في العقود الدولية، ولا سيما تلك العقود التي من شأنها أن تؤدي إلى انتقال رؤوس الأموال أو الخبرة الفنية عبر الحدود الدولية، كالقروض والاستثمار المباشر ونقل التكنولوجيا، أو انتقال السلع، لابد من تعيين القانون الواجب التطبيق الذي يحكم تكوين العقد من حيث الموضوع(1). والآثار، فإذا أقبلت الدولة أو إحدى مؤسساتها على الدخول في علاقة تعاقدية مع شركة متعددة الجنسية وكان العقد ينص على نشاط مما يقوم به الأفراد أو الشركات الخاصة يمكن اختيار قانون أجنبي وعليه قد يكون اختيار القانون الواجب التطبيق محل العقد الدولي اتفاقاً صريحاً بين المتعاقدين ينص عليه العقد، وقد يكون الاتفاق على هذا القانون ضمنيا يتلخص من نصوص العقد و ظروف وملابسات انعقاده وقد يتفق المتعاقدون على القانون الواجب التطبيق على العقد باتفاق لاحق على انعقاده وقبل حصول النزاع ولابد إن يكون الاتفاق اللاحق صريحاً وفي تعيين القانون الواجب التطبيق ، ولكن تثار الصعوبة إذا لم يتفق المتعاقدان على قانون معين لعقدهما صراحة أو ضمنا أو سكوت الإطراف عن تعيين القانون الواجب التطبيق ومن خلال مناقشة الباحث سنبين موقف المشرع العراقي والمصري وأحياناً المقارن.
واستنادا لما تقدم سنقسم هذا المطلب إلى الفرعين الآتيين :
الفرع الأول: حالة اتفاق المتعاقدين على تعيين القانون الواجب التطبيق.
الفرع الثاني: حالة عدم اتفاق المتعاقدين على تعيين القانون الواجب التطبيق .
الفرع الأول : حالة اتفاق المتعاقدين على تعيين القانون الواجب التطبيق
ان عقود الشركات متعددة الجنسية تتضمن التزامات تعاقدية بين طرفيها ، وهي تندرج تحت قاعدة اسناد العقود الواردة في المادة (25) من القانون المدني العراقي(2). اذ تنص على ان (يسري على الالتزامات التعاقدية قانون الدولة التي يوجد فيها الموطن المشترك للمتعاقدين إذا اتحدا موطناً ، فاذا اختلفا يسري قانون الدولة التي فيها العقد، هذا ما لم يتفق المتعاقدان أو يتبين من الظروف ان قانوناً آخر يراد تطبيقه)، والواضح من هذا النص أنه وضع ضابطين أساسيين للإسناد، هما الارادة الصريحة والارادة الضمنية في اختيار القانون الواجب التطبيق، كما وضع ضابطين احتياطيين للاسناد تتمثلان في قانون الدولة التي تم فيها العقد ، كما ان هناك ضوابط إسناد يمكن ان تندرج تحت الإرادة الضمنية . ولكن إذا لم تكن الإرادة الصريحة مجال شك بين الفقه إلا إن الإرادة الضمنية يثار حولها التساؤل فهل تتطلب أن تكون الإرادة الضمنية مؤكدة لا تثير الشكوك ؟ يمكن الإجابة عن التساؤل السابق بأن هناك اتجاهين هما:
الأول: تشترط بعض التشريعات أن تكون الإرادة مؤكدة من خلال عبارات التصرف مثل قانون الالتزامات السويسري 1987 الألماني 1986 واتفاقية روما 1980 وتشير بعض الاتفاقيات إلى هذا الاشتراط بصورة متواضعة مثل اتفاقية لاهاي 1955 واتفاقية لاهاي الجديدة 1986. في حين عرف الاتجاه الثاني: التعويل على الاختيار الضمني بإنكار دور الإرادة الضمنية معولاً على الإرادة الصريحة تقديراً للصعوبات العملية التي تعترض القاضي أو المحكم عند الكشف عنها. أما قيمة اشتراط التأكيد في الإرادة الضمنية عملياً، فيرى بعض الفقه المصري(3).أنه يتعين على القاضي إن يسبب قراره عند التعويل على الإرادة الضمنية وبنفس النهج عند عدم التعويل فإذا أبدى قصوراً في الأسباب فأن حكمه قد يتعرض للنقض . يستخلص من هذا الرأي أن الإرادة الضمنية التي أشارت إليها المادة 19/1 مصري يجب أن تكون مؤكدة بما يتبين لها من القرائن التي لا تدع مجالاً للشك. فأن لم تكن مؤكدة فتعني أن الإرادة منتفية وعلى القاضي الانتقال إلى الضوابط الأخرى. ويمكن القبول بنفس هذا الرأي في التشريع العراقي لان المشرع العراقي يورد في المادة 79 مدني عراقي ما يشير إلى الإرادة الضمنية مثل المشرع المصري الذي أشار إليه في المادة 80/2 ويعني ذلك أن المشرع العراقي تركها للاجتهاد. ومن الأمثلة التي تكشف عن الإرادة الضمنية المؤكدة ما يأتي:
قرائن مستوحاة من نصوص العقد ذاته:
وهي على النحو الآتي:
1. تنظيم العقد في نظام غير معروف إلا في نظام معين.
2. عند اتصال العقد بقانون أكثر من دولة وان واحدة منها نظمت هذا العقد، ويسري على نفس الحكم إذا اتصل العقد بأكثر من قانون اذ لا يعترف بهذا العقد سوى قانون دولة واحدة فقط.
أما القرائن المستوحاة من ظروف التعاقد فهي(4):
1. إخضاع العقود التبعية لنفس القانون الذي يحكم العقد الأصلي مثل حالات الكفالة، والوكالة، الرهن.
2. إذا كان العقد المبرم بين الطرفين مرتبطاً بعقود أخرى سابقة بين ذات الأطراف وكانت تتضمن اختياراً صريحاً بتطبيق قانون معين وسكوت العقد الجديد عن ذلك يفسر على انه سكوت ملابس.
3. قد تتضافر أكثر من قرينة من ظروف العقد أو عباراته مثل مكان الإبرام واللغة المحررة وشرط منح الاختصاص لمحاكم المكان نفسه.
والسؤال المثار هل يتطلب من القانون المختار أن يكون ذا صلة أو رابطة مع العقد ونقصد بالصلة أو الرابطة هي المصلحة أو الصفة المشتركة التي تجمع بين العقد والقانون المختار؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال انحاز الفقه والتشريعات إلى اتجاهين معاكسين:
فأنصار الاتجاه الأول(5): ينطلقون من ظاهر النص بماله من إطلاق حرية الأطراف باختيار القانون الذي يرتضونه دون قيد وهو أشبه بتفويض على بياض، وهو وجه الخصوصية في قانون الإرادة(6)، وإن ضمنوا عقدهم شرطاً بتطبيق قانون معين فأنهم لا يقصدون تركيز عقدهم في نظام قانوني معين. وعليه يجب استبعاد جميع القوانين لحساب القانون المختار حتى ولو لم يكن على اتصال بالعقد حتى لم يظهر ثمة غش نحو القانون. ويستند هذا الرأي في التشريعات مثل التشريع المدني الفرنسي في المادة 3 ف2 لعام 1804 الذي طبق اتفاقية روما 1980 على المادة الثالثة من الاتفاقية. أما أنصار الاتجاه الثاني: فإنهم يذهبون إلى ضرورة وجود صلة بين العقد و القانون المختار لحكمه ، ويطابق هذا الاتجاه في بعض نتائجه نظرية باتيفول(7). الذي يعتبر الاختيارين الصريح والضمني بمثابة عنصر من عناصر التركيز. في حين يكون الحل المقصور في القانون المدني العراقي والمصري إزاء الاتجاهين هو الآتي: في التشريع المصري: يذهب إلى أنه لابد من الصلة ولكن لا يشترط في هذه الصلة أو الرابطة بين العقد والقانون المختار أن يكون هذا القانون المختار متصلاً بالعقد عن طريق مركز الثقل في العلاقة أو يكون متصلاً عن طريق أحد عناصره مثل قانون جنسية أحد الأطراف أو مكان الإبرام أو موقع المال، وإنما يكفي أن تكون الصلة هي حاجة التجارة الدولية. وجانب من الآراء(8). من يحصر نطاق الصلة في حدود القوانين التي تتزاحم لحكم الرابطة العقدية فيذهب إلى ضرورة الصلة كونه من أنصار المدرسة الموضوعية الاجتماعية التي توافق على نهج المشرع بمقتضى قاعدة الإسناد. وجانب من الفقه المصري لا ينحاز إلى الرأي السابق(9). ويعتبره (إطلاقا يتبعه تقييد دون نص) ويتلخص رأيه في أن المشرع عند تخويله حرية الاختيار للمتعاقدين قد انطلق من اعتبارات واقعية هي:
1. حماية توقعات الأطراف في اختيارهم لقانون يعرفونه مسبقاً.
2. تحقيق الاطمئنان بإحداث الآثار المرغوب فيها نتيجة تطبيق القانون المختار.
3. لم يتطلب المشرع المصري وجود صلة حقيقية أو موضوعية و هذا التوجه من المشرع هو خروج عمّا قرره في قواعد الإسناد الأخرى التي معظمها تتطلب الاتصال بمركز الثقل.
وتبرير هذا الخروج الاستثنائي يرجع إلى وجود اعتبارات قوية في بعض العقود الدولية لا تلزم وجود الصلة الموضوعية، ولا خشية من هذا الاستثناء للأسباب الآتية:
1. قد ترد الأمور إلى الأصل (عندما لا يختار الأطراف القانون المختار) بموجب تحقق الرابطة بين القانون الواجب تطبيقه والعقد.
2. إن اختيار القانون لا يمثل مركز الثقل في العلاقة ولا مكان للقلق لان القانون محروس بالدفع بالغش نحو القانون والنظام العام والقوانين ذات التطبيق الضروري (قوانين البوليس).
ويرى هذا الجانب الأخير أنه لا ضرورة لوجود اتصال مادي وثيق بين العقد والقانون المختار وإنما يكفي تحقق مصلحة مشروعة حقيقية وجدية للأطراف في اختيارهم لقانون معين يحكم عقدهم، وهذه المشروعية تتحدد بهذه الأوصاف من خلال المزج بين القانون المختار. وقانون دولة القاضي بهدف تحقيق المصلحة الجدية مع مصلحة التجارة الدولية مما يتطلب من القاضي إبداء المرونة في التقدير، ومن شأن ذلك ان يهدر كل اختيار مغشوش أو مصطنع، ومتى ما توافرت هذه الأوصاف وهي المصلحة الجدية المشروعة ومصلحة التجارة الدولية وكذلك هدر الاختيار المغشوش والمصطنع فعند ذلك تتحقق الصلة المعقولة والمنطقية بين العقد والقانون المختار. ويرجع سند هذا الرأي إلى إن المادة 24 مدني مصري التي خولت القاضي الرجوع إلى المبادئ العامة في القانون الدولي الخاص فيما لم يرد بشأنه قاعدة إسناد تشريعية وهو قيد مرن. أما موقف المشرع العراقي فيما يخص وجود صلة بين العقد والقانون المختار فالشائع في العقود المالية الدولية للتجارة الخارجية للعراق أنه لا يميل إلى اختيار قانون لحكم الرابطة العقدية على غير صلة به سواءاً كانت هذه الصلة رابطة مكانية أم حاجة التجارة الدولية أم اعتماد العقد النموذجي. وعلى الرغم من إطلاق نص المادة 25/1 مدني في تخويل الأطراف باختيار القانون إلا إن المشرع العراقي أشار بوضوح في قانون التجارة الرقم 30 لسنة 1984 وبالمادة 297 الى إحالة عقود البيع إلى العقود النموذجية والعقد النموذجي كما هو معروف يتبنى قانوناً معيناً مثل (القانون الإنجليزي في عقود تجارة القطن). كما أن قرار ديوان التدوين القانوني المرقم 132/978 بشأن التحكيم التجاري والانضمام إلى اتفاقية نيويورك لسنة 1958 قد أشار وبالنص إلى ” إن التحولات السريعة الجارية في القطر وفي العالم ومن مقتضيات التنمية الاقتصادية التي تمر بها البلاد وظاهرة ازدياد التبادل التجاري قد تخلق في بعض الحالات الخاصة التي تبدو فيها الحاجة ملحة إلى وضع شرط التحكيم في العقود المبرمة مع بعض الجهات الأجنبية ” مما ينتج عنه أن توجه المشرع العراقي في تبني هذه الأخطار لمصلحة التنمية الاقتصادية قد أوجد الصلة اللازمة لربط القانون المختار بالعقد. وعليه فإن السند القانوني لهذه الصلة في التشريع العراقي يكمن في المادة 30/مدني عراقي التي أجازت إتباع مبادئ القانون الدولي الأكثر شيوعاً فيما لم يرد نص به فضلاً عن رأي ديوان التدوين القانوني العراقي و بعدها المادة 297 تجارة. أما اعتماد القانون العراقي والمصري للنظرية الفردية الشخصية(10). أو النظرية الموضوعية الاجتماعية(11). فانه يبين أن المشرعين العراقي والمصري قد أخذا بهاتين النظريتين كلتيهما أي نظرية ازدواجية(12). فاعتمدوا النظرية الفردية الشخصية عند الاختيار الصريح أو الضمني المؤكد وعند تخلف الاختيار اعتمدوا النظرية الاجتماعية الموضوعية.
الفرع الثاني : حالة عدم اتفاق المتعاقدين على تعيين القانون الواجب التطبيق
عند غياب الاختيار الصريح أو الضمني المؤكد وهي حالة عدم الاتفاق الصريح على قانون معين لحكم العقد، ولم يتوصل القاضي الناظر في الأمر إلى الكشف عن الإرادة الضمنية للإطراف فإزاء هذا الفرض فان قوانين أخرى يمكن أن تحل محل قانون الإرادة ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: والذي يوصف بالعمومية والجمود في التشريع(13).
وهو اتجاه تشريعي يقوم فيه المشرع بعملية تركيز موضوعية للرابطة وبصورة قواعد آمرة للقانون الواجب التطبيق ويمتثل القاضي لهذه الأوامر، ومن هذه التشريعات القانون العراقي والمصري . وتكون أسبقية الحلول للقانون الذي حدده المشرع. ففي التشريعين العراقي المصري يكون قانون الموطن المشترك للطرفين إذا اتحدا في هذا الموطن، والموطن طبقاً للمادة (42) مدني عراقي هو (المكان الذي يقيم فيه الشخص بصورة دائمية أو مؤقتة) فإن اختلفا موطناً فيصار إلى قانون مكان العقد أي المحل الذي ابرم فيه العقد. قد تبرز بعض الصعوبات عند تحديد مكان إبرام العقد في حالة التعاقد بين غائبين، وفي ضوء المادة (87) مدني عراقي فان المشرع العراقي اخذ بنظرية العلم وتعني المكان الذي يصل فيه القبول إلى علم الموجب(14). وهو مكان إبرام العقد. يمتاز هذا المنهج بما يأتي:
* إحاطة الأطراف علماً بالقانون الواجب التطبيق مقدماً.
* تحقيق الأمان القانوني لأطراف العلاقة.
أما المأخذ على هذا المنهج فانه يتجاهل الطبيعة الخاصة لكل عقد حين يضع قاعدة عامة.
المنهج الثاني: منهج عملية التركيز الموضوعية من قبل القاضي(15).
وهذه العملية متروكة لحكمة القاضي ودون تحديدات من المشرع و يوازن القاضي بين جملة من القرائن الشخصية والموضوعية. ويتسم هذا النهج بالمرونة وسعة سلطة القاضي ولكنه في نفس الوقت لا يتمتع بمزايا المنهج الأول في المعرفة المسبقة بالقانون.
المنهج الثالث: منهج الأداء المميز(16).
ويقوم هذا المنهج على التركيز الموضوعي البحت و لا دور للإرادة فيه، و فكرة الأداء المميز مبنية أما على موجهات و قرائن حددها المشرع سلفاً أو على قواعد إسناد موضوعية. وهذه الفكرة قوامها إن كل عقد ينفرد بأداء يميزه و يحدد خصائصه بوسيلة تعين الكشف عن أوثق القوانين صلة بالعقد من خلال اعتماد عنصر واحد للإسناد يتغير من عقد إلى آخر وحسب طبيعة كل عقد مثل الأداء في العمل و المصارف وأداء الشركات متعددة الجنسيات. ونظراً لأهمية هذا المنهج سوف ندرسه بصورة مفصلة إذ يحوي منهج الأداء المميز اتجاهين:
الاتجاه الأول(17): وهو الذي أخذت به اتفاقية روما 1980، ويكشف هذا الاتجاه عن القرينة القانونية التي يعتمدها القاضي، فإذا ثبت عدم مصداقيتها فيعرض عنها ويطبق قانوناً آخر ويراعي القاضي في هذا الاتجاه جملة اعتبارات هي: عند غياب الاختيار يتعين على القاضي أعمال القانون الأوثق صلة بالعقد وهو قانون البلد الذي يرتبط به أكثر من غيره ويشبه نظرية التركيز من حيث الهدف، فينظر الى العقد بوصفه وحدة واحدة دون تجزئة فيسند إلى قانون دولة واحدة على وجه طبيعي. وهو مبدأ تكشف عنه قرينة مؤداها إن قانون الدولة التي يوجد فيها محل الإقامة المعتاد للمدين بالأداء المميز وقت التعاقد وهو أكثر القوانين اتصالاً بالعقد وإذا تعلق الأمر بشركة مثلاً اعتبر هذا الأداء متحققاً في مركز إدارة هذه الشركة فيتحدد قانون مركز الأداء. إذا ظهر للقاضي إن الإسناد الى قانون المدين ليس معبراً مثل ( إذا تبين من مجموع الظروف أن العقد على ارتباط وثيق بدولة أخرى ) فبإمكانه الإطاحة بالقرنية المكتشفة وإحلال قانون آخر . ويمتاز هذا الاتجاه بالبساطة والوضوح في الأغلب من الحالات، كما إن التركيز الموضوعي يذلل الصعوبات التي تعترض القاضي من خلال وضع قرائن مادية وموضوعية مستمدة من طبيعة الرابطة دون اللجوء إلى الملابسات والظروف. والسؤال المثار هنا عن مدى تحقق العدالة في ظل منهجية فكرة الأداء المميز؟ عند الإجابة يتقرر أمران:
الأمر الأول: لا ينكر أهمية هذا المنهج في تحديد القانون الواجب التطبيق بصفة خاصة عندما يبرم العقد على إطار النشاط المهني الذي يحترفه احد الإطراف مثل حالات عمليات مصرفية ففي مثل هذه الحالات يكون قانون المصرف القائم بالعملية هو الواجب التطبيق.
الأمر الثاني: إن نهج اتفاقية روما 1980 لا يستتبع باللزوم غلق الباب أمام سلطة القاضي في التقدير والسؤال من أين تتأتى (تنبثق) سلطة القاضي هذه ؟ يعتقد جانب من الفقه(18). أن سلطة القاضي غالباً تتبع نهج التركيز عند باتيفول من خلال ثلاثة منافذ جميعها تعتمد على ظروف العقد، وهي على النحو الآتي:-
(1) في ظل ما هو متاح للقاضي في استبعاد قانون الدولة التي يوجد فيها محل الإقامة المعتاد للمدين بالأداء المميز (عندما يظهر أن العقد على صلة أوثق بقانون دولة أخرى)، فيمكن للباحث أن يقرر أن نظرية التركيز تعتمد على ظروف العقد وملابساته ولا دور للإدارة هنا.
(2) خولت اتفاقية روما القاضي الكشف عن الأداء المميز بنفسه وعندما يصعب التمييز بين أداء وآخر فمنهج الاعتماد يكون على ظروف العقد وملابساته.
(3) للقاضي نفس السلطة عندما يكون جزء من العقد قابلة للانفصال عن بقية العقد وهذا الجزء على صلة أوثق بدولة أخرى غير الدولة التي بها محل إقامة القائم بالأداء، وتعد اتفاقية روما المميز في العقد وفي جميع الفروض للقاضي صلاحية التقدير. وقد تنطوي اتفاقية روما على الإخلال بتوقعات الأطراف، وقد وضعت هذه الاتفاقية قواعد خاصة لبعض العقود مثل عقود العمل الفردية والعقود التي تتعلق بعقار وعقود نقل البضائع وغيرها.
الاتجاه الثاني(19): اتجاه يتعلق في داخل منهج الأداء المميز وذلك بوضع قواعد لفئات العقود، يأخذ هذا الاتجاه بفكرة الأداء المميز سانداً كل فئة من فئات العقود ذات الطبيعة الواحدة بالقانون الملائم لحكمها كأن يكون (قانون محل إقامة المدين بالأداء المميز أو قانون مقره، أو قانون مركز أدارته، أو محل نشاطه) إذا ابرم هذا المدين عقداّ يتعلق بنشاطه المهني. وقد توسع هذا الاتجاه في تعداد فئات العقود ولم يكتف بالقاعدة التي صاغها بوصفه القيد الأساسي الذي يقلل من مرونة هذا المسلك كما أن مشرعي هذا الاتجاه لم يجعلوا من الإسناد مجرد قرائن يمكن للقاضي استبعادها وجعلها قواعد قانونية موضوعية ينزل القاضي على حكمها. ويمتاز المسلك بالجمود لوصفه قواعد إسناد جامدة لا يملك القاضي حيالها أي سلطان ولكن هذا الجمود لا خشية منه للتعداد الواسع لفئات العقود المتباينة.
تقدير نظرية الأداء المميز :
يتبين أن مساحة الاختلاف بين الاتجاهين داخل نظرية الأداء المميز ضيقاً، ولا يصلان إلى حد التماثل. ونعتقد ان منهج الأداء المميز عبر أحد الاتجاهات هو الأفضل لما فيه من مرونة وواقعية ولا إخلال بتوقعات الأطراف وهو منهج يمكن للقضاء العراقي والمصري اعتماده استناداً إلى تخويل المشرع بإتباع المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص الأكثر شيوعاً(20). كما إن نظرية الأداء المميز من شأنها إن تسمح باتخاذ موقف محدد من تنازع القوانين في خصوص عقود الشركات متعددة الجنسية بما يكون معه قانون الشركة (مركز الإدارة) هو الواجب التطبيق. ولغرض ضبط فكرة منهج الأداء المميز من خلال منهج تحليلي بمراعاة جملة اعتبارات هي:
أولاً: من غير المنطقي صياغة قاعدة إسناد عامة تطبق بصورة مطلقة على سائر العقود.
ثانياً: يتم البحث عن إسناد له مصداقية ويكون القانون الذي يشير إليه فاعلاً وقوياً من خلال:
(1) عدم الوقوف بالمسألة عند النظر إلى الرابطة العقدية وكأنها رابطة مجردة وحسب.
(2) الاهتمام بخصوصية كل عقد وما ينفرد به.
فإذا روعيت هذه الاعتبارات من المشرع والقاضي نتمكن من التمييز بين طوائف العقود لإسناد قانون الدولة الأكثر صلة بالعقد.
ولا بد من الإشارة قبل أن نختم بحثنا عن نشاط الشركات متعددة الجنسية إلى دور اتفاقيات اللغات لسنة 1994 التي انبثقت من رحم منظمة التجارة العالمية بالنسبة إلى الاستثمار وبقدر تعلق الموضوع بالجانب القانوني تحدد إجراءات الاستثمار في التجارة بالشروط التي تضعها السلطات المحلية على الاستثمارات الأجنبية التي ترغب العمل في إقليمها، والتي تنطوي على تقييد للتجارة العالمية. وتعين المادة (5) من الاتفاقية على كل دولة عضو في منظمة التجارة العالمية إلغاء الإجراءات المحظورة خلال سنتين إذا كانت من الدول المتقدمة، وممكن إطالة المدة إذا كانت الدولة من الدول النامية وتكون بالطبع عضواً في هذه المنظمة العالمية. وبالنتيجة ((تحويل العالم إلى حقل قانوني واحد يعمل على إزالة الحواجز القانونية أمام حركة رأس المال في السوق التجارية، وذلك من خلال العمل على التوحيد الدولي للقواعد المنظمة للعلاقات الاقتصادية))(21). ومن هنا لا بد من التوسع في الاختيارات التي أوردتها المادة 25من قانوننا العراقي إلى أفق أوسع يتماشى مع تطور التجارة الدولية(22). كأن يضاف إليها القوانين آلاتية:
1- القانون الذي تشير إليه الاتفاقية الدولية التي يوقع عليها العراق بالنسبة إلى الدول التي لم يوقع عليها بعد كما تذهب إلى ذلك اتفاقية فينا لبيع البضائع الدولية.
2- تطبيق القانون الأكثر ارتباطاً بالعقد أو قانون الأداء المميز والذي تكشف عنه ظروف العقد أو بموجب قرائن معينة، كل قضية على انفراد.
3- القانون الأكثر علاقة بإطراف العلاقة بموضوع المال المتعاقد عليه أو مكان تنفيذ القانون الأكثر صلاحية والأكثر مصلحة للطرف الضعيف الذي يواجه الطرف القوي بالنسبة الى علاقات العمل.
4- تطبق القواعد ذات التطبيق الضروري الملائمة لإيديولوجية المجتمع.
____________________
– يخضع العقد من حيث الموضوع إلى المادة 25 من القانون المدني العراقي ، ومن حيث الشكل يخضع للمادة 26 من القانون نفسه .
2- والتي تقابل المادة (19) من القانون المدني المصري والمادة 20 نم القانوني المدني السوري والمادة 20 من القانون المدني الأردني .
3- د.عكاشة عبد العال، مصدر سابق ، ص45.
4- راجع د.حسن هداوي، د.غالب علي الداودي، القانون الدولي الخاص تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي وتنفيذ الأحكام الأجنبية، منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي 1988، ص151 وما بعدها.
5-Deby Gerard ،op.cit No327، p.261
وان الأستاذ Goldman من ابرز المدافعين عن حق المتعاقدين في اختيار القانون الذي يحكم عقدهم .
6-Deby-Gerard، ينظر لهذه الآراء معروضة لدى د.عكاشة عبد العال ، مصدر سابق ، ص49 .
7-Batifol et largard ،droit international prive ،T.2.1983 cit no. 574
8- هشام علي صادق، القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية، مصدر سابق، ص343 .
9- د.عكاشة عبد العال، مصدر سابق، ص52.
0- النظرية الشخصية: التي ترى أن الإرادة حرة في اختيار القانون الواجب التطبيق، راجع هشام علي صادق، القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية، مصدر سابق، ص44.
1- النظرية الموضوعية: التي ترى انه ليس مقدور الإرادة أن تحرر العقود الدولية من سلطانها القانوني أو أن تخرجها من إطار التنازع، بل إن دورها ينحصر في إخضاع العقود لحكم القانون و هم يستمدون سلطانهم من المشرع نفسه الذي خولهم هذه السلطة فلا يتصور أن تأتي هذه الإرادة طليقة دون قيد، راجع هشام علي صادق، القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية، مصدر سابق، ص44.
2- النظرية الازدواجية: فأنها تميز بين وضعين الوضع الذي يتفق فيه الأطراف صراحة على إخضاع رابطتهم العقدية لحكم قانون معين والوضع الذي يتخلف فيه هذا الاختيار الصريح و هو ما يشمل الاختيار الضمني والمفترض او عدم الاختيار نهائياً، راجع هشام علي صادق، القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية، مصدر سابق، ص44.
3- د. عكاشة عبدالعال ، مصدر سابق ، ص58.
4- للمزيد من التفصيل حول هذه النظرية ينظر د.عباس العبودي، التعاقد عن طريق وسائل الاتصال الفوري وحجيتها في الاثبات المدني، اطروحة دكتوراه مقدمة الى جامعة بغداد، 1994 ، ص ص139-147 .
5- هشام علي صادق ، الموجز في القانون الدولي الخاص ، تنازع القوانين ، 1993 ، ص313.
6- عكاشة عبدالعال ، مصدر سابق ، ص63.
7- راجع د.فؤاد رياض و د.سامية راشد، مصدر سابق، فقرة 465، ص335 وما بعدها.
8- د.عكاشة عبد العال، مصدر سابق، ص ص66-71.
9- عكاشة عبدالعال ، مصدر سابق ، ص71.
20- وفقاً للمادة (30) من القانون المدني العراقي وما يقابلها في المادة (24) من القانون المدني المصري.
2- د. محمد ديو يدار، المنظمة العالمية للتجارة والنظام القانوني في البلدان العربية، مجلة الدراسات القانونية، كلية القانون، جامعة بيروت العربية، عدد 3 ، 1999 ، ص321 .
22- حميد فيصل الدليمي، خضوع العقد لقانون الارادة، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية النهرين للحقوق، 1998، ص92 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً