الأسس السليمة لإختيار العلامة التجارية
تُعرَّف العلامة التجارية بأنها أيُّ شارةٍ أو رمزٍ يستخدمه المشروع لتمييز منتجاته أو خدماته عن تلك المقدمة من المشاريع الأخرى، وتتجسد في هذه العلامة سمعة المشروع ومكانته وجميع الجهود الإعلانية والدعائية وأعمال المسؤولية الإجتماعية المبذولة من قبل الشركة لترسيخ مكانتها في أذهان المستهلكين، وهي لذلك تعتبر واحدةً من الأصول الأكثر أهمية لأيِّ مشروع تجاري أو خدمي، بل هي في كثيرٍ من الأحيان أكثرها أهميةً وقيمةً على الإطلاق، فالعلامة التجارية كوكا كولا مثلاً، وهي العلامة الأشهر في العالم، تبلغ قيمتها حسب آخر تقدير حوالي ستين مليار دولار أميركي، أي أن قيمتها تفوق قيمة جميع أصول وموجودات الشركة الأخرى مجتمعة.
وعلى الرغم من الدور الكبير للعلامة التجارية في حياة أي مشروع، والوظائف الدعائية والتسويقية الهامة التي تلعبها، فإنها نادراً ما تأخذ ذلك القدر اللازم من الاهتمام من قبل الإدارة العليا في الشركات، ويتولى عملية متابعة أمورها عادةً عدد من الموظفين العاديين أو المستشارين القانونيين للشركة. غير أن الأمر في الحقيقة يجب أن يكون مختلفاً، فكما أن هناك أقساماً خاصة بإدارة الأصول الهامة في كل شركة، كإدارة الموارد البشرية والإدارة المالية والمحاسبية وإدارة المعرفة، فإن العلامة التجارية أيضاً لا بد من إدارتها وفق أسس وقواعد علمية وأصول فنية سليمة لأجل استغلالها واستثمارها بالشكل الأمثل، ولتحقيق أفضل النتائج المتوخاة منها. وعملية الإدارة هذه ضرورية في جميع مراحل حياة العلامة، سواء أكانت في مرحلة اختيارها أم مرحلة استعمالها واستغلالها، وسنحاول في هذا المقال معالجة هذه الإدارة في مرحلة الاختيار، مع التعرض للمرحلة الأخرى في مقال لاحق بإذن الله تعالى.
تعتبر عملية اختيار العلامة أحد أهم المراحل في حياتها على الإطلاق، ولا بد من إيلاءها ذلك القدر اللازم من العناية والاهتمام، إذ أنَّ أي خطأ يرتكب في البداية عند اختيارها، سيكون له عواقب قد يصعب تداركها، وقد يترتب عليه ضرورة بذل جهود ونفقات كان بالإمكان توفيرها لنشاطات أهم، في سبيل دعم العلامة المختارة بشكل خاطئ ومحاولة تجاوز ذلك الخطأ، ولا بد بالتالي عند اختيار العلامة من استشارة مختصين في القانون وفي التسويق والدعاية والإعلان، لا بل مختصين في علم النفس والاجتماع، إذ لكلٍّ منهم رأيه ووجهة نظره التي تكمل آراء الآخرين، فلعملية الاختيار هذه أسس وقواعد، يؤدي اتباعها إلى تمكين الشركة من تحقيق الغاية المبتغاة من علامتها التجارية. وسأحاول فيما يلي، وبشكلٍ موجز، استعراض هذه القواعد بالتسلسل والترتيب المنطقي.
تحديد عناصر العلامة:
تكمن الخطوة الأولى في عملية اختيار العلامة التجارية في معرفة العناصر التي ستتكون منها العلامة التي ترغب الشركة في استخدامها، هل هي كلمات، أم رسوم وشعارات، أم شكل السلعة ولونها، أم صوتها ورائحتها. إنَّ لكلِّ واحدٍ من هذه العناصر ميزاته وسلبياته، فإذا كانت العلامة المكونة من كلمات ذات أهمية كبرى من ناحية رسوخها في الأذهان، نظراً لتفاعل عددٍ أكبر من الحواس معها، إلا أن اختلاف اللغة من دولةٍ لأخرى قد يجعل الاقتصار على هذا النوع من العلامات بمثابة حاجزٍ، يقف في وجه تسويق المنتج في دول أخرى، في حين أن العلامة المتكونة من لونٍ أو صوت أو رائحة معينين تتجاوز هذه الحواجز، حيث يمكن فهمها والتفاعل معها من قبل جميع الأجناس.
مراعاة قيم وتقاليد المجتمع:
ولا بد أيضاً أثناء اختيار العلامة من مراعاة قيم وتقاليد المجتمع الذي سيتم فيه تسويق المنتجات أو الخدمات التي تحملها، إذ أن لها دوراً كبيراً في مدى رواج وشهرة العلامة من عدمه، فيجب تجنب العلامات المخالفة للآداب العامة مثلاً، وتجنب الألوان التي قد تثير معانٍ غير محببة في نفوس الشعب، كما حدث مع شركة كوكا كولا عندما سوَّقت مشروبها الشهير عالمياً في أفغانستان، ففشلت فشلاً ذريعاً، نظراً لكراهية الشعب الأفغاني للون الأحمر الذي يذكرهم بالثورة الشيوعية والحرب التي دارت معها، فقامت الشركة باستبدال لون علبها بالأخضر، فارتفعت أرقام مبيعاتها نتيجة لذلك ارتفاعاً كبيراً.
تميُّز العلامة:
تنقسم العلامات التجارية لناحية تميزها إلى خمسة أقسام، تتحدد بموجبها درجة تميز العلامة بموجب العلاقة فيما بينهما وبين المنتج الذي سيحملها. وأقوى العلامات التجارية على الإطلاق هي تلك المبتكرة، والتي تنقسم بدورها إلى قسمين، علامات مبتكرة تتكون من كلمات ليس لها معنى في اللغة (Coined Mark)، وهي أكثر العلامات التجارية تميزاً، إذ لا ترتبط في أذهان المستهلكين سوى بالمنتج الوحيد الذي يحملها، مما يعطيها تميزاً كبيراً، ويجعلها تنال حماية قانونية من أعلى الدرجات، كعلامة كوداك (KODAK) وإكسون (EXXON) على سبيل المثال. غير أن هذه العلامة تتطلب جهوداً تسويقية ودعائية كبيرة، لإنشاء رابطة قوية بين العلامة والمنتج في نفوس المستهلكين. أما القسم الثاني، فهي العلامة المبتكرة التي تتكون من كلمة موجودة أصلاً في اللغة، غير أن هذه الكلمة لا تمت بصلة إلى نوع المنتج (Arbitrary Marks)، كعلامة أبل (APPLE) والتي تعني التفاحة والمستخدمة على أجهزة الحاسب. ونظراً لعدم وجود رابطة أيضاً بين العلامة والمنتج فإنها تنال حماية قانونية كبيرة، غير أنها تتطلب أيضاً جهوداً تسويقية كبيرة، وإن كانت أقل من العلامات التي تندرج تحت القسم الأول، نظراً لأن لها معنى في اللغة، مما يسهل حفظها.
ويلي العلامات المبتكرة من حيث القوة العلامات الإيحائية (Suggestive Marks) وهي علامات توحي إلى المستهلك ببعض خصائص المنتج أو صفاته، وإن كانت لا تصفه بشكلٍ مباشر، وهي لذلك تنال درجةٍ جيدة من الحماية القانونية، كما أن عملية تسويقها أسهل من العلامات المبتكرة.
ومن ثم تأتي العلامة الوصفية (De************************ive Mark) وهي العلامة التي تصف المنتج بشكلٍ مباشر، بحيث أن المستهلك سيعلم بشكلٍ أكيد نوع المنتج أو الخدمة التي يتم تقديمها تحت العلامة عندما يطلع عليها. ونظراً لأن هذه العلامات تصف المنتج فإن عملية تسويقها شديدة السهولة، غير أن حمايتها القانونية ضعيفة، نظراً لأنها قليلة التميز، ولا تسمح بسهولة للمستهلكين بتمييز المصدر الذي جاء منه المنتج.
أما أضعف العلامات التجارية، والتي لا تنال أي حماية قانونية على الإطلاق، فهي العلامة العامة (Generic Mark)، نظراً لأن هذه العلامة تتكون من اسم المنتج ذاته الذي يطلق عليه في اللغة، وتحتاج جميع الشركات العاملة في مجال المنتج الذي يحملها إلى استخدام هذه العلامة للإشارة إلى منتجاتهم، مما يجعل أمر حمايتها لصالح شخص معين متعذر قانوناً.
ضرورة البحث
بعد أن اختارت الإدارة في الشركة علامة تجارية معينة وفق المعايير السابقة، تأتي بعد ذلك مرحلة أخرى شديدة الأهمية، قد يؤدي تجاوزها إلى تحميل الشركة مبالغ مالية طائلة، ألا وهي مرحلة البحث. فبعد اختيار العلامة لا بد من التحقق من أن هذه العلامة متاحة وغير مسجلة أو محمية لحساب شركة أو مؤسسة أخرى تمارس نشاطها في المجال نفسه الذي نرغب بتسويقه تحت العلامة التجارية. إذ في حال إهمال الشركة القيام بعملية البحث، فإنها قد تتفاجئ بعد فترة من استخدامها للعلامة بتوجيه إنذار لها، أو إقامة دعوى ضدها بطلب منعها من استعمال العلامة التجارية التي اختارتها، نظراً لكون العلامة مملوكة من قبل الغير، وسيكلفها هذا تدمير جميع أغلفة المنتجات والمواد الدعائية والإعلانية والأوراق وجميع ما يحمل العلامة التجارية، فضلاً عن مصاريف الدعاوى والمحامين، مع إمكانية إلزامها بدفع تعويضاتٍ لمالك العلامة.
وتتم عملية البحث عن العلامات المسجلة عبر مكتب حماية وتسجيل العلامات التجارية، والتي تسمح معظمها بتقديم خدمة البحث للتأكد فيما إذا كانت علامة تجارية معينة مسجلة في إحدى الفئات أم لا، وقد سهلت برمجيات الحاسب عملية البحث هذه، والتي أصبحت تتم في ثوانٍ معدودة، بعد أن كانت تتطلب الغوص في سجلات وأضابير العلامات التجارية المسجلة، والكثير من مكاتب العلامات التجارية حول العالم اليوم، توفر عبر موقعها على شبكة انترنت إمكانية البحث عن العلامات التجارية المسجلة لديها.
غير أن عملية البحث لا يجب أن تقتصر على العلامات المسجلة، بل لا بد أيضاً من البحث بين أسماء الشركات والأسماء التجارية، والتي يوجد لكل منها سجل خاص، ومن البحث عن العلامات التجارية المستعملة وغير المسجلة، والذي يمكن أن يتم عبر شبكة انترنت وأدلة الصفحات الصفراء.
تسجيل العلامة التجارية
وأخيراً وبعد أن تم اختيار العلامة، لا بد من تسجيلها لدى مكتب العلامات التجارية، صحيحٌ أن ملكية العلامة التجارية تنبع من الاستعمال وليس التسجيل، حيث أن من يستعمل العلامة أولاً هو المالك لها ولو سبقه غيره إلى تسجيلها، غير أنه لا ينبغي الاقتصار على الاستعمال، إذ لمالك العلامة المسجلة مزايا لا يتمتع بها من لم يسجل علامته، فالعلامة المسجلة محمية جزائياً، بمعنى أن مالكها يستطيع أن يطلب معاقبة المعتدي عليها، فضلاً عن إلزامه بالتعويض عليها مادياً عن الأضرار التي أصابته، ولا تتوفر هذه الحماية لمالك العلامة التجارية غير المسجلة. ويضاف إلى ما سبق بأن تسجيل العلامة التجارية يعتبر دليلاً على أن مالكها يستعملها منذ التاريخ الذي تقدم فيه بطلب لتسجيلها، مما يجعله وسيلة لإثبات أسبقية الاستعمال، كما أن تسجيل العلامة التجارية لمدة خمس سنوات متتالية يجعلها ملكيتها غير قابلة لأي منازعة من قبل الغير لأي سببٍ من الأسباب، وهو يوجه أيضاً رسالة للغير بالامتناع عن استعمالها نظراً لملكيتها من قبل صاحب التسجيل.
وحيث أن حماية العلامة التجارية إقليمية، بمعنى أن تسجيلها وحمايتها في دولة معينة لا يعطي صاحبها الحق في ملكيتها في أسواقٍ ودول أخرى، فلا بد بالتالي من تحديد الأسواق الذي يرغب مالك العلامة بتسويق منتجاته أو خدماته فيها، ليقوم بتقديم طلباتٍ لتسجيل العلامة في تلك الدول، قبل أن تصل منتجاته إليها، ومنعاً للآخرين من الاعتداء على حقوقه بتسجيلهم لها تحت أسمائهم. ولا يخفى على الجميع أيضاً أهمية تسجيل العلامة التجارية وحمايتها عبر شبكة انترنت، من خلال تسجيلها كاسم مجالٍ (Domain Name) يحتوي عليها.
وبما أن من يملك العلامة التجارية إنما يملكها فقط على المنتجات التي يقوم باستعمالها عليها، فإنه من المتوجب عليه أن يحدد بدقة أنواع وأصناف المنتجات أو الخدمات التي ستحمل العلامة، وفيما إذا كان من المتوقع أن يقوم بتوسيع مجال نشاطه وعمله في المستقبل ليشمل منتجات أو خدمات أخرى، ليقوم حينها بتسجيل العلامة التجارية على جميع الفئات التي تشمل تلك المنتجات.
وأخيراً، فإنه من اللازم ملاحظة أي عناصر جديدة تتم إضافتها للعلامة التجارية لكي تتم حمايتها وتسجيلها في الوقت المناسب. فالعلامة التجارية تتغير مع الزمن، ويضاف إلى عناصرها الأساسية تعديلات طفيفة، قد تصبح مع الزمن جوهريةً وتسبب اختلافاً كبيراً بين العلامة التجارية المسجلة وتلك المستعملة، ولا بد بالتالي من متابعة هذه التعديلات وتسجيلها بشكلٍ مستمر.
اطلعنا في هذا المقال على بعض القواعد الأساسية التي لا بد من القيام بها للوصول إلى اختيار سليمٍ للعلامة التجارية، ونرجو أن تحاول الشركات في عالمنا العربي اتباع هذه القواعد، مع استشارة المختصين بذلك، علَّها تختار علامات تجارية تستطيع من خلالها تحقيق المكانة التي ترمو إليها في الأسواق، والوصول بها إلى رتبة العلامات التجارية الأكبر والأشهر عالمياً
اترك تعليقاً