بحث في تحديد نطاق المادة (126) مكررة من قانون العقوبات الأهلي
المادة (126 )
كل من علم بوقوع جناية أو جنحة أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بوقوعها وأعان الجاني بأي طريقة كانت على الفرار من وجه القضاء إما بإيواء الجاني المذكور وإما بإخفاء أدلة الجريمة وإما بتقديم معلومات تتعلق بالجريمة وهو يعلم بعدم صحتها أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بذلك يعاقب طبقًا للأحكام الآتية)
(إذا كانت الجريمة التي وقعت يعاقب عليها بالإعدام تكون العقوبة الحبس مدة لا تتجاوز سنتين).
(وإذا كانت الجريمة التي وقعت يُعاقب عليها بالأشغال الشاقة أو السجن تكون العقوبة بالحبس مدة لا تتجاوز سنة أو بغرامة لا تزيد عن خمسين جنيهًا).
(أما في الأحوال الأخرى فتكون العقوبة الحبس مدة لا تتجاوز الستة شهور أو غرامة لا تتجاوز عشرين جنيهًا وعلى كل حال لا يجوز أن تتعدى العقوبة الحد الأقصى المقرر للجريمة نفسها ولا تنطبق أحكام هذه المادة على الزوج أو الزوجة أو أصول أو فروع الجاني).
أركانها أربعة:
1 – جانٍ.
2 – العلم أو وجود ما يحمل على الاعتقاد بوجود جناية أو جنحة ارتكبها ذلك الجاني.
3 – إعانة على الفرار.
4 – حصول الإعانة إما:
( أ ) بإيوائه.
(ب) بإخفاء أدلة الجريمة.
(جـ) بتقديم معلومات غير صحيحة مع العلم بذلك.
الغرض منها ومأخذها:
الباب الثامن من الكتاب الثاني من قانون العقوبات خاص بموضوع (هرب المحبوسين وإخفاء الجناة)، والمادة (126) الأصلية من هذا الباب خاصةً بإخفاء الجناة وإعانتهم على الفرار من وجه القضاء.
وبمراجعة نص المادة (126) الأصلية يتضح أنه قاصر على معاقبة من يعين شخصًا على الفرار بشرط أن يكون هذا الشخص أما مقبوضًا عليه أو موجهًا إليه اتهام بجناية أو جنحة أو صادرًا في حقه أمر بالقبض عليه، أما إذا لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة فما كان نص تلك المادة ولا نص أي مادة في ذلك الباب ينطبق على من يساعده على الفرار من وجه القضاء.
وفي سنة 1912 طرأت ظروف سياسية اقتضت التشديد في وضع الوسائل المانعة لتسهيل إفلات المجرمين من يد القانون حتى وقبل أن تتجه إليهم عين السلطة بالقبض عليهم أو بتوجيه الاتهام إليهم أو بإصدار أوامر بضبطهم، فمست الحاجة إلى وضع تشريع جديد يكفل معاقبة من يساعد الجناة على الفرار من وجه القضاء ولو كانت جرائمهم لا تزال بعيدة عن عين السلطة ذات الاختصاص.
فلهذا لجأ المشرع المصري إلى قانون العقوبات السوداني فاستعار منه المادة (165) المأخوذة بدورها عن المادة (201) من قانون العقوبات الهندي وإفراغ تشريعه الجديد في قالب المادة (126) مكررة التي أضيفت إلى قانون العقوبات المصري الأهلي بدكريتو 8 يونيو سنة 1912 قانون رقم (12).
نطاق المادة المكررة:
يتضح من الغرض الذي من أجله وضعت المادة المكررة أن المشرع أراد التوسع ليسد الفراغ الذي تركته المادة الأصلية، ولكن هذا التوسع محدود بالغرض الذي دعا إليه، فإن كان المشرع قد أطلق الأحوال التي يكون فيها الشخص الذي تعتبر مساعدته جريمة دون تقييد بحالة من الأحوال الثلاثة المتقدمة الذكر فإنه أيضًا قد اشترط من جهة أخرى أن يثبت أن الشخص الذي حصلت معونته قد ارتكب فعلاً محرمًا سوعد على الإفلات من تبعته ولم يكتفِ المشرع لقيام اتهام لا أساس له من الحقيقة، وهذا هو محور بحثنا الآن.
فقه المحاكم:
انقسمت آراء المحاكم في هذا الموضوع إلى شعبتين، منها القائل بضرورة وجود (جانٍ) ارتكب فعلاً، ومنها القائل بكفاية وجود اتهام.
الرأي الأول:
(لا تنطبق المادة (126) مكررة (ع) إلا على الإعانة المقدمة للجاني ومن ثم لا تسري أحكام هذه المادة على من أعطى معلومات كاذبة للنيابة بقصد إعانة شخص كان متهمًا وقتئذٍ وحكم بعد ذلك ببراءته).
– أسيوط، استئناف، 15 إبريل سنة 1913 مج سنة 14 صـ 185.
الرأي الثاني:
1 – (تنطبق المادة (126) مكررة (ع) على الإعانة المقدمة إلى أي متهم ولا تقتصر على الجاني فقط لأن الغرض من المادة (126) مكررة هو التوسع في أحكام المادة (126) حتى تشمل كل إعانة معنوية تقدم للمتهم أثناء التحقيقات الابتدائية أما إذا قصرت على الإعانة المقدمة للجاني بحصر اللفظ فيمن حكم عليهم نهائيًا فقد يترتب على ذلك تسهيل طرق الفرار للجناة الحقيقيين ونجاة من يعينهم من طائلة العقاب).
– طنطا، استئناف، 3 أكتوبر سنة 13 مج سنة 15 صـ 18.
2 – (إن الجاني الذي تشير إليه المادة (126) مكررة هو الشخص الذي يظن أنه مجرم أو يحتمل أن يكون مرتكبًا للجريمة وليس الشخص الذي يحكم عليه نهائيًا لأن المادة (126) القديمة التي كانت تقضي بمعاقبة كل من يساعد شخصًا مقبوضًا عليه أو متهمًا بجناية أو جنحة أو صادرًا في حقه أمر بالقبض عليه وذلك مع عدم الالتفات مطلقًا إلى ما يكون من نتيجة الدعوى المرفوعة عليه، فالإصلاح الذي قصده المشرع هو إذن معاقبة كل من يساعد شخصًا لم يكن مقبوضًا عليه أو متهمًا في جناية أو جنحة أو صادرًا في حقه أمرًا بالقبض عليه ولم يضع الشارع أي تعديل للشروط اللازمة لتطبيق القانون ولا جعل تلك المساعدة المعاقب عليها معلقة على نتيجة الدعوى الأصلية المرفوعة على الشخص المساعد، أما تفسير القانون بخلاف ذلك فلا ينتج عنه فقط تطبيق القانون الجديد ضمن دائرة تضيق جدًا عن القانون القديم بل تكون نتيجته أيضًا ضياع كل الفائدة الحقيقية التي يرمي إليها القانون الجديد).
– نقض 23 مايو سنة 1914 حقوق سنة 29 صـ 314.
الرأي الذي نؤيده:
نؤيد الرأي الأول، فنرى أنه يشترط لصحة تطبيق المادة المكررة ولإمكان معاقبة المساعد ثبوت وقوع جريمة ممن حصلت مساعدته وأنه يجب أن يكون هذا الشخص (جانيًا)، ولا يكفي أن يكون متهمًا تهمة لا أساس لها في الواقع خصوصًا إذا ثبتت براءته بحكم نهائي، ونؤيد هذا الرأي بما يأتي:
1 – تعبير المشرع في المادة المكررة صريح في ذلك المعنى، فقد عبر عمن تعتبر مساعدته على الفرار جريمة بلفظ (جانٍ) مخالفًا في ذلك ما اعتاده من التعبير على مثل هذا الشخص في المادة الأصلية بل وفي كافة مواد هذا الباب.
ومعلوم أن الشخص لا يسمى (جانيًا) إلا إذا حكم نهائيًا بإدانته وواجب مفسر القانون أن يقف عند صراحة نصه، وألا يهمل مدلول ألفاظه التي لا تحتمل تأويلاً.
2 – وإذا كان هذا النص الصريح بحاجة إلى تأويل فإن خير مفسر له هو المشرع الذي أصدره فهو أقدر من سواه على تفسير تشريعه.
ولقد جاء بتقرير لجنة مجلس شورى القوانين التي نيط بها فحص هذا القانون الجديد ما يأتي حرفيًا:
(وترى اللجنة أنه يجب أن يكون الجاني قد حكم بإدانته نهائيًا لارتكابه تلك الجناية أو الجنحة نفسها، لأنه قد يحصل أن الجاني لا يضبط إلا بعد أن يحكم على المتهم بمساعدته على الفرار حكمًا نهائيًا ثم يقدم الجاني الأصلي للمحكمة فتبرئه، فمنعًا لوقوع مثل هذا الخطأ الذي يؤسف له كثيرًا – وقد لا يمكن تلافيه – يجب ألا يحاكم المتهم بتسهيل الفرار لجانٍ إلا بعد الحكم نهائيًا بإدانة ذلك الجاني).
(وقد أرادت اللجنة أن تنص صريحًا على ذلك في المشروع فأجابها سعادة ناظر الحقانية بأن نص المادة الأصلي يفيد ذلك لأنه عبر عن مرتكب الجناية أو الجنحة الذي أعانته المتهم على الفرار من وجه القضاء (بالجاني) وليس بالمتهم ولا شك أن كل متهم لا يكون جانيًا إلا إذا حكم عليه نهائيًا).
3 – فهذا التفسير التشريعي صريح في تأييد ما نقول به، ومما يزيد ذلك المعنى وضوحًا أقوال العلماء وأحكام المحاكم التي أخذنا عن تشريعهم قانوننا الجديد، فلقد جاء بتعليقات ماين على قانون العقوبات الهندي صحيفة 185 تعليقًا على المادة (201) وهي الأصل المستقى منه نص مادتنا المكررة ما يأتي:
(It is essential to show that a criminal offence has been in fact committed). )R. V. Subramenye، 3 mad. H. C. 251 S. C. weir, 57 [80].)
أي أنه من المحتم إثبات وقوع جريمة بالفعل.
4 – ومما يؤكد نية المشرع هذه من أنه لا يكفي قيام المتهم بل يجب ثبوت جريمة (جناية أو جنحة) أن المادة التي نفسرها نصت على أن يكون عقاب المساعد متناسبًا مع العقوبة المقدرة للجريمة (التي وقعت) مما يدل على أنه يلزم إثبات أن جريمة وقعت فعلاً.
ويزداد هذا المعنى جلاء بملاحظة أن من أركان هذه المادة العلم بوقوع جريمة وبديهي أن العلم بالشيء يستلزم وجوده حقيقة وفي الواقع لأن العلم بالمعدوم لا يكون علمًا بشيء، ويعتبر عالمًا بوقوع الجريمة من أحاطت به ظرف تحمله على الاعتقاد بوقوعها.
ملاحظات على حكم النقض:
يحسن بنا لكي يخلص الرأي الذي ندافع عنه من كل شائبة أن نرد قبل ختام هذا البحث على ما ورد بحكم النقض السابق ذكره من اعتراضات.
وقبل مناقشة هذا الحكم نريد ألا نعرف له قوة أكثر مما في أسبابه من قوة، دون أن يحول احترامنا له باعتباره صادرًا من أكبر هيئة قضائية في البلاد من أن نعتبره لم يقفل باب المناقشة في تفسير تلك المادة من جديد.
ولنا في ذلك بمحكمة النقض ذاتها أسوة، فإنها لم ترَ أن تتقيد بتفسير المشرع لهذا القانون ولم ترَ أن تفسيره يحول دون اجتهادها.
( أ ) أخطأت المحكمة حين رفضت الأخذ بالتفسير التشريعي لكلمة جانٍ لأنها بررت رفضها بأن رأي مجلس الشورى كان استشاريًا وغير ملزم وفاتها أن ذلك التفسير إنما صدر من المجلس ممثلاً في لجنته ومن الحكومة ممثلة في وزيرها وكل من المجلس والحكومة معًا هما الهيئة التشريعية بالمعنى الدقيق ورأيها ملزم طبعًا وفي قوة القانون.
أما قول المحكمة أن ناظر الحقانية لم يبدِ هذا الرأي بصفة رسمية فلا يعتبر معبرًا عن رأي الحكومة فمردود بداهةً إذ كيف يتصور أن ناظر الحقانية عند قيامه بواجبه حين مناقشة قانون مقدم للهيئة النيابية لا يكون قائمًا بعمله بصفة رسمية.
(ب) وبنت المحكمة رأيها على أن القانون الجديد موسع للنص الأصلي فلا يعقل أن يضيق المشرع نطاق المادة المكررة عن نطاق المادة الأصلية التي لم تكن تشترط ثبوت وقوع جريمة ولا وجود (جانٍ).
ولكن المتأمل في نص المادة المكررة يجد أن التوسع المراد إدخاله على نصوص هذا الباب إنما هو في ناحية واحدة من نواحي المادة الأصلية فهو قاصر على إطلاق الأحوال التي يكون فيها الشخص الذي تعتبر مساعدته على الفرار جريمة فقد كانت المادة (126) تقيدها بأحد ثلاثة أحوال الأولى أن يكون مقبوضًا عليه والثانية أن يكون موجهًا إليه اتهام بجناية أو جنحة والثالثة أن يكون صادرًا في حقه أمر بالقبض عليه، أما المادة المكررة فقد اعتبرت مساعدة الشخص ولو كان في غير هذه الأحوال جريمة.
إلا أن المشرع أحسن عند ما قيد هذا الإطلاق الواسع بضرورة ثبوت جريمة جدية وقعت فعلاً حتى يبرر تداخله بمعاقبة من يساعد مثل ذلك الشخص وذلك دفعًا لما يخشى من إساءة تطبيق هذه المادة، كذلك أحسن المشرع عند ما قيد هذا الإطلاق بتحديد أنواع المساعدة التي تعتبر جريمة بأن قصرها على ثلاثة أنواع الأول إيواء الجاني والثاني إخفاء أدلة الجريمة، والثالث تقديم معلومات كاذبة وهذا التحديد ينفي ما قالته محكمة النقض من أن المشرع أراد التوسع في جميع نواحي المادة الأصلية إذ أن هذه المادة كانت تعاقب على كل مساعدة أيًا كانت، فجاء النص المكرر محددًا لهذا الإطلاق.
وأي حكمة يقصدها المشرع بمعاقبة شخص ساعد بريئًا على الإفلات من اتهام غير صحيح ؟! لم يقصد المشرع بهذا النص المكرر أن يعاقب على مجرد الكذب أمام المحققين فإن لذلك نصوص أخرى كفيلة بتجريمه مثل جريمة التزوير وشهادة الزور، كما أنه ليس هناك أي خطر يمكن دفعه بمعاقبة من يعين شخصًا لم يرتكب إثمًا على الهرب من تهمة ألصقت به بغير حق.
(جـ) رأت المحكمة كذلك أن في تعليق عقاب المساعد على نتيجة الفصل في التهمة الأصلية تشجيع للطرق التدليسية لأنه يكفي للتخلص من أية عقوبة أن يقدم المساعد للجاني مأوى لحين وفاته أو سقوط الدعوى العمومية أو يتقن إثبات الكذب الذي أدلى به لكي يضمن النجاح في تهريب الجاني من وجه القضاء.
وتلك حجة واهية، لأن الحكم بإدانة الجاني غير متوقف على القبض عليه فمحاكمته جائزة غيابيًا، وأن الثقة التي في الأحكام باعتبارها عنوانًا للحقيقة تقلل إلى حد الندرة ما توهمته المحكمة من خطر يقل كثيرًا عما تتعرض له الهيئة الاجتماعية من ضرر بسبب عقاب من يعين بريئًا على إثبات براءته وتنجيته من اتهام غير صحيح.
(د) أما ما قالته المحكمة من أن اشتراط وجود جانٍ يفتح بابًا يفلت منه من يساعدون مجرمًا حالت أسباب الإباحة وموانع العقاب من إدانته فقول مردود لأن من ارتكب فعلاً وهو متمتع بسبب من أسباب الإباحة يكون أتى أمرًا مباحًا فلا محل لأن نخشى خطرًا ممن يساعدونه على الخلاص من مسؤولية لا وجود لها، وأما من ارتكب أمرًا وقام به سبب من أسباب موانع العقاب فإن مساعدته على الفرار معاقب عليها ولا يتعارض ذلك مع الرأي الذي ندافع عنه لأن هذه الأسباب شخصية بذات من اتصف بها ولا تتعداه إلى غيره كما هي قاعدة الاشتراك الجنائي.
ومهما كان الحال فإن المشرع لم يفكر مطلقًا في تشجيع الاتهام المبني على الوهم ولا يتصور أنه أراد أن يحوطه بأي ضمان.
اترك تعليقاً