نظامُ العملِ المُعدَّل وبيئةُ الأعمال رحلةُ أملٍ وألم!
تُعدُّ قوانين العمل أداةً تشريعيةً لإحداث التوازن بين طلبات العمال «الطرف الأضعف» ومتطلبات أصحاب العمل «الطرف الأقوى» على نحو تُراعى فيه العدالة الاجتماعية وإحداث مرونة لبيئة الأعمال التي تأثرت بسيادة النزعة الفردية أعقاب الثورة الصناعية، وما ترتب على ذلك من مظالم شُرَّعت باسم «حرية التعاقد».
وقد حَظِيَ نظام العمل السعودي منذ سَنَّهِ لأول مرة في أكتوبر 1947م، بعدة مراجعات وتعديلات تجعله من أكثر الأنظمة تواكباً لبيئة الأعمال مقارنةً بغيره كنظام الشركات الذي سُنَّ في عام 1965م. وبمقارنة التعديل الساري في 18 أكتوبر 2015م بالتعديلات السابقة يتضح أنه يحمل فلسفةً تشريعية مختلفة عمَّا سارت عليه القوانين اللاتنية عقوداً طويلة، ففي فرنسا -التي تعد بيت قوانين العمل اللاتنية- زادَ ضغوط الاقتصاد على الجهات التشريعية لتغيير تصلّب قوانين العمل وإجبارها على موائمة مرونة بيئة الأعمال، وبالتالي تحرير العلاقة العمالية من الطابع «الاشتراكي» إلى مسايرة مبادئ «الرأسمالية»، وذلك بعد أن وصفت بيئة الأعمال فيها «بالمعادية»، وهذا بلا شك مقلقٌ لثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، وعضو مؤثر في استقرار «اليورو».
والمستطلع لتعديلات نظام العمل السعودي يجد أنها تحذو حذو عدد من التشريعات العربية «كمصر والأردن» التي سايرت تغيرات قوانين العمل في الألفية الجديدة لمواكبة اقتصاديات العولمة، وزيادة مستوى التنافسية، لأن عملية التطور تعتمد على القوى البشرية. ومن المتوقع أن تُضفي التعديلات الأخيرة مرونةً أكبر على بيئة الأعمال من خلال فرض تحسينات لأداء سوق العمل ورفع كفاءته، وزيادة فاعلية الرقابة عليه، وتنظيم العلاقة بين أطراف العمل. ففي الوقت الذي تبذل فيه وزارة العمل مبادرات تهدف لزيادة توظيف المواطنين، وتحسين بيئة العمل بالقطاع الخاص وتطويرها، فإن غياب دور النقابات العمالية سيضاعف دور وزارة العمل الرقابي، ويراكم القضايا العمالية في أروقة المحاكم، ويرهق موازنة «ساند» في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بكثرة الملتحقين به؛ الأمر الذي ينبغي تأمله للوصول إلى المرونة الاقتصادية مع تحقيق العدالة الاجتماعية. فبالرغم من أن برنامج «ساند» قد يخلق مرونة في استبدال العامل السعودي بعامل آخر أكثر كفاءة، إلا أنه ليس بقادر على تحسين بيئة العمل أو زيادة التوطين. يتولى نظام العمل تنظيم العلاقة بين العامل ورب العمل، وبذلك فإنّه مُوجه بالدرجة الأولى للقطاع الخاص، وللمؤسسات الحكومية «الخاضعة له» من القطاعات التي تتطلب منافسةً أو طبيعةً تجاريةً.
وتُظهر بيانات المؤسسة العامة للتأمينات تزايد المشتركين من ذوي القطاع الحكومي كالهيئات الحكومية وبرامج التشغيل الذاتي، الأمر الذي يعني أن المخاطبين بنظام العمل متعددي الفلسفة في المحفزات، وطبيعة العقوبات، ونشاط الممارسة. فقد أظهرت إحصائية نُشرت مؤخراً أن ما يربو على 4 ملايين عامل في قطاع التشييد والبناء، وقرابة المليوني عامل في تجارة الجملة والتجزئة، وقرابة المليون في الصناعات التحويلية، وقرابة النصف مليون في قطاع الزراعة، ومثلها في النقل والاتصالات. في حين يحتل 8.5 مليون عامل أجنبي بالقطاع الخاص في مقابل 1.5 مليون عامل سعودي، وهذا يضع تحدياً على وزارة العمل في «تحسين بيئة العمل» ونقل سيطرة الأجنبي من التحكم في مكوناتها حفاظاً على مكانته؛ لذا فإن الفصل التعسفي يُعد الموضوع المهيمن على القضايا العمالية، وأحد المواضيع الجديرة بدراسة أسبابها، ووضع حلول عملية له بغية «تحسين بيئة العمل» ودعماً لتوطين الوظائف.
إنَّ الممارسات التعسفية في القطاع الخاص تتعارض مع توفير بيئة عمل إيجابية تكفل حماية حق الموظف، إذْ يتحول الفصل التعسفي إلى سلاح تهديد للموظف عند مطالبته بحقوقه.
إنَّ حرية فصل الموظف السعودي بلا ضوابط أو معايير عادلة تعني «التعسف في استعمال السلطة»؛ والذي يتحقق عندما يكون قرار الفصل لم يقصد به سوى الإضرار بالموظف، وإذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب ألبتة مع ما يصيب الموظف من ضرر بسببها، وإذا كانت المصالح التي يرُمى إلى تحقيقها غير مشروعة. إنَّ عقد العمل «كغيره من العقود» ليس عقداً مؤبداً؛ وإنما حرص الشارع على إبقاء العلاقة بعدالة مع موازنة لمصلحة الطرفين، وتَدَّخل في طرق إنهائها، فقرر الفصل من الخدمة بلا إشعار كعقوبة لارتكاب مخالفات جسيمة موضحة في المادة «80»، كما أعطى العامل الحق في ترك العمل بلا إشعار مع احتفاظه بحقوقه كما في المادة «81».
وفيما عدا ذلك فقد جعل المادة «74» أساساً لإنهاء العلاقة بسرد عدد من الضوابط التي تجعل انتهاء الرابطة التعاقدية «سبباً مشروعاً»، وأكد على ذلك في المادة «75» التي أوضحت أن إنهاء العلاقة بلا سبب مشروع يعد خلافاً للأصل، حيث فصلت المادة «77» آلية التعويض القانوني للطرف المتضرر من الإنهاء غير المشروع. فالبرغم من أن عقد العمل ليس مؤبداً إلا أن إنهائه لابد أن يستند إلى سبب مشروع. ذلك أن لكل حقٍ وظيفة اجتماعية، ويتقيد في استعماله بالحدود والمقتضيات التي تفرضها الوظيفة؛ لأنه يستهدف في نهاية المطاف خدمة المجتمع كله، ومن ثمَّ فإذا خرج به صاحبه على مقتضى وظيفته الاجتماعية اعتبر متجاوزًا.
ولهذا كانت عبارة المادة «77» قبل التعديل «إذا أنهي العقد لسبب غير مشروع كان للطرف الذي أصابه الضرر من هذا الإنهاء الحق في تعويض يراعى فيه ما لحقه من أضرار مادية وأدبية حالة واحتمالية». فلا يُلام صاحب المنشأة إلى كان الإنهاء يستند إلى مبرر جدي يتصل بتنظيم المنشأة، أو لعدم تواكب أداء العامل مع متطلبات الوظيفية واقتصادياتها، أو كان الإنهاء من قبل العامل لعجز رب العمل عن مواكبة طموحه المهني والوفاء بالأجر المنافس.
وفيما عدا ذلك فإن وزارة العمل -وفقاً لتصريح نائب وزير العمل- ستراقب سجل دخول وخروج السعوديين لسوق العمل، وفي حال وجود حركة غير طبيعية لإحدى المنشآت بالاستغناء عن السعوديين تعسفاً، فإنَّ الوزارة ستراقبها وتفتش عليها، وتوقع على المنشأة التي تمارس التعسف ضد السعوديين العقوبات، وإيقاف الخدمات كمنع التاشيرات أو تجديد الرخص أو تقديم الخدمات لها؛ لأن الهدف هو المصلحة العامة باستقرار سوق العمل وليس مصلحة الموظف المستغنى عنه. وهذا يجعل فلسفة «الأمان الوظيفي» تنتقل من الموظف إلى سوق العمل، ويجعل تركيز الموظف ينصب على «تحسين بيئة العمل» رفعاً للكفاءة والفعالية.
فبالرغم من أن التعويض القانوني الوارد في المادة «77» يُعدُّ أقل مما سنَّتهُ قوانين أخرى، إلا أن المشرع السعودي أخذ في الحسبان التعويضات التي يقدمها برنامج «ساند»، وألاَّ يكتب رب العمل في شهادة الخدمة ما قد يسيء إلى سمعة العامل أو يقلل من فرص العمل أمامه كما في المادة «64»؛ إلا أن هذا أيضاً لابد أن يُقرن بإيقاع العقوبة على المنشآت التي تتعسف في فصل السعوديين بلا سبب مشروع، وترهق الدولة بتحمل تبعات قراراتها التعسفية، خاصة إذا كانت نسبة العمال الوافدين هي المهيمنة. ويُلاحظ أن تلك المرونة تتَطَّلب دوراً رقابياً كبيراً، وقاعدة بيانات حديثة، واستعمال أدوات حديثة في التدقيق «Workplace Audit»، إذْ الملاحظُ أن عدداً من مواد النظام لم تلتزم بها المنشآت أو تتحايل عليها، ولا أدل على ذلك من استمرار مخالفي نظام العمل والإقامة والتوطين الوهمي، مما جعل الوزراة تستعين بوزارة الداخلية لفرض النظام.
لقد حان الوقت لتحويل «ﻭﻛﺎﻟﺔ ﺍﻟﺘﻔﺘﻴﺶ ﻭﺗﻄﻮﻳﺮ ﺑﻴﺌﺔ ﺍﻟﻌﻤﻞ» التابعة لوزارة العمل إلى جهاز مستقل مالياً ويتبع الوزارة إدارياً من أجل المتابعة والتنفيذ «Enforcement»، خاصةً وأن النظام في مادته «233» قد أعطى لوزير العمل صلاحية منح مكافأة مالية لا تزيد على 25 % من مبلغ الغرامة المحصلة لمن يساعد -من موظفي التفتيش أو من غيرهم- في الكشف عن أي من مخالفات أحكام هذا النظام ولائحته والقرارات الصادرة تنفيذاً له «Whistleblowing». كما أن النظام قد رفع سقف الغرامات إلى 100 ألف وإغلاق المنشأة شهراً مما يعني أن الغاية من تعديلات النظام مرهونةٌ بالالتزام به عبر التفتيش المهني الدقيق. إنَّ تعديلات نظام العمل لن يظهر أثرها على بيئة الأعمال من حيث زيادة توطين الوظائف، وانخفاض معدلات البطالة إلا من خلال وجود جهاز رقابي حديث، وبيانات دورية شفافة وحديثة تعكس أرقام الوظائف وتحديات سوق العمل التي تعيق من استيعابه للخريجين القادمين بغيةَ معالجتها.
إنَّ تنظيم سوق العمل اليوم أضحى أحد أركان النظام الإقتصادي، فلم تعد الوظيفة العامة –خاصة بعد أزمة أسعار النفط- أساساً لنهوض باقتصاد مستقل، فكان للقطاع الخاص الأثر الكبير في النهوض بالاقتصاد، لذا فإن هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة معنيةٌ بالدجة الأولى بقياس مدى نجاح تعديلات نظام العمل على توطين الوظائف.
الهبوب
مستشار قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً