تشهد الدولة تحولا تدريجيا في مسارها الوظيفي سواء اكان ذلك من الناحية القانونية ام من النواحي الاخرى. وينتج هذا التحول من خلال تفاعل العديد من العوامل المؤثرة في مستقبلها كدولة مستقلة ذات سيادة في المجتمع الدولي. وهذه العوامل هي التي ساهمت في وجودها – كالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية وغيرها- ومع ذلك فان هذه العوامل نفسها سوف تؤدي الى تغيير تلك الوظائف بوجود ضغوط خارجية، تؤثر في مسار تلك العوامل، باتجاه التاثير في وحدة الدولة الوظيفية. تلك الضغوط ممثلة بالشركات متعددة الجنسية والمؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وثورة الاتصالات والمعلومات الكونية … الخ وتمثل الشركات متعددة الجنسية الضاغط الاكبر نحو تغيير مسار الدولة الوظيفي. ولغرض الاحاطة بالتغيير التدريجي لنشاط الدولة في ظل العولمة، فان منطق البحث يقتضي التطرق الى تعريف الدولة كوحدة سياسية وقانونية ضمن نطاق اقليمي معين، بايراد بعض التعاريف التي عرفت بها الدولة واستخلاص عناصرها من هذه التعاريف ومن ثم إعطاء نبذة مختصرة عن الدور التقليدي الذي تمارسه الدولة.
ان كلمة المهتمين بالبحث في المجال القانوني، لم تتفق سواء في نطاق القانون الداخلي العام ام في نطاق القانون الدولي العام حول اعطاء تعريف موحد لها. ذلك ان الدولة مفهوم يكتنفه الغموض والابهام، اذ انها في الواقع “ظاهرة متعددة الصور والعناصر” وما وضع لها من تعاريف، قد ركز على بعض الصور دون ان يتعرض للبعض الاخر بالبحث والدراسة.(1). فالدولة كظاهرة اجتماعية وحدث تاريخي ساهم في ايجادها تظافر عوامل جغرافية واقتصادية وسياسية واجتماعية(2)، لذلك يمكن تعريفها بانها “مجموعة من الافراد يقيمون بصفة دائمية في اقليم معين تسيطر عليهم هيئة حاكمة ذات سيادة”(3). وعرفت كذلك بانها “جمع من الناس، من الجنسين معا يعيشون على سبيل الاستقرار على اقليم معين محدود، ويدين بالولاء لسلطة حاكمة لها سيادة على الاقليم وعلى افراد هذا الجمع“(4). ومن خلال استعراض هذا التعريف يتبين انها ثلاثة عناصر، بتوافرها تنهض الدولة بوصفها شخصاًَ من اشخاص القانون الدولي العام. وهذه العناصر هي : 1-الشعب 2-الاقليم 3-الهيئة الحاكمة(5). اذن فتوافر تلك العناصر الثلاثة، تكتمل الدولة ويتاكد وجودها كعضو في المجتمع الدولي. وهنا يجب ابراز الدور التقليدي للدولة حتى يمكن الوقوف على التغيرات التي ستلحق بدور الدولة الوظيفي. فمنذ تحول المجتمع الدولي من كيانات سياسية متصارعة فيما بينها الى دول مستقلة ذات سيادة، يرتبط بينها حد ادنى من التنظيم الدولي –وان كان هناك انشطار في بنية هذا المجتمع بقيام الحربين العالميتين – منذ ذلك الحين بدأت الدولة تحتكر وسائل العنف لمصلحتها، وتعمل على تعبئة الجماهير والموارد المادية لمصلحة قضاياها المصيرية فكان دور الدولة انعكاسا لطبيعة التجانس الثقافي والاجتماعي بين افراد شعبها ففي الداخل كانت الدولة باعتبارها ممثلة بالسلطات الثلاث – التشريعية والتنفيذية والقضائية – تقوم بسن القوانين وتشريع السياسات العامة التي تبين طبيعة الايديولوجيا التي تنتهجها الدولة واتخاذ الوسائل والتدابير التي تحافظ على تماسك المجتمع باستئصال عوامل الفوضى واقصائها. وهي فضلا عن ذلك تقوم باصدار السياسات الاقتصادية الكفيلة بتحقيق الاستخدام الكامل والنمو من دون ان يحيق به لولب تضخمي او كساد يعصف بالمجتمع كله. فتوفر بذلك حداً أدنى من الرفاه والرخاء الذي يحفظ للدولة كيانها ويعطي للافراد القدرة في استنهاض الطاقات الذهنية والبدنية في سبيل اعادة النمو للاقتصاد القومي وانعاشه والمحافظة على الحياة العامة للشعب وردع المجرمين بتشريع السياسات العقابية(6).
وفي اطار العلاقات الدولية، ومنذ معاهدة وستفاليا عام 1648 –التي اعتبرت نقطة تحول في وجود وتطور القانون الدولي العام(7). اصبحت الدول تمارس اعمالها السيادية بحرية وبمنأى من التدخل في شؤونها من قبل الدول الاخرى وان كانت بصورة متباينة من وقت الى آخر. فنمت تلك العلاقات الدولية على اسس من التعاون في الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. اما في ميدان القوة فقد احتكرت الدول لنفسها وسائل العنف والحق في اللجوء الى الحرب. غير ان تطور صناعة الاسلحة بادخال التقنية المتطورة والتكنولوجيا في تصنيعها وتصنيع الاسلحة النووية، جعل من الحرب وسيلة بالية للمحافظة على وجود الدولة بل انها ستلحق الدمار الشامل بالدول المتحاربة. فاصبح اللجوء الى الحرب ضربا من المستحيل اذا كان لدى القيادات السياسية الممتلكة لتلك الاسلحة درجة ادنى من العقلانية، غير ان هذا لا ينفي قيام حروب بالاسلحة التقليدية بين دول الاطراف التي لا تملك الاسلحة النووية والتي يمكن ان نطلق عليها تسمية الحرب بالوكالة لمصلحة القوى العظمى(8). وبعد هذا العرض الموجز لعناصر ومقومات وجود الدولة والدور التقليدي الذي تقوم به الدولة يمكن التساؤل في ضوء المستجدات على الساحة الدولية والمتجسدة بالدرجة الاساس ببروز الشركات متعددة الجنسية كقوى عظمى لا يمكن تجاهلها وكقوة تؤثر في طبيعة العلاقة بينها وبين الدول وتاثيرها بالدرجة الاساس في دور الدولة كموجه للنشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي- اذا ما عرفنا ان الدولة تمثل الاداة السياسية والقانونية المنظمة لشؤون الجماعة – فهل ان ظهور الشركات متعددة الجنسية يعد ايذانا بتراجع الدور المركزي للدولة في العلاقات الدولية ؟ أي عن طريق تخليها عن بعض وظائفها المركزية لمصلحة هذه الشركات وهل ان هذا يعني تاثيرها في دور الدولة الموجه للنشاط الافتصادي و السياسي والاجتماعي ؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات، تكمن في انحسار دور الدولة في احتكار وسائل العنف وفي اللجوء الى منطق القوة كوسيلة لحسم النزاع لمصلحة الدولة ذات القدرة العسكرية الهائلة، فقد نقل تنظيم العلاقات الدولية من القوة العسكرية المتمثلة بالتحالفات والتكتلات العسكرية الى القوة الاقتصادية المتمثلة بالشركات متعددة الجنسية، التي لها من القدرة الاقتصادية ما يمكنها من الضغط على حكومات البلدان النامية المضيفة لانشطة فروع تلك الشركات. وبهذا فان دور الدولة اخذ بالانحسار التدريجي على الرغم من كثرة الاجراءات التي تتخذها البلدان المضيفة، لغرض تنظيم الاستثمار الاجنبي بما يتلاءم والمصالح الوطنية(9). فالدولة التي عرفها القانون الدولي العام كشخص رئيس له(10). بدات بوادر ومعالم التغيير تظهر فيها وبدا المجتمع الدولي يسير نحو تبني صياغة جديدة لمفاهيمه القانونية تتلاءم وطبيعة المرحلة المقبلة.
وحسب تقرير صدر عن لجنة الامم المتحدة للتجارة والتنمية اشار الى ان “التقييم التقليدي بين الاندماج على مستوى القومية ومستوى الامة يميل الى الزوال، اذ تتطاول الشركات عابرة الاوطان على مجالات كانت السيادة، تقليدا ، مجالا خاصا بالحكومات القومية“(11). فالسلطة الفعلية التي عرفها القانون الدولي العام(12). باتت بيد المجموعات الاقتصادية الكونية والشركات متعددة الجنسية المتعولمة التي يزيد وزنها في بعض الاحيان على وزن الدول والحكومات(13)، فكان لكبر حجم تعاملات ومبيعات الشركات متعددة الجنسية اثره في الدور السيادي للدولة، فمثلا نجد ان ايرادات ثلاث عشرة شركة متعددة الجنسية موجودة في هولندا، ووفق تقديرات مجلة فورشن، بلغت “211” مليار دولار في حين ان الناتج المحلي الاجمالي الهولندي لا يزيد على “360” مليار دولار وفي فرنسا قدر ايراد الـ (39) شركة متعددة الجنسية موجودة فيها بـ (880) مليار دولار في حين ان الناتج المحلي الفرنسي قدر بـ (1396) مليار دولار أي ان ايراد الشركات متعددة الجنسية يساوي 59.3% من الناتج المحلي الاجمالي لفرنسا(14). وفي مثال اخر نجد ان شركة “جنرال موتورز” قد بلغ اجمالي ايراداتها عام 1997 نحو (178.2) مليار دولار وهو ما يعادل 320% من الناتج المحلي لمصر ويفوق الناتج المحلي لاغلب الدول العربية، وبهذا من الطبيعي ان يتقلص دور الدولة ازاء هذه الشركات(15). إذن التنامي المتزايد للقدرة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسية والتناقض المتزايد في قدرة الدولة في التحكم في الحياة الاقتصادية فيها قد جعل من المفاهيم القانونية الدولية التقليدية اعجز من ان تواكب هذا التغيير الذي تشهده الدولة وان التمسك بها او بحرفية نصوصها سيجعل من القواعد الدولية مجرد قواعد قانونية جامدة مفرغة من أي محتوى او مضمون، وبهذا فانها ستكون غير ذات مغزى أو ذات دلالة قانونية مفيدة. ان قدرة الدولة في الوقوف امام تحديات سياسة العولمة المتمثلة بالشركات متعددة الجنسية محدود بقدرة تلك الشركات في التاثير في سلطات فرض الضرائب من خلال تسللها الى مراكز اتخاذ القرارات بهذا الشان كما انها فضلا عن ما تم ذكره تستطيع التاثير في ادوات السياسة الحكومية المتعلقة بالسيادة النقدية وسياسة الاجور وغيرها. والتقليل من فاعليتها كادوات تحد من نشاط تلك الشركات. فامتداد نشاطها في اقليم البلد المضيف يمثل قنوات اتصال تتسلل عبرها قوانين ومفاهيم وثقافة بلد المركز الى بلد اخر فتؤثر في مبدأي السيادة الوطنية والمساواة(16).
من جانب اخر فان افتقار العديد من الدول الى امكانية الحصول على الموارد المالية اللازمة والموارد التكنولوجية والادارية المتطورة، التي تمتلكها الشركات متعددة الجنسية قد اثر في الاختيارات الاقتصادية المتاحة امام البلدان المضيفة بفعل علاقة التبعية التي تربط الدول المضيفة بالاستثمارات الاجنبية، هذا الى جانب انكماش قدرتها في السيطرة على الاقتصاد القومي للبلاد(17). لم يعد الاعلام من رموز السيادة، فالسيادة التي عرفها القانون الدولي العام وقال بنسبيتها العديد من فقهاء القانون الدولي العام(18). بدات تفقد الكثير من معالمها وبدا تحجيمها من قوى العولمة واضحا وخاصة من قبل الشركات متعددة الجنسية(19)، فلقد امتدت سيطرتها في ظل العولمة على وسائل الاعلام، واصبحت الشركات العملاقة في مجال الاعلام من امثال “نيوزكروب، فياكوم، تايم وارنر، جنرال الكترك، ميكروسوفت، برتلسمان، يونايتد غلوبل كوم، ديزني، تلفونيكا، مجموعة ار تي ال، فرانس تلكوم وغيرها” تمتلك امكانات جديدة للتوسع بفضل التطور التكنولوجي. فهي تمتاز بفضل العولمة بميزتين “أولهما:- الاهتمام بمختلف اشكال المكتوب والمرئي والمسموع وبثها عبر اقنية متعددة من الصحافة المكتوبة والاذاعات والتلفزيونات الى الكوابل والبث الفضائي او عبر الانترنت ومختلف اقنية البث الرقمي. اما الثانية:- فهي كون هذه المجموعات عالمية الطابع كونية وليست وطنية او محلية“(20). فتقانة المعلومات قد مكنت الافراد من معرفة الاحداث العالمية بسرعة هائلة، حتى لو كان وقوع الحرب او الحدث في اماكن نائية او دول معزولة، حيث بامكان المراسل الذي يتوافر لديه لاقط قمر صناعي ان يقوم بارسال تقاريره المصورة من خلال لاقطه المحمول لتتلقاها جميع الوسائل الاعلامية التي لديها اشتراك مع هذه الوكالات والشركات العالمية بفترة وجيزة لا تتجاوز العشر دقائق(21). وهذا يعني ان الدولة لم يعد بامكانها ممارسة اعمالها السيادية على ما يقع داخل اقلمها من احداث. ووفقا لما ينص عليه القانون الدولي العام، فالدولة قد فقدت قدرتها بالتحكم والرقابة في تدقيق الاخبار والبيانات من والى اقليمها لمصالح الشركات متعددة الجنسية. وحول الكلام عن تراجع دور الدولة امام الشركات متعددة الجنسية، فلقد استشهد مؤلفا كتاب “الوصول الى الكونية” بمقولة رئيس شركة التجارة العالمية للكومبيوتر (I.B.M) بوصفه الحدود القومية التي تصل بين دولة واخرى بأنها حدود لم تعد واقعية، بل انها اصبحت وهمية حالها حال خط الاستواء(22).اذا ما عرفنا ان الحدود في القانون الدولي العام تعرف بانها “هي الخط الذي يحدد اين تبدا واين تنتهي الاقاليم التي تخضع لدولتين مختلفتين جارتين … والحدود المعاصرة هي خط يفصل الاقاليم التي تمارس عليها سيادتين مختلفتين“(23). في حين يزيد كل من “هورسمان ومارشال” في قولهما “إن عصر الدولة القومية قد انتهى” وان قدرة الدولة في التحكم على المستوى القومي، قد اصبح باليا وغير فعال في مواجهة التغيرات التي نتجت من العمليات الاقتصادية والاجتماعية المعولمة. فراس المال نظرا لطبيعته المتحركة لا تحده الحدود القومية، فموقعه الجغرافي يتعين حيثما تكون القدرة في استثماره. وقوى السوق قد عملت على التقليل من “السياسات القومية والخيارات السياسية” على اعتبار ان قوى السوق تمتلك من القدرة ما يجعلها اقوى من اقوى الدول. وبالتالي فان دور الدولة سينحصر في تقديم الخدمات الاجتماعية والعامة التي تحتاجها الشركات متعددة الجنسية كبنى تحتية لها وبكلفة اقل فتعمل الدولة طبقا لهذا الوصف بتشريع القوانين الكفيلة بالقيام بذلك الدور(24).
ويرى البعض امثال “اوهمي” و “رايش” “ان الدولة القومية قد صارت السلطات المحلية للنظام الدولي فهي لم تعد تستطيع على نحو مستقل ان تؤثر في مستويات النشاط الاقتصادي او العمالة داخل حدود اراضيها، لان هذه المستويات تمليها اختبارات راس المال حر الحركة عالميا وتشبه مهمة الدولة القومية بمهمة المجالس المحلية او البلدية ضمن حدود الدول حتى الان: أي تقديم البنية التحتية والخدمات العامة التي تحتاجها الاعمال الاقتصادية باقل كلفة ممكنة”(25). ويزيد “اوهمي” بوصفه الدولة القومية بأنها “… وحدة غير طبيعية. بل انها مختلة وظيفيا لدرجة تجعلها اعجز من ان يناط بها مهمة تنظيم النشاط الانساني“(26). ولا يختلف “ملجان” في دعواه عنهما، اذ يرى ان السياسة القومية في أي بلد من البلدان المتقدمة اخذت بالفتور. فالقضية اليوم لم تعد قضية حرب او سلام او صراع طبقي ولا حتى تعبئة الجماهير القومية من اجل مسألة تمس كيان الدولة. فالدولة لم تعد إلا مجالس محلية وظيفتها تقديم البنى الارتكازية التي تعمل عليها القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعولمة. وينتهي قائلا الى ان “الدولة الان اقل استقلالا وتمتلك درجة اقل من التحكم الذي لا ينازع في العمليات الاقتصادية والاجتماعية داخل حدود اراضيها. وهي اقل قدرة على صيانة التميز القومي والتجانس الثقافي“(27). ويرى الاستاذ “جلال امين” انه “كما حلت الدولة محل الاقطاع تدريجيا منذ خمسة قرون، تحل اليوم الشركات متعددة الجنسية تدريجيا محل الدولة والسبب في الحالتين واحد هو التقدم التقني وزيادة الانتاجية والحاجة الى اسواق اوسع…..“(28). هذا التغيير في دور الدولة انعكس على ما يسمى بالاختصاص الداخلي او الاختصاص الوطني المانع وبموجبه تحتكر الدولة اصدار القوانين الداخلية التي تحكم السياسة العامة الداخلية والخارجية للبلد(29)، فالدولة اصبحت اليوم – مجبرة على تعديل قوانينها – بما يخدم ومصلحة الشركات متعددة الجنسية وخاصة تلك المتعلقة بالضرائب والتجارة والانفاق الحكومي. فالدولة لم تعد تمتلك القدرة في احتكار القوانين وسنها بل بدأت إصدارات القوانين عبارة عن املاءات من الخارج واضحت القوانين الداخلية تسير نحو التوحيد اذ ان هذه القوانين يجب ان تكون متفقة مع قوانين المنظمات الدولية وخاصة منظمة التجارة العالمية، فالقوانين التي تضعها منظمة التجارة العالمية تكون ذات نفاذ على اقليم الدولة المنظمة اليها على اساس سمو القاعدة القانونية الدولية على القاعدة القانونية الوطنية. والدولة التي تخالف فانها تتعرض لعقوبات متنوعة(30).
ويوجد الان اجماع على ان الشركات متعددة الجنسية هي اللاعب الرئيس في الاقتصاد الدولي اليوم، كما انها تعد الاداه شبه الوحيدة لتصدير العمليات الانتاجية من الدول المتقدمة الى الدول النامية، أي انها الاداء الوحيد لتدويل الانتاج وعولمته، فضلا عن ان هناك اجماعاً بان الشركات متعددة الجنسية بدات تفقد ما تبقى من هويتها ان لم تكن قد فقدتها تماما. ففي السابق كان الشخص عندما يشتري بضاعة يتفحص هل مكتوب عليها مثلا “made in Japan، made in Germany ، made in U.S.A” “لان بلد الصنع يعني الكثير لمواصفات السلع التي نريد شراءها” لكن الوضع في ظل العولمة اختلف فلم يعد معنى للقول هل ان هذه البضاعة امريكية او فرنسية او المانية او يابانية وتحولت العبارة في ظل العولمة الى “made by I.B.M، made by Toshiba، made by Nike، made by (31)Puma” . وهكذا يتضح أن كثيراً من رموز السيادة الوطنية بدأ بالزوال والأفول التدريجي ببروز هذه الشركات ونموها وازدهارها، فقد تمخض عنه تقليص دور الدولة وتهميشه في الكثير من ميادين الحياة وخاصة الاقتصادية منها. فهذه الشركات فرضت نفوذها وقوتها على الدولة ليس من خلال الحرب والاسلحة وانما من خلال سيطرتها على حركة وموازين القوة الاقتصادية ومتطلبات السوق واضحت البضاعة المصنعة لا تعكس اصالة البلد الذي انتجت فيه وانما تعكس استقلالية الشركات متعددة الجنسية اكثر فاكثر عن الدول الموجودة فيها.
وفي تقرير صدر عن الامم المتحدة رَصَدَ فيه قوة الشركات متعددة الجنسية بانها تتمتع بالنفوذ والثروة والقدرة على ادارة الموارد بشكل يفوق قدرات الدول. ويرد هذا التقدير قدرة هذه الشركات وقوتها الى امرين :
الأول : تمتاز هذه الشركات بجملة خصائص تمكنها من التكيف مع البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل فيها.
وثانيا : تعدد الانشطة التي تقوم بها هذه الشركات مما يعني هيمنتها على الاصول الانتاجية الخارجية من خلال مجموعة متباينة من الترتيبات غير المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية كالتعاقد من الباطن مثلا او منح الامتيازات او التراخيص او اقامة تحالفات استراتيجية(32).
ولم يتوقف نشاط الشركات متعددة الجنسية بانتزاع الرموز السيادية للدولة عند هذا الحد، بل امتد ليشمل الامن الداخلي والامن الاجتماعي والسياسي. فبالنسبة للامن الداخلي فان الشركات متعددة الجنسية بدأت تعتمد على نظم أمن خاصة اما تمتلكها او تستاجرها من شركات متخصصة تستخدم احدث الاساليب الالكترونية فهي بذلك لم تعد بحاجة للجوء الى الشرطة. اما بالنسبة للامن الاجتماعي والسياسي، فانه لا يمثل الان ضرورة ملحة. فنزاعات العمل التي تحدث بين العمال والشركات. لا تتدخل الحكومات لتسويتها وانما يقتصر دورها في تقريب وجهات النظر فيما بين الاطراف المتنازعة بتوسطها بين نقابات العمال وادارة الشركات حيث انها تنظر الى الامر على اساس انه امر تعاقدي يدخل ضمن عقود العمل الجماعي. والقضاء هو الاخر تم الاستغناء عنه. فالشركات متعددة الجنسية في كل العقود التي تبرمها تشترط في حالة حدوث نزاع فانه يصار اللجوء الى التحكيم في اقصر وقت ممكن(33). وعليه انه لمن المغالاة القول بفناء الدولة في ظل العولمة وحلول الشركات متعددة الجنسية محلها، بل انه سيدخل عليه بعض التغيرات لمصلحة الشركات متعددة الجنسية، وخاصة في بعض الوظائف، حيث اصبحت الشركات ممتلكة لنظم امنية وبريدية خاصة بها وليست مرتبطة بالدولة. كذلك فان لهذه الشركات نظاما نقديا خاصا بها عن طريق قدرتها في اصدار بطاقات الائتمان التي لا تقع تحت اشراف الحكومات. وبهذا زال حق من اهم حقوق الدولة السيادية في مجال الانفراد في اصدار عملة النقود. فضلا عن ذلك فان الشركات متعددة الجنسية بدات تستولي على المرافق العامة والخدمات العامة التي استأثرت بها الدولة سابقا من خلال تحويل القطاع العام الى قطاع خاص(34). اذن فدور الدولة لن يختفي ولكن ستدخل عليه تغيرات جوهرية وملموسة في الوظائف الاساسية والتقليدية للدولة على اساس ان جزءا من تلك الوظائف بدأ يعطى للشركات متعددة الجنسية وللمؤسسات والمنظمات الدولية(35). فالدولة تبقى شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام ولها دور محوري في العلاقات الدولية. والشركات متعددة الجنسية بما لها من قدرة وقوة في التاثير الا انها لا تستطيع الاستغناء عن الدولة، فالاخيرة تمثل القاعدة التي تنطلق منها الشركات متعددة الجنسية، غير ان الدور الذي ثبت للدولة منذ معاهدة وستفاليا عام 1648م والذي تاصل داخل كيانها بدأ في ظل العولمة وعلى يد الشركات متعددة الجنسية بالتغيير نحو الانحسار المتزايد. فالمركز الدولي للشركات متعددة الجنسية بدأ بالتزايد على حساب انحسار المركز الدولي للدولة. وهذا يعني ان الاعتراف بالشخصية القانونية الدولية للشركات امر لا مناص منه في ظل الاوضاع الدولية الراهنة من جهة وفي المحافظة على توازن بيئة المجتمع الدولي من جهة اخرى.
__________________
1- انظر د. عصام العطية، القانون الدولي العام، ط6، دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد، 2001، ص295. كذلك انظر بنفس المعنى سليمان صالح الغويل/ الدولة القومية : دراسة تحليلية مقارنة، ط3، المركز العالمي لدراسات وابحاث الكتاب الاخضر، طرابلس، 1989، ص41-42.
2- د.حسن الجلبي، القانون الدولي العام، ج1، مطبعة شفيق، بغداد، 1964، ص177.
3- د.علي صادق ابو هيف، القانون الدولي العام، ج1، ط12، منشاة المعارف الاسكندرية، بدون سنة طبع، ص113.
4- د.حامد سلطان، القانون الدولي العام في وقت السلم، مصدر سابق، ص33. كذلك أنظر بنفس المعنى د. طعيمة الجرف، نظرية الدولة والاسس العامة للتنظيم السياسي، مكتبة القاهرة الحديثة، 1965،ص333 وما بعدها .
5- وللمزيد من التفصيل حول عناصر الدولة انظر على التوالي:-
د. علي صادق ابو هيف، القانون الدولي العام، ج1، ط12، منشاة المعارف الاسكندرية، بدون سنة طبع ، ص114 وما بعدها .
د. حامد سلطان، القانون الدولي العام وقت السلم، دار النهضة العربية، القاهرة، 1975. ص34 وما بعدها .
د. عصام العطية، مصدر سابق، ص297 وما بعدها
6- انظر طلعت جياد لجي علي الحديدي، مبادئ القانون الدولي العام والعولمة، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون، جامعة الموصل، 2001، ص103-104 .
7- للمزيد من الاطلاع انظر د.عبد الحسين القطيفي، في اصول القانون الدولي العام، ج1، مطبعة العاني، بغداد، 1970، ص250. كذلك أنظر د. حكمت شبر، القانون الدولي العام: دراسة مقارنة بين الفقه الاشتراكي والرأسمالي، ج1 ، مطبعة دار السلام، بغداد، 1975، ص191 .
8- انظر بول هيرست وجراهام تومبسون، مسالة العولمة وامكانية التحكم في الاقتصاد الدولي ، ترجمة ابراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1999، ص292، كذلك انظر بنفس المعنى برهان غليون/ رهانات العولمة، بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.mafhoum.com ، ص10.
9- انظر جوزيف أ. كاميليري، ازمةالحضارة افاق انسانية في عالم متغير، ترجمة د.فيصل السامر، دار الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 1984، ص178.
10- لمزيد من الاطلاع انظر د.علي صادق ابو هيف، مصدر سابق، ص113 وما بعدها د.عصام العطية، مصدر سابق، ص292 وما بعدها، د.شارل روسو، القانون الدولي العام، الاهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1982، ص95 وما بعدها.
1-[1] انظر دان غالين ، أي حركة نقابية في زمن العولمة.
بحث مسحوب من الانترنت http://www.maroc.attac.org، ص1.
12- انظر د.علي صادق ابو هيف، مصدر سابق، ص121.
13- انظر انياسيو رامونة، السلطة الخامسة، بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.mifo.gov.ps/12.10.03.htm ص3
14- انظر بهجت محمد ابو النصر، التحول في دور الدولة واعادة اكتشاف الحكومة، مجلة الوحدة الاقتصادية العربية، العدد (24)، تصدر عن الامانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، 1987، ص112.
15- انظر المصدر نفسه، ص108.
16- انظر مايكل تانزر واخرون، من الاقتصاد القومي الى الاقتصاد الكوني : دور الشركات متعددة الجنسية، ترجمة، عفيف الرزاز، ط1، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت، 1981، ص79. كذلك انظر بنفس المعنى د. محمد السيد سعيد، الشركات متعددة الجنسية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978، ص6.
17- انظر جوزيف أ. كاميليري، ازمةالحضارة افاق انسانية في عالم متغير، ترجمة د. فيصل السامر، دار الشؤون الثقافية والنشر، بغداد، 1984، ص179. كذلك انظر د.هالة مصطفى/ العولمة : دور جديد للدولة، مجلة السياسة الدولية، العدد (134)، مؤسسة الاهرام، القاهرة، 1998، ص45.
18- لمزيد من التفصيل عن هذ الموضوع انظر د.عامر الجومرد، السيادة، مجلة الرافدين للحقوق، العدد(1) كلية القانون –جامعة الموصل، 1996، ص158 وما بعدها، انظر د.سامي السعد، مبدا السيادة في القانون الدولي العام، مجلة القانون المقارن، العدد (5)، 1972، ص189 وما بعدها، كذلك انظر :
Cavare، L. “Droit International Public postitif”، 3ed، t1. Paris، 1969، p332-333.
19- Kanishka Jayasuriya، Globalization، law، and the Transformation of sovereignty: the Emergence of Global Regulatory Governance، Global legal studies Journal، vol.6:425. 1999. P426.
20- ايناسيو رامونة، مصدر سابق، ص2.
21- انظر الصادق رابح، وسائل الاعلام والعولمة، مجلة المستقبل العربي، العدد(243) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص25. كذلك انظر د.محمد شومان، عولمة الاعلام والسيادة الوطنية، مقال مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.suhuf.net ص3.
22- انظر مايكل تانزر واخرون، مصدر سابق، ص12. كذلك يستشهد هذان الكاتبان بما تضمنته مجلة “Business International” بقولها “ان الامة –الدولة اصبحت بالية وغدا ستصبح ميتة بكل ما في الكلمة من معنى” نفس المصدر والصفحة .
23- Patriek daillier، Alain pellet. Op، cit، p162.
24- انظر بول هيرست وجراهام تومبسون، مسالة العولمة وامكانية التحكم في الاقتصاد الدولي ، ترجمة ابراهيم فتحي، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1999، ص257.
25- المصدر نفسه، ص257.
26- د. ريتشارد هيجوت/ العولمة والاقلمة : اتجاهان جديدان في السياسات العالمية، ط1، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابو ظبي، 1998، ص4.
27- بول هيرست وجراهام تومبسون، المصدر السابق، ص259-260.
28- جلال امين/ العولمة والدولة/ مجلة المستقبل العربي، العدد (228)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص25.
29- لقد ثار جدل فقهي حول تحديد معنى الاختصاص الداخلي بين فقهاء القانون الدولي العام نظرا إلى اتساع معناه، وحول الاراء الفقهية في تحديد معنى الاختصاص الداخلي انظر تباعاً :
– د. . محمد السعيد الدقاق، المنظمات الدولية (العالمية والاقليمية) مؤسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية، 1978، ص93 وما بعدها
– د.مفيد محمود شهاب، المنظمات الدولية، ط2، دار النهضة العربية، القاهرة، 1974، ص125 وما بعدها.
– Joseph Nisot، Art2 part7 of the United Nations charter، A.J.I.L، vol.43، October 1949، p776-777.
30- انظر د.كامل ابو صقر، العولمة التجارية والادارية والقانونية ، رؤية اسلامية، ط1، دار الوسام، بيروت، 2000، ص416-417.
31- أنظر د. حسن حنفي. د.صادق جلال العظم، ما العولمة؟ ط1، دار الفكر، دمشق، 1999، ص146 .
32- انظر مامون الباقر، الشركات متعددة الجنسية تلغي نفوذ الدولة القومية.
بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.albayan.ae/servatt، ص3.
33- انظر بهجت محمد ابو النصر، التحول في دور الدولة واعادة اكتشاف الحكومة، مجلة الوحدة الاقتصادية العربية، العدد (24)، تصدر عن الامانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية، 1987، ص112-113.
34- للمزيد من الاطلاع عن تحول القطاع العام الى قطاع خاص انظر
UNCTAD، comparative Experiences with Privatization، United Nations Publication، February، 1996، p13-16.
كذلك أنظر د. أحمد محمد محرز، النظام القانوني للخصخصة: تحول القطاع العام الى شركات القطاع الخاص، منشأة المعارف، الاسكندرية، 2003،ص117 وما بعدها .
35- انظر د. رسلان خضور، د.سمير ابراهيم حسن، مستقبل العولمة : قضايا راهنة، العدد(7)، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق، 1998، ص13. كذلك انظر بهجت محمد ابو النصر، مصدر سابق، ص113-114.
المؤلف : طلعت جياد لجي الحديدي
الكتاب أو المصدر : لمركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية
الجزء والصفحة : ص137-148.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً