الحقيقة والخيال في بند القوة القاهرة
فيصل المشوح
المحامي والمستشار القانوني
fisalam @
عندما يشرع المتعاقدان في صياغة المسودة الأولية للعقد الذي يحكم العلاقة بينهما ليكون بمثابة (كتالوج المستقبل)، فإن أول ما يخطر في بالهما هو وضع البنود التي تحمي مصالحهما وتجنبهما المخاطر, وأكثر هذه البنود شيوعًا بند القوة القاهرة, الذي تضمنته بعض الأنظمة السعودية كما في نظام العمل في المادة (74) التي فصلت في انتهاء عقد العمل وفق حالات خمس ختمتها بالقوة القاهرة وهي التي تؤدي إلى إنهاء العقد متى كانت الاستحالة الناجمة عنها نهائية من ناحية الزمن, أما لو كانت مؤقتة فتؤدي إلى إيقاف العقد. ومن الأنظمة كذلك نظام الاستثمار التعديني الذي استثنى من العقوبة من كانت مخالفته نتيجة لقوة قاهرة، وقد فصلتها المادة (28) من النظام بإسهاب مفيد مبينة المقصود بالقوة القاهرة: (هي الأحداث المتعارف عليها أصوليًا كقوة قاهرة ناجمة عن ظروف غير متوقعة وقت إصدار الرخصة والتي لا ترجع إلى أي من الطرفين وتجعل تنفيذ المرخص له لالتزاماته المحددة بالرخصة مستحيلاً)، ومن ذلك أيضًا النظام الأساسي لرابطة دوري المحترفين السعودي، والذي عرف القوة القاهرة في مستهل النظام بفصله الأول بأن القوة القاهرة هي: ( الحدث أو التأثير الذي يعتبر من المستحيل السيطرة عليه أو التنبؤ به).
فبند القوة القاهرة دارج في النظام السعودي وموصوف بشكل ضيق حتى لايكون ذريعة لنقض الغزل، لأنه استثناء لإجازة الخروج عن الالتزام واجب التنفيذ بين الأطراف , فالتشريعات الحديثة قد حددت استثناءات للتحلل من المسؤولية، ومن أهمها وأشهرها (القوة القاهرة) التي تحول دون تنفيذ الملتزم لالتزاماته القانونية والتعاقدية مثل الكوارث الطبيعية مع مراعاة التفاوت في درجاتها , والملفت أن هذا المبدأ موجود في التشريع الإسلامي استنبطه الفقهاء من قول الحق سبحانه (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) فالالتزام الواجب هو إتمام الحج والعمرة؛ ولكن ربما لا يمكن تنفيذ الالتزام الشرعي بسبب حدوث قوة قاهرة (الإحصار) الذي يكون مبررا للحلول من الالتزام.
ولقد ساد مبدأ (القوة القاهرة) في معظم الأنظمة والقوانين المعاصرة, ويظل العبرة في تطبيقاته العملية حيث أن البعض يتوسع فيه , بينما المحاكم والقضاء تضيّق في الحالات عند تطبيقه , حيث أن كثيراً من المتعاقدين يخلط بين وجود بعض الظروف الطارئة ويضعها بمثابة القوة القاهرة التي تجيز له التحلل من تعاقداته، وتكتظ المحاكم السعودية بهذه الإدعاءات المتتالية , من ذلك ما جاء في مجموعة الأحكام القضائية القضية رقم (34473558) والتي طالب فيها المدعي المدعى عليه برد أجرة استئجاره لقصر أفراح عزم على إقامة فرح فيه ولكنه لم يتمكن من الانتفاع به لحدوث حالة وفاة لديه , والتي أقر المدعى عليه بصحة الواقعة ورفض رد المبلغ وحكم القاضي برد الدعوى لكون عقد الإجارة عقد لازم بين الطرفين وقد امتلك المدعى عليه منفعتها ولم يُقلهُ المدعى عليه وانتهت المحكمة برد طلب المدعي, ومن ذلك ما جاء في حكم المحكمة الإدارية رقم (3/ت/1/1413) برد دعوى مقاول طالب بالتعويض عن التأخير بسبب تعرضه لأمطار أثناء التنفيذ الأمر الذي يعتبره قوة قاهرة وقد رفضته المحكمة مبينة أن الأحكام يجب أن تبنى على الحقائق الثابتة والوقائع المؤكدة، واستطرادًا في اعتبار ما إذا كان المطر يعتبر قوة قاهرة يسقط المسئولية من عدمه قضت محكمة النقض المصرية بأنه ( لا يعتبر المطر قوة قاهرة حيث يشترط لاعتبار الحادث قوة قاهرة عدم إمكان توقعه واستحالة دفعه أو التحرز منه وسقوط الأمطار وأثرها على الطريق من الأمور المألوفة التي يمكن توقعها ولا يستحيل لقائد السيارة المتبصر التحرز منها؛ ولذا فإنه يعتبر غير قاهر) -طعن 331 لعام 1981-, كما أدرجت محكمة النقض نزع ملكية العين المؤجرة للمنفعة العامة قوة قاهرة يترتب عليه انفساخ العقد لانعدام المحل، ولا يجوز للمستأجر في هذه الحالة أن يطالب المؤجر بالتعويض .
والتطبيقات القضائية في التضييق على بند القوة القاهرة كثيرة تغير النظرة التقليدية بجعل بند القوة القاهرة من البنود البسيطة، حيث بات التفنن في هذا البند تحديًا للصائغين، الذين يستخدمون عادة البنود النموذجية للقوة القاهرة بشكل تلقائي دون أية محاولة جادة لضبط البند بحيث يتلاءم مع المعاملة لموضوع التعاقد, حيث أن التوجهات الحديثة في العقود باتت تسعى لضبط الحالات والوقائع التي تندرج تحت القوة القاهرة من عدمها الأمر الذي يساعد المتعاقدين على تحديد محل الخلاف عند وجود النزاع, وفي أهمية هذا التحديد والحصر أتذكر حكماً لهيئة التحكيم في التجارة الدولية لخلاف نشأ بسبب قوة قاهرة دفع بها أحد الخصمين وردت الهيئة على دفعه بالتالي: (ولم تتفق هيئة التحكيم في الرأي مع المدعى عليه بأن افتقاره إلى العملة الأجنبية ينبغي أن يعتبر قوة قاهرة فبالنظر إلى أن العقد المبرم بين الطرفين قد أورد “قائمة شاملة” من ظروف القوة القاهرة التي تعفيهما من المسئولية عند عدم الوفاء بالتزاماتهما التعاقدية, ولم يرد أن افتقار المشتري إلى العملة الأجنبية في عداد القوى القاهرة المدرجة بتلك القائمة), ولقد جاء في شرح مبادئ الينيدروا لعقود التجارة الدولية – دار الحلبي – عددًا من الشروط المحددة لتحقق القوة القاهرة منها: أن يكون الحادث أو تغير الظروف خارجًا عن السيطرة وأن يكون غير متوقع وأن يكون الحادث غير ممكن الدفع بُسطت بشرح مفصل ثمين, وبالأخير فإن المعيار المعتمد في تقدير القوة القاهرة هي سلطة القاضي التقديرية لأن جميع الحوادث تقريبًا غير متوقعة ومنها المتعلقة بالكوارث “حروب , هزات , فيضانات”, لذلك هنا يأتي دور القاضي والمحكمة بالأخذ في العناصر الإضافية غير العادية في تقدير القوة القاهرة من خلال البحث والتقصي في العناصر المؤثرة والمنتجة الأخرى كعنصر (الفجأة والندرة) فالحرب مثلاً: هو أمر غير متوقع في الظروف العادية، ولكن إذا كانت بوادر الحرب قد بدأت فتصبح عندئذ متوقعة, ومن ذلك ما جاء في واقعة لإعصار غمر أحد المستودعات القريبة من البحر في سلطنة عمان حيث أقام مودعي البضائع دعواهم بطلب التعويض ودفع مالك المستودعات محتجًا في (القوة القاهرة) – الإعصار-الدفع الذي رفضته المحكمة لكون الإعلان عن الإعصار جاء قبل وقت كاف يمكن لصاحب المستودعات تأمين البضائع ونقلها خارج المستودع قبل وصوله.
وأخيرًا فإن هذا العرض السريع هو لبيان مدى إمكانية تطبيق بند القوة القاهرة بشكله المحض في الحالات التي تعترض المشاريع التجارية ، وبين حالات أخرى تشبه القوة القاهرة بظروفها الطارئة وأن أمثلة كتعثر المشروع التجاري لأسباب اقتصادية تقليدية أيا كانت كحالة الكساد الشديد في المبيعات والخسارة المالية الشديدة أو الجهل أو الخسارة أو الظروف الجوية العابرة أسبابًا ليست ذات أثر قوي لدى المحاكم للتحلل من العقود وفسخها , وهناك فرق كبير بين ما نتخيله ونظنه وبين واقع القضاء الذي يسعى لتطبيق العقود بحذافيرها وأخذها على ظاهرها احترامًا لها ولقداسة الوعود وترهيبا من جسامة نقضها أو التحايل عليها.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً