عواقب تبييض الأموال والجرائم المالية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
بقلم جون ماكدويل،
يقول مسؤولان في وزارة الخارجية الأميركية إن لتبييض الأموال تأثيراً يؤدي إلى تآكل اقتصاد البلد الذي يحصل فيه هذا الجرم.
ويضيف هذان المسؤولان، وهما جون ماكدويل، مستشار سياسي أول، وغاري نوفيس، محلل برامج، في مكتب الشؤون الدولية الخاصة بالمخدرات وتطبيق القوانين في وزارة الخارجية الأميركية، إن تبييض الأموال يشوّه القرارات التي ينبغي على مؤسسات الأعمال اتخاذها، ويزيد من خطر إفلاس المصارف، ويفقد الحكومة سيطرتها على السياسة الاقتصادية، ويضّر بسمعة البلاد، ويعرّض شعبها لتجارة المخدرات والتهريب وسائر الأعمال الجرمية.
ويقولان إنه إزاء التكنولوجيات المتطورة التي يستخدمها مبيضو الأموال حالياً، أصبح من الضروري قيام تعاون دولي رفيع المستوى لضبط هؤلاء.
***
إن تبييض الأموال هو السبيل الذي يعتمده المجرمون لمحاولة ضمان أن تعود الجريمة عليهم بالنفع في نهاية المطاف. وما يجعل تبييض الأموال ضرورياً بالنسبة إلى هؤلاء، سواء كانوا تجار مخدرات، أو من أفراد عصابات الجريمة المنظمة، أو إرهابيين، أو تجار أسلحة، أو مرتكبي أعمال الابتزاز، أو محتالين يستغلون عمليات بطاقات الائتمان، هو لزوم إخفاء المصدر الأصلي لأموالهم الناتجة عن أعمال جرمية، وذلك بغية الحؤول دون اكتشاف هذا المصدر وتحاشي ملاحقتهم لدى استخدامهم تلك الأموال.
وتبييض الأموال أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى تنفيذ كل شكل تقريباً من أشكال الجرائم التي يتجاوز مداها حدود البلدان وأعمال عصابات الجريمة المنظمة. وتعتبر جهود مكافحة تبييض الأموال، التي تهدف إلى الحد من قدرة المجرمين على الإفادة من المكاسب التي يحصلون عليها عن طريق الشر، عنصراً فعّالاً وبالغ الأهمية من عناصر برامج مكافحة الجريمة.
يتناول تبييض الأموال عادة سلسلة من العمليات المتعددة التي تُستخدم لإخفاء مصدر أرصدة مالية لكي يصبح بالإمكان استخدام تلك الأرصدة دون أن يتعرض المجرمون الذين يسعون إلى استخدامها إلى الملاحقة أو المساءلة. ويمكن تصنيف هذه العمليات في ثلاث فئات هي:
(1) الإيداع: وهو عملية وضع الأموال التي جُنيت بطرق غير مشروعة في مؤسسات مالية عن طريق الإيداع الفعلي، أو التحويل البرقي، أو سبل أخرى؛
(2) تراكم الطبقات: وهي عملية فصل عائدات العمل الجرمي عن مصدرها من خلال استخدام تراكم من العمليات المالية المعقّدة؛
و(3) الدمج: وهي عملية استخدام ما تبدو أنها معاملات مشروعة لإخفاء عائدات أعمال جرمية. ومن خلال هذه العمليات، يحاول المجرم تحويل العائدات المالية لأعمال غير مشروعة إلى أموال يبدو أن مصدرها مشروع.
يمكن أن يؤدي تبييض الأموال إلى نتائج مدمرة اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً. فهو يغذي نشاطات تجار المخدرات، والإرهابيين، وتجار الأسلحة غير المشروعة، والمسؤولين الرسميين الفاسدين، وغيرهم بحيث يتيح لهم القيام بأعمالهم غير المشروعة وتوسيع نطاق تلك الأعمال. لقد أصبحت الأعمال الجرمية دولية النطاق في صورة متزايدة، كما أصبحت النواحي المالية للأعمال الجرمية أكثر تعقيداً بسبب التقدم السريع في التكنولوجيا وفي عولمة قطاع الخدمات المالية.
فالأنظمة المالية الحديثة، إضافة إلى تسهيلها التجارة المشروعة، تتيح للمجرمين أن يطلبوا ويحوّلوا ملايين الدولارات بصورة آنية مستخدمين أجهزة الكمبيوتر الشخصية وصحون التقاط بث الأقمار الاصطناعية. ولأن تبييض الأموال يعتمد إلى حد ما على الأنظمة والعمليات المالية القائمة، فإن اختيار المجرم لأساليب تبييض الأموال لا يحده سوى قدرته على الابتكار. فالأموال يتم تبييضها عن طريق مؤسسات صرف العملات، ومؤسسات بيع وشراء الأسهم والسندات، وتجار الذهب، وكازينوهات القمار، ووكالات بيع السيارات، وشركات التأمين، والشركات التجارية. كما تشكّل مراكز الأعمال المصرفية الخاصة في المصارف الكبرى، والمؤسسات المصرفية العاملة خارج بلدانها (أوف شور)، والشركات الصورية والوهمية، ومناطق التجارة الحرة، وأنظمة الاتصالات البرقية، ومؤسسات تمويل الأعمال التجارية يمكن لها كلها أن تحجب نشاطات غير مشروعة تتم بواسطتها. ومن خلال هذه النشاطات يقوم المجرمون بالتلاعب بالأنظمة المالية في الولايات المتحدة وخارجها.
وفي حال لم يتم ضبط تبييض الأموال فإنه قد يقوّض سلامة المؤسسات المالية في البلد المعني. ونظراً إلى شدة تداخل وتكامل أسواق الرساميل في العالم، يمكن لحركة تبييض الأموال أن تؤثر سلباً على أسعار العملات وأسعار الفائدة في هذه الأسواق. وفي نهاية المطاف، عندما تصل الأموال التي يتم تبييضها إلى الأنظمة المالية العالمية، حيث يمكن لها أن تقوّض اقتصادات وعملات بلدان بكاملها. ولهذا فإن مُشكلة تبييض الأموال لا تتعلق وحسب، ولكنها تشكل تهديداً أمنياً جدياً على الصعيدين القومي والدولي أيضاً.
الأسواق الناشئة المعرضة للخطر
لا يشكل تبييض الأموال خطراً على الأسواق المالية الرئيسية في العالم وعلى المراكز المالية التي تعمل خارج بلدانها (أوف شور) فحسب، بل على الأسواق الناشئة أيضاً. والواقع، إن أي بلد يعتبر جزءاً من النظام المالي الدولي هو معرّض للخطر كذلك. وإذ تجعل البلدان الناشئة اقتصاداتها وقطاعاتها المالية أكثر إنفتاحا، تُصبح أهدافاً أكثر ملاءمة لنشاطات تبييض الأموال.
إن تزايد الجهود التي تبذلها السلطات في الأسواق المالية الكبرى وفي العديد من المراكز المالية العاملة خارج بلدانها (أوف شور) لمكافحة تبييض الأموال توفر حافزاً إضافياً لمبيضّي الأموال كي ينقلوا نشاطاتهم إلى الأسواق الناشئة. على سبيل المثال، هناك أدلة على تزايد نقل كميات من النقد إلى بلدان لا توجد لديها تنظيمات للكشف عن الإيداعات النقدية وتسجيلها في مؤسساتها المصرفية. كما تشير الأدلة إلى زيادة إستثمارات جماعات الجريمة المنظمة في مجالي العقارات والأعمال في الأسواق الناشئة. والمؤسف أن التأثير السلبي لتبييض الأموال يميل إلى أن يكون أكبر بكثير في الأسواق الناشئة منه في الأسواق الكبرى.
إن تفحصاً أكثر تدقيقاً لبعض هذه الآثار السلبية على كل من مجالي الاقتصاد الكلّي والاقتصاد المُصغّر يساعد في معرفة سبب اعتبار تبييض الأموال خطراً شديد التعقيد، خاصة في الأسواق الناشئة.
الآثار الاقتصادية لتبييض الأموال
* تقويض مؤسسات القطاع الخاص المشروعة: من أخطر الآثار الاقتصادية لتبييض الأموال تلك التي تطاول القطاع الخاص. فغالباً ما يستخدم مبيضو الأموال شركات التستُّر التي تقوم بخلط عائدات الأعمال الجرمية مع عائدات أعمال مشروعة من أجل إخفاء أصل الأموال غير المشروعة. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، تستخدم عصابات الجريمة المنظمة مطاعم البيتزا لإخفاء عائدات الاتجار بالمخدرات. وفي وسع شركات التستُّر هذه الحصول على كميات ضخمة من الأموال غير المشروعة، ما يتيح لها دعم منتجاتها وخدماتها وتقديمها بأسعار تقل عن أسعار السوق.
وفي بعض الحالات، تتمكن شركات التستُّر من توفير منتجات بأسعار تقل عن كلفة إنتاجها في مؤسسات أخرى. وهكذا تتمتع هذه الشركات بتفوق تنافسي على المؤسسات المشروعة التي تعتمد في تمويلها على الأسواق المالية العادية. وهذا الأمر يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على مؤسسات الأعمال المشروعة منافسة شركات التستُّر التي تحظى بدعم في التمويل، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى جعل المنظمات الإجرامية تُخرج مؤسسات القطاع الخاص المشروعة من السوق.
ومن الواضح أن مبادئ الإدارة التي تتبعها المشاريع القائمة على عائدات أعمال جرمية لا تتوافق مع المبادئ التقليدية، والمتمثلة بحرية الأسواق، التي تتبعها مؤسسات الأعمال المشروعة، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الآثار السلبية على الاقتصاد.
* تقويض سلامة الأسواق المالية: تواجه المؤسسات المالية التي تعتمد على عائدات الأعمال الجرمية تحديات إضافية كي تتمكن من إدارة أصولها، وخصومها، وعملياتها بصورة مُرضية. فعلى سبيل المثال، قد تصل كميات ضخمة من الأموال التي تم تبييضها إلى مؤسسة مصرفية ما ولكنها لا تلبث أن تُسحب فجأة، دون سابق إنذار أو تنبيه، عن طريق تحويل برقي واستجابة لعوامل لا علاقة لها بالسوق – مثل نشاطات الهيئات التي تفرض القانون. ويمكن لمثل هذه الأمر أن يتسبب بمشكلة سيولة للمصرف المعني، أو أن يتسبب بهروع المودعين إليه لسحب ودائعهم.
والواقع، أن إفلاس عدد من البنوك في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك إفلاس البنك الأوروبي المتحد عُزي إلى أعمال جرمية. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الأزمات المالية التي وقعت في التسعينات، مثل أعمال التزوير وتبييض الأموال وفضيحة الرشوة في بنك الاعتماد والتجارة، وانهيار بنك بيرينغز عام 1995، تضمّنت عناصر مُهمة من الأعمال الجرمية وأعمال التزوير.
* فقدان السيطرة على السياسة المالية: يقدّر ميشيل كامديسو، المدير السابق لصندوق النقد الدولي، أن حجم عمليات تبييض الأموال يبلغ ما بين 2 و5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي لجميع بلدان العالم، أو ما أقله 600 ألف مليون دولار. وفي بعض بلدان الأسواق الناشئة، قد تكون عائدات الأعمال غير المشروعة هذه تفوق بكثير موازنات الحكومات، ما يؤدى إلى فقدان تلك الحكومات السيطرة على السياسة الاقتصادية للبلاد. وفي الواقع، يمكن في بعض الحالات استخدام ضخامة حجم العائدات المتراكمة التي تم تبييضها لمحاصرة بعض الأسواق، أو حتى اقتصادات بلدان صغيرة.
ويمكن لتبييض الأموال أن يؤثر سلباً أيضاً على أسعار العملات وأسعار الفائدة إذ يُعيد مبيضو الأموال إستثمار أموالهم في مشاريع حيث تقل إمكانية إكتشاف مصادر الأموال فيها عن غيرها، بدلاً من استثمارها في مشاريع تكون معدلات مردودها أعلى. ويمكن لتبييض الأموال أن يزيد من خطر عدم الاستقرار النقدي بسبب سوء توزيع الموارد وحصول تشوهات اصطناعية في أسعار الموجودات والسلع.
وباختصار، يمكن لتبييض الأعمال والجرائم المالية أن تسفر عن تغييرات يتعذّر تفسيرها من وتيرة طلب على النقد، أو بسبب زيادة التقلب في تدفق الرساميل، أو في أسعار الفائدة وصرف العملات على صعيد دولي. وهذه الطبيعة التي يتعذر التكهن بها لتبييض الأموال، إذ تقترن بفقدان المسؤولين عن السياسة المالية لسيطرتهم عليها، قد تجعل من تحقيق سياسة إقتصادية سليمة أمراً صعب التحقيق.
* التشوه الاقتصادي وعدم الاستقرار: لا يهتم مبيضو الأموال بتحقيق الأرباح من استثماراتهم، بل بحماية عائدات أعمالهم الجرمية.
ولهذا فإنهم يستثمرون أموالهم في أعمال ليس من الضروري أن تكون مفيدة للبلد الذي توجد فيه تلك الأموال. إضافة إلى ذلك، فإن ما يقوم به تبييض الأموال والأعمال الجرمية المالية من إجتذاب الأموال بعيداً عن الاستثمارات السليمة وتحويلها نحو إستثمارات سيئة النوعية ترمي إلى إخفاء عائدات الأعمال الجرمية، أمر يمكن أن يلحق الضرر بالنمو الاقتصادي. ففي بعض البلدان، مثلاً، هناك قطاعات بكاملها، مثل بناء الفنادق، تم تمويلها لا بسبب الطلب الفعلي على الفنادق بل بسبب المصالح القصيرة الأجل لمبيضي الأموال. وعندما لا تعود مثل هذه المشاريع تروق لمبيضي الأموال، فإنهم يتخلون عنها متسببين بانهيار هذه القطاعات وبأضرار كبيرة للاقتصادات التي لا تستطيع تحمل مثل هذه الخسائر.
* خسارة الواردات الضريبية: إن تبييض الأموال يخفّض الواردات الضريبية التي تجبيها الحكومات، وبذلك يُلحق ضرراً غير مباشر بمكلفي الضرائب الشرفاء. وهو أيضاً يجعل جباية الحكومات للضرائب أمراً أكثر صعوبة. وخسارة الواردات الضريبية يعني في غالب الأحيان أن معدلات الضرائب تكون أعلى منها لو كانت العائدات المالية للأعمال الجرمية، التي لا تخضع للضريبة، عائدات أعمال مشروعة تدفع عنها ضرائب.
* المخاطر التي تتعرض لها جهود الخصخصة: إن تبييض الأموال يهدد الجهود التي يبذلها كثير من الدول للقيام بإصلاحات اقتصادية عن طريق الخصخصة. فالمنظمات الإجرامية لديها من القدرة المالية ما يجعلها تفوز على الشركات المشروعة في المزايدات التي تُطرح لشراء مشاريع تملكها الدولة وتريد بيعها للقطاع الخاص. علاوة على ذلك، في حين أن مبادرات الخصخصة هي في غالب الأحيان مفيدة إقتصادياً، فهي يمكن أن تستخدم كوسيلة لتبييض الأموال. وفي الماضي، تمكّن مجرمون من شراء أحواض سفن، ومنتجعات، وكازينوهات، ومصارف من أجل التستّر عن مصادر عائدات أعمالهم الجرمية ولتعزيز تلك الأعمال.
* المخاطر التي تتعرض لها سمعة البلدان: ليس في وسع البلدان المعنية تحمّل تشويه سمعتها وسمعة مؤسساتها المالية بسبب أي علاقة لها بتبييض الأموال، خاصة في جو الإقتصاد العالمي السائد اليوم. فدور الأسواق الحرة والثقة بها، وأهمية دور أرباح الأعمال سوف تتآكل بسبب مداخيل تبييض الأموال. كما أن الجرائم المالية مثل أعمال التستّر على عائدات الأعمال الجرمية، وعمليات الاحتيال المالي الواسعة النطاق، والإتجار بالأسهم والسندات بناء على معلومات من داخل إدارات الشركات المعنية، والاختلاس، جميعها تقوض هذه الأدوار.
وتقلص السمعة السيئة التي تنتج عن مثل هذه الأعمال من الفرص الإقتصادية العالمية المشروعة والنمو القادر على الإستمرار، في حين تَجتذب المنظمات الإجرامية الدولية بما لها من سمعة سيئة وأهداف قصيرة الأجل. يمكن لهذا الأمر أن يؤدي إلى تقلّص التنمية والنمو الاقتصادي في البلدان المعنية. إضافة إلى ذلك، عندما تتضرر السمعة المالية لبلد ما، تُصبح استعادة السمعة الطيبة أمراً بالغ الصعوبة يتطلب جهوداً حكومية ضخمة لتصحيح الخلل، بينما يكون من الممكن الوقاية من هذا الخلل باعتماد ضوابط ملائمة لمكافحة تبييض الأموال.
التكاليف الاجتماعية
يرتب تبييض الأموال على البلد المعني تكاليف ومخاطر إجتماعية مهمة. فعمليات تبييض الأموال هي بالغة الأهمية لجعل ارتكاب الجريمة عملاً مربحاً ومفيداً. إنها تتيح لتجار المخدرات والمهربين وسائر المجرمين توسيع نطاق عملياتهم. ومن شأن ذلك زيادة النفقات الحكومية نظراً لحاجتها إلى زيادة نفقات ضبط وتنفيذ القوانين، كما الرعاية الصحية (مثلاً، لمعالجة مدمني المخدرات) من أجل التصدي للعواقب الخطيرة التي تنجم عن هذه العمليات.
ومن النتائج الاجتماعية والاقتصادية السلبية لتبييض الأموال نقل القوة الاقتصادية من السوق والحكومة والمواطنين العاديين إلى المجرمين. وباختصار، فمن شأن تبييض الأموال أن يقلب القول المأثور، إن الجريمة لا تفيد، رأساً على عقب.
إضافة إلى ذلك، فإن حجم القوة الاقتصادية التي يكتسبها المجرمون جراء تبييض الأموال له تأثير مُفسد على كل عناصر المجتمع. وفي الحالات القصوى، يمكن أن يؤدي ذلك إلى سيطرة فعلية على الحكومة الشرعية.
على العموم، يطرح تبييض الأموال على الأسرة العالمية تحدياً ديناميكياً بالغ التعقيد. والواقع، إن الطبيعة العالمية لتبييض الأموال تتطلب معايير عالمية وتعاوناً دولياً إذا كنّا لنقلّص قدرة المجرمين على تبييض عائدات جرائمهم وعلى القيام بأعمالهم الجرمية.
——————————————————————————–
المعايير الدولية والتعاون الدولي في مكافحة تبييض الأموال
بقلم جوزف مايرز،
إن التعاون الدولي المتواصل والقوي هو وحده القادر على ضبط مبيضي الأموال.
ويضيف إن فريق العمل المعني بالعمليات المالية، المؤلفة من 29 عضواً، ومنظمات دولية مماثلة، ومجموعة من الوحدات الاستخبارية المالية في مختلف البلدان حققوا قدراً جيداً من التعاون في هذا المجال، ولكن ينبغي عليهم كلّهم عمل المزيد.
***
إن مكافحة تبييض الأموال هي أشبه بلعبة القط والفأر. فالأموال غير النظيفة تميل إلى الاختباء في الأماكن المظلمة، أي البلدان التي لديها أنظمة غير صارمة، ومؤسسات ضعيفة، أو غير قادرة على فرض تطبيق القوانين. إن هذه لأمكنة جيدة للقيام بأعمال مصرفية إذا كان الشخص المعني من المجرمين.
وفي حين يتعذّر على أي قدر من الجهد أن يستأصل تبييض الأموال بالكامل، كما أن يستأصل الجريمة بالكامل، فإن بإمكان التعاون الدولي أن يوقف التأثير الضار الذي يخلّفه تبييض الأموال والجريمة على المجتمع، وعلى قطاع الأعمال، وعلى الحكومة. ومثل هذا التعاون في مكافحة تبييض الأموال آخذ في التحسّن، ولكنه يتطلب المزيد من التحسّن.
لقد حققت إحدى أدوات التعاون الدولي، وهي فريق العمل المعني بالعمليات المالية، بعض النجاح. وهذه اللجنة، التي لم يكن يُقصد بها لدى إنشائها عام 1989 أن تستمر لفترة طويلة من الوقت، لا تزال تعمل بعد 12 سنة من ذلك، وهذا يُشكّل برهاناً على فائدتها وحيويتها المتجددة.
والأهم من ذلك، هو أن اللجنة أرست المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال، وهي ما تُعرف بـ”التوصيات الأربعين”. ومعنى إرساء هذه المعايير هو أن كل الحكومات المشاركة في هذا الجهد التزمت التحرك في الاتجاه نفسه وفي سرعة الوتيرة نفسها، وهو ما يستلزمه النجاح. ومن خلال عملية المراجعة التي تعتمدها اللجنة، يدفع كل طرف مشارك الطرف الآخر باتجاه تطبيق المعايير.
ومع تزايد عدد أعضائها، توصلت اللجنة الآن إلى اتفاق على معايير مكافحة تبييض الأموال وتطبيق هذه المعايير بين حكومات 29 بلداً. إضافة إلى ذلك، تشجع اللجنة قيام مجموعات إقليمية تتقيّد بهذه المعايير. وبناء على إحصاءات قامت بها الولايات المتحدة هناك الآن 130 منطقة تمثل حوالي 85 بالمئة من سكان العالم، وما بين 90 و95 بالمئة من مجموع إنتاج الإقتصاد العالمي، قطعت التزاماً سياسياً بتطبيق “التوصيات الأربعين”.
إن ما يشتهر به القطاع المالي في الولايات المتحدة من حسن تنظيم أفاد اقتصاد البلاد كما أفاد الاستثمار. وكذلك فإن بعض البلدان التي عمدت في الآونة الأخيرة إلى تبني معايير فريق العمل المعني بالعمليات المالية بيّنت عن تحقيق نتائج جيدة مماثلة، خاصة في الأسواق التي يمارس فيها نسبة كبيرة من الناس أعمالاً مهنية.
هناك مبادرة أخرى، أكثر إثارة للجدل، طرحها فريق العمل المعني بالعمليات المالية لتعزيز التعاون الدولي، هي نشر قائمة بأسماء البلدان والمناطق غير المتعاونة، أي التي لا تلتزم مكافحة تبييض الأموال. وفي أعقاب نشر القائمة الأولى في حزيران/يونيو 2000، سارعت عشرة بلدان ومناطق من المدرجة أسماؤها في القائمة إلى التقيّد بمعايير اللجنة.
ومع أن مبادرة نشر قائمة الأسماء حققت نتائج جيدة، يتعيّن على أعضاء اللجنة أن يعالجوا دواعي قلق بعض الجهات المذكورة في القائمة لناحية مدى ما تتسم به عملية النشر من إنصاف أو عدمه. وعلى اللجنة أيضاً، في صورة عامة، أن تعتمد نهجاً أكثر شمولية لدى صياغتها سياستها. وهي تفعل ذلك الآن بطلبها من غير الأعضاء تقديم النصح والمشورة فيما يقوم الأعضاء بعملية مراجعة وإعادة نظر في “التوصيات الأربعين” لتحديثها.
هناك نوع آخر من التعاون الدولي أخذ ينتشر بين عدد من وحدات الاستخبارات المالية في عدد من البلدان، مثل شبكة تطبيق القوانين المتعلقة بالجرائم المالية في الولايات المتحدة. ولقد عمد عدد من البلدان إلى إنشاء هذه المؤسسات في الوقت نفسه تقريباً بغية التنسيق بين أعمال أجهزتها المختصة بمكافحة تبييض الأموال.
وفي أواسط التسعينات، بدأ العاملون في هذه الوحدات الاستخبارية المالية يدركون أن هناك آخرين مثلهم يعملون في بلدان أخرى، وبدأ أفراد مجموعة صغيرة منهم في عقد لقاءات للتعلّم والإفادة من بعضهم البعض. وسرعان ما أدرك هؤلاء الفائدة التي يحققها تعاونهم من ناحية الأمور العملانية. وقد حقق مثل هذا التعاون حتى الآن نتائج هامة؛ ولذا فإن المزيد من التعاون هو عين الصواب.
إن البلدان التي تعمل على مكافحة تبييض الأموال تحتاج دائماً إلى معرفة كيف يمكنها أن تقوم بهذا العمل على نحو أفضل. وفي الأشهر المقبلة، سيكون على البلدان الأعضاء في فريق العمل المعني بالعمليات المالية أن تتوصل إلى اتفاق على أي تعديلات مقترحة على “التوصيات الأربعين”، وعلى درس الخطوات التالية الواجب اتخاذها في ما خص مبادرة نشر قائمة البلدان والمناطق غير المتعاونة في مكافحة تبييض الأموال. وفي غضون ذلك، تواصل الولايات المتحدة دراسة تكاليف ومنافع الطريقة التي نُطبّق فيها استراتيجيتنا لمكافحة تبييض الأموال في بلدنا. ومهما كانت التعديلات أو التغييرات التي ستبرز، هناك حقيقة واحدة لن تتغيّر ألا وهي: إن التعاون الدولي المتواصل والقوي هو وحده ما يستطيع ضبط تبييض الأموال.
اترك تعليقاً