المبادئ الـعامة للدعوى المدنية في القانون التونسي
إن الدعوى لا تختلف عن الخصومة فالثانية هي امتداد إجرائي للأولى أي أنّ الدعوى بمجرد رفعها تتخذ شكل الخصومة لأنها مرحلة المنازعة والمجادلة بين الطالب والمطلوب وبهذا الاعتبار فالخصومة ليست سوى مرحلة من مراحل الدعوى أو هي الدعوى في مرحلة تحقيقها وتهيئتها للحكم.
فالخصومة حسب ابن منظور هي الجدل أي مقابلة الحجة بالحجة وهذا المفهوم يبرز خاصية أساسية من خصائص النزاع القضائي تتمثل في كونه “مبارزة” بين المتقاضين بحضور القاضي.
فالنزاع المدني عبارة عن “مبارزة قضائية” يقتضي بطبيعته دعوة “المتبارزين” ليجابه كل واحد الآخر بما لديه من حجج وذلك في حدود إطار الادعاءات وطلبات كل واحد منهم وفق قيود مضبوطة يعبر عنها بالقواعد الإجرائية تهدف إلى تفادي هضم الحقوق.ولإنصاف المتقاضين أقرّ المشرع جملة من الأحكام القانونية و المبادئ العامة الواجب إتباعها عندما تعرض النزاعات على المحاكم.
الفقرة الأولى: مبدأ ملكية الدعوى المدنية للاطراف
يعني هذا المبدأ أنّ الأطراف هم الذين يرفعون دعواهم ويضبطون محتواها من حيث الطلبات والموضوع وكذلك إنهاء الخصومة فهم يسيطرون على الدعوى سواء على مستوى وجود الخصومة أو على مستوى تحديد مادة النزاع.فهم اللذين يملكون وحدهم حقّ إثارة الخصومة وتسييرها وإنهائها باعتبارها ملكا لهم ، وذلك انطلاقا من فكرة أن النزاع المدني لا يهم بالأساس إلا مصلحة المتقاضين الذين يتحكمون فيه لأن القاضي لا يمكن أن يتعهد بنزاع مالم يرفع أمامه. وهذا المبدأ لم يتبناه المشرع التونسي بصورة صريحة إلا أننا نجد له صدى بالفصل 70 م م م ت بما أنه قيد القاضي عند النظر في الدعوى بالوقائع التي يدلى بها الخصوم.
وقد حظي هذا المبدأ لدى الفقه الفرنسي بالدرس على عكس الفقه التونسي أو العربي واختلفوا في تحديد مفهومه. ويرى الأستاذ جون فانسون Jean Vincent أن الأطراف هم الذين يسيرون الدعوى وأنه على القاضي أن يبقى محايدا ويتبنى هذا المفهوم الأستاذ روجي بيرو Roger Perrot. في حين أن الأستاذ هنري موتالسكي يرى أن هذا المبدأ يترك للأطراف وحدهم تحديد موضوع وسبب النزاع وعليه فإن الأطراف هم الملزمون ببيان وقائع الدعوى وموضوعها وأدلتها والطلبات الأخيرة ومستنداتها, فالقاضي مقيد بالحدود التي وضعها أطراف النزاع لنزاعهم, فليس له أن ينظر في وقائع لم توجد في عريضة الدعوى، لأن المحكمة تمثل مرفقا عاما والخدمات التي تقدمها لهم هي أن تنظر في نزاعاهم بمجرد انعقاد الخصومة وانعقاد الخصومة من عمل الأطراف وحدهم وتتم بمجرد تبليغ عريضة الدعوى إلى المطلوب أو بمجرد تقييد الدعوى لدى كتابة محكمة الناحية. وعند تقديم ملف الدعوى للمحكمة يبدأ القاضي في تهيئة القضية للفصل كما حددها الأطراف.
وعلى هذا الأساس فإن انعقاد الخصومة ومواصلة السير في القضية من عمل الأطراف كما يمكن للأطراف أن يضعوا حدّا للخصومة بالصلح تطبيقا للفصول 1458 م ا ع أو بالإسقاط المنصوص عليه بالفصل 1120 م ا ع والذي يقتضي أن يسقط أحد الأطراف حقه في مواصلة التداعي.
الفقرة الثانية: مبدأ المواجهة
من خصائص النزاع القضائي كونه مبارزة بين المتقاضين يبادر بها احدهم وهو المدعي ويواجهها المدعى عليه ، ذلك هو المقصود بمبدأ المواجهة بين الخصوم.
ولقد اتفق الفقهاء على أن مبدأ المواجهة ليس سوى تطبيقا وتجسيما لحق أشمل وأعمق هو حق الدفاع ، ويحتل لذلك مبدأ المواجهة بين الخصوم مكانة مرموقة ضمن المبادئ الأساسية المنظمة للإجراءات المدنية ، وخصصت له بعض التشاريع الحديثة أحكاما عديدة وخاصة مجلة المرافعات المدنية الفرنسية الجديدة التي أقرت المبدأ صراحة في الفصول 14 و15 و17 وخاصة 16 الواقع تنقيحه في 12 ماي 1981 الذي أوجب على القاضي أن يعمل على احترام مبدأ المواجهة بين الخصوم وأن يلزم الأطراف على احترام ذلك المبدأ لأنه ” من العناصر الأساسية لحقوق الدفاع ” . وتجدر الإشارة إلى أن واجب احترام مبدأ المواجهة في التشريع الفرنسي ليس مفروضا على محاكم الأصل فقط بل يمتد أيضا لمحكمة التعقيب بالرغم من انها محكمة قانون ، وهو ما كرسه الفصل 1015 من م م م الفرنسية الجديدة الذي جاء فيه ” أنه على رئيس الدائرة بمحكمة التعقيب إشعار الأطراف بالمستندات القانونية التي يظهر أنه من الممكن إثارتها من طرف الدائرة تلقائيا لنقض القرار المطعون فيه ودعوتهم لتقديم ما لهم من ملحوظات في أجل يعينه . وأقر المشرع اللبناني مبدأ المواجهة بين الخصوم في المادة 372 من قانون أصول المحاكمات الجديدة وكذلك المادة 373 التي نصت على أنه ” يجب على القاضي في أي حال أن يتقيد وأن يفرض التقيد بمبدأ المواجهة فلا يجوز له أن يعتمد في الحكم أسبابا أو إيضاحات أدلى بها أحد الخصوم أو مستندات أبرزها إلا إذا أتاح للخصوم الآخرين مناقشتها وجاهيا ولا يصح إسناد حكم إلى أسباب قانونية أثارها من تلقاء نفسه دون أن يدعو الخصوم مقدما إلى تقديم ملاحظاتهم بشأنها”.
أما بالنسبة للمشرع التونسي فقد نصّ صراحة على مبدأ المواجهة بالفصل 4م م م ت:”لكل خصم حق الاطلاع على أوراق النازلة وعلى جميع الوثائق التي أدلى بها خصمه”.
الفقرة الثالثة: مبدأ حياد القاضي
يجمع الشرّاح على أن تقيد القاضي المدني بواجب الحياد هو خير ضامن لحقوق الدفاع في النزاع المدني ، ويفهم من مبدأ حياد القاضي أدبيا أن ” لا ينحاز القاضي لأحد الخصوم ” ، أما المفهوم الفني للحياد فالمقصود به أن لا يعمد القاضي إلى اعداد وسائل الدفاع وأن لا يسعى في احضارها ، ولا يمكن للقاضي نتيجة لذلك أن يؤسس اقتناعه إلا على عناصر الإثبات التي أدلى بها الخصوم ، إحتراما لحقّ كل فرد في الدفاع عن وجهة نظره بالطريقة التي يريدها ، وقد كان هذا المبدأ معروفا في الفقه الإسلامي، إذ روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال ” إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن(أقوى) بحجّتة من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، ومن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقضي له بقطعة من نار” .
أما بالنسبة للقانون التونسي فقد اقر الفصل 12 مرافعات مبدأ حياد القاضي إذ نص على أنه “ليس على المحكمة تكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم” .، وقد اعتبر جل الفقهاء في تونس أن الأمر يتعلق بالحياد الاختياري للقاضي إذ أن الفصل 12 لا يمنع المحكمة من تكوين الحجج للخصوم أو اتمامها أو احضارها ، كما لا يوجب عليها ذلك .و ما يؤكد أن الفصل 12 يكرس مبدأ الحياد الإختياري في الإثبات هو ما ورد بالفصول 86 و87و114 م م م ت فهذه النصوص خولت للمحكمة مباشرة أو بواسطة القاضي المقرر إجراء الأبحاث التي تراها لازمة من سماع بينات أو إجراء توجهات أو اختبارات أو تتبع دعوى الزور، أي أن المشرع خول للمحكمة القيام بأي عمل من الأعمال الكاشفة للحقيقة، ونص الفصل 87 م م م ت في نفس الإتجاه ، على أن للقاضي المقرر مطالبة محامي الخصوم بما يراه لازما من الإيضاحات والوثائق الإضافية أو القيام بالتوجهات والإذن بالإختبارات ، مما يفهم منه سعيا من جانب المحكمة لإتمام أو تكوين أو احضار حجج للخصوم .
وقد كرّس فقه قضاء محكمة التعقيب في كثير من الحالات الحياد الإيجابي للقاضي ويظهر ذلك من خلال عديد القرارات الهامة نذكر منها القرار التعقيبي المدني عدد 4867 المؤرخ في 22/1/1981 ” أن استيضاح إدارة البريد من طرف المحكمة لمعرفة ما دفع به المكتري من عرض معين الكراء لا يعد تكوين حجة للخصم وبالتالي لا يعد خرقا لأحكام الفصل 12 م م م ت ” . وهذا الموقف ورد أيضا في القرار التعقيبي عدد 8765 المؤرخ في 30 ماي 1974 والذي نص ” أنه للمحكمة في نطاق حقها في الكشف عن الحقيقة أن تأذن من تلقاء نفسها بإجراء اختبار ولا يعد ذلك منها سعيا لتكوين حجة الخصم وعملها هذا لا يعد خرقا للفصل 12 م م م ت بل هي أعمال تندرج في إطار الفصل 84 م م م ت القديم والفصل 86 م م م الجديد. وأكدت محكمة التعقيب آن أ الفهم الصحيح للفصل 12 م م م ت في قرارها عدد 5697 الصادر في 13 جويلية 1981 ” أن الفصل المذكور لا يقتضي الحظر على المحكمة أن تسعى في تكوين حجة الخصوم وإنما أعفاها من القيام بذلك تلقائيا حسب صريح نصه”.
اترك تعليقاً