المسؤولية التأديبية للقضاة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
بقلم ذ عبد القادر بنعدو
قاض بالمحكمة التجارية بفاس
تعتبر المساءلة الجوهر الحقيقي لأي نظام قانوني ، فلا جدوى من القوانين ونصوصها إذا لم تتضمن وضع آلية محددة يتم على أساسها ملاحقة المخطئين ومساءلتهم إما بفرض العقاب أو باتخاذ إجراءات تأديبية. وفي دولة القانون فإن الجميع يخضعون لحكم القانون وإرادته
تقديم : تعتبر المساءلة الجوهر الحقيقي لأي نظام قانوني ، فلا جدوى من القوانين ونصوصها إذا لم تتضمن وضع آلية محددة يتم على أساسها ملاحقة المخطئين ومساءلتهم إما بفرض العقاب أو باتخاذ إجراءات تأديبية. وفي دولة القانون فإن الجميع يخضعون لحكم القانون وإرادته ، بما فيهم أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية وسواها من مؤسسات الدولة . والسلطة القضائية ليست استثناء من ذلك ، بل هي أولى من غيرها بالخضوع لحكم القانون باعتبارها الأمينة على حسن تطبيقه وتنفيذه . إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن مساءلة القضاة تختلف كثيراً عن مساءلة أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية وذلك بسبب ما يجب أن يتمتع به هؤلاء القضاة من استقلال وحياد . وبالتالي فإن الآلية التي توضع لمساءلتهم عن الأخطاء التي يرتكبونها يجب ألا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى المساس بهذا الاستقلال أو الحياد .
وقد شكل صدور القوانين الجديدة المتعلقة بالسلطة القضائية قفزة نوعية في مسار الخيار الديموقراطي الذي اتخذه المغرب في السنوات الأخيرة والرامي إلى تعزيز تقوية السلطة القضائية لتصبح سلطة مستقلة إلى جانب باقي السلط الأخرى ، وورشا كبيرا من اوراش الإصلاح التي عرفتها المملكة .
لكن القوانين غير كافية إذ لم يكن الضمير المسؤول حاضرا أثناء تنزيلها ، وذلك تماشيا على الخطاب الملكي السامي بمناسبة ذكرى عيد العرش الذي أكد فيه جلالته بأن المفتاح الحقيقي لإصلاح منظومة العدالة هو «الضمير المسؤول»، على اعتبار أن أي إصلاح مهما بلغ من الأهمية وتعبئة للنصوص التنظيمية والآليات الفعالة «فسيظل الضمير المسؤول للفاعلين فيه هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته .
ونظرا للمقتضيات التي آتى بها هذا القانون لا سيما تلك المتعلقة بالنظام التأديبي للقضاة وما تضمنه مقتضيات المادة 97 منه ، خاصة فيما يتعلق بتحديد ماهية الخطأ الموجب للمسؤولية التأديبية ( النقطة الأولى ) أو تلك المتعلقة بتطبيق العقوبة المناسبة ( النقطة الثانية ) فهل فعلا هذه المقتضيات الجديدة تضمن للقاضي حقه في محاكمة عادلة تؤسس للضمانة الممنوحة له بمقتضى الدستور ؟
: هذا ما سنحاول ابرازه من خلال تقسيم الموضوع إلى نقطتين أساسيتين
النقطة الأولى : أية ضمانة دستورية للقاضي في ظل الأخطاء الموجبة لمسؤوليته التأديبية ؟
لقيام المسؤولية التأديبية للقاضي لا بد من توفر عنصر الخطأ ، وقد نص الفصل 96 من النظام الأساسي للقضاة على أن كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة خطأ من شانه أن يكون محل عقوبة تأديبية .
والملاحظ أن العبارة الواردة بنص المادة المذكورة هي عبارة عامة وفضفاضة قد تحتمل أكثر من معنى وبالتالي من شأن التوسع في تفسيرها أن يؤثر على استقلالية القاضي ، وهو مأكده المجلس الدستوري في قراره رقم 16 / 992 ملف عدد 16 / 1474 الصادر بتاريخ 15 مارس 2016 الذي اعتبر انه فيما يخص إخلال القاضي بواجب الإستقلال والتجرد والنزاهة والإستقامة هي عبارة عامة تفتقر لمضمون محدد ولا يمكن أن تكون أساسا لتوقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه وبالتالي فهي مخالفة للدستور .
كما نصت المادة 97 من نفس القانون على أنه يعد خطأ جسيما : إن الأخطاء المحددة بنص المادة المذكورة والتي اعتبرها المشرع خطأ جسيما يجب أن تفسر على أنها أخطاء محددة حصرا ولا يمكن التوسيع من دائرتها تفاديا للمس باستقرار القضاء .
وقد أوردت المادة المذكورة مجموعة من الأخطاء التي اعتبرها المشرع أخطاء جسيمة موجبة لتوقيف القاي حالا عن مزاولة مهامه ، وسأقتصر على الأخطاء التي يمكن أن تثير مجموعة من الملاحظات:
الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف :
لكن ما المقصود بالخرق الخطير لقاعدة مسطرية ، هل يقصد به فعل العمد بمعنى أن يتخد القاضي إجراءا مسطريا متعمدا وبشكل مخالف للقانون ، أم المقصود به فقط الوقوع في خرق خطير لقاعدة مسطرية سواء كان متعمدا أم عن سهو .
وحسب رأينا كان ينبغي أن يقتصر الخطأ الموجب للمسؤولية التأديبية للقاضي على الحالة الأولى فقط والمتعلقة بالتعمد في الخرق الخطير لقاعدة مسطرية ، وهو ما يمكن أن يصطدم مع مشكل الإثبات في وجود عنصر العمد من عدمه ، كما ينبغي أن يصيب هذا الخرق ضررا لأحد اطراف الخصومة .
الخرق الخطير لقانون الموضوع : إن النص على هذا الخطأ ضمن الأخطاء الجسيمة الموجبة لتوقيف القاضي حالا من شأنه أن يحد من الإجتهاد في تفسير النصوص القانونية وإعطائها مدلولها الصحيح الذي كان يتوخاه المشرع من وضعها ، خاصة وأن العديد من النصوص القانونية هي نصوص غامضة لا تفي بالغرض المقصود منها ، إلا أن المجلس الدستوري كان له رأي مخالف عند النظر في هاته الحالة عندما أكد على أن القاضي لا يسأل عن الأخطاء العادية الذي يرتكبها عند قيامه بالإجراءات المسطرية أو عند إصداره للأحكام والتي من اجل تصحيحها وجدت عدة درجات للتقاضي وطرق الطعن وهي أخطاء يحق لكل متضرر منها الحصول على تعويض تتحمله الدولة طبقا للفصل 122 من الدستور ، وأن لا يجب الخلط بين الإجتهاد المتمثل في المجهود الفكري الذي يبدله القاضي وفق الأصول المتعارف عليها في هذا الصدد لتفسير وتطبيق القانون ، بما يحتمله ذلك من الصواب والخطأ ، وبين الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف وكذا الخرق الخطير لقانون الموضوع وهي أعمال تعتبر سواء كانت عمدية أو ناتجة عن تهاون غير مستساغ إخلالا من القاضي بواجباته المهنية ن فغن هذا الخرق الخطير لا يمكن اتخاده أساسا لتوقيف القاضي ولا لمتابعته تأديبيا إلا بعد ثبوته بحكم قضائي نهائي .
ثم لا يجب أن ننسى أن العديد من القضايا ينظر فيها بقضاء جماعي إذ أن الحكم ليست نتيجة للقاضي المقرر فقط وإنما هو نتيجة لتجمع آراء لعدد من القضاة ، وقد تكون نتيجة الحكم تمت نتيجة الترجيح بين الأصوات ، كيف يمكن تطبيق هذه الحالة من الخطأ في هذا الموضع ؟ .
الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو إنجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسته لمهامه القضائية : إن التأخير في الإجراءات المسطرية قصد تجهيز القضية للبث فيها لا يكون السبب الوحيد فيه هو القاضي إذ تتداخل عدة أجهزة في ذلك بما في ذلك كتابة الضبط والمفوض القضائي والمحامي وبالتالي لا يمكن للقاضي أن يتحمل لوحده وزر ما اقترفه غيره.
اتخاد موقف سياسي أو الإدلاء بتصريح يكتسي صبغة سياسية : وقد انتصر المجلس الدستوري لموقف الجمعيات المهنية للقضاة ، عندما اعتبر أن الخطأ المتمثل في إدلاء القاضي بتصريح يكتسي صبغة سياسية هي عبارة عامة غير مطابقة للدستور وخاصة ما ضمن بفصله 111 منه .
النقطة الثانية : أية ضمانة دستورية للقاضي أثناء تفريد الجزاء المترتب على مسؤوليته التأديبية؟ يعد مبدا التناسب بين العقوبة والجريمة ( المخالفة ) من أهم المبادئ الجنائية التي انبنى عليها الفقه الجنائي إلى جانب مبدأ الشرعية الجنائية ومبدا شخصية العقوبة ومبدأ المساواة امام القانون، وقد نص النظام الأساسي للقضاة في مادته 99 على هذا المبدأ إذ جاء فيها : ” تطبق على القضاة مع مراعاة مبدأ التناسب مع الخطأ المرتكب العقوبات التأديبية حسب الدرجات التالية:
فإذا كانت العقوبة بشكل عام هدفها الأسمى هو تحقيق الردع بنوعيه العام والخاص فإنه يجب أن تكون متناسبة مع الخطأ المرتكب وإلا لما كان المشرع قد أور عدة أنواع من العقوبات وحصرها في عقوبة واحدة .
وهكذا وبالرجوع إلى مختلف العقوبات التأديبية التي أوردها نص النظام الأساسي للقضاة نجدها على ثلاث درجات ، وقد ترك المشرع للمجلس سلطة تقديرية في اتخاد العقوبة المناسبة مع الفعل المرتكب، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إصدار عقوبات متفاوتة عن نفس الفعل وبالتالي من شان ذلك أن يشكك في مصداقية المجلس ، وكان ينبغي على المشرع أن ينص على إلزامية التدرج في اتخاد العقوبة ابتداء من الإنذار إلى عقوبة العزل وهي آخر العقوبات التي يمكن للمجلس أن يتخذها في حق القاضي الذي ثبت عليه الخطأ الموجب للمسؤولية .
استنتاج : إن المتمعن في مقتضيات المادة 97 من القانون الأساسي للقضاة ليجد أنها تضرب في عمق استقلالية القاضي ومن شأنها أن تحد من تطوير العمل القضاـئي والإجتهاد في تفسير النصوص القانونية وتهدم الضمانة الممنوحة له بمقتضى الدستور ، خاصة إذا علمنا أن القاضي اليوم في معظم دول العالم المطلوب منه أن يكون قاضيا مرنا في تفسير النصوص القانونية وأن يكون قاضيا إيجابيا هدفه البحث عن الحقيقة قصد إصدار الحكم في أجل معقول وهذا من شأنه أن يوقعه في الخطأ الموجب لمسؤوليته ربما عن حسن نية وإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ، لذك ينبغي على المجلس أن يأخذ كل هذه المعطيات عند النظر في أي إخلال منسوب لأي قاض كان والله ولي التوفيق .
بقلم ذ عبد القادر بنعدو
قاض بالمحكمة التجارية بفاس
اترك تعليقاً