دراسة تحليلية لجنحة الوشاية الكاذبة في التشريع الجنائي المغربي
لقد خصص المشرع الجنائي المغربي لجنحة الوشاية الكاذبة الفصل 445 في إطار جرائم الاعتداء على الشرف أو الاعتبار الشخصي أو إفشاء الأسرار، التي تعتبر من جرائم الاعتداء على الأشخاص المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الباب السابع من القانون المذكور .
وجنحة الوشاية الكاذبة باعتبارها تنطوي على إبلاغ بواقعة معينة يمكن إسنادها إلى شخص معين أو أكثر، تطرح دراستها إشكالا بخصوص تمييزها عن الحق لكل فرد في الإبلاغ أو التشكي، ثم تمييزها عن العمل غير المشروع، أو التقصيري المستوجب للتعويض وحده، وتمييزها عن كل من جنحتي القذف وإهانة موظف، من جهة أخرى .
جنحة الوشاية الكاذبة وحق التشكي أو الإبلاغ:
إن التبليغ عن وقوع جريمة، ليس مقصورا على من كان ضحية لهذه الجريمة فحسب، بل إن فكرة التضامن الاجتماعي، وفكرة خدمة العدالة، تجعلان على عاتق كل فرد في المجتمع واجبا بالتبليغ عن وقوع فعل يعتبر جريمة بحكم القانون (الفصلين 209 ? و299 من القانون الجنائي)، بل وأكثر من ذلك فان قانون المسطرة الجنائية قد أعطى لكل شخص الحق في ضبط المجرم متى كان متلبسا بجناية أو جنحة معاقب عليها بالسجن أو الحبس، وسوقه إلى اقرب ضابط من ضباط الشرطة القضائية .
لذلك فان الامتناع عن التبليغ، وهو عمل سلبي لا يقوم معه الشخص بأي سلوك خارجي، يعتبر فعلا مجرما قانونا، متى لم تقع الجريمة على شخص المجني عليه أو شرفه أو ماله أو جسم قريب له أو شرفه أو ماله، إذ في هذه الحالة ننتقل إلى درجة الحق المخول لكل شخص في التشكي والتظلم إلى الجهات المختصة لتوقيع العقاب على الفاعل أو الفاعلين جزائيا ومدنيا .
إلا أن ذلك الواجب وهذا الحق ليسا مطلقين متى شابهما عيب الانحراف بهما عن غير القصد والغرض المشروع منهما، أو متى شاب استعمال الحق تعسف في ذلك الاستعمال .
فالتبليغ عن وقوع جريمة إذا كان واجبا، فان الانحراف به عن القصد المشروع، نتيجة العلم بعدم حدوث الجريمة فعلا، أو نتيجة تقديم جنحة معاقبا عليها قانونا بمقتضى الفصل 264 من القانون الجنائي .
والحق في التشكي إذا كان مرخصا به لكل فرد، فان التعسف في استعماله، نتيجة عدم التروي، وعدم التبصر، أو نتيجة العلم بكذب الواقعة المشتكي من اجلها أو المبلغ عنها، أو تشويهها، قد يؤدي إلى المساءلة مدنيا أو جنحيا حسب الأحوال .
لذلك فالقيام بالواجب، أو استعمال الحق يمكن القول بان إطلاقهما مقيد بقيود قانونية دقيقة، منها أساسا التروي، والتأكد من صحة ما يتم التبليغ عنه آو التشكي منه، وممارسة ذلك الواجب والحق في إطار القواعد القانونية والأخلاقية المتواضع عليها .
الوشاية الكاذبة والعمل غير مشروع:
يعتبر التقصير مستوجبا للمسؤولية المدنية متى الحق ضررا مباشرا بالغير، وهو ما نص الفصلان 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود .
والعمل غير المشروع، المستوجب للمسؤولية التقصيرية يقربه بعض الفقهاء من التعسف في استعمال الحق، ويميزه بعضهم الآخر عنه .
وفي ذلك نجد الفقيه الفرنسي ” بلاينول” يقول بان التعسف في استعمال الحق ليس إلا تجاوزا للحق، فهو بالتالي عمل غير مشروع يسال صاحبه عنه تقصيريا .
والدكتور سليمان محمد الطماوي يرى أن العمل غير المشروع هو الذي يقوم به الفرد دون استناد إلى أي حق معلوم، ولو كان من قام به يعتقد بأنه يباشر حقه .
أما العمل التعسفي فهو الذي يقوم به صاحب الحق، وبذلك يتميز عن العمل غير المشروع الذي لا يمكن ربطه بآي حق، إلا أن ذلك الاستعمال يتم في ظروف تضفي عليه صفة التعسف .
ويورد الفقيه نفسه، رأيا للعميد ” جوسرون” يميز فيه بين العمل التعسفي وبين العمل الزائد عن الحد المعقول.
ففي الحالتين نكون أمام صاحب حق يستعمل حقه، غير أن صاحب الحق في الحالة الثانية يكون في استعماله لحقه منطلقا من مقاصد مشروعة، ومتخذا كل الوسائل اللازمة حتى لا يضار الغير، ولكن الضرر يتحقق رغم ذلك .
نورد هذه الآراء كلها، لتسليط بعض الأضواء على القرار الصادر عن المجلس الأعلى تحت عدد 364 بتاريخ 5/5/1982، في الملف المدني عدد 80039(1)، والذي أكد فيه المجلس بان :
” الشكاية التعسفية المرفوعة إلى الضابطة القضائية هي وحدها التي يمكن مطالبة رافعها بتعويض الضرر اللاحق بمن وجهت ضده، عند الحكم ببراءته، شريطة أن يتدخل الشاكي في الدعوى المحكوم فيها بالبراءة بوصفه مطالبا بالحق المدني .
وستتم مناقشة الشق الأول من حيثية المجلس الأعلى، مع ملاحظة أن المجلس الأعلى في هذه النازلة بت في ملف مدني رفعت دعواه على أساس الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود، وكانت الوسيلة المطروحة عليه هي خرق هذا النص القانوني، فردها بالحيثية المسطر مضمونها أعلاه .
•أركان الوشاية الكاذبة :
يتجلى من دراسة الفصل 445 من القانون الجنائي إن أركان الوشاية الكاذبة هي التالية :
1) صدور فعل مادي بالتبليغ
2) أن يكون هذا التبليغ تلقائيا .
3) أن يكون موجها ضد شخص أو عدة أشخاص .
4) أن يتضمن إسناد فعل يستوجب عقوبة جزائية أو إدارية .
5) أن يوجه إلى أشخاص أو هيئات محددة قانونا .
6) أن يكون البلاغ كاذبا .
7) القصد الجنائي .
***
الركن الاول :
صدور فعل مادي بالتبليغ :
المقصود بالتبليغ هو إيصال الخبر إلى الجهة التي يريد صاحب الخبر إيصاله إليها، والوسيلة المؤدية إلى هذه النتيجة كيفما كانت، كافية لتحقق هذا الشرط لذلك فقد استقر الفقه والقضاء على أن التبليغ يعتبر قائما في الحالات التالية :
•بالكتابة الموقع عليها أو المجهولة، الخطية أو عن طريق الآلة الكاتبة، أو شفويا، أو عن طريق الهاتف .
•صراحة أو ضمنيا متى كان ذلك مستفادا من الظروف والملابسات المحيطة بالقضية .
•عن طريق شكاية إلى الشرطة أو غيرها، أو عن طريق شكاية مباشرة إلى المحكمة .
•كما يكفي أن يتم عن طريق نقل الرواية عن الغير، أو بواسطة وكيل ينوب عن المبلغ .
وليس شرطا أن يتضمن البلاغ بيان هوية المبلغ ضده، بل يكفي أن تتوافر من الدلالات ما يدل على تخصيص فرد بعينه .
كما أن من يجهلون الكتابة، ويطلبون ممن يعرفها تحرير بلاغ جماعي باسمهم، يعتبرون مسؤولين عن الوشاية متى كانت كاذبة .
الركن الثاني :
أن يكون التبليغ تلقائيا :
لقد استقر الفقه والقضاء على اشتراط التلقائية لقيام جنحة البلاغ الكاذب .
لذلك فان المتهم الذي يدفع عنه تهمة، بإسنادها إلى غيره، رغم علمه بأنه بريء، لا يعتبر مرتكبا لجنحة الوشاية الكاذبة .
كما أن الشاهد الذي يستدعى من طرف الشرطة أو التحقيق أو المحكمة، للإدلاء بتصريحات حول واقعة منسوبة لشخص آخر، لا يعتبر واشيا كاذبا، إذا أقحم واقعة يمكن أن تستوجب زجر شخص آخر جنائيا أو تأديبيا، وذلك لانعدام التلقائية والمبادرة بالتبليغ، وان كان فعله يمكن أن يوصف بأنه شهادة الزور، متى توافرت كل أركان قيامها، (انظروا رأي محكمة النقض الفرنسية، كما يشير إلى ذلك الأستاذ “جرسون” في شرحه للفصل 373 من القانون الجنائي الفرنسي الفقرات 26، 27، 28) .
ويشترط الأستاذ رؤوف عبيد لعدم العقاب شرطين اثنين هما أن تكون للأقوال المكذوبة علاقة بالتحقيق، وإلا يكون الشاهد متواطئا مع المبلغ كذبا، وإلا صح اعتباره شريكا، ومستند الفقيه المصري في ذلك ما استقر عليه قضاء محكمة النقض المصرية في هذا الموضوع .
وقد ابرز الاجتهاد القضائي المغربي شرط التلقائية، في واقعة تتلخص في استدعاء مدير شركة من طرف الشرطة، وإخباره عند مثوله أمامها، بان الشخص الذي كان يشتغل لديه، قام باختلاس أشياء في ملك الشركة، إلا انه بعد إحالة المستخدم على القضاء صرح ببراءته، فأقام دعوى الوشاية الكاذبة على المدير، إلا أن المحكمة الابتدائية، وعن صواب، برأت ساحته، لانتفاء التلقائية في التبليغ.
***
الركن الثالث :
أن يكون التبليغ موجها ضد شخص أو عدة أشخاص محددين :
إن الفصل 445 ينص صراحة على إبلاغ الوشاية ضد شخص أو عدة أشخاص .
ويشترط الفقه أن يكون هذا الشخص أو الأشخاص محددين أو قابلين للتحديد ، إلا انه ليس شرطا أن يكون الشخص المبلغ عنه مسمى، بل يكفي أن يكون تعيينه واضحا، بأوصافه مثلا أو مركزه الاجتماعي، وهي مسالة يبت فيها قضاء الموضوع، دون رقابة عليه من طرف قضاء النقض .
ولا يعتبر وشاية كاذبة توجيه شكاية ضد مجهول، ولو أسفر التحقيق عن اعتقال شخص أو عدة أشخاص معينين .
وبينما يتشدد الفقيه غارو في هذا الشرط يتطلب توجيه البلاغ ضد أشخاص طبيعيين، سيرا مع حرفية النص، فان الأستاذ جرسون يرى تعميم ذلك على الهيئات المنظمة أو الجمعيات، إذ التبليغ عنها هو في حقيقته موجه ضد الأشخاص الذين يكونونها، ويبدو أن الرأي الثاني اقرب للأتباع .
***
الركن الرابع :
أن يتضمن التبليغ إسناد واقعة تستوجب عقوبة جزائية أو إدارية .
يشترط لقيام جنحة الوشاية أن تكون الأفعال المبلغ عنها، تقتضي عقوبة جزائية أو تأديبية، إذ متى كانت الواقعة تمس الشرف أو الاعتبار أو تؤدي إلى تحقير المبلغ عنها أمام الناس، فإنها تدخل في تعداد القذف، متى توافرت باقي شروطه .
ولذلك اشترط المشرع أن يتم التبليغ إلى السلطات القضائية أو الإدارية المختصة باتخاذ إجراءات بشان الواقعة، أو السلطات التي يمكنهما أن تحيل الواقعة على السلطات المختصة .
هذا، وليس شرطا أن تكون الواقعة المبلغ عنها تؤدي بالضرورة إلى تحريك المتابعة الزجرية، أو التأديبية، ولكن يكفي أن تكون قابلة بوصفها المجرد لتحريك تلك المتابعة، باعتبارها فعلا مخالفا للقانون الجنائي ومعاقبا عليه بمقتضاه، أو مخالفا للوائح الإدارية، أو الأنظمة الداخلية، ومعاقبا عليه بمقتضاها .
والفرضية تتجلى مثلا في التبليغ عن جريمة ونسبتها إلى شخص معين، مع أن الجهة الشرطية أو القضائية المبلغ إليها، تكون قد وضعت يدها قبل ذلك، على الفاعل الحقيقي، أو أن تنصب الواقعة على نسبة جناية قتل فلان من طرف آخر، مع أن الضابط المبلغ إليه مثلا، يكون يستمع في ذات الوقت، وفي مكتب آخر للشخص المدعى قتله .
ففي الحالتين، الفعل المبلغ به لا يستوجب المتابعة ضد المبلغ عنه، ومع ذلك يتحقق به هذا الشرط من شروطه الجنحة .
ويرى الأستاذ “جارسون” إن الفعل متى لم يعتبر جريمة بحكم القانون، فان التبليغ عن ارتكابه، ونسبته إلى شخص، لا يدخل في حكم الوشاية الكاذبة، ويعطي مثالا على ذلك بمن ابلغ عن ارتكاب شخص لجريمة هتك عرض قاصر بدون عنف، لكن تبين أن القاصر يتجاوز عمره 15 سنة، فهنالك اختل شرط لقيام الجنحة، فأصبح الفعل غير مجرم قانونا .
لكن متى كان الأمر محصورا في التكييف، إي في الوصف القانوني الصحيح للفعل، كمن يبلغ عن فعل على اعتبار انه سرقة، فيتم تكييفه من طرف النيابة العامة، أو إعادة تكييفه من طرف المحكمة، بأنه خيانة للأمانة، فشرط التبليغ عن فعل معاقب عليه يبقى قائما .
بل أكثر من ذلك فان المجلس الأعلى قد اقر بان لقاضي التحقيق، المبلغة إليه وقائع مخالفة للقانون الجنائي، يتابعها دون ارتباط بالوصف القانوني المرسوم لها في الشكاية. ( حكم عدد 198 بتاريخ 5/2/1959، مجلة القضاء والقانون العدد 24 صفحة 349 ) .
وتتخلص ظروف النازلة التي بت فيها المجلس الأعلى، في تلقي قاضي التحقيق لشكاية من اجل التزوير واستعماله فقط، فتبين له أن يضيف إليها جنحة الاختلاس، بناء على وقائع القضية وملابساتها .
فالتبليغ في نازلة الحال، نرى انه قد انصب على الأفعال التي أسفرت عنها نتيجة التحقيق، ولو لم يتم ذكر تكييفها كلها .
الجهات التي يجب أن توجه إليها الشكاية :
حدد المشرع هذه الجهات على النحو التالي :
– الضباط القضائيون -ضباط الشرطة القضائية -ضباط الشرطة الإدارية -الهيئات المختصة باتخاذ إجراءات بشان الوشاية -الهيئات المختصة بتقديم الوشاية إلى السلطة المختصة -رؤساء المبلغ ضده .رب العمل .
فالضباط القضائيون، المقصود بهم رجال القضاء بصفة عامة، إما ضباط الشرطة القضائية، فهم محددون قانونا بموجب فصول قانون المسطرة الجنائية والقوانين المكملة له .
وضباط الشرطة الإدارية، هم كل رؤساء المصالح والأقسام الذين لهم حق مراقبة الموظفين التابعين لهم .
الهيئات المختصة باتخاذ إجراءات بشان الوشاية، هي الهيئات المختصة بتحريك الدعوى العمومية أو التأديبية، أو إحالتها على الهيئة الحاكمة، فمن هو مختص بذلك مثلا هو وكيل الملك أو الوكيل العام ( 38، 49 ق.م.ج )، أو نقيب المحامين أو مجلس الهيئة .
أما الهيئات المختصة بتقديم الوشاية إلى السلطة المختصة، فتندرج تحتها عدة جهات شرطية وإدارية وسلطة تنفيذية وتشريعية .
ولذلك فان التوجه إلى الضابط لتبليغ شكاية أو وشاية، ليس لأنه هو المختص بتلقيها واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها، ولكن لأنه ملزم قانونا بان يعلم وكيل الملك فورا بما يحصل إلى عمله من جرائم ( الفصلين 23 و59 من قانون المسطرة الجنائية)، يعتبر تبليغا معاقبا متى ثبت كذبه .
والقول نفسه يصدق بالنسبة للسلطة الإدارية، أو الضباط العموميين أو الموظفين، فهم مكلفون قانونا بإبلاغ وكيل الملك حالا .
ووزير العدل ليس من الضباط القضائيين أو رجال القضاء كما ذهب إلى ذلك كتاب شرح القانون الجنائي الصادر عن وزارة العدل، بل هو مسؤول إداري سام، يمكنه أن يبلغ إلى رئيس النيابة ما يصل إلى عمله من مخالفات للقانون الجنائي ويأمره بان يتابع ( الفصل 48 من قانون المسطرة الجنائية) .
وإذا تعلق أمر بمخالفة تأديبية تنسب إلى احد موظفي وزارة العدل، فانه بطبيعة الحال هو الرئيس الأعلى، مختص باتخاذ الإجراءات اللازمة بشان الواقعة المبلغ عنها .
ورئيس الدولة قررت محكمة النقض الفرنسية بشأنه منذ تاريخ 3/7/1957، بان التوجه إليه ببلاغ أو شكاية، ليس المقصود منها إلا ضمان إحالتها على الجهات المختصة .
التقييم العام:
ويعتبر الفقه والقضاء أن البرلمان أو السلطة التشريعية هو من الهيئات المختصة بإحالة الشكاية على من له حق اتخاذ إجراءات بشأنها .
وأخيرا فان رؤساء المبلغ عنه، هم المسؤولون على مراقبته وتأديبه إداريا .
ويطبق حكم الوشاية الكاذبة على تبليغ الشكاية إلى جمعية خاصة بنسبة واقعة كاذبة إلى احد أعضائها .
وأصحاب العمل، عبارة أراد بها المشرع تعميم مفهوم الهيئات المختصة على القطاع الخاص .
وليس شرطا أن يتم التبليغ في الحالات المسطرة أعلاه مباشرة، بل يكفي أن يكون التبليغ من شانه أن يصل ولو عن طريق غير مباشر إلى من يقصد الواشي إبلاغ الواقعة إليه، كالنشر في جريدة مثلا .
وأخيرا فان تبليغ الشكاية إلى من له مجرد سلطة معنوية على المبلغ ضده كالأب أو المعلم لا يشكل جنحة الوشاية الكاذبة .
الركن الخامس :
أن يكون البلاغ كاذبا :
إن عنصر كذب الوشاية المبلغ بها ضروري لقيام جنحة الوشاية الكاذبة .
ولبيان ذلك نرجع إلى تعريف الكذب عند علماء المعاني، الذين يقولون بان لكل خبر يتلفظ به الشخص نسبتان، نسبة تفهم من الخبر ويدل عليها الكلام وتسمى ” النسبة الكلامية” ونسبة أخرى تعرف من الخارج والواقع، بقطع النظر عن الخبر وتسمى ” بالنسبة الخارجية” فان طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية في الإيجاب كان الكلام صدقا، وإلا كان كذبا، فإذا قلت مثلا الشمس طالعة وكانت كذلك في الواقع والخارج، اعتبر خبري صدقا، وإلا فهو كذب، لذلك فصدق الخبر هو مطابقته للواقع والخارج .
إلا أن هناك فئة أخرى من علماء المعاني وعلى رأسهم إبراهيم النظام، يقولون بان صدق الخبر هو مطابقته لاعتقاد المخبر به، وان كان غير مطابق للواقع، فإذا قال شخص بان الشمس طالعة، وهو يعتقد أنها كذلك، فهو ليس كاذبا .
وقد احتج لذلك بما يلي :
أن من يعتقد أمرا ما فيخبر به معتقدا انه صدق وهو غير كذلك فهو ليس كاذبا، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فيمن ذكر، ما كذب ولكنه وهم .
ثم في قوله تعالى : { واللـه يعلم أن المنافقين لكاذبين}، فقد كذبهم في قولهم : ” انك لرسول الله” وقد كان الخبر مطابقا للواقع، إلا أنهم لم يعتقدوه .
والكذب في مسالة الوشاية، يعتبر قائما دون شك ولا ريب، متى دخل في تعداد النوع المشار إليه أولا، ويبقى النوع الثاني في تأويل الكذب، وهو الذي قد يثير نقاشا فقهيا وقضائيا، عرضنا لرأي الفقه فيه عند بحث موضوع الوشاية الكاذبة والعمل غير مشروع، ويبقى تقدير مدى علم المبلغ بكذب الواقعة، أو تسرعه فقط وعدم ترويه، مسالة موضوعية تخضع لتمحيص قضاة الجوهر، للقول بان التبليغ ذو طابع زجري، أو هو مجرد عمل تقصيري، خاضع لأحكام القانون المدني .
واشتراط كذب الوقائع أبرزته المحكمة الابتدائية في حكمها المشار إليه سابقا عندما أكدت :
” أن الركن المعنوي لجريمة الوشاية الكاذبة يتحدد في أن الفاعل وهو يتقدم بوشايته الكاذبة إلى السلطة المختصة يكون عالما تمام العلم أن إبلاغه هذا كان مفتريا لا أساس له من الحقيقة كلا أو جزء” .
والكذب في الوشاية لا يشترط في الواقعة كلها بل إن حشر وقائع كاذبة، أو مسخ الوقائع الحقيقية أو تشويهها، كاف لقيام هذا الركن .
والحكم القاضي بالإدانة من اجل الوشاية الكاذبة لابد أن يبرز عنصر كذب المبلغ أو المشتكي، فيما أوشى به أو اشتكى منه، وعدم إبراز هذا العنصر يجعل الحكم مشوبا بعيب التقصير وانعدام التعليل.
الركن السادس :
القصد الجنائي :
يشترط لقيام جنحة الوشاية الكاذبة القصد الجنائي العام، وهو إرادة تحقيق الواقعة الإجرامية بعناصرها القانونية المكونة لها .
والقصد الجنائي العام يقوم على عنصرين هما : الإرادة والعلم، أي لا بد أن تتجه الإرادة إلى السلوك والى النتيجة المعاقب عليها .
وفي هذا المجال يختلف القانون المغربي عن القانون المصري ( الفصل 344) الذي نص صراحة على عبارة “بسوء نية وسوء قصد” .
فالمشرع المصري يشترط القصد العام، ويتطلب إضافة إليه قصدا خاصا، هو سوء النية وقصد الإضرار
ومعلوم أن المشرع متى اكتفى بتعريف جنحة ما، وحدد ركنها المادي، دون أن يخصص الركن المعنوي بعبارات محددة، فانه لا يتطلب إلا القصد العام وحده، دون القصد الخاص، الذي متى تطلبه استعمل عبارات محددة، كالقول ” بسوء قصد” و” بقصد التدليس” و” بقصد الإضرار” .
إما مشكل سوء النية الذي ثار النقاش حوله قديما وحديثا، والذي يبدو أن رأي القضاء والفقه لم يستقر بشأنه على حال، فان تأويله على ضوء أحكام القضاء وآراء الفقهاء بعد استعراض بعضها ينبغي أن يتم على النحو التالي :
موقف المجلس الأعلى:
•اصدر المجلس الأعلى حكما تحت عدد 198 بتاريخ 5/2/1959 الصفحة 349 من مجلة القضاء والقانون العدد 24، اكتفى فيه بعنصر ?.. ” عدم صدق الوقائع المعلن عنها” دون اشتراط سوء النية .
•اصدر المجلس الأعلى قرارا تحت عدد 260 س 3 بتاريخ 22/2/1960 في القضية رقم 4275، وضع بموجبه مبدأ هو أن علم المتهم بكذب الوشاية وقت التبليغ، هو القصد الجنائي في جنحة الوشاية الكاذبة، وإذا لم يتضمن الحكم ما يفيد تقديمها فانه يكون ناقص التعليل .
•اصدر المجلس الأعلى قرارا تحت عدد 988 بتاريخ 4/1/1962 منشورا على الصفحتين 76 و77 من مجموعة قرارات المجلس الأعلى، الغرفة الجنائية الطبعة الفرنسية الجزء الثالث أكد فيه بان” سوء النية الذي يعتبر عنصرا من عناصر تكوين جنحة الوشاية الكاذبة، يتجلى في العلم وقت التبليغ، إما بكذب الوقائع المبلغ عنها وإما بتحريف وصفها المعاقب قانونا .
•اصدر المجلس الأعلى قرارا تحت عدد 789 س 22 بتاريخ 03/5/1979 اعتبر فيه تعليل المحكمة، مصدرة القرار المطعون فيه لحكمها بالقول، بان عناصر الوشاية الكاذبة لا تتوفر في هذه النازلة إذ أن من أركانها الأساسية أن تكون الوقائع كاذبة، وان يكون الواشي قد قصد الإضرار بالموشى به، وان المتهم لم يقصد الإضرار بالغير، بل كان على صواب، وكان كذلك محقا في الدفاع عن نفسه وحقوقه المشروعة التي لولا طعنه في شهادة اللفيف المذكور لتمكن المطالب بالحق المدني من الاستيلاء على ربع المستودع الذي يملكه عن طريق الشراء، تعليلا مصادفا للصواب .
•اصدر المجلس الأعلى بتاريخ 22/9/1983 القرار المنشور على صفحات هذه المجلة، والذي اعتمد فيه على القول بان المشرع المغربي لم يشترط لقيام جنحة الوشاية الكاذبة عنصر سوء النية وقصد الإضرار، بل إن القصد الجنائي العام كاف وحده لتكوين الركن المعنوي .
رأي بعض الفقهاء :
•يشير الأستاذ جارسون في شرحه للفصل 373 من القانون الفرنسي المطابق حرفيا للفصل 445 من القانون الجنائي المغربي، إلى أن القصد الجنائي العام كاف وحده للمؤاخذة من اجل الوشاية الكاذبة، ويشير إلى العديد من قرارات محكمة النقض التي سارت في نفس الاتجاه .
ثم يأتي بعد ذلك ويتحدث عن عنصر سوء النية، ويشير إلى قرارات محكمة النقض التي تتطلبه كعنصر من عناصر الوشاية الكاذبة، ويعرفه بأنه هو علم المبلغ بكذب الواقعة المبلغ عنها .
ولرفع الإشكال، يمكن القول بان تعبير حسن النية وسوء النية، ليسا من التعابير المتداولة في إطار القانون الجنائي، وبصفة خاصة في الركن المعنوي للجريمة، واللهم ما كان من بعض الحالات الناذرة، كالفصول 542 و543 و547 و553 و560 و562 و563 من القانون الجنائي، والمتعلقة كلها بجرائم مخلة بالثقة، وهي من الجرائم الاقتصادية التي ألحقت بالقانون الجنائي في آونة متأخرة .
ذلك انه بالرجوع إلى المبادئ العامة للقانون الجنائي، نجد الحديث عن القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص، وعن الباعث أو الدافع، وعن القصد المباشر والقصد الاحتمالي، وعن القصد المحدد وغير المحدد وعن سبق الإصرار، وعن الخطأ الغير العمدي، وعن الغلط في الواقع أو في القانون .
أما سوء النية أو حسنها فنجد له مجالا واسعا في القانون المدني بوجه عام، وفي إطار القانون الجنائي، فان المشرع متى ابتغى عنصر سوء النية كشرط لقيام جريمة ما، فانه ينص على ذلك صراحة، ولا سبيل إلى اشتراطها دون نص قانوني .
وإذا كان تعريف قرار المجلس الأعلى الصادر سنة 1960، وتعريف الأستاذ جارسون لسوء النية، وهما تعريفان منطبقان تماما، ” بأنها هي العلم وقت التبليغ، إما بكذب الوقائع المبلغ عنها، وإما بتحريف وصفها المعاقب قانونا”، فان هذا العلم بالكذب هو بذاته وصفاته القصد الجنائي العام المشترط لقيام جنحة الوشاية الكاذبة .
فما دام هذا يفسر بذاك، فلنكتف بالقصد العام وحده، والأمر الذي ينبغي تجنبه هو تمييز عنصر سوء النية، وإبرازه وحده كعنصر من عناصر تكوين جنحة الوشاية الكاذبة أو إبرازه وحده مع إضافة قصد الإضرار، فلا بد من بيان القصد العام، وهو العلم بكذب الوقائع المبلغ عنها .
ففي القرار عدد 789 الصادر بتاريخ 3 ماي 1979 نلاحظ أن القول بان من أركان الوشاية الكاذبة أن يكون الواشي قد قصد الإضرار بالموشى به، هو إضافة لا يستحملها النص القانوني .
كما أن قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء الصادر بتاريخ 27/11/1978 عندما صرح بان ركن الوشاية الكاذبة هو النية السيئة للإضرار بالمدعى عليه، يكون قد صرف اهتمامه إلى هذا العنصر دون إبراز العنصر الأساسي وهو القصد العام .
فعبارات سوء نية أو بقصد الإضرار، أو إراديا، أو بدافع الحقد، أو الانتقام، هي مجرد تعابير إضافية يريد بها الحكم المتضمن لها أن يعلل تعليلا كافيا العنصر الأساسي الذي هو القصد العام .
وفي ختام هذا الركن من أركان جنحة الوشاية الكاذبة، من المستحسن أن يعني القاضي الزجري بخصوص الركن المعنوي لهذه الجنحة، بإبراز عنصر العلم وقت التبليغ بكذب الوقائع المبلغ عنها، متى تجمعت له باقي الأركان، وثبت قيامها، فقرر الإدانة، وان يستعمل تعبير الغلط في الواقع، عندما يتأكد له اعتقاد الواشي أو المشتكي بصحة ما أوشى به، أو اشتكى منه، وان يتجنب في الحالة الأولى استعمال تعبير سوء النية وفي الثانية تعبير حسن النية لان ذلك هو غير مشترط قانونا، قد يصرفه عما هو مشروط، إضافة إلى كون هذه التعابير واسعة جدا، يصعب تحديدها لتعلقها بحالة نفسية، وعقلية باطنية .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً