السنة الخامسة والعشرون1945
نص المحاضرة التي ألقيت بدار نقابة المحامين الوطنيين في شهر ديسمبر سنة 1945
التوازن في عناصر الكيان الوجودي وفي الحقوق العامة والخاصة
جزاء الاختلال التوازني والتعسفي الخاص عمليًا وقضائيًا للدكتور عبد السلام ذهني بك المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة
التوازن آية من آيات العمران وهو أساسه وعماده وسنده الحيوي، وهذه السماوات والكواكب في الفضاء بما نعلمه وبما لا نعلمه إن هي قائمة إلا على التوازن والتعادل والتناسب فيما بينها بالقدر الذي أراده الخالق جل وعلا، وإذا اختل ذلك التناسب واختل معه التوازن انهار الفضاء الكوني على بعضه البعض وتلاشى العالم الوجودي لذلك الاضطراب التوازني الذي يسوده إذ ذاك.
ولهذا التوازن العالمي السماوي في القبة الزرقاء أثره في عمران الكوكب الأرضي، والأرض لا تحيي ولا تعيش إلا إذا حكمها التوازن في عناصرها، وإلا إذا طغى عنصر على عنصر طغيانًا مس التوازن في صميمه لأصبحت الأرض غير الأرض والسماء غير السماء.
ولهذا التوازن في العالم الأرضي أثره أيضًا في الحياة الكونية الإنسانية، والناس فيما بينهم وبين حاكمهم إنما يعيشون تحت سلطان التوازن، فإذا طغت الطائفة الحاكمة كما حصل بروما في القرن السادس قبل الميلاد بين عوام الشعب وإشراف الأمة ونزلت بالطائفة المحكومة أنواع من الأذى، قفز الدهماء وجعلوا من ضعفهم قوة جاءتهم من الإيذاء ومن الاستهتار بحقوقهم الطبيعية وقاموا في وجه الأرستقراطية ونادوا بما أسبغت عليهم الطبيعة من حقوق ومزايا لاصقة بالفرد وحيوية الفرد وكيان الفرد، وما عتم إن تم الاتفاق بالوفاق بين الدهماء والإشراف ووضعت قوانين الاثنتي عشرة لوحة.
وهذه فرنسا وثورتها سنة 1789 وقد قام شعبها ونادى بسقوط حملة الاستبداد فاستقرت له حقوقه بما نشر على الكافة في نشرة حقوق الإنسان والمواطن سنة 1792، ووضع القانون المدني سنة 1804 وعرف كل فرد ما له وما عليه وأصبح لا يسوده إلا ما أراده بمحض رغبته فلا يقيده إلا ما تعاقد عليه وارتضاه لنفسه وبنفسه وتقررت قاعدة (العقد قانون المتعاقدين) المادة (1134) مدني فرنسي، وفازت بما نالته من التوفيق في مجالات التقاضي، وتعينت حقوق السلطة الحاكمة ورسمت لها مناهج ووضع الدستور على خير ما تبغيه طبيعة العمران الصحيح وتوازنت الأمور واستقرت في مواطنها.
ولهذا التوازن العمراني والكوني صداه في العالم الدولي وما للدول مع بعضها البعض من شؤون وأمور مختلفة متباينة، ولم تلبث الدول من عهد بعيد مترامي الأطراف في بطون التاريخ الدولي العام أن تعمل من جانبها على حفظ ذلك التوازن العالمي الدولي حتى تضمن لها هدوءًا وطمأنينة وأمنًا يسود أرجاء العالم فتعمل ما من شأنه رفع شأنها ورفع شأن الإنسانية.
وما الحروب إلا إمارة من إمارات فقدان التوازن الصحيح السليم، فإذا ما اختل التوازن الدولي لسبب من الأسباب السياسية وغيرها بانت إذ ذاك مظاهر ذلك الاختلال وقامت الحرب وفكر زعماء الدول في ردء الصدع ولم الشعث وجمع العشائر والتفاهم في رد المياه إلى مجاريها وفي محاولة إزالة الأسباب وتخيل ما شاءت لهم مقاديرهم الفكرية من النظم والمشاريع طلبًا في سيادة الهدوء وشمول الطمأنينة نحو الكافة.
والتوازن هو لازم في الحياة الكونية والدولية فهو كذلك لازم في حياة الأفراد وفي معاملاتهم مع بعضهم البعض، والفرد وقد حمل حقه وأصبح صاحبه وحده لا يزاحمه مزاحم ولا يعتدي عليه معتدٍ، فإنه يتعين عليه أن يقف في الاستمتاع بحقه بما ينطوي مع طبيعة الحق وبما للحق في يده من رسالة عمرانية لازمة في الحياة والوجود، فإذا شاء التمتع بحق وجب عليه ألا يرهق الغير فيه وأن لا يصيبه بأذى غير مشروع وأن لا يخرج فيه عما رسم له اجتماعيًا وعمرانيًا وأن لا يبتغي منه سوى القدر اللازم واللازم له في مصلحته وأن لا يصرفه في سبل النيل من خصيم له وإلحاق الأذى به لا يقصد إلا الأذى، وإلا إذا بان بأن صاحب الحق إنما أراد الأذى والأذى وحده يخصم له وجب حينئذٍ الضرب على يده وإيقافه عند حده.
وإذا كان الحق متعة في يد صاحبه ينفرد بها وحده لا يشاركه فيها أحد، وجب أن تقف المتعة لديه عند حد المنفعة الخاصة فحسب، وأما والتطوح بالحق في سبيل الأذى وإلحاق الضرر بالغير دون ابتغاء المصلحة الجدية، فهو أمر لا يبيحه القانون الصحيح ولا يقره العمران وتمقته الأخلاق وتزدريه الآداب.
والحق في روما وقد رسمت له مناهج وتعينت له طقوس ووضعت له رموز وعرقت له عبارات مألوفة، والحق وقد وضعت هذه القيود الشكلية التي استمدت كيانها مما أودع في خلق الروماني من صفات بارزة تولدت عنده بحكم أنه كان جنديًا جبل على الطاعة ومزارعًا طافت به الوساوس فمال للقساوسة وما لهؤلاء فيها من شأن وشؤون دينية، ومالوا إليه بما قام في نفسه من نزعة تقديس أرواح الآباء والأجداد: هذا الحق الروماني وقد أحاطت به الدقة في الشكل والمعنى حيث يتعين الحق تعينًا لا يقبل طعنًا، ما دام قد أفرغ في القالب التشريعي المعدلة: هذا الحق على شدته، ومع سد أوجه الطعن فيه فيما نزل إلى الغش والتواطؤ وسوء النية، قد انتهى الأمر فيه أن عالج عنده كل من البريتور الروماني والفقيه المفسر تفسيرًا رسميًا أو عرفيًا،
عالجوه بأن احترموا لحق في ذاته وما حفه من قيود شكلية ورمزية وقداسة خارجية، عالجوه بذلك الاحترام الشكلي، وبأن قرروا في وجه صاحبه دفوعًا فرعية [(1)] إن هو قام بالمطالبة في وجه من مسه بسوء وأراد الإيذاء له والإصرار عليه، أجاز له البريتور الروماني حق اللجوء إلى دفع فرعي يبطل الحق لدى صاحبه فيبطله إبطالاً، ومع التطور في الدفوع، قامت بجانبها حقوق لأصحابها يصح لهم مباشرتها دون تربص صاحب الحق الأول في المطالبة به، وبذا ظهرت الدعوى البوليسية [(2)] تحمل اسم المشتري التي قال بها بولص [(3)]، والدعوى البوليسية [(4)] بما قاله فيها صاحبها بوبلوسيوس [(5)].
وصاحب الحق وهو في طريق الاستفادة منه إنما يعول على ماله فيه من منفعة مطلقة غير عابئ بما يمكن أن يلحق حقه من عيب عاصره وقت إنشائه، أو عيب لحقه فيما بعد إذا ما تعسف في استعماله وأراد أن يمس ما يجب أن يكون بينه وبين غيره من التوازن الوجوبي بين الأفراد.
وجاء قانون نابليون سنة 1804 وقد تميز بطابع الفردية [(6)] وما لها من قداسة تقررت له بحكم الثورة الفرنسية سنة 1789 وبحكم نشرة حقوق الإنسان سنة 1792 [(7)]، جاء وبرغم تميزه بذلك الطابع فإنه لم يشأ أن يجعل لسوء النية وتبييت الإيذاء أثرًا في تكوين الحقوق، ومد أصحابها بسلاح القوة وأداة الحماية، فأبطل الغش والاعتداء بالقوة وأبطل التعاقد مع مفقودي الأهلية ولم يجز الغبن في صور معينة [(8)]، وكره أن يتجرد العقد في كثير من صوره من الطابع الأخلاقي والميزة الأدبية.
وبرغم ما للعقد من قداسة وما للحق فيه من قوة وما لسلطان الفردية فيه من أثر، فإنه كلما هم صاحب حق في الانتفاع بحقه، وهو لا يلوي إلا على إلحاق الأذى بالغير دون أن ينشد مصلحة مادية معينة، ولم يرد من الاستفادة من حقه سوى السوء والنزول بالضرر لدى خصم له بيت الشركة: كلما حصل ذلك أبى القضاء الفرنسي أن يقيم لهذا العمل وزنًا وعمل على الضرب على يد صاحبه، وبذا تقررت نظرية الاعتساف في استعمال الحق [(9)] حفظًا لميزة التوازن بين الحقوق حيث لا يعبث بها عابث، وتقررت في مناحٍ عدة من القانون وتوزعت على أشكال متباينة من صوره وتقرت للحق ميزة أخلاقية لا يفتر عنها ولا تفتر عنه.
ولما بانت نظرية الاعتساف بالحق وانطلقت في ميادين العمل القضائي وأقرها القضاء الفرنسي، ظهر صداها بالتشريع المصري المختلط سنة 1875 [(10)] وبالتشريع الوطني الأهلي سنة 1883 [(11)]، ولا يزال التشريع المصري بنوعيه يؤيدها في كثير من تشريعاته، من طريق الحد من حرية صاحب الحق وتقييده بقيود عدة حفظًا للتوازن بما فيه حفظ للعدالة وضمانًا لحياة بعض المنكودين ممن افترستهم ملابسات الحاجة وتنمرت لهم ظروف اليأس والبؤس.
وانطلقت نظرية الاعتساف في القضاء الفرنسي والمصري المختلط والوطني انطلاقًا بعيد المدى وقامت في وجهها ثورة من خصومها أرادوا الوقوف دون نموها وهم يكيدون لها كيدًا بحجة أن الأساس فيها إثبات سوء النية وهم عمل نفساني سيكولوجي، وهو من الوهن والضعف بما يجعل طريق الإثبات فيه محفوفًا بالمخاوف والمخاطر والخطأ والغلط، وبما يعرض الحقوق لخطر الزوال والانهيار، وفي هذا ما فيه من المساس بذات الحق وكيانه وأصله.
ولكن نظرية الاعتساف أو نظرية التوازن أبت إلا أن تنطلق فيما أعد لها بطبيعة الحال في ميادين الحياة القضائية وأخذت بها تشريعات عدة وأقرتها أمم في نصوص قوانينها وأخذت الحملة عليها عندئذٍ تخف من وطأتها وأبوا خصومها إلا أن يسيروا بها في طريق المسؤولية بنوعيها المسؤولية التقصيرية [(12)] والمسؤولية الشيئية أو اللاتقصيرية [(13)] على اعتبار أن ما وقع في نظرهم لم يقع من طريق استعمال الحق لأن استعمال الحق لا يمكن أن يترتب عليه مسؤولية ما، إنما وقع من طريق إلحاق الضرر بالغير ضررًا يرجع السبب فيه إما إلى خطأ [(14)] أو إلى ضرورة الأخذ بقاعدة المخاطر [(15)] أي قاعدة الغرم بالغنم [(16)].
وسواء اتصلت نظرية الاعتساف بنظرية المسؤولية في شطريها التقصير والشيئي كما ذهب خصومها، أو قامت على أسس خاصة بها من حيث الطابع الأخلاقي اللازم للحق بحيث لا يجوز بحال أن يتجرد الحق في ذاته عن العناصر الأخلاقية، وبحيث الحيلولة بين صاحب الحق وبين تمتعه بحقه من طريق الإخلال بالتواني ومن طريق رغبته في الوصول بالأذى إلى من يريد إيزاءه: سواء كان هذا أو ذاك فقد تقررت النظرية (نظرية الاعتساف في استعمال الحق) وشقت لها طريقًا بعيد المدى في القضاء الفرنسي والقضاء المصري المختلط والوطني،
وأخذ بها كثير من الشرائع الأجنبية التي أيدتها بنصوص لم تخشَ فيها الجانب البسيكولوجي وما يقوله فيه خصومها من خطرة على الحقوق والمعاملات، ما دام أن الشرائع جميعها من عهد الرومان حتى اليوم لا تقيم وزنًا لسوء النية والغش والتدليس، وهي عيوب إن دلت عليها أحيانًا بعض الدلائل المادية كالأرقام وغيرها، فإنها في ذاتها تتكون من عنصر نفساني أخلاقي لا بد فيه من الدخول في قرارة النفس للوقوف على ما عبثت به تلك النفس من رغبة الإيذاء بالغير ومن نية إيصال الأذى به.
وأما وقد استقرت النظرية نظرية الاعتساف أو التوازن فيها نحن أولاء نقوم بعملية الاستعراض لها في ميادينها الحيوية وفي مساقطها التشريعية وفي منابتها القضائية العملية، وإنا لنعني على الأخص بما لها من مظاهر حيوية مادية وما استجلاه القضاء لها وما أفاده منها مما كشف عنه الكثير من الأقضية بين الأفراد، والقاضي إنما هو الملجأ الذي يهرع إليه الفرد ويطلب إليه أن يرفع عنه ما نزل من أذى لا مبرر له، وأن يقف به دون المعتدي وعلى الأخص ذلك المعتدي الذي جرد في اعتدائه سلاحًا انتزعه من حقه فشوه الحق ومسخه مسخًا وذهب فيه مذهبًا لا يتفق والحياة والعمران، إنما هو مذهب مشبع بالسوء مغمور بسوء النية، لم يرد به نفعًا بل أراد به سوء وسوء.
وللاعتساف والإخلال بالتوازن مظاهر بين الحاكم والمحكوم وبين السلطة والفرد.
والذي يجب أن يحمي ويعنى بأمره هو الفرد والجماعة: الفرد من حيث حقوقه الفردية، والجماعة من حيث أن لها كينونة هي ملاذها الأكبر وتتركز فيها حيويتها.
وقانون الجماعة والفرد والحاكم والمحكوم هو الدستور، وواضع الدستور مأخوذ بالحق الأسمى [(17)].
والحق الأعلى فإن هو خالفه كان دستوره معيبًا، وواجب القاضي أن يحمي الفرد من غصب الغاصب مهما كان الغاصب، فإذا التوى القانون وخالف الدستور أخذ القاضي بيد الفرد المضار وقضى له بعدم دستورية القانون لأن في التواء القانون ومخالفته للدستور وللحق الأعلى مساسًا بقاعدة التوازن لاعتساف أصاب القانون، فإذا قضى القانون بإبطال حرفة تركزت فيها حقوق لبعض الأفراد ونالهم ضرر بسبب إلغائها وجب على القانون القضاء بتعويض في مقابل الضرر الذي وقع من طريق حماية الجماعة التي استفادت من نزع ملكية الحقوق لدى الأفراد المضارين، فإن لم يفعل القانون على القاضي القضاء بالتعويض، لأن في الإلغاء نزع ملكية للمصلحة العامة، ولا بد من تعويض الفرد فيما ذهب للمصلحة العامة والمنفعة العامة.
والحاكم في توزيعه سلطان الحكم على الأفراد إنما يقوم بأعمال إدارية [(18)] يجب أن تتصرف وأن لا تتصرف إلا إلى المنفعة العامة، فإذا أريد بالعمل الإداري نية الأضرار بفرد معين زالت عن العمل الإداري مسحته الإدارية وتولت عنه حصانته القضائية، وزوال الحصانة يتعين إما في إبطال العمل الإداري وعدم نفاذه وفي التعويض الكلي أو التهديدي [(19)] أو بالتعويض فقط بشأن الموظف المفصول، ولمجلس الدولة [(20)] الضمان للموظف باعتباره دستوره وسنده الأساسي.
وللحق في ذاته قوة تشد أزره وتحمي حماه، ولا يفهم الحق إلا إذا أمدته القوة بسلطان الحماية، وقوة الحق العقيدة فيه وبصحته لصاحبه، والالتجاء إلى القاضي بالدعوى، والدعوى سلاح الحق، وهي ترفع في جميع الأحوال ولا يحول دونها حائل ولا يوقفها موقف ويجب أن تقبل في شكلها أمام القضاء، فإذا تعسف فيها رافعها ورفعها مدفوعًا بغرض التنكيل بخصيمه وتبييت الإيذاء له، نظرت وقتئذٍ وقضى فيها بالرفض، وجاز لمن قضى له برفع دعوى التعويض على رافع الدعوى الأول.
ولقد عمل الإنكليزي على تعطيل الدعوى في ناحية مبينة بقانونهم الصادر في 14 أغسطس سنة 1896 بتقرير قاعدة مانعة [(21)] برغم ما عرف به التشريع عندهم من طابع الفردية [(22)] وطابع الإطلاق [(23)] والنزوع إلى غير روح التضامن وإلى النبو عنه، والأخذ بقدر وافر من التشدد في أمور الحياة [(24)].
ذلك أنه قرر الحجر على المدعي في رفع الدعوى إذا أكثر من رفعها بلا طائل وكان خاسرًا لها، ويصدر الحجر من محكمة الاستئناف وبناءً على طلب النائب العام [(25)]، وانتهت بأن لانت شرائعها وانسابت في طريق الضرب على أيدي كل من يعبث بالحقوق من طريق الإيذاء والمضايقة [(26)] أو من التعسف المؤذي في القضايا [(27)].
والدعوى إذا رفعت تعين فتح الأبواب فيها في المعارضة والاستئناف وإعادة النظر والنقض، وفي إعادة النظر والنقض يقول القانون بالغرامة لمن فشل، ويجيز التعويض أيضًا (المادة 387/ 431 مرافعات، و500 فرنسي، و(16) و(30) من قانون إنشاء محكمة النقض الصادر في 2 مايو سنة 1932، والمعدل بالقانون رقم (78) سنة 1933، إذ أجاز مصادرة الأمانة والحكم بالتعويض)، وخاسر الدعوى يتحمل مصاريفها، على أنه يجوز الحكم بالمقاصة فيها وتوزيعها على طرفيها (المادة 113/ 118 مرافعات) [(28)].
والحكم بالتعويض على رافع الدعوى إذا خسرها وكان ينوي الكيد بها لخصيمه منصوص عنه بالقانون (المادة 114/ 119 مرافعات).
ومصاريف الدعوى على من خسرها، ويتحمل بها حتى من كسب الدعوى إذا تبين أنه هو الذي تسبب فيها كغيابه وصدور الحكم غيابيًا ورفع معارضة من جانبه (المادة (118) مرافعات مختلط ومعدلة بالقانون في أول ديسمبر سنة 1913).
وإذا رفع الاستئناف وتبين أنه كيدي جاز للمستأنف عليه أن يطلب أمام الاستئناف الحكم له بتعويض عن ذلك الاستئناف الكيدي.
وكان الرومان في عهودهم الأولى في عصر نظام الدعاوى القانونية [(29)] يقررون قبل البدء في الدعوى والمرافعة فيها على شرط اليمين والمراهنة [(30)] تكليف كل من الخصمين على رصد مبلغ معين في التراهن يتراوح بين 50 آس (عملية رومانية)، و500 آس يضيع على من يخسر، ويأخذه القساوسة مضافًا إلى الأملاك العامة [(31)] وكانوا يقررون عقوبة خاصة [(32)] تقضي بمعاقبة البائع بضعف قيمة ما قرره على غير صحة بقائمة شروط البيع، الأمر الذي من أجله اضطر المشتري إلى رفع الدعوى عليه [(33)] وقرروا عقوبة العار والتشهير [(34)] على من يلجأ للغش والتدليس ويعبث بأحكام الرهن والوصاية والقوامة والوديعة.
واليمين في الدعوى جائزة في صورتيها المتممة والحاسمة، ولكل طرف من طرفي الدعوى أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الطرف الآخر (المواد 163 – 176 مرافعات)، ولا يجوز رفضها ويجوز ردها على طالب الحلف، وإذا تبين للقاضي أن اليمين طلبت حاسمة وكان طلبها يرمي إلى التنكيل بخصمه حتى إذا ما حلفها أخذ يشنع عليه في مجالات التعامل بالتحدث بالسوء فيه وأنه حلف يمينًا كاذبة، عند ذاك وجب عدم توجيه اليمين الحاسمة باعتبارها في هذه الحالة حقًا تعسف فيه صاحبه وأراد به خرق التوازن بين الحقوق.
والإنكار بالتوقيع والطعن بالتزوير جائز وعلى من فشل فيه دفع الغرامة القانونية (المواد 251 – 272 مرافعات، و273 – 292 مرافعات).
ويلزمه التعويض إذا كان الإنكار أو الطعن بالتزوير كيديًا غير جدي، والتعويض في ذلك كله على أساس المادة (151) مدني وطني المنقولة حرفًا بحرف عن المادة (1382) مدني فرنسي، والمادة تقرر قاعدة لعل المكان اللائق بها هو الدستور لأنها تقرر مبدأ له مساس بالحرية العامة.
وقد يقف في وجه التوازن في الحقوق الدفع بقوة الشيء المحكوم فيه فيحول دون استقرار التوازن ويقف منه موقف حجر عثرة، وذلك أنه لا بد في سبيل الهدوء العام والطمأنينة الشاملة أن ينتهي النزاع بحكم يضع حدًا لما يشتجر بين الفردين بحيث لا تجوز العودة إلى النزاع من جديد إذا ما أثاره أحدهما، وقد يكون الحكم قد حصل عليه صاحبه بما لا يلائم مع الحقيقة المستورة ثم وفق خصيمه إلى سند قاطع في هدم ما حكم به، وإذا كان سبب اختفاء السند إهمال من صاحبه فلا سبيل له في العودة إلى النزاع، أما إذا كان الاختفاء يرجع لسبب قهري خارج عن إرادته ربما جاز النظر من جديد والمسألة شائكة في حاجة إلى عناية خاصة.
وقد ثار الجدل طويلاً فقهًا وقضاءً بشأن عناصر قوة الشيء المحكوم فيه بشأن الوحدة في كل من العناصر الثلاثة الشخصية والموضوع والسبب وعلى الأخص في الأخيرين، وربما جنحت الآراء إلى التوسع فيهما كلما كان محل العدالة صارخًا واختلال التوازن في الحقوق داعيًا إلى الأخذ بالعدالة في سبيل الأخذ بيد من كان الحكم في غير مصلحته،
وقد تعددت المناهج وتواردت الآراء بشأن المادة الفرنسية (1351) مدني فرنسي الموضوعة سنة 1804 والتي أخذ عنها الشارع المختلط سنة 1875 المادة (297) مدني، وقد وضع الشارع الوطني مادته (232) في سنة 1883 بحيث يتسع لها ميدان فسيح في تبرير العودة إلى النزاع بالجوع إلى اختلاف في السبب أو الموضوع أي السند القانوني والتكأة العلمية، وذلك في سبيل الإصلاح من خطأ وإزالة ما قد يقع من الضرر.
ولعل من الأمثلة البارزة حديثًا في هذا الشأن ذلك الحكم الصادر من محكمة الاستئناف المختلطة في 19 يونيو سنة 1945 في القضية رقم (175) للسنة القضائية 70 [(35)] إذ صدر الحكم بإلزام شركة تأمين بدفع قيمة مبلغ التأمين إلى ورثة الشخص المؤمن له ولم يأخذ بما قالت به الشركة في أن المؤمن له، وكانت امرأة هي من مواليد سنة 1875 وتدعي أنها من مواليد سنة 1885 واستند الحكم إلى ظروف وقرائن، بينما قد صدر حكم في قضية شركة تأمين أخرى يرفض دعوى الورثة إذ تبين أن المؤمن لها من مواليد سنة 1875 بينما كانت تدعى هي وورثتها من بعدها أنها من مواليد سنة 1885 أي أنها غشت الشركة في عشر سنوات من عمرها وهو تقدير لا يصح التجاوز فيه، وأصبح الحكمان نهائيين وصدرا في مواجهة الورثة، والحكم الأول ضد الشركة الأولى،
والثاني في مصلحة الشركة الثانية وهو القائل بأن المؤمن لها من مواليد سنة 1875، وأودعت الشركة المحكوم ضدها المبلغ بخزانة المحكمة لتوزيعه على الدائنين أصحاب الحقوق فيه وقالت بأنها هي منهم على اعتبار أنها أصبحت تداين الورثة الآن بالفرق بين المبلغ المحكوم به وبين المبلغ الذي يستحق لهم على أساس مواليد سنة 1875، وصدر حكم قاضي التوزيع برفض طلبها عند عمل قائمة التوزيع المؤقتة، فعملت مناقضة نظرت أمام المحكمة الابتدائية الكلية وقضى برفضها، فرفعت استئنافًا قضت فيه محكمة الاستئناف المختلطة بإلغاء الحكم واعتبار الشركة دائنة بالفرق الذي تدعيه،
وقد لاحظ الحكم الاستئنافي أنه لا محل للقول بقوة الشيء المحكوم فيه بين الحكم السابق صدوره ضد الشركة وبين النزاع الحاضر لاختلاف الموضوع والسند القانوني أي السبب لأن المطالبة بالفرق هي غير المطالبة بالأصل وأن السن الحقيقية هي السن التي تعينت بالحكم الثاني في مواجهة نفس الورثة ذلك الحكم الذي بني على أدلة مادية محسوسة على خلاف الحكم الأول الذي بني على قرائن ظنية،
واستند الحكم الاستئنافي إلى حكمين للنقض الفرنسي أحدهما سنة 1909 قرر بأنه إذا حكم على مؤمن له بدفع قيمة القسط المقرر، دون التعرض لمسألة فسخ التأمين بسبب خطاب مرسل من المؤمن له للشركة، فإنه ليس لذلك الحكم قوة الشيء المحكوم به في دعوى الفسخ التي ترفع فيما بعد، وثاني الحكمين سنة 1911 بأنه إذا كان هناك حكمان حائزان لقوة الشيء المحكوم به بين شخصين مع الاتحاد في الموضوع والسبب فإنه يجب التعويل على الحكم الأخير.
ولقوة الشيء المحكوم به أثر بليغ ظاهر في نظرية التوازن في الحقوق، لأنه وإن كان لا بد في أن تستقر الحقوق بين أيدي أصحابها استقرارًا نهائيًا لا عودة فيه رغبةً في الطمأنينة وتهدئة للنفوس، فإن للعدالة أيضًا شأنًا ظاهرًا في هذا الاستقرار وللأخلاق أثرًا فيها أيضًا فإذا تعارضت العدالة مع الواقع تعارضًا شدت أزرها فيه الناحية الخلقية بما يضطرب له الحق اضطرابًا أصبح التمسك بقوة الشئ المحكوم به غير مجد إذا ما تلمس الباحث أسبابًا ترجع حتى ولو من بعيد إلى اختلاف في الموضوع والسند القانوني أي السبب القانوني،
ولعل من أظهر الحالات في هذا المنحى ذلك الحكم الاستئنافي المختلط الذي لمس فيه الخرق للعدالة بين الحكمين فيما إذا أخذ بالتمسك بالدفع بقوة الشئ المحكوم به بينما الورثة في الدعويين هم هم وبينما قد اتضح وضوحًا بينًا بأن السن الحقيقية هي على اعتبار مواليد سنة 1875 لا سنة 1885، وأصبح من الثابت الذي لا جدال فيه بأن الورثة يستولون بالحكم الأول على مبلغ هو ملك الشركة فكأنهم يثرون بلا سبب قانوني على حساب الغير وإضرارًا بالشركة، وأنه من العدل والقانون معًا رد الفرق إلى الشركة المغبونة أخذًا بنظرية الاختلاف في الموضوع والسند القانوني أي السبب وأخذًا بنظرية الإثراء بلا سبب، والأخذ بهما معًا حتى يتضافرا مع بعضهما البعض في سبيل التوازن بين الحقوق [(36)].
وللقاضي عند نظر الدعوى أن يقرر بوجه عام تقسيط الدين على المدين أو تقرير مهلة قضائية للوفاء (168/ 231 مدني) أو مهلة قضائية لدفع باقي ثمن الصفقة (333/ 414 مدني)، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى عالج الشارع الفرنسي بعض الأمور الصارخة فأباح بقانون 5 مارس سنة 1936 لقاضي الأمور المستعجلة تقرير المهلة القضائية، وأزال بقانون 20 أغسطس سنة 1936 كل قيد لها بما يطلق يد التقدير عند القاضي المانح لها، وذلك كله أمام ما أثارته وتثيره حوادث الأيام والساعة من الإشكالات ومن النعي على شدة القانون وقسوته في بعض الظروف [(37)]، وكل ذلك في ضوء ما تمخضت به الحوادث العالمية من وجوب التدخل في العقود تخفيفًا لعبئها وما تحمله من وزن ثقيل [(38)] وضرورة التوجه فيها توجهًا يخفف من ثقلها.
وحق الحبس وقد أقره القانون في الرهن الحيازي الخاص بالمنقول أو العقار (540 وما بعدها مدني)، وفي الأحوال الأخرى الخاصة بالتحسينات وغيرها (المادة (605) مدني)، فإنه لا يجوز الأخذ فيه أيضًا بالعنت والاعتساف وتصريفه إلى غير ما وجد له، فلا يجوز استخدامه في حالة تخرج عن التعامل بين الأفراد، وعلى ذلك لا يجوز للشخص القائم بعملية الجنازة والصرف على المشهد حتى دفن الجثة أن يدعي بحبس الجثة لديه حتى يستوفى الدين المطلوب له، وادعاؤه غير قانوني [(39)].
وللمحتبس للعقار أو المنقول حق الاحتفاظ بالحبس حتى يستوفي دينه المضمون بالشيء المرهون حتى ولو بيع جبرًا عليه، وليس له حق نتبعه في يد من حازه حيازة قانونية.
وحق الحبس خاضع لأصول التعسف، فلا يجوز التعويل عليه إذا ما كان الدين المضمون قد أصبح زهيدًا لا يتناسب مع قيمة الرهن وكان المدين مليئًا تظهر عليه أمارات اليسر.
وليس للمحتبس حق الاستفادة من حق الحبس إذا ما دخل في نزاع مع مدينه وعرض هذا الأخير الدين عرضًا قانونيًا صحيحًا مصحوبًا بالإيداع في خزانة المحكمة، وقد رفعت دعوى من هذا النوع وقضى فيه قضاء النقض الفرنسي في 5 نوفمبر سنة 1923 (د، 924، 1، 11)، وذلك أن (شركة تعاون طالبي التعويض بسبب الحرب) كلفت مهندسًا بدرس ملفات الطالبين وتقديم تقرير عن كل حالة وبيان ما يجب القيام به من الأعمال لكل طالب، وقدرت له الشركة أتعابًا بنسبة المبالغ المخصصة للطالبين،
ثم صدر بعد ذلك قانون يقضي باختيار المهندسين للقيام بالعمل المتقدم من بين الذين ترد أسماؤهم بقائمة تضعها المديرية، ولما كان المهندس السابق الذي حصل معه الاتفاق ابتداءً لم يكن اسمه واردًا بالقائمة الموضوعة، فقد اضطرت الحال إلى طلب الملفات من تحت يده، وهنا أبى المهندس إفلات الملفات من يده، على اعتبارها محبوسة عنده وفاءً بما له عند شركة التعاون المذكورة، وعلى ذلك قامت الشركة برفع دعوى طلبت فيها:
أولاً: تعيين المهندس الجديد طبقًا للقانون المشار إليه للقيام بالأعمال المتقدمة من درس كل حالة وتقدير التعويض فيها.
ثانيًا: تقدير أتعاب المهندس السابق.
ثالثًا: إلزام المهندس القديم بتسليم الشركة والمهندس الجديد ملفات الطلبات لدرسها، وقد عرضت الشركة مبلغًا على المهندس السابق أتعابًا له تبريرًا للتخلي عن حق الحبس، فلم يقبله، فكلفتها المحكمة بإيداعه بخزانتها فأودع وقضت محكمة استئناف (إيميان) بطلبات الشركة على اعتبار أن حق الحبس هو ككل حق يجب أن يخضع لقاعدة الاعتساف وأصولها وأحكامها، فإذا ما شابه الاعتساف بقصد الإيذاء من طريق العنت والعناد وكان حق الدائن المحتبس في غير خطر ومأمون الوفاء به وجب سلخ حق الحبس ممن ادعاه وسحب الشيء المحبوس من تحت يده، وقد أقرت محكمة النقض الفرنسية الحكم الاستئنافي المذكور على طول الخط.
والاختصاص ضمان يرجوه الدائن بناءً على حكم بيده وفاءً لدينه (599/ 600/ 721 726 مدني، و681 – 684/ 769 – 272 مرافعات)، وطالب الاختصاص يقدم طلبًا به لرئيس المحكمة فيأمر به في حدود المبلغ وبالقدر الذي يفي به العقار، ولرئيس المحكمة تحميل عقار واحد بالاختصاص بدلاً من اثنين وللطالب حق المعارضة، ولم يذكر القانون شيئًا بشأن المدين وحق معارضته في الأمر الصادر ضده على خلاف ما رسمه القانون في مكان العرائض بالمواد (127 – 132)، (130 – 133) مرافعات، ولكن إذا لم يذكر شيئًا فإن حق المدين في طلب تنقيص العقارين إلى عقار واحد مثلاً لم يزل فله حق المطالبة به بدعوى مستقلة أخذًا بالقياس مع جواز رفع دعوى شطب الرهن (571/ 695 مدني)، وباعتبار الاختصاص كالرهن (599/ 725 مدني).
وإذا فرض وارتفعت أسعار العقارات لمناسبات اقتصادية عامة لها بعض الدوام فإنا لا نرى ما يحول من رفع دعوى بطلب تنقيص العقارات المحملة بحق الاختصاص من عقارين إلى عقار مثلاً ما دام الوفاء بدين الدائن مضمونًا، ذلك لأن القانون أباح في ناحية أخرى بأن للدائن حق إلزام مدينه بتقديم عقار أو الوفاء بالدين حالاً إذا أصاب العقار المرهون عطب أو تلف قهري أو بسبب فعل المدين (562/ 686 مدني)،
إذا علم ذلك فلماذا لا تكون الحالة العكسية في حق المدين في طلب التنقيص العقاري عند ارتفاع الأثمان ؟ وإذا كان الرهن لا يقبل التجزئة، ولذا قرر القانون بنفاذه مع ما يصيب العقار المرهون من إصلاح وزيادة إلا إذا اتفق على خلاف ذلك (564/ 688 مدني) فإن عدم القابلية للتجزئة وقد أريد بها مبالغة الحيطة بدين الدائن، لا تضير الدائن ما دام العقار الواحد مثلاً يفي ثمنه بالدين وأكثر، ويجب أن يلاحظ في هذا الشأن ما قد يقع من ملابسات لها بعض الأثر في دعوى التنقيص: قرب تاريخ الوفاء بالدين، استمرار الزيادة القيمية في العقارات بطريقة شبه مطردة، بقاء الأسباب العامة في زيادة قيمة العقارات،
وإذا كان القانون أباح المطالبة بزيادة العقارات المرهونة عند نزول قيمتها بخلل أو هلاك حماية للدائن، فإنه يتعين عدالة أن يتقرر الحق العكسي للمدين في طلب تنقيص عدد العقارات المرهونة عند زيادة قيمتها زيادة محسوسة، والقانون أباح للدائن الحق في طلب زيادة العقارات المرهونة عند الخلل أو الهلاك، ولم يقل شيئًا إذا ما نزل سعر العقار لمناسبات اقتصادية مفاجئة وفي حالة شبه استمرار، ولم يقرر حق الزيادة للدائن، فهل يجوز له طلب الزيادة ما دام للمدين حق التنقيص ؟
نظن أن القاعدة القانونية العلمية واحدة، ولا يصح معاملة أحد الاثنين بمقياس ومعيار يخالف الآخر، وعلى الأخص إذا لوحظ بأن المدين وهو ملتزم بالدين في جميع الأحوال فإنه لا يضيره أن يقدم عقارًا زيادة ضمانًا لدين بعيد الأجل، وكان مليئًا لا عسر لديه لضآلته، على أن الأمر في الواقع من الدقة بما هو في حاجة إلى زيادة في التمحيص وكفاية في الدرس لمن شاء التوغل في بحث صنوف وأشكال متعددة، وذلك على أساس أن الدائن وهو مجازف في رهنه فإنه يجوز أن يتحمل ما يصيبه من مجازفته عند نزول قيمة العقار.
اترك تعليقاً