبيل المثال الاتفاقية الدولية التي أجيزت من اليونسكو ، والمتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في العالم والتراث الطبيعي، وعقد مؤتمر لاهاي للدول الأعضاء في منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم، كما أن القانون الجزائي الدولي في روما عام 1998م قد نص على جرائم البيئة الثقافية (الآثار والمتاحف والأوراق الثقافية).
وعندما تأسست المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، كان تأسيسها دعماً للعمل الثقافي على الصعيد القومي ، وبلورة لمنطلقاته ، ووسائله وغاياته ، وكانت مؤتمرات الآثار نفساً من الأنفاس الكريمة لهذه المؤسسة القومية، تلقتها بأمانة من الإدارة الثقافية للجامعة العربية، ورعتها بوفاء وإغناء. من هذه المؤتمرات: المؤتمر الثامن للآثار، المنعقد في مراكش بالمغرب ، سنة 1977م، والمؤتمر التاسع للآثار المنعقد في صنعاء في اليمن ، سنة 1980م ، والمؤتمر الحادي عشر في تونس، سنة 1988م.. حتى كان آخرها المؤتمر السادس عشر للآثار في دولة الكويت سنة 2002م
موضوع الدراسة وأهميتها :-
تمثل الآثار الرصيد الدائم من التجارب والخبرات والمواقف التي تعطي الإنسان القدرة على أن يواجه الحاضر، ويتصور المستقبل باعتبارها من أهم مكونات الذاكرة البشرية الممتد إلى أعمق جذور مكوناتها.
ولذلك فإن تهريب أو سرقة الآثار وسقوطها أو تدميرها يعني انقطاع جزء من تاريخنا،ومحو شيء من ذاكرتنا لن نعوضه أبداً.. فقيمة الآثار لا تقف عند متعة مشاهدة المكان فحسب ، ولكنها تعني استعادة تاريخ، فإذا سقط المكان أو توارى سقطت معه رموز التاريخ ، وضاعت ذاكرة الأمة ، ومن ثم تكمن أهمية موضوع حماية الآثار، ومن هذا المعنى تبرز أهمية دراسة هذا الموضوع من الأوجه التالية:
1- أن موضوع هذه الدراسة بغية تحديد معالم الحماية الجنائية للآثار ، سواء على مستوى القانون الداخلي أو على مستوى القانون الدولي ، له أهمية نظرية وعملية.
فمن الناحية النظرية تتركز هذه الأهمية في الآتي:
أ- بيان بعض مظاهر الصلة بين القانون الجنائي الدولي، والقانون الجنائي الداخلي، لا سيما وأن موضوع الآثار يمثل قطاعاً مشتركاً بين القانونين.
ب- الوقوف على مدى وجود اتحاد أو توافق في رد الفعل بين المشرعين الدولي والداخلي، عندما يكون الدافع أو المؤثر واحداً ، أو متشابهاً.
أما من الناحية العملية فإن أهمية هذا البحث تجمل في الآتي:
أ- إن الوقوف على مفهوم الآثار وحقيقة قدر انعكاس الاعتداء عليها يساعد في الوصول للتفسير الأقرب للصحة للنصوص التي وضعت لحمايتها، مما يساعد على تطبيق هذه النصوص على وجهها الصحيح.
ب- بيان مدى كفاية أو قصور الحماية الجنائية للآثار، فإن كانت كافية فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فإن هذه الدراسة تجتهد في كشف أوجه هذا القصور وفي تحديد كيفية معالجته.
2- تعالج هذه الدراسة موضوعاً لا يزال بكراً ، لم يشبعه الباحثون بعد دراسةً وتمحيصاً، ومن ثم فإن جوانب كثيرة منه لا زالت غامضة ومجهولة، تحتاج إلى من يسبر أغوارها، ويرتاد مجاهلها، حيث لوحظ ندرة الدراسات والبحوث في هذا الموضوع ، ليس على الصعيد السوداني واليمني فحسب ، وإنما على صعيد الوطن العربي والإسلامي ، إن لم نقل والعالمي ككل. وقد يكون لحداثة قوانين حماية الآثار سبب لذلك.
آملين أن تكون هذه الدراسة مساهمة في فتح الباب، وإنارة الطريق أمام دراسات قادمة، ومساهمة في تجميع النصوص الجزائية المتعلقة بحماية الآثار ، سواء على المستوى الوطني أم الدولي ، مما يجعلها مساهمة علمية لكل باحث ومهتم وكل من تربطه صلة بموضوع حماية الآثار ، في متناول يده هذه النصوص مع الشرح والتحليل.
فضلاً عن أ ن ميلاد هذه الدراسة في مرحلة تعرضت فيها الآثار العربية –عموماً- للاستنزاف والتغريب، ناهيك عما تتعرض له الآثار الفلسطينية –خصوصاً- من تهويد وطمس وتدمير.. الخ، مما يعني تزايد أهمية موضوع هذه الدراسة.
أهداف الدراسة:
1- تهدف هذه الدراسة للسبق إلى موضوع جديد لم يسبق أن تناوله شراح القانون الجنائي ، بغية التوصل إلى إيجاد نظرية عامة لجرائم الآثار، ليكون أول إسهام متواضع في هذا المجال ،يفسح الطريق للباحثين أن ييمموا وجههم شطره، ويسبروا أغواره لسد ما نقص.
2- كما أن معرفة طبيعة الآثار والأحكام العامة للحماية الجنائية للآثار والخاصة بكل جريمة على حدة لمعرفة الاستثناءات التي أفردها المشرع لإضفاء المزيد من الحماية الجنائية للآثار، خروجاً عن القواعد العامة المعمول بها في القانون العام وغير ذلك من الأحكام التي ستتناولها هذه الدراسة لما من شأنه التنبيه إلى مخاطر الاعتداء على الآثار ، والحث على أهمية صيانتها والحفاظ عليها.
3- زيادة الوعي والإدراك لمفهوم هذه الجرائم التي لا زالت غريبة، وغير مفهومة لدى الكثير من عامة الناس ، فالجانب الجنائي في مجال دراسات الآثار هو الجانب المفقود، مما أدى إلى وجود طلاق بين قانون حماية الآثار والمواطنين، فالمواطن العربي يعيش مع الآثار بعيداً عن التجريم، فيقوم بالنبش غير المشروع، ويتصرف فيها بيعاً وشراءاً وحيازة و.. الخ، كما لو كانت ملكاً خاصاً بهم ينبشون عنا كيفما يشاؤن ، وما يتلو هذا النبش من جرائم أخرى.
اترك تعليقاً