تحليل لفكرة الفقه القانوني بين النظرية و التطبيق
يعتبر الفقه القانوني أحد الركائز التي تقوم عليها حاجة المجتمعات، لأنه يسهم ببناء الكيان الأساسي للمجتمع من حيث تعاملاته وعلاقاته بالآخرين كما أنه يسهم في بناء السلطة وإضفاء الصفة الشرعية عليها، حيث يكون لها القوة الملزمة في تنفيذ قراراتها، ولكن مع أهمية الفقه القانوني لا تجد هناك اهتمام ببناء العقلية الفقهية للأسف، بل جل من تراهم هم حفاظ نصوص نظامية ويطلعون على شروح الأنظمة وتفسيرها ثم يعتقدون أنهم حازوا الفقه القانوني؛ هذا وللأسف قصور في فهم مقتضيات الفقه القانوني. إن الفقه القانوني سواء في القانون التجاري أو الإداري أو الجنائي أو غيرهم من أقسام القانون يتطلب دراسة الفقه القانوني الإجمالي من حيث دراسة القواعد التأسيسية له خاصة كتب المدخل التي تعنى ببناء اللبنات الأساسية القانونية مثل ما يقابلها في الشريعة الإسلامية دراسة المختصرات وكتب المدخل ثم دراسة علم أصول الفقه والقواعد الفقهية ثم التوسع في قراءة المسائل ومعرفة طرق الاستدلال وأصول الترجيح ثم دراسة كتب المقاصد والتوسع في دراسة الأشباه والنظائر والفروق الفقهية.
كذلك في القانون الاعتناء بكتب المدخل ثم كتب القواعد القانونية والنظريات وهي غالبا تجمع شتات الجزئيات في منظومة واحدة مثل نظرية الالتزام الزرقا وكتب نظرية الحق والبطلان والملكية والبطلان والمرافعات وبعدها تأتي مرحلة دراسة كتب أصول القانون وهي غالبا بمثل كتب أصول الفقه ثم دراسة الكتب التي تشرح القانون ففي التجاري كتاب القانون التجاري الدكتور محمد الجبر وفي الجنائي كتاب محمود نجيب حسني قانون العقوبات العام ومعه كتاب أصول التحقيقات الجنائية الدكتور تاج الدين مدني وفي القانون المدني مصادر الالتزام أبي السعود وكتاب المسؤولية التقصيرية محمد فوزي فيض الله ثم الإداري وتبدأ مثلاً بالقانون الإداري جابر سعيد أحمد ثم أصول القانون الإداري حسين عثمان محمد يعقبها كتب الصياغة القانونية ومناهج المدارس القانونية ثم تأتي التعمق في قراءة المطولات مثل كتب الطماوي في الإداري وكتب السنهوري في المدني بعد ذلك مرحلة قراءة كتب فلسفة القانون وهي بمثل كتب المقاصد مع قراءة كتب موسوعات الأحكام القضائية والتعمق فيها وهذه المرحلة هي التي تدخل الفقيه دائرة الاستقلال الفقهي وتنمي الملكة القانونية؛ وهذه المرحلة تفصل بين الناقل وبين المنشئ للتطبيقات القانونية وفق الاجتهاد الفني الصحيح بعدها تأتي الكتب المكملة مثل كتب البحث القانوني وكتب المناهج العلمية.
ومن خلال ما سبق يتضح للقارئ القانوني أن المهتمين والباحثين في القانون كثير ولكن الفقهاء القانونيين قليل؛ لأن كثيراً منهم يكتفي بمرحلة دراسة المدخل مع قراءة بعض كتب القانون ثم يحفظ الأنظمة ويطلع على شروحها وبعدها يتصدر الصحف والنواحي الإعلامية وربما اشترى دكتوراه وهمية تساعده على الهالة التي يضعها حول نفسه ويعتقد الناس أنه الخبير القانوني والفقيه المتمكن ولو اختبرته في أي مسألة قديمة تم تناولها لأخفق في عرضها وفق التحليل القانوني فكيف إذا أعطي مسألة قانونية جديدة.
إن من يحجم عن دراسة فلسفة القانون وأصول القانون الطبيعي ولا يربط ذلك بما ذكر في كتب المدخل لن يستطيع تحرير مسألة جديدة قانونية لأن القانون في أساسه هو تشريع لأي احتياج مثل العقود التي تستحدث لحاجة الناس بها وهنا يظهر للفقيه القانوني مدى كون المسألة التي يراد استحداثها قانونية أم سلطوية وبالتالي يستطيع يتدخل القضاء الدستوري في إبطال كل ما ألصق بالقانون تحت ذريعة التفسير واللوائح المكملة.
وهذا المبدأ السابق لا يمكن أن يتناوله بتحليل ودراسة سوى الفقيه الذي درس كتب المدخل وانتهى بكتب فلسفة القانون بجميع المراحل المشار إليها أعلاه وقراءة كتب الأحكام مع وجود خبرة عملية في التعامل مع القضايا والتشريعات ولو كان لصاحبها قراءة متأنية في كتب أصول علم الاجتماع ومقاصد التشريع الإسلامي ودلالة اللغة لأضفت إبداعاً في الاستنتاج وإعطاء الرأي المتوازن الذي يراعي حاجة المجتمع وحاجة الفرد وحاجة السلطة والمصلحة العامة.
إن الفقيه القانوني يدرك مسألة لا تغيب عن مثله وهي أن القانون وعاء القيم، والقيم غاية القانون، ولذلك لا يمكن أن يفصل بحث القيم عن بحث فلسفة القانون، لأن القيم هي في الحقيقة فلسفة القانون وروحه وهدفه.
ومن المهم عند إعطاء الرأي القانوني في مسألة إدراك جميع المؤثرات المحيطة بالإطار القانوني فلا يمكن إدراك غاية القانون إلا بعد إدراك العوامل المؤثرة فيه بدراسة الفقه القانوني النظري والجانب التطبيقي العملي من خلال الظروف المحيطة ومن الخطأ فصل الرأي القانوني عن العوامل المؤثرة فيه من خلال سرد النصوص النظامية وتوجيه التفسير فيها بدون معرفة القواعد القانونية العامة والعوامل المؤثرة الآخرى “فقه الواقع”.
إن فصل القانون عن العوامل المؤثرة فيه يؤدي الى نتائج سلبية على النحو التالي:
أولاً: صحيح أن الدولة هي التي تضع القانون بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ولكنها لا تضعه اعتباطاً، وإنما اعتماداً على معرفة مجمل الظروف المحيطة بالمجتمع، من ثقافة وعلاقات اجتماعية وسياسية وأعراف ومن الخطأ الفادح أن يكون التشريع وضع بعيداً عن الظروف المحيطة به والتي يحتاجها المجتمع.
ثانياً: الغاية المرجوّة من القانون تنظيم العلاقات الاجتماعية التي تتفاعل مع مؤثرات سياسية اقتصادية ثقافية وتاريخية، وغيرها، فكيف يمكن تنظيم العلاقات من دون الاهتمام بهذه العوامل المؤثرة فيها.
ثالثاً: هل يمكن تنفيذ القانون الذي لا ينبع من الظروف المحيطة، وهل يكتفي المنظم بوضع القانون سواء نفذ أم لم ينفذ؟
رابعاً: كيف يمكن للقاضي أن يطبق القانون الصارم، ومن دون ملاحظة الظروف المحيطة وهل ذلك التطبيق خدمة للحق ولغايات القانون؟ أم ماذا
إن إدراك هذه الأبعاد أثناء بناء العقلية القانونية تصنع فقهاء قادرين على المساهمة الاجتماعية بكل أشكالها لأنها مزجت بين النواحي النظرية والتطبيقية بأسلوب العرض والتحليل والنقد والاستنتاج.
اترك تعليقاً