معيار الخطأ في جريمة القتل غير العمد وعقوبته
المشرع المغربي عاقب القائل خطأ إذا لم يتبصر أو لم يحتط أو لم ينتبه أو أهمل أو لم يراعي الأنظمة أو القوانين ، والتساؤل المطروح هو عن تحديد ماهية المعيار الذي يمكننا أن نعتبر به بان شخصا ما قد ارتكب جريمة لأنه لم يتبصر أو لم يحتط أو أنه أخطأ عموما… الواقع أن تحديد ماهية هذا المعيار […]
جرائم القتل في القانون الجنائي المغربي – بحث جامعي وإحصائيات
الفصل الثاني : القتل الخطأ
المبحث الثاني : معيار الخطأ في القتل غير العمد وعقوبته
قبل التطرق إلى عقوبة القتل الخطأ العادية منها والمشددة ( مطلب ثاني ) كان لزاما علينا معرفة الضابط الذي يحدد من خلاله ما إذا كان الجاني قد راعى في تصرفه مقتضيات الحيطة والحذر أولا ( مطلب أول)
المطلب الأول : معيار الخطأ في القتل غير العمد
[…] لا يطرح مبدئيا بالنسبة لحالة مخالفة القوانين والأنظمة ذلك أن المخالفة لهذه الأخيرة تتبت كلما خالف المتابع الواجب الوارد في قانون أو تنظيم صريح، ونحو ذلك مخالفة قوانين المرور حيث لا حاجة بنا في أغلب الحالات للبحث في الذي تستدل به على ما إذا كان المخالف قد ارتكب خطأ أم لا . إلا أن هناك إشكال بخصوص هذه النظم والقوانين وقد تطرقنا إليه في محور صور الخطأ . أما عن القول بوجود خطأ من عدمه فإن أمر تحديده يطرح في الحالات التي تكون فيها الواجبات الملقاة على عاتق الشخص غير محددة صراحة . وفي هذا الصدد فقد ظهر في الفقه معيارين أولهما شخصي ( أولا) والآخر موضوعي ( ثانيا) في جرائم القتل.
أولا : المعيار الشخصي
يقوم هذا المعيار في تقدير الخطأ الجنائي على أساس شخصي ذاتي مؤداه أن يقارن السلوك الذي أتاه المتابع في ظروف زمنية ومكانية ونفسية معينة في ضوء السلوك الذي اعتاده بحيث إذا كان هذا السلوك مماثلا لما اعتاده في حياته وفي نفس الظروف التي يراد فيها نسبة الخطأ إليه ( من عدم تبصر أو عدم احتياط أو قلة انتباه ) فإنه لا يعد مخطأ حتى ولو كان سلوكه هذا قد أدى إلى نتيجة خطيرة هي إزهاق روح المجني عليه . أما إذا كان هذا السلوك دون ما اعتاده في حياته وفي نفس الظروف فيكون إذا ذاك قد ارتكب إثر إخــلال له بواجبات الحيطة والحذر ووجب مساءلته جنائيا.
أما المسؤولية الناشئة عن عمل الغير أو عن الأشياء فهي بطبيعة الحال تخرج عن نطاق هذه القاعدة لأن القانون الجنائي لا تبنا المسؤولية الجنائية فيه إلا على أساس الخطأ الشخصي فلا يجوز مسألة شخص جنائيا عن فعل الغير إلا إذا قام الدليل بصورة إيجابية على ارتكابه الخطأ المرتبط بالنتيجة التي هي الوفاة وعلى هذا الأساس فلا يجوز ان يعتبر الأب مسؤولا عن كل جريمة ارتكبها ابنه القاصر، ولكن يكون مسؤولا مذنبا ويكون ملزم بالتعويض عن الأضرار التي أحدثها الابن .
هذا المعيار كما هو واضح يؤدي إلى تبرئه مجموعة من المجرمين اللذين اعتادوا في حياتهم قلة الحرص ومعاقبة مجموعة أخرى ممن اعتادوا حياتهم اليقظة والحذر ومجانية الخطأ لذلك نجد القضاء كما الفقه مال إلى المعيار الثانيثانيا : المعيار الموضوعي
ومفاده أن الحكم على سلوك شخص ما يكون خاطئ ام لا يكون بالنسبة لسلوك شخص مجرد موضوع في نفس ظروف ذلك الذي أتى السلوك المتابع عنه ويكون هذا الشخص معتادا أي مجردا في سلوكه لا هو ميال إلى الخطأ ولا هو أكثر حرصا وحذرا . وإنما رجل من عامة الناس فنكون عملا بهذا المعيار الموضوعي أمام كل سلوك أتاه الجاني دون سلوك الرجل المعتاد من حيث الحرص والحذر والحيطة وفي نفس الظروف مكونا للخطأ في جانبه وبالتالي مؤديا إلى قيام مسؤوليته الجنائية، أما إذا كان سلوكه في نفس الظروف هو نفس السلوك الذي يأتيه الرجل العادي أو أكثر حرصا وانتباها منه فإنه لا يكون والحالة هذه مخطأ والتالي لا محل لمسائلته عن النتيجة الحاصلة ولتوضيح المعيارين السابقين أكثر نمثل بامرأة وهي في سبيل إعداد الطعام تترك طفلها الصغير بجانب الموقد الذي تطبخ عليه فيتصادف أن سقط القدر الذي يحتوي على ماء في حالة غليان شديد بسبب حركة من الطفل فيصاب بحروق شديدة يموت على إثرها. فعملا بالمعيار الشخصي فإن هذه المرأة قد لا تعتبر مخطئة إذا كانت اعتادت في حياتها الخاصة التصرف على هذا النحو في نفس الظروف خصوصا إذا كانت أما لعدة أطفال لم يقع نفس الحادث لأي واحد منهم .
ولكن عملا بالمعيار الموضوعي فإن هذه المرأة تعتبر مسؤولة عن قتل طفلها خطأ لأن المرأة العادية في نفس الظروف لا تترك طفلها بجانب موقد النار مخافة أن ينقلب عليه شيء بسبب أية حركة طائشة من الطفل .
ولذلك كان المعيار الموضوعي هو المعيار السليم والذي عليه القضاء وما يميل إليه أغلب الفقه في بلادنا بحيث نجد القضاء المغربي يميل إلى تقدير الخطأ الطبي كحالة من حالات الخطأ تقديرا موضوعيا يأخذ بعين الاعتبار المعطيات والظروف الخارجة التي أحاطت بالطبيب عند مباشرته لعمله . وذلك من خلال تقدير مدى تأثير هاته المعطيات الخاصة على مضمون العناية التي يسند لها طبيب من نفس مستوى هذا الأخير . يقاس سلوكه بسلوك الطبيب المدعى عليه في ضوء الظروف الخارجية التي وجد فيها. وبهذا المعنى جاء في حكم صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 31/3/1989 لا يسأل الطبيب إلا زاد ثبت ثبوتا قطعيا ارتكابه لخطأ يأتيه طبيب يقض من مستواه المهني وجده في نفس الظروف التي أحاطت بالطبيب المتابع ”
وفي كل الأحوال فإن محكمة الموضوع ملزمة قانونا أن تشير في حكمها إلى الخطأ الذي ارتكبه المتهم وتربط النتيجة التي حصلت بالخطأ ، لأن المشرع عاقب على هذه الجريمة كلما ” تسبب” الفاعل بخطئه في هذه النتيجة . أما إن هي أغلقت الإشارة إلى وجود الخطأ أو لمدى علاقته بالنتيجة فحكمها يكون قاصرا متعينا نقضه على اعتبار أنه ولو أن مسألة استخلاص وجود الخطأ وعلاقته بالنتيجة أمور تدخل تحت سلطة قاضي الموضوع الذي له أن يستنتجها من الوقائع ومن ظروفها ، فإن ذلك مشروط بأن يكون هذا الاستنتاج منطقيا مقبول أما إن هو أغفل ذلك فالمجلس الأعلى حق الرقابة عليه في هذا الخصوص لأن عنصري الخطأ والعلاقة السببية من مسائل القانون واجب مراقبة محكمة الموضوع في كيفية استخلاصهما واقتناعها بوجودهما والسهر على تطبيقهما تطبيقا حسنا.
وبهذا نرى أن المعيار الموضوعي انتهى في النهاية إلى معيار مزدوج نسبيا فهو إن كان موضوعيا في أساسه إلا أنه يدخل في اعتباره الظروف الشخصية التي أحاطت بالمتهم وبقدر تصرف الشخص المعتاد على أساسها .
المطلب الثاني: عقوبة القتل الخطأ
أدى تزايد عدد حوادث السير التي تنتج عنها خسائر في الأرواح البشرية وأضرار جسمانية ومادية هامة تلحق ضحايا هذه الحوادث إلى جعل المشرع ينص على عقوبات زجرية تتمثل في الغرامات المالية والعقوبات الحبسية العادية والتي تتسم بالشدة في بعض الحالات أو المواقف التي تكشف لدى السائقين مرتكبي الجرائم عن استخفاف تام بالحياة البشرية وطبيعة معادية للمجتمع وهذا هو الغرض من الفصل 434 الذي يطبق إذا توفرت عناصره في جميع الأحوال المنصوص عليها في الفصل 432. أولا : العقوبة في شكلها العادي عاقب المشرع على القاتل خطأ في الحالة العادية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة مالية من 250 على 1000درهم وهي جنحة تأديبية . يلاحظ من خلال التخصيص عليها في الفصل 432 من ق ج بأن العقوبة تتكون من الحبس والغرامة معا بحيث لم يترك فيها للقضاء حرية الاختيار بين العقوبة السالبة للحرية والغرامة المالية . وتبدو العقوبة بصورتها هذه خاصة عقوبة الحبس فيها كثير من القسوة خاصة بالنسبة لكثير من طوائف الجناة الذين يرتكبون جرائم القتل غير العمدية كحوادث السير التي يكون الإنسان وتهوره أحيانا نصيب في وقوعها .
والواقع هذا ارتأى المشرع المغربي في مناقشته قانون السير الجديد أن يرفع من العقوبة الحبسية لردع السائقين وغيرهم من مستعملي الطرق بغية منه في التقليص من عدد الحوادث التي تخلف سنويا أعداد مهولة من القتلى والجرحى ، إلا أن سياسته هذه لا تلقي استجابة بين الأوساط الحقوقية وأصحاب الدراسات والخبرة في مجال السياسة الجنائية الذين نادوا بإعادة النظر في المنظومة الجنائية كلها، التي أصبحت قاصرة عن مواكبة التحولات العالمية ومتطلبات العصر، بحيث تقوم فكرتهم على التخفيض من العقوبات الحبسية نظرا لما تعرفه السجون المغربية من تكدس في أعداد السجناء من مختلف الجرائم . عكس ما قد تذهب إليه مقاربة المشرع والرفع من أداء الغرامات المالية التي ستساهم وبلا شك في التقليص من الجرائم خاصة التي تهم حوادث السير التي تصنف في جرائم القتل الخطأ من جهة وإلى إغناء الموارد المالية للدولة من جهة ثانية . ثانيا : ظروف التشديد في جريمة القتل الخطأ.
ينص الفصل 434 على أنه ” تضاعف العقوبات المقررة في الفصلين السابقين 432-433. إذا كان الجاني قد ارتكب الجنحة وهو في حالة سكر ، وكان قد حاول التخلص من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي قد يتعرض لها ، وذلك بفراره عقب وقوع الحادث أو تغيير حالة مكان الجريمة أو بأية وسيلة أخرى” فكما هو ظاهر من الفصل فإن المشرع أمر القاضي بمضاعفة العقوبة عند توافر أسباب اعتبرها من قبيل الظروف المشددة الخاصة بجريمة القتل الخطأ فهذه الظروف يمكن تمييزها إلى نوعين فهي إما ظروف مبنية على حالة الفاعل مرتكب الجنحة وهو في حالة سكر ، أو ظروف مبينة على موقفه اللاحق للحادثة والذي يكشف عن انه يريد التخلص من المسؤولية. فالحالة الأولى، والعبرة فيها هي بتوافر حالة السكر وقت ارتكاب الجريمة ولا يكفي أن يكون المتهم قد تعاطى المادة المسكرة فقط على أن المشرع لم يتطلب في السكر أن يكون بينا كما تشترط ذلك بعض القوانين ، بل تكفي أي درجة من السكر يكون عليها المتهم فحالة السكر أو على الأقل استهلاك كمية كبيرة من الكحول يجب أن يتبنها القانون بالبحث حول ملابسات الحادث بالبحث بواسطة الاختبار المعروف باختبار الكحول بأخذ عينة من الدم وتحليلها حيث إذا استعملت هذه الطرق فإن أي جدال حول نتائجها لن يكون محمل جد. أما إذا لم توجد الوسائل اللازمة أو رفض السائق إجراء تحليل فإن حالته يمكن أن تستنتج من ملاحظات المحققين حول موقفه وصعوبة النطق لديه واضطراب حركاته ورائحة الخمر التي تفوح من نفسه، ويمكن أيضا أن يوجه البحث لمعرفة كيفية استعماله للزمن السابق للحادث أي وقت رد الفعل لديه والمشروبات المختلفة التي تناولها . أما الحالة الثانية وهي الوسائل المختلفة للتخلص من المسؤولية فقد تكون :
جنحة الفرار :
إلى جانب فرار الجاني للتخلص من المسؤولية يعتبر موقفه مكونا أيضا لجنحة أخرى وهي الإمساك عن تقديم مساعدة لشخص في خطر المنصوص عليها في الفصل 431 من ق ج حيث يقع على النيابة العامة في هذه الحالة إثبات بأن عربة السائق قد تسببت في الحادث وعدم توقفه ومحاولته الفرار وليس ظروريا ان تمس أو تصدم العربة التي تسببت في الحادث العربة الأخرى، وإنما يكفي ان يرتكب سائقها خطأ في السياقة أذى إلى التسبب في الحادث كما لو بهر السائق بأضواء لسيارته أما التوقف بعد الحادث فيجب أن يكون اختياريا أو تكون مدته كافية للتعرف على السيارة وصاحبها أما رجوع الفاعل إلى مكان الحادث بعد أن وبخه ضميره أو بعد إبلاغه الدرك فلا ينقيان عنه تهمة الفرار .
خفاء أو تغيير آثار الحادث:
يمكن لمرتكب الخطأ لعدم وجود شهود وفي كثير من الأحيان غياب الضحية عن الوعي أو موتها ، أن يقوم بمحاولة تغيير حالة مكان الجريمة وذلك بأن ينقل مثلا الضحية من مكانها ، أو بنقل إحدى السيارتين أو أي وسيلة كإرشاء الشهود أو إخفاء آثار السيارة فكل هذه الأفعال التي قد يقوم بها الجاني لدفع المسؤوليته الجنائية وحتى المدنية عنه، مرهونة بثبوت مسؤولية عن الجريمة بشكل قاطع فإذا انتفت الجريمة انتفى الظرف المشدد تبعا لذلك.
اترك تعليقاً