مستقبل التحكيم
يشكل الاستثمار دوراً مهماً في التنمية الاقتصادية لأي دولة ويعود ذلك بآثار إيجابية تتمثل في زيادة الإنتاج والإنتاجية مما يؤدي إلى زيادة الدخل القومي وارتفاع متوسط نصيب الفرد منه وبالتالي تحسين مستوى معيشة المواطنين وتوفير الخدمات للمواطنين و للمستثمرين وتوفير فرص عمل وتقليل نسبة البطالة وزيادة معدلات التكوين الرأسمالي للدولة ومن أجل إيجاد مناخ استثماري جيد وجذب المزيد من الاستثمارات تتسابق الدول على طرح مزايا الاستثمار داخل أراضيها وتعرض التسهيلات التي تقوم بها للمستثمر الأجنبي ومن أهم ما يسعى إليه المستثمر الأجنبي إيجاد وسيلة لغض المنازعات التي قد تنشأ بينه وبين الدولة أو بينه وبين الشركات فدائماً يسأل المستثمر عن ماهية الوسائل المطروحة لفض المنازعات سواء بالتحكيم أو غيره.
وبسبب المزايا والخصوصية التي يتمتع بها التحكيم في حسمه للنزاعات فقد تطور وازدهر وانتشر في القرن العشرين كظاهرة فرضت نفسها ويتجلى ذلك أكثر وضوحاً في التحكيم التجاري الدولي, فقد تحول التحكيم إلى مرجع أساسي لحسم خلافات التجارة الدولية وأصبحت الشركات والاستثمارات تتمسك بالتحكيم الدولي , ونشأت مؤسسات تعنى بالإشراف على إجراءات التحكيم وتسهيل مهمة المحكمين تعرض عليها سنوياً مئات القضايا نذكر منها على سبيل المثال , محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي(LCIA) وجمعية التحكيم الأمريكي (AAA) والتي مضى على نشأتها أكثر من 200 عام, وكذلك غرفة التجارة الدولية في باريس (ICC) وكذلك المركز الدولي لحسم منازعات الاستثمار الدولية (ICSID) وفي البلدان العربية نشأت مراكز تحكيمية بدأت تلعب دوراً مهماً في حل الكثير من النزاعات على صعيد التعامل المحلي والدولي ومن أهمها المركز الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ومقره القاهرة , وهناك مراكز ولجان تحكيم في عدد كبير من غرف التجارة العربية كمركز دبي للتحكيم ومركز البحرين للتحكيم وكذلك مركز التحكيم اللبناني في غرفة التجارة والصناعة.
في ظل التطور الحاصل في عالم التجارة والأعمال وتشابك وتنوع العلاقات التجارية وشيوع عقود لم تكن تعرف في السابق , نتيجة ثورة التكنولوجيا الحديثة والعولمة Globalization والخصخصة Privatization والتي اكتسحت العالم, وزوال كل الحدود الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية أمام الغزو العلمي والتقني , لم يعد التحكيم بديلاً مغرياً عن القضاء العادي ولم يبقى هو الوسيلة الوحيدة لحسم النزاعات التجارية خصوصاً الدولية منها ولم يبق مجرداً من أي عيب , بل بات مقروناً ببطء القضاء.
وإزاء هذا التراجع في عملية التحكيم التجاري الداخلي والدولي سواء من حيث البطء أو الكلفة أو انتهاك السرية كثرت الانتقادات بشأنه مما دفع أحد الفقهاء إلى القول:
“Arbitration is usually no more and no less than litigation in the private sector.”
بمعنى: ” أن التحكيم ليس أكثر ولا أقل من التقاضي في القطاع الخاص “.
وفي هذا السياق قال أحد الباحثين في أستراليا بعد أن استنتج وتوصل إلى ما توصل إليه من نزاعات وشكاوى في مجال عقود الإنشاءات والبناء:
“Arbitration has broken down as a cheap and efficient mean of resolving construction dispute, albeit that the cause may be the strenuously adversarial manner in which the disputants themselves pursue the arbitral process”.
بمعنى : ” أن التحكيم قد انهار كوسيلة رخيصة وفعالة لحل نزاعات الإنشاء والبناء , وأن يكون السبب في ذلك في الطابع التنازعي العنيف حيث يواصل المتنازعون بأنفسهم عملية التحكيم ” , بمعنى إلقاء اللوم على المتنازعين أنفسهم بمسألة تأخير أو عرقلة التحكيم وذلك عن طريق التنفيذ أو الطعن , وإزاء هذا الواقع بدأ المحامون وأصحاب المشاريع الكبرى والشركات العالمية بالتفكير ملياً , كيف يمكن لهم حل نزاعاتهم دون اللجوء إلى القضاء أو التحكيم , وذلك توفيراً للوقت والمال وكذلك خشية من أن الحكم التحكيمي قد لا يضع حداً منهياً للنزاع , مما يضطر معه أحد الفرقاء أو كلاهما اللجوء إلى القضاء وهذا يعني استمرارية النظر في النزاع لمدة طويلة , وقد تم فعلاً عرض الكثير من القضايا أمام القضاء بغرض الطعن في صحة اتفاق التحكيم أو حكم المحكمين , أو بخصوص أتعاب المحكمين أو تعيينهم في الأحوال التي يعينوا فيها من قبل الخصوم , أو عدم إكمال أحد المحكمين عمله المنوط به , مما دفع الكثير إلى التفكير بإيجاد حلول بديلة غير القضاء والتحكيم لحل النزاعات وهذه البدائل هي ما سأشير إليه في مقالي الآحق بإذن الله تعالى .
المحامي/ د.عبدالكريم بن إبراهيم العريني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً